من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكيف أنت صانع إذا انقشعت عنك جلابيب ما أنت فيه؟ من أمر دنيا دعتك فأجبتها ، وقادتك فاتّبعتها ، وأمرتك فأطعتها ، فأيّ شيء من هذا الأمر وجدته ينجيك؟ ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعيّة ، وولاة هذا الأمر؟ بغير قديم حسن ، ولا شرف باسق (١)؟ فلا تمكننّ الشيطان من بغيته ، مع أنّي أعلم أن الله ورسوله صادقين فيما قالا ، فأعوذ بالله من لزوم الشقاء ، فإنك يا معاوية مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذا ، وجرى منك مجرى (٢) ، اللهمّ احكم بيننا وبين من خالفنا بالحق ، وأنت خير الحاكمين.
قال : فكتب إليه معاوية :
أما بعد ، يا علي فدعني من أحاديثك ، واكفف عني من أساطيرك ، فبالكذب غررت من قبلك ، وبالخداع استدرجت من عندك ، وتوشك أمورك أن تكشف فيعرفوها ، ويعلموا باطلها ، وإنّ الباطل كان مضمحلا.
قال : فكتب إليه علي :
أما بعد ، فطال ما دعوت أنت وكثير من أوليائك أولياء الشيطان الحقّ أساطير ، وحاولتم إطفاءه بأفواهكم ، ونبذتموه وراء ظهوركم ، فأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، ولعمري ليتمنّ الله نوره بكرهك ، فعقّب من دنياك المنقطعة ما طاب لك ، فكأنّ أجلك قد انقضى ، وعملك قد هوى ، والسلام على من اتبع الهدى.
ثم إن معاوية بعث إلى عتبة بن أبي سفيان ـ وكان من أسدّ قريش رأيا ـ فقال : إنا قد حبسنا جريرا حتى طمع فينا عليّ ، وإنّما حبسته لننظر ما يصنع أهل الشام ، فإن تابعوني نبذت إليهم بالحرب ، وإن خالفوني بعثت إليهم بالسلم ، واعلم أنّ اختلاف القلوب على قدر اختلاف الصور ، فلو أصبت رجلا مصقعا ـ يعني خطيبا بليغا ـ جمعت أهل الشام على قلب واحد ، فقال عتبة (٣) : لا يكون إلّا يمانيا ، أو هما رجلان أحدهما لك والآخر عليك ، فأمّا الذي لك فشرحبيل بن السمط ، له صحبة ، وهو عدو لجرير ، وأمّا الذي عليك فالأشعث بن قيس ، وشرحبيل خير لك من الأشعث لعلي ، فعرف معاوية أن قد أتاه بالرأي.
وكتب معاوية إلى شرحبيل يسأله القدوم عليه ، وهيّأ له رجالا يخبرونه أنّ عليا قتل
__________________
(١) وقعة صفّين : شرف سابق.
(٢) بالأصل وبقية النسخ : المجرى.
(٣) راجع الفتوح لابن الأعثم ٢ / ٣٩٦ وما بعدها ، ووقعة صفّين ص ٤٤.