ووسعوا سلطانهم على إيران كلها. وبذلك أقاموا دولة مترامية الأطراف ، لكنها سيئة التنظيم والإدارة. وخلال فترة قصيرة ، برزت قبيلة مغمورة ـ فارس ـ بقيادة أميرها كورش ، الذي عمل في خدمة الميديين ثم انتزع السلطة منهم (٥٥٠ ـ ٥٢٩ ق. م.) ، وواصل التوسع غربا. وعندما تغلب على ليديا ، وأعلن نفسه وارثا لملكها ، وجعلها ولاية فارسية حدودية ، فقد وضع مقدمات الصراع مع اليونان ، ذلك الصراع الذي كان من شأنه أن ينهي بعد ٢٠٠ عام إمبراطورية فارس (الأخيمينية).
لكن المستفيد الأول ، ولو موقتا ، من سقوط أشور ، كان الكلدانيون. وهم شعب سامي ، أقام في جنوب العراق تحت حكم أشور. ولما ضعفت هذه اعتبروا أنفسهم ورثة الحضارات القديمة في بلاد الرافدين ، بديلا طبيعيا من أشور. وإزاء الصراعات الداخلية فيها ، قاد الكلدانيون الثورة عليها ، وأسقطوا السلالة الحاكمة فيها ، ونقلوا العاصمة إلى بابل القديمة ، كتعبير عن ارتباطهم بماضي العراق. وسارع نبوخذ نصّر الثاني (٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م.) وكرّس سلطته على بلاد الشام ، مشكلا بذلك إمبراطورية موحدة سياسيا وحضاريا وعرقيا. وعلى العكس من ملوك أشور ، الذين اكتفوا من ملوك يهودا بالجزية ، فإن نبوخذ نصّر قضى عليها ، وخرّب عاصمتها ، وهدم هيكلها ، وسبى أعدادا كبيرة من الطبقة الحاكمة فيها إلى بابل ، قاطعا الطريق على أية أحلام قد تراود سكانها بإعادة بناء مملكة داود.
ومع أن إمبراطورية نبوخذ نصّر لم تعمّر طويلا ، فإنها كانت فترة انبعاث حضاري لامعة في تاريخ العراق. والملك العظيم لم ير نفسه فاتحا كبيرا فحسب ، بل مجددا دينيا وحضاريا أيضا. ويبرز ذلك من خلال إعادة بناء بابل كعاصمة له ، بما ضمته من أسوار ضخمة وقصور ومعابد جميلة وحدائق أسطورية معلّقة ونحوت ورسوم فاتنة ، جعلتها إحدى أكثر مدن العالم القديم فخامة. لكن هذه الإمبراطورية وهنت بعد موته ، ودبّ فيها الصراع الداخلي ، وخصوصا بين خلفائه الضعفاء وطبقة الكهنة التي لم تنظر بعين الرضى إلى سياستهم الاجتماعية ـ الدينية. وانتهز كورش حالة التململ الداخلي ، وبمساعدة الجالية اليهودية في بابل ، احتل المدينة من دون صعوبة تذكر ، سنة ٥٣٩ ق. م. معلنا نفسه وارثا لملكها ، كما فعل في ليديا من قبلها.
وبعد توحيد فارس وميديا ، والتغلب على ليديا وبابل ، وميراث أراضيهما ، أصبحت الإمبراطورية الفارسية الوارثة الحقيقية لأشور ، وعمّرت في الفترة (٥٥٠ ـ ٣٣٠ ق. م.) ، وبفعل ملوكها الأوائل ـ كورش (٥٥٠ ـ ٥٢٩ ق. م.) وقمبيز (٥٢٩ ـ ٥٢٢ ق. م.) وداريوس (٥٢١ ـ ٤٨٦ ق. م.) ـ امتدت الإمبراطورية من بحر إيجة في الغرب إلى حدود الهند في الشرق ، ومن جنوب مصر إلى البحر الأسود وجبال القفقاز