قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) لمّا أعرض القوم عن الحق والتّفكّر فيه ، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع. وقال محمّد بن القاسم النّحوي : أراد بهذا كلّه أمر الآخرة ، فإنهم يعقلون أمر الدنيا. قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) شبّههم بالأنعام لأنّها تسمع وتبصر ولا تعتبر ، ثم قال : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) لأنّ الأنعام تبصر منافعها ومضارّها فتلزم بعض ما تبصره ، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند فيقدم على النار ، (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عن أمر الآخرة.
(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠))
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). سبب نزولها :
(٥٩٣) أنّ رجلا دعا الله في صلاته ، ودعا الرّحمن ، فقال أبو جهل : أليس يزعم محمّد وأصحابه أنهم يعبدون ربّا واحدا ، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية ، قاله مقاتل.
فأما الحسنى ، فهي تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أنّ أسماء الله حسنى ، وليس المراد أنّ فيها ما ليس بحسن. وذكر الماوردي أنّ المراد بذلك ما مالت إليه النّفوس من ذكره بالعفو والرّحمة دون السّخط والنّقمة. وقوله تعالى : (فَادْعُوهُ بِها) أي : نادوه بها ، كقوله : يا الله ، يا رحمن.
قوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : «يلحدون» بضمّ الياء ، وكذلك في سورة (النّحل) و (السّجدة) (١). وقرأ حمزة : «يلحدون» بفتح الحاء والياء فيهنّ ، ووافقه الكسائيّ ، وخلف في سورة (النّحل) (٢). قال الأخفش : الحد ولحد : لغتان ؛ فمن قرأ بهما أراد الأخذ باللغتين ، فكأنّ الإلحاد : العدول عن الاستقامة. وقال ابن قتيبة : يجورون عن الحق ويعدلون ؛ ومنه لحد القبر ، لأنه في جانب. قال الزّجّاج : ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسمّ به نفسه ، فيقول : يا جواد ، ولا يقول : يا سخيّ ؛ ويقول : يا قويّ ، ولا يقول : يا جلد ، ويقول : يا رحيم ، ولا يقول : يا رفيق ، لأنه لم يصف نفسه بذلك. قال أبو سليمان الخطّابي : ودليل هذه الآية أنّ الغلط في أسمائه والزّيغ عنها إلحاد ، ومما يسمع على ألسنة العامّة قولهم : يا سبحان ، يا برهان ، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه ، وربّما قال بعضهم : يا ربّ طه ويس. وقد أنكر ابن عباس على رجل قال : يا ربّ القرآن. وروي عن ابن عباس أنّ إلحادهم في أسمائه أنهم سمّوا بها أوثانهم ، وزادوا فيها ونقصوا منها ، فاشتقوا اللات من الله ، والعزّى من العزيز ، ومناة من المنّان.
فصل : والجمهور على أنّ هذه الآية محكمة ، لأنها خارجة مخرج التّهديد ، كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (٣) ، وقد ذهب بعضهم إلى أنّها منسوخة بآية القتال ، لأنّ قوله تعالى : (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) يقتضي الإعراض عن الكفّار ، وهذا قول ابن زيد.
____________________________________
(٥٩٣) باطل ، عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، وليس له أصل بذكر سبب نزول الآية ، وورد شيء من هذا في آخر سورة الإسراء ، وسيأتي.
__________________
(١) سورة فصلت : ٤٠.
(٢) سورة النحل : ١٠٣.
(٣) سورة المدثر : ١١.