(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩)
____________________________________
الوزن عبارة عن القضاء السوى والحكم العادل وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثير من المتأخرين بناء على أن استعمال لفظ الوزن فى هذا المعنى شائع فى اللغة والعرف بطريق الكناية قالوا إن الميزان إنما يراد به التوصل إلى معرفة مقادير الشىء ومقادير أعمال العباد لا يمكن إظهارها بذلك لأنها أعراض قد فنيت وعلى تقدير بقائها لا تقبل الوزن وقيل إن الأعمال الظاهرة فى هذه النشأة بصور عرضية تبرز فى النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها فى الحسن والقبح حتى أن الذنوب والمعاصى تتجسم هناك وتتصور بصورة النار وعلى ذلك حمل قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وقوله تعالى (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) وكذا قوله عليه الصلاة والسلام فى حق من يشرب من إناء الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم ولا بعد فى ذلك ألا يرى أن العلم يظهر فى عالم المثال على سورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وبالأعمال السيئة على صور قبيحة فتوضع فى الميزان. إن قيل إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة فى الوزن أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هى عليه وبأوصافها وأحوالها فى أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التى بها ظهرت فى الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة فى أنها هى التى كانت فى الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر فى هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك والله تعالى أعلم (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) * تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن والموازين إما جمع ميزان أو جمع موزون على أن المراد به ما له وزن وقدر وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما مستلزم لرجحان الآخر أى فمن رجحت موازينه التى توزن بها حسناته أو أعماله التى لها قدر وزنة وعن الحسن البصرى وحق لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف (فَأُولئِكَ) إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بثقل الميزان* والجمعية باعتبار معناه كما أن جمع الموازين لذلك وأما ضمير موازينه فراجع إليه باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم فى الفضل والشرف (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالنجاة* والثواب وهم إما ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحون الدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون فى الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أى موازين أعماله أو أعماله التى لا وزن لها ولا اعتداد بها وهى أعماله السيئة (فَأُولئِكَ) إشارة* إليهم باعتبار اتصافهم بتلك الصفة القبيحة والجمعية ومعنى البعد لما مر آنفا فى نظيره وهو مبتدأ خبره