مقاتل : عجّوا إلى الله أربعين ليلة ، فكشف العذاب عنهم. وكانت التّوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة. قال : وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم ، فقيل له : ارجع إليهم ، فقال : كيف أرجع إليهم فيجدوني كاذبا؟ وكان من يكذب بينهم ولا بيّنة له يقتل ، فانصرف مغاضبا ، فالتقمه الحوت. وقال أبو صالح عن ابن عباس : أوحى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعيا ، فقيل له : ائت فلانا الملك ، فقل له يبعث إلى بني إسرائيل نبيّا قويّا أمينا ، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال الملك ليونس : اذهب إليهم ، فقال : ابعث غيري ، فعزم عليه أن يذهب ، فأتى بحر الرّوم ، فركب سفينة ، فالتقمه الحوت ، فلمّا خرج من بطنها أمر أن ينطلق إلى قومه فانطلق نذيرا لهم ، فأبوا عليه ، فوعدهم بالعذاب ، وخرج ، فلمّا تابوا رفع عنهم. والقول الأوّل أثبت عند العلماء ، وأنه إنما التقمه الحوت بعد إنذاره لهم وتوبتهم. وسيأتي شرح قصّته في التقام الحوت إيّاه في مكانه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : كيف كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن؟ فعنه ثلاثة أجوبة : أحدها : أنّ ذلك كان خاصّا لهم كما ذكرنا في أوّل الآية. والثاني : أنّ فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأمّا الذي يعاين ، فلا توبة له ، ذكره الزّجّاج. والثالث : أنّ الله تعالى علم منهم صدق النّيات ، بخلاف من تقدّمهم من الهالكين ، ذكره ابن الأنباري.
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩))
قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) قال ابن عباس : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حريصا على إيمان جميع الناس ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلّا من سبقت له السّعادة. قال الأخفش : جاء بقوله : «جميعا» مع «كل» تأكيدا كقوله : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) (١).
قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) قال المفسّرون ، منهم مقاتل : هذا منسوخ بآية السّيف. والصحيح أنه ليس ها هنا نسخ ، لأنّ الإكراه على الإيمان لا يصحّ ، لأنه عمل القلب.
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))
قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فيه ستة أقوال : أحدها : بقضاء الله وقدره. والثاني : بأمر الله؟ رويا عن ابن عباس. والثالث : بمشيئة الله ، قاله عطاء والرابع : إلّا أن يأذن الله في ذلك ، قاله مقاتل. والخامس : بعلم الله. والسادس : بتوفيق الله ، ذكرهما الزّجّاج ، وابن الأنباري. قوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أي : ويجعل الله الرّجس. وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل الرجس» بالنون. وفيه خمسة أقوال : أحدها : أنه السّخط ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : الإثم والعدوان ، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنه ما لا خير فيه ، قاله مجاهد. والرابع : العذاب ، قاله الحسن ، وأبو عبيدة ، والزّجّاج. والخامس : العذاب والغضب ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي : لا يعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل : لا يعقلون حججه ودلائل توحيده.
__________________
(١) سورة النحل : ٥١.