أحدها : أنه كان بوحي من الله عزوجل. والثاني : أنه بنى على علم ما علّمه الله من التّأويل الحقّ ، فلم يشكّ. والثالث : أنه أضمر «إن شاء الله» كما أضمر إخوته في قولهم : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا) (١) ، فأضمروا الاستثناء في نيّاتهم ، لأنهم على غير ثقة ممّا وعدوا ، ذكره ابن الأنباري. والرابع : أنه كالآمر لهم ، فكأنه قال : ازرعوا.
قوله تعالى : (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) فإنه أبقى له ، وأبعد من الفساد. والشّداد : المجدبات التي تشتدّ على الناس. (يَأْكُلْنَ) أي : يذهبن ما قدّمتم لهنّ في السنين المخصبة ، فوصف السّنين بالأكل ، وإنما يؤكل فيها ، كما يقال : ليل نائم.
قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي : تحرزون وتدّخرون.
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))
قوله تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ) إن قيل : لم أشار إلى السّنين وهي مؤنّثة ب «ذلك»؟ فعنه جوابان ؛ ذكرهما ابن القاسم : أحدهما : أنّ السّبع مؤنّثة ، ولا علامة للتأنيث في لفظها ، فأشبهت المذكّر ، كقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) (٢) فذكّر منفطرا لمّا لم يكن في السماء علم التأنيث ، قال الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها |
|
ولا أرض أبقل إبقالها (٣) |
فذكر «أبقل» لما وصفنا. والثاني : أنّ «ذلك» إشارة إلى الجدب ، وهذا قول مقاتل ، والأول قول الكلبيّ. قال قتادة : زاده الله علم عام لم يسألوه عنه.
قوله تعالى : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) فيه قولان أحدهما : يصيبهم الغيث ، قاله ابن عباس. والثاني : يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «يعصرون» بالياء. وقرأ حمزة والكسائيّ بالتاء ، فوجّها الخطاب إلى المستفتين. وفي قوله : «يعصرون» خمسة أقوال : أحدها : يعصرون العنب والزيت والثّمرات ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، والجمهور. والثاني : «يعصرون» بمعنى يحتلبون ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن أحمد بن عبيد قال : تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لسعة خيرهم واتساع خصبهم ، واحتجّ بقول الشاعر :
فما عصمة الأعراب إن لم يكن لهم |
|
طعام ولا درّ من المال يعصر |
أي : يحلب. والثالث : ينجون ، وهو من العصر ، والعصر : النّجاء ، والعصرة : المنجاة. ويقال : فلان في عصرة : إذا كان في حصن لا يقدر عليه ، قال الشاعر :
صاديا يستغيث غير مغاث |
|
ولقد كان عصرة المنجود (٤) |
__________________
(١) سورة يوسف : ٦٥.
(٢) سورة المزمل : ١٨.
(٣) البيت لعامر بن جوين الطائي ، انظر «خزانة الأدب» ١ / ٢١. وذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «ودق». وودق به أي : أنس ، والودق : المطر كله شديدة وهيّنه ، وقد ودق : أي قطر.
(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «عصر» ونسبه لأبي زبيد. والصدى : شدة العطش.