قال الرازي : وأقوى الوجوه : أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه ، أي شرع الله ، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
التفسير والبيان :
تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة ، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر ، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة ، بها وقعت الفتنة ، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء ، لكن المقطوع به أن النبي صلىاللهعليهوسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته ، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه ، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي : هو أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته ، كما روى الثقات عنه ، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات ، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات ، محاكيا نغمة النبي صلىاللهعليهوسلم ، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنّوها من قول النبي صلىاللهعليهوسلم وأشاعوها ، ولم يقدح ذلك عند المسلمين ، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله ، وتحققهم من حال النبي صلىاللهعليهوسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه (١).
وعلى هذا يكون معنى الآية : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ..) أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله ، ألقى الشيطان في قراءته
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١٢ / ٨٢ ـ ٨٣