كتب (١) عامل الحجاز إلى عبد الملك بن مروان : إنّ بالحجاز رجلا يقال له ابن مسجح (٢) ، أسود يغنّي ، وقد أفسد رهبان (٣) قريش ، وأنفقوا عليه أموالهم. فكتب إليه في نفيه عن الحجاز وأخذ ماله ، فنفي ، فخرج إلى الشام في صحبة رجل له جوار مغنّيات ، فكان معه حتى بلغا دمشق ، فدخلا مسجدها ، فسألا من حضر عن أخصّ الناس بالخليفة؟ فقالوا : هؤلاء النفر من قريش وأخصّهم بنو عمه ؛ فعمد ابن مسجح إلى القرشيّين فسلّم عليهم وقال لهم : يا فتيان ، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض ، وكانوا قد تواعدوا أن يذهبوا إلى قينة يقال لها : «برق الأفق» ، فتثاقلوا به إلّا فتى منهم تذمّم (٤) فقال : أنا أضيفك ، وقال لأصحابه : انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي ، فقالوا له : لا ، بل تجيء أنت وضيفك ، فذهبوا جميعا إلى بيت القينة ؛ فلمّا أتوا بالغداء قال لهم ابن مسجح : إنّي رجل أسود ، فلعلّ فيكم من يقذرني ، فأنا أجلس ناحية ، وقام ، فاستحوا (٥) منه وبعثوا إليه بما أكل ، فلما صاروا إلى الشراب ، قال لهم مثل ذلك ، ففعلوا به ، وأخرجت لهم القينة جاريتين ، فجلستا على سرير قد وضع لهما ، فغنّتا إلى العشاء ، ثم دخلتا ، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة ، وهما معها ، فجلست على السرير وجلستا أسفل منها عن يمين السرير وشماله ؛ قال ابن مسجح : فتمثلت بهذا البيت :
فقلت أشمس أم مصابيح بيعة |
|
بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم |
فغضبت الجارية وقالت : أيضرب لنا هذا الأسود الأمثال؟! فنظروا إليّ نظرا منكرا ، ولم يزالوا يسكتونها (٦) ، ثم غنّت صوتا فقلت : أحسنت والله ، فغضب مولاها وقال : هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عليه : قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم ، فذهبت أقوم ، فتذمّم القوم مني وقالوا : بل أقم وأحسن أدبك ، فأقمت ،
__________________
(١) كذا العبارة بالأصل ، ويفهم من عبارة الأغاني أن دحمان الأشقر كان عاملا لعبد الملك بمكة ، وأن عبد الملك كتب إليه بخبر ابن مسجح.
(٢) هو سعيد بن مسجح أبو ثمان مولى بني جمح ، من فحول المغنين وأكابرهم وأول من صنع الغناء منهم أخباره في الأغاني ٣ / ٢٧٦.
(٣) كذا ، وفي الأغاني : فتيان.
(٤) تذمم أي خشي الذم واللوم.
(٥) الأغاني : فاستحيوا منه.
(٦) الأغاني : يسكونها.