وعقل لا يرتفع إلى هذه المنزلة إلا فى حدود ضيقة ، لذلك كان طبيعيّا أن لا يصاغ الفقه الحنفى الكوفى صياغة علمية دقيقة ، بينما يصاغ النحو فى أدق صورة علمية ممكنة على نحو ما سنرى فى كتاب سيبويه ، وهى صياغة لم تستطع العصور التالية أن تضيف إليها إلا بعض تعريفات وبعض تسميات ، أما الأصول وأما القواعد والضوابط والأسس فإنها ظلت قائمة كالأطواد الراسخة.
٤
أوائل النحاة
يعدّ ابن أبى إسحق الحضرمى أول النحاة البصريين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، ويتبعه فى هذه الأولية المبكرة جيل من تلاميذه فى مقدمتهم عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب. وتذكر كتب طبقات النحاة طائفة ممن عنوا بالعربية من معاصرى تلاميذه ، لعل أشهرهم حماد (١) بن سلمة بن دينار البصرى ، وكانت رواية الحديث تغلب عليه ، غير أنه كان عالما بالنحو ، ويروى أن يونس بن حبيب تلمذ عليه وكذلك سيبويه ، ولم ترو له كتب النحو أنظارا نحوية ، ولذلك ينبغى أن نخرجه من دائرة النحاة الحقيقيين ، ومثله معاصره الأخفش الأكبر (٢) شيخ يونس وسيبويه جميعا ، وكانت تغلب عليه رواية اللغة وليست له فى النحو آراء موروثة ، وقد أكثر سيبويه من الرواية اللغوية عنه فى كتابه. أما الأربعة الأولون فتتردد أسماؤهم عند النحاة وتتردد لهم آراء تجعلهم خليقين بالوقوف قليلا عندهم ، ونبدأ بابن أبى إسحق الذى يعدّ بحق أستاذ المدرسة البصرية.
__________________
(١) انظر ترجمة حماد فى الزبيدى ص ٤٧ ونزهة الألباء ص ٤٠ ومعجم الأدباء ١٠ / ٢٥٤ والسيرافى ص ٤٢ وإنباه الرواة ١ / ٣٢٩ وتذكرة الحفاظ ١ / ١٨٩ وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ٢٥٨ وبغية الوعاة ص ٢٤٠.
(٢) انظر ترجمته فى الزبيدى ص ٣٥ ونزهة الألباء ص ٤٣ وإنباه الرواة ٢ / ١٥٧.