وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال : أحدها : الدّلالة على صدق محمّد عليهالسلام حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم ، ولا نظر في الكتاب. والثاني : ما أظهر الله في قصّة يوسف من عواقب البغي عليه. والثالث : صدق رؤياه وصحّة تأويله. والرابع : ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحقّ الأمانة. والخامس : حدوث السّرور بعد اليأس.
فإن قيل : لم خصّ السّائلين ، ولغيرهم فيها آيات أيضا؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنّ المعنى : للسّائلين وغيرهم ، فاكتفى بذكر السّائلين من غيرهم ، كما اكتفى بذكر الحرّ من البرد في قوله تعالى : (تَقِيكُمُ الْحَرَّ). والثاني : أنه إذا كان للسّائلين عن خبر يوسف آية ، كان لغيرهم آية أيضا ؛ وإنّما خصّ السّائلين ، لأنّ سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر.
(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨))
قوله تعالى : (إِذْ قالُوا) يعني إخوة يوسف. (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) يعنون بن يامين. وإنما قيل له : ابن يامين ، لأنّ أمّه ماتت نفساء. ويامين بمعنى الوجع ، وكان أخاه لأمّه وأبيه. والباقون إخوته لأبيه دون أمّه. فأمّا العصبة ، فقال الزّجّاج : هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضا في الفعل ، ويتعصّب بعضهم لبعض. وللمفسّرين في العصبة ستة أقوال : أحدها : أنها ما كان أكثر من عشرة ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أنها ما بين العشرة إلى الأربعين ، روي عن ابن عباس أيضا ، وبه قال قتادة. والثالث : أنها ستة أو سبعة ، قاله سعيد بن جبير. والرابع : أنها من عشرة إلى خمسة عشر ، قاله مجاهد. والخامس : الجماعة ، قاله ابن زيد ، وابن قتيبة ، والزّجّاج. والسادس : عشرة ، قاله مقاتل. وقال الفرّاء : العصبة عشرة فما زاد. قوله تعالى : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : لفي خطأ من رأيه ، قاله ابن زيد. والثاني : في شقاء ، قاله مقاتل ؛ والمراد به عناء الدنيا. والثالث : لفي ضلال عن طريق الصّواب الذي يقتضي تعديل المحبّة بيننا ، لأنّ نفعنا له أعمّ. قال الزّجّاج : ولو نسبوه إلى الضّلال في الدّين كانوا كفّارا ، إنّما أرادوا : إنه قدّم ابنين صغيرين علينا في المحبّة ونحن جماعة نفعنا أكثر.
(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))
قوله تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ) قال أبو عليّ : قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائيّ : «مبين اقتلوا» بضمّ التنوين ، لأنّ تحريكه يلزم لالتقاء السّاكنين ، فحرّكوه بالضّمّ ليتبعوا الضمّة الضمّة ، كما قالوا : «مد» «وظلمات». وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، بكسر التنوين ، فلم يتبعوا الضمّة كما قالوا : «مدّ» «ظلمات». قال المفسّرون : وهذا قولهم بينهم : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) قال الزّجّاج : نصب «أرضا» على إسقاط «في» ، وإفضاء الفعل إليها ؛ والمعنى : أو اطرحوه أرضا يبعد بها عن أبيه. وقال غيره : أرضا تأكله فيها السّباع. قوله تعالى : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي : يفرغ لكم من الشّغل بيوسف. (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد يوسف. (قَوْماً صالِحِينَ) فيه قولان : أحدهما : صالحين بالتّوبة من بعد قتله ، قاله ابن عباس. والثاني : يصلح حالكم عند أبيكم ، قاله مقاتل. وفي قصّتهم نكتة عجيبة ، وهو أنّهم عزموا على التّوبة قبل الذّنب ، وكذلك المؤمن لا ينسى التّوبة وإن كان مرتكبا للخطايا.