(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢)
____________________________________
لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه فى فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم الجن كما مر فى سورة البقرة فقوله تعالى* (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أى ممن سجد لآدم كلام مستأنف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجود وبه علم أنه لم يقع قط وقيل منقطع فحينئذ يكون متصلا بما بعده أى لكن إبليس لم يكن من الساجدين (قالَ) استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذ وبه يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدة أخرى هى الإشعار بعدم تعلق المحكى بالمخاطبين كما فى حكاية الخلق* والتصوير (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أى أن تسجد كما وقع فى سورة ص ولا مزيدة مؤكدة لمعنى الفعل الذى دخلت عليه كما فى قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود وقيل* الممنوع عن الشىء مصروف إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن لا تسجد (إِذْ أَمَرْتُكَ) قيل فيه دلالة على أن مطلق الأمر للوجوب والفور وفى سورة الحجر يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين وفى سورة ص ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى واختلاف العبارات عند الحكاية يدل على أن اللعين قد أدمج فى معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظام فى سلك أولئك المقربين والاستكبار مع تحقير آدم عليهالسلام وقد وبخ حينئذ على كل واحدة منها لكن اقتصر عند الحكاية فى كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر فى موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة منها كافية فى التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا فى سورة البقرة وسورة بنى إسرائيل وسورة* الكهف وسورة طه (قالَ) استئناف كما سبق مبنى على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل فماذا قال* اللعين عند ذلك فقيل قال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) متجانفا عن تطبيق جوابه على السؤال بأن يقول منعنى كذا مدعيا لنفسه بطريق الاستئناف شيئا بين الاستلزام لمنعه من السجود على زعمه ومشعرا بأن من شأنه هذا لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به كما ينبىء عنه ما فى سورة الحجر من قوله لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون فهو أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول* بالحسن والقبح العقليين وقوله تعالى (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) تعليل لما ادعاه من فضله عليه ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر وزل عنه ما من جهة الفاعل كما أنبأ عنه قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) أى بغير واسطة على وجه الاعتناء به وما من جهة الصورة كما نبه عليه بقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وما من جهة الغاية وهو ملاك الأمر ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليهالسلام حين ظهر لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة فى الأرض وأن له خواص ليست لغيره وفى الآية دليل على الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة ولعل إضافة خلق البشر إلى الطين والشياطين إلى النار باعتبار الجزء الغالب.