أخرج ابن النجار عن زياد الأعرابي قال : صعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضياللهعنه منبر الكوفة بعد الفتنة وفراغه من النهروان ، فحمد الله ، وخنقته العبرة ، فبكى حتى اخضلت لحيته بدموعه وجرت ، ثم نفض لحيته ، فوقع رشاشها على ناس من أناس ، فكنا نقول : إن من أصابه من دموعه فقد حرمه الله على النار ، ثم قال : يا أيها الناس لا تكونوا ممن يرجوا الآخرة بغير عمل ، ويؤخر التوبة بطول الأمل ، يقول في الدنيا قول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين ، إن أعطي منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع ، يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقي ، ويأمر ولا يأتي ، وينهى ولا ينتهي ، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم ، ويبغض الظالمين وهو منهم ، تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن ، إن استغنى فتن ، وإن مرض حزن ، وإن افتقر قنط ووهن ، فهو بين الذنب والنعمة يرتع ، يعافى فلا يشكر ، ويبتلى فلا يصبر ، كأن المحذّر من الموت سواه ، وكأن من وعد وزجر غيره ، يا أغراض المنايا ، يا رهائن الموت (يا وعاء الأسقام ، يا نهبة الأيام ، يا نفل الدهر) ويا فاكهة الزمان (١) ، ويا نور الحدثان (٢) ويا أخرس عند الحجج ، ويا من غمرته الفتن ، وحيل بينه وبين معرفة العبر ، بحق أقول : ما نجا من نجا إلا بمعرفة نفسه ، وما هلك من هلك إلا من تحت يده ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، جعلنا الله وإياكم ممن سمع الوعظ فقبل ، ودعي إلى العمل فعمل. كذا في الكنز (٨ / ٢٢٠) والمنتخب (٦ / ٣٢٥).
أخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن يحيى بن يعمر أن علي بن أبي طالب رضياللهعنه خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون ، والأحبار ، أنزل الله بهم العقوبات ؛ ألا فمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، قبل أن ينزل بكم الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ، ولا يقرب أجلا ، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان في
__________________
(١) يا فاكهة الزمان : يا عجيبة الزمان في البطر والركون إلى الراحة والاشتغال بشهوات النفس.
(٢) نور الحدثان : النور ـ بسكون الواو : الزهو ، والحدثان الشدائد ، والمعنى يا زهر الشدائد وهو كناية عن جلبها والإتيان بها.