قصيدة مدح بها يزيد بن عبد الملك على هذا النمط :
مستقبلين شمال الشام تضربنا |
|
بحاصب كنديف القطن منثور (١) |
على عمائمنا يلقى ، وأرحلنا |
|
على زواحف تزجى ، مخّها رير (٢) |
فقال له : أسأت إنما هو «مخّها رير» مشيرا بذلك إلى قياس النحو فى هذا التعبير ، لأنه يتألف من مبتدأ وخبر. وما زال ينحى على الفرزدق باللائمة حتى جعل الشطر : «على زواحف نزجيها محاسير». وكانت مراجعته المستمرة له تغضبه ، فهجاه بقصيدة ، يقول فى تضاعيفها هذا البيت :
فلو كان عبد الله مولى هجوته |
|
ولكنّ عبد الله مولى مواليا (٣) |
وما كاد يسمعه منه حتى قال له : «أخطأت أخطأت ، إنما هو مولى موال» يريد أنه أخطأ فى إجرائه كلمة موال المضافة مجرى الممنوع من الصرف ، إذ جرّها بالفتحة وكان ينبغى أن يصرفها قياسا على ما نطق به العرب فى مثل جوار وغواش إذ يحذفون الياء منونين فى الجر والرفع (٤). وواضح من كل هذه المحاورات بينه وبين الفرزدق مدى احتكامه للقياس وما ينبغى للقاعدة من الاطراد ، بحيث لا يجوز للشاعر مهما كان فصيحا أن يخرج عليها. وكان لا يرى بأسا فى أن يخالف أحيانا جمهور القراء فى بعض قراءاتهم لآى الذكر الحكيم تمسكا بالقياس النحوى ، من ذلك أنه كان يخالفهم فى قراءة آية المائدة : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) فقد كانوا يقرءون : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالرفع على الابتداء ، بينما الخبر فعل أمر ، وجعله ذلك يقرؤهما بالنصب (٥) على المفعولية.
وواضح أنه فتح لنحاة البصرة من بعده تلاميذه وغير تلاميذه بمراجعاته للفرزدق أن يخطّئوا الشعراء الفصحاء لا من الإسلاميين مثل الفرزدق فحسب ،
__________________
(١) الشمال : الريح. الحاصب : الريح التى تحمل الحصباء.
(٢) الزواحف : الإبل العجفاء التى أعيت فجرّت خفافها. تزجى : تساق. رير : ذائب.
(٣) كان ابن أبى إسحق مولى آل الحضرمى وكانوا بدورهم موالى لبنى عبد شمس القرشيين.
(٤) الكتاب لسيبويه (طبعة بولاق) ٢ / ٥٨ وانظر خزانة الأدب ١ / ١١٥.
(٥) شواذ القراءات لابن خالويه ص ٣٢.