(*) ثم رجع إلى حديث يحيى بن أيّوب ، وخالد بن حميد ، قال : فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا ، وألححتم على قتالنا ، وطال مقامكم فى أرضنا ، وإنما أنتم عصبة يسيرة ، وقد أظلّتكم الروم وجهّزوا إليكم ومعهم من العدّة والسلاح ، وقد أحاط بكم هذا النيل ، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا ، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم (١) ، فلعلّه أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبّون ونحبّ ، وينقطع عنّا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ، ولعلّكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم ، فابعث إلينا رجالا من أصحابكم (٢) نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شىء. فلما أتت عمرو ابن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس ، فقال لأصحابه : أترون أنهم يقتلون الرسل ، ويحبسونهم (٣) ، ويستحلّون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين ، فردّ عليهم عمرو مع رسله ، أنه ليس بينى وبينكم إلّا إحدى ثلاث خصال : إمّا أن دخلتم (٤) فى الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا ، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإمّا أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فلما جاءت رسل المقوقس إليه ، قال : لهم كيف رأيتموهم؟ قالوا : رأينا قوما الموت أحبّ إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحبّ إليه من الرفعة ، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة (٥) إنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركّبهم وأميرهم كواحد منهم ، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ، ولا السيّد فيهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلّف عنها منهم أحد ، يغسلون أطرافهم بالماء ، ويتخشّعون فى صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس : والذي يحلف به لو أنّ هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها ،
__________________
(* ـ *) قارن بالسيوطى ج ١ ص ١٠٩ ـ ١١١ وهو ينقل عن ابن عبد الحكم.
(١) ب ، د : «كلامكم». ك : «نسمع كلامهم».
(٢) ب ، ج : «أصحابك».
(٣) ج : «ويسجنونهم».
(٤) ك : «إما دخلتم».
(٥) د ، ك : «همة».