أمّا القضية التي انطلقت هذه الآيات لمعالجتها ، فقد شغلت المجتمع الإسلامي والمجتمع الكافر المضاد ، لأنها كانت صدمة لهم جميعا ، وذلك لأن المسلمين كانوا يتجهون في عباداتهم منذ بداية الدعوة ، إلى بيت المقدس الذي يتجه إليه اليهود والنصارى من أهل الكتاب ، فجاء التشريع الجديد لينسخ ذلك ويحوّل القبلة إلى الكعبة ، فأدّى ذلك إلى إثارة أهل الكتاب لأنهم كانوا يجدون في صلاة المسلمين إلى بيت المقدس نوعا من أنواع التبعية العملية لهم ، وسبيلا من سبل إضلال البسطاء من المسلمين بالإيحاء إليهم بأن ذلك يدل على أن الحق معهم ، كما أنهم اعتبروه خسارة لأحد مواقعهم العملية التي تؤكد أصالتهم ومواقعهم المتقدمة من الكتاب والنبوّات.
أمّا المسلمون فقد عاشوا صدمة ذاتية ، لاشتمال ذلك على أسلوب جديد غير مألوف لديهم في التعامل مع التشريع الذي ساروا عليه مدة طويلة ، بإلزامهم بالوقوف منه موقف الرفض العملي الذي يستبدل موقفا بموقف ، فيعتبر السير على التشريع ـ على أساس ذلك ـ انحرافا عن الخط الصحيح ، مما لم يكن لهم سابق معرفة به ، ولم يكونوا في إعداد نفسي له ، بل جاء مفاجأة كبيرة لهم ، وصدمة نفسية إيحائية من خلال أساليب اليهود الذين حاولوا أن يثيروا أمامهم المشكلة الفكرية في النسخ ، فإذا كان حكم الله هو التوجه إلى بيت المقدس ، فمعنى ذلك أنّه الحق وأنّ غيره هو الباطل ، فكيف يتغير حكم الله إلى شيء آخر لتنقلب النظرة إليه في النظرة إلى الحق والباطل في القضية نفسها ، وكيف يمكن أن ينسب ذلك إلى الله الحكيم في كل ما يفعله من أفعال وما يشرّعه من أحكام ما دامت المصلحة لازمة للأشياء وما دام الحكم تابعا للمصلحة التي تمليه؟! ولم يكن لدى المسلمين من المعرفة بأسس التشريع وطبيعة مساره ما يمكّنهم من الدخول في جدل أو مناقشة حول ذلك مع هؤلاء .. وهكذا عاش المسلمون جوا من الريب والحيرة ، وبدأوا يواجهون حالة متوترة من الضوضاء والقيل والقال ، بالمستوى الذي تحوّل الموقف فيه