والإهلاك. والثالث : أنّ الطّين سبب جمع الأشياء ، والنّار سبب تفريقها.
(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣))
قوله تعالى : (فَاهْبِطْ مِنْها) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنّها ترجع إلى السّماء ، لأنّه كان فيها ، قاله الحسن. والثاني : إلى الجنّة ، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى : (فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) ، إن قيل : فهل لأحد أن يتكبّر في غيرها؟ فالجواب : أنّ المعنى : ما للمتكبّر أن يكون فيها ، وإنّما المتكبّر في غيرها. وأما الصّاغر ، فهو الذّليل. والصّغار : الذّلّ. قال الزّجّاج : استكبر إبليس بإبائه السّجود ، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك.
(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥))
قوله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي) أي أمهلني وأخّرني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، فأراد أن يعبر قنطرة الموت ؛ وسأل الخلود ، فلم يجبه إلى ذلك ، وأنظره إلى النّفخة الأولى حين يموت الخلق كلّهم. وقد بيّن مدّة إمهاله في «الحجر» بقوله : (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (١). وفي ما سأل الإمهال له قولان : أحدهما : الموت. والثاني : العقوبة. فإن قيل : كيف قيل له : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وليس أحد أنظر سواه؟ فالجواب : أنّ الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم ، فهو منهم.
(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦))
قوله تعالى : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) في معنى هذا الإغواء قولان : أحدهما : أنه بمعنى الإضلال ، قاله ابن عباس ، والجمهور. والثاني : أنه بمعنى الإهلاك ، ومنه قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٢) أي : هلاكا ، ذكره ابن الأنباري. وفي معنى «فبما» قولان : أحدهما : أنها بمعنى القسم ، أي : فبإغوائك لي. والثاني : أنها بمعنى الجزاء ، أي : فبأنّك أغويتني ، ولأجل أنّك أغويتني (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ). قال الفرّاء ، والزّجّاج : أي على صراطك. ومثله قولهم : ضرب زيد الظّهر والبطن. وفي المراد بالصّراط ها هنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه طريق مكّة ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، وسعيد بن جبير ؛ كأنّ المراد صدّهم عن الحجّ. والثاني : أنه الإسلام ، قاله جابر بن عبد الله ، وابن الحنفيّة ، ومقاتل. والثالث : أنه الحقّ ، قاله مجاهد.
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧))
قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) فيه سبعة أقوال (٣) : أحدها : «من بين أيديهم» أشكّكهم في آخرتهم ، «ومن خلفهم» أرغّبهم في دنياهم ، «وعن أيمانهم» أي : من قبل
__________________
(١) سورة الحجر : ٣٨.
(٢) سورة مريم : ٥٩.
(٣) قال الطبري في «تفسيره» ٥ / ٤٤٧ : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : معناه ثم لآتينهم من جميع وجوه الحق والباطل فأصدهم عن الحق ، وأحسّن لهم الباطل. وذلك أن ذلك عقيب قوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) فأخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرهم الله أن يسلكوه ، وهو ما وصفنا من دين الحق ، فيأتيهم في ذلك من كلا الوجوه الذي أمرهم به ، فيصدهم عنه وذلك (من بين أيديهم وعن أيمانهم) ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه ، فيزينه لهم ويدعوهم إليه وذلك (من خلفهم وعن شمائلهم)