(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١)
____________________________________
* (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أى ضيعوا الفطرة السليمة التى فطروا عليها وقد أيدت بالآيات البينة وقوله* تعالى (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) متعلق بخسر وما مصدرية وبآياتنا متعلق بيظلمون على تضمين معنى التكذيب قدم عليه لمراعاة الفواصل والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على استمرار الظلم فى الدنيا أى فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم المستمر بآياتنا ظالمين (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) لما أمر الله سبحانه أهل مكة باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيره وبين لهم وخامة عاقبته بالإهلاك فى الدنيا والعذاب المخلد فى الآخرة ذكرهم ما أفاض عليهم من فنون النعم الموجبة للشكر ترغيبا فى الامتثال بالأمر والنهى إثر ترهيب أى جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا* أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) المعايش جمع معيشة وهى ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها أو ما يتوصل به إلى ذلك والوجه فى قراءته إخلاص الياء وعن ابن عامر أنه همزة تشبيها له بصحائف ومدائن والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع أى أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعكم فيها أسبابا تعيشون بها وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه لما مر غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة للسامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن وأما تقديم اللام على فى فلما أنه المنبىء عما ذكر من المنفعة فالاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم هذا وقد قيل إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر وأنت خبير بأنه لا فائدة معتد بها فى الإخبار* بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة فى الأرض وقوله تعالى (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أى تلك النعمة تذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم وبقية الكلام فيه عين ما مر فى تفسير قوله تعالى (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) تذكير لنعمة عظيمة فائضة على آدم عليهالسلام سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم كافة وتأخيره عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين فى الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة مستوجبة للشكر على حيالها فإن رعاية الترتيب الوقوعى ربما تؤدى إلى توهم عد الكل نعمة واحدة كما ذكر فى قصة البقرة وتصدير الجملتين بالقسم وحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونهما وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المراد بهما خلق آدم عليهالسلام وتصويره حتما توفية لمقام الامتنان حقه وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم