وتغمره تلك الامدادات ، فيفتح لها قلبه ويستقبلها استقبال الفاتحين ، فتتوهج في ذاته هذه الشعلة التي لا تنطفىء أبدا ، ويسري في عروقه هذا الدم الجديد ، فيضطم عليه صدره حريصا ، وتتفجر الحكمة في قلبه ، فتمحضه الإيمان المطلق محضا ، ويقبل على هذا الدين فيلتهم تعاليمه من ينابيعها الأولى ، ويسبغ مفاهيمه عقليا ومناخا نفسيا ، فينصهر فيه إنصهارا تاما ، ويستولي عليه إستيلاء حثيثا ، هذا الانصهار وذلك الاستيلاء منذ عهد مبكر في الإسلام كانا أساسا صلبا لما بنى عليه الإمام حياته المستقبلية في قيادته العليا للإسلام فيما بعد.
وكان لعبادة النبي الصادقة ، وهينمته الهادئة : آناء الليل وأطراف النهار ذلك الأثر البليغ في حياته الليلية عند المناجاة ، وخشوعه المترامي في الذات ، فتراه مطرقا مفكرا حينا ، ومسّبحا متبتلا حينا آخر ، وهو في جدّ مستمر وجهد جهيد لا يجد إلى الراحة سبيلا.
وكابد عليّ ما كابد محمد من شظف العيش ، ومرارة الجوع والظمأ ، وكان أسوة له في مكاره الدهر وعاديات الزمن ، ومحمد يعلن دعوته في حذر ، ويعرض رسالته في أناة ، فلا هي علنية كما يشاء الإعلان ، ولا هي سرية بحيث لم تعرف ، ولكنها شيء بين ذلك ، حتى إذا نزل قوله تعالى : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (١) جمع النبي بني هاشم وعرض عليهم الإسلام ، فكان مشهدا عاطفيا مؤثرا ، مجتمع الأهل والعشيرة والأقربين ، ولكنه كان مثيرا ومتوترا في الوقت نفسه ، فعليّ يولم لهذا الجمع بأمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقدم لهم ما أولم ، ولو قدّم لأحدهم لأتى عليه كله ، ولكنه الشبع للجميع ، ويسقيهم ما طاب وطهر فيتملكهم الري ، فينطلق أبو لهب قائلا : ( سحركم والله محمد ) وينفّض الجمع ،
__________________
(١) سورة الشعراء ، الآية : ٢١٤.