قال عبد الله بن خراش :
رأيت أبا ذرّ بالرّبذة في ظلة له سوداء ، وتحته امرأة له سحماء ، وهو جالس على قطعة جوالق ، فقيل له : يا أبا ذرّ ، إنّك امرؤ ما يبقى لك ولد ، فقال : الحمد لله الذي يأخذهم في الفناء ، ويدّخرهم في دار البقاء ، قالوا : يا أبا ذرّ ، لو اتخذت امرأة غير هذه؟ قال : لأن أتزوج امرأة تضعني أحبّ إليّ من امرأة ترفعني ، قالوا له : لو اتخذت بساطا ألين من هذا؟ قال : اللهم غفرا ، خذ مما خوّلت ما بدا لك.
وعن عمرو بن ميمون بن مهران ، عن أبيه ، عن رجل من بني سليم قال :
جاورت أبا ذرّ بالرّبذة وله فيها قطيع إبل ، له فيها راع ضعيف ، فقلت : يا أبا ذرّ ، ألا أكون لك صاحبا أكف راعيكم ، وأقتبس بعض ما لعل الله ينفعني به. فقال له أبو ذرّ : إن صاحبي من أطاعني ، فما كنت لي مطيعا فأنت لي صاحب ، وإلّا فلست لي بصاحب. قلت : وما الذي تسألني الطاعة فيه؟ قال : لا أدعوك لشيء من مالي إلّا توخيت أفضله. قال : فلبثت معه ما شاء الله ، فذكر له في أهل الماء حاجة ، فقال : ائتني ببعير من الإبل ، فتصفحت الإبل ، فإذا أفضلها فحلها ذلول ، فهممت بأخذه ، فذكرت حاجتهم إليه ، فتركته وأخذت ناقة ليس في الإبل بعد الفحل أفضل منها ، فجئت بها ، فحانت منه نظرة ، فرآني ، فقال : يا أخا بني سليم ، جنّبني ، يا أخا بني سليم اجتنبني ، فلما فهمتها خليت الناقة ثم رجعت إلى الإبل ، فأخذت الفحل ، فجئت به ، فقال لجلسائه : من رجلان يحتسبان عملهما؟ فقال رجلان : نحن ، فقال : إما لا فأنيخاه ، ثم اعقلاه ، ثم انحراه ، ثم عدّوا بيوت الماء ، فجزءوا لحمه على عددهم ، واجعلوا بيت أبي ذرّ بيتا مما تفعلون.
فلما فرقوا اللحم دعاني ، فقال : ما أدري حفظ وصيتي فظهرت بها (١) ، أم نسيت فأعذرك؟ قلت : ما نسيت وصيتك ، ولكن لما تصفحت الإبل وجدت أفضلها فحلها ، فهممت بأخذه ، ثم ذكرت حاجتكم إليه فتركته. قال : ما تركته إلّا لحاجتي إليه؟ قلت : ما تركته إلّا لذلك. قال : أفلا أخبرك بيوم حاجتي إليه؟ يوم أوضع في حفرتي ، فذلك يوم حاجتي. إن في المال ثلاثة شركاء : القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو بشرها ، والوارث ، ينتظر متى يوضع رأسك فيستفيئها (٢) وأنت ذميم ، وأنت الثالث ، فإن استطعت ألا تكون أعجز الثلاثة فلا
__________________
(١) يعني أنك استخفيت بها.
(٢) يستفيئها من الفيء ، يعني يأخذها.