ولفظه لفظ المستقبل ، كما قال : (أَنْ لَوْ نَشاءُ) ، والمعنى : لو شئنا. وقال ابن الأنباري : يجوز أن يكون معطوفا على : أصبنا ، إذ كان بمعنى نصيب ؛ فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال ، كما قال : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) (١) أي : إن يشأ ، يدلّ عليه قوله : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) ، قال الشاعر :
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا |
|
منّي ، وما سمعوا من صالح دفنوا (٢) |
أي : يدفنوا :
قوله تعالى : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ، ومنه : «سمع الله لمن حمده» ، قال الشاعر :
دعوت الله حتّى خفت أن لا |
|
يكون الله يسمع ما أقول (٣) |
قوله تعالى : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) فيه خمسة أقوال (٤) : أحدها : فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرّسل بما سبق في علم الله أنهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم ، هذا قول أبيّ بن كعب. والثاني : فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرّسل بما كذّبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم ، فآمنوا كرها حيث أقرّوا بالألسن ، وأضمروا التّكذيب ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ. والثالث : فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل هلاكهم ، هذا قول مجاهد. والرابع : فما كانوا ليؤمنوا بما كذّب به أوائلهم من الأمم الخالية ، بل شاركوهم في التّكذيب ، قاله يمان بن رباب. والخامس : فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذّبوا قبل رؤيتها.
(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))
قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) قال مجاهد : يعني : القرون الماضية. (مِنْ عَهْدٍ) قال أبو عبيدة : أي : وفاء. قال ابن عباس : يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم. وقال الحسن : العهد ها هنا : ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا.
__________________
(١) سورة الفرقان : ١٠.
(٢) البيت منسوب لقعنب بن أم صاحب وهو في «الحماسة» ٤ / ١٢.
(٣) البيت غير منسوب في «اللسان» : سمع.
(٤) قال الطبري في «تفسيره» ٦ / ١٣ : وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب ، القول الذي ذكر عن أبي ابن كعب والربيع وذلك أن من سبق علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به ، فلن يؤمن أبدا وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة ، أنه لا يؤمن أبدا ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه. قبل مجيء الرسل عند مجيئهم إليهم. ولو قيل : تأويله : فما كان هؤلاء الذين ورثوا الأرض ، يا محمد ، من مشركي قومك من بعد أهلها الذين كانوا بها من عاد وثمود ، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوا عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده ، كان وجها ومذهبا غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن. وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه : لو ردوا ما كانوا ليؤمنوا ، فتأويل لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا من خبر عن الرسول صحيح ، وإذا كان ذلك كذلك فأولى منه بالصواب ما كان عليه التنزيل دليل. اه.