غير أن ضعف الحجة عند ثعلب ينبغى أن لا يستر عنا قيمته الحقيقية فى تاريخ النحو الكوفى ، فقد شهد له القدماء بأنه كان من معرفته ومعرفة آراء إماميه الكسائى والفراء على ما ليس عليه أحد لا من معاصريه ولا ممن خلفهم ، وقد مضى فى إثرهما يستخدم المصطلحات التى جرت على ألسنتهما ، واضعا السماع نصب عينه ، فهو الحجة القاطعة والبرهان الناصع على القاعدة النحوية ، ونراه يعتد ـ اعتدادهما ـ بأشعار وأقوال الفصحاء المتحضرين مضيفا إلى ذلك مادة لا تكاد تنفد من أشعار الجاهليين والإسلاميين والبدو المعاصرين ، ومستعينا بما رواه الكسائى والفراء فى كتبهما من تلك المادة وقد ظل أحقابا متطاولة يدرسها لطلابه ، وكأنهما كانا علمين منصوبين أمامه ، لا بآرائهما النحوية فقط بل أيضا بكل ما أنشداه من نوادر الأشعار.
ووجدهما لا يعتمدان على الحديث النبوى فى النحو واللغة ، فتبعهما فى ذلك ، كما تبعهما فى الاستشهاد بالقراءات ، ولكنه لم يتوقف عند حروف منها على نحو ما توقف الشيخان ، وكأنه كان يجد فى ذلك حرجا ، ولعل ذلك ما جعله يقول : «إذا اختلف الإعرابان فى القراءات لم أفضّل إعرابا على إعراب ، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى» (١). ومر بنا أن الفراء كان ينكر قراءة ابن عامر (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) بالفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وأنكر معها البيت الذى استشهد به الأخفش واتهمه ، أما ثعلب فوثقه وأنشده فى مجالسه (٢) ، وبذلك وجه الكوفيين إلى اعتماد مثل ذلك فى تصاريف العبارات (٣).
وقد أخذ نفسه بدعم آراء الكسائى والفراء مستشهدا بما استشهدا به من أشعار ومضيفا إليها عتادا جديدا ، خاصة إذا تناولت مسألة من المسائل التى اختلفا فيها مع البصريين ، من ذلك ما كان يجيزه الكسائى من حذف لام الأمر فى المضارع وبقاء جزمه مع تقدم قل ، وجعل من ذلك قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) أى ليقيموها ، وكان المبرد يذهب إلى أنه لا يصح حذف
__________________
(١) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى (طبعة الحلبى) ١ / ٨٣.
(٢) المجالس ص ١٥٢.
(٣) الإنصاف ، المسألة رقم ٦٠.