مقدمة
إذا صحت مقولة أن الخارج من الجغرافيا يغادر التاريخ أيضا ، فالأكيد أن القابع في قلبها لا بدّ من أن يحسّ بنبضه. ولئن انطبق ذلك على عدد من البلدان المعمورة ، فإن فلسطين تتصدر القائمة. فقد كانت تعتبر حتى نهاية القرن الخامس عشر ، «صرّة» العالم الآهل (الأيكومين) ، وشكلت مركزيتها أحد أسس علمي الجغرافيا والكارتوغرافيا إلى حينه ، حتى أثبتت الاكتشافات الحديثة غير ذلك. لكن المسألة ظلت عالقة بالأذهان ، ولو بصورة مجازية. ففلسطين تقع في الطرف الجنوبي الغربي من الهلال الخصيب ، وبذلك تشكّل الرقعة المحاذية للجسر البري الذي يصل آسيا بإفريقيا ، وبالتالي الأقرب من بلاد الشام لوادي النيل. وهي ليست جسرا بين قارتين كبيرتين فحسب ، بل بين محيطين أيضا : الأطلسي والهندي. فساحلها جزء من الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط الذي هو امتداد للمحيط الأطلسي ، وطرفها الجنوبي يقع على خليج العقبة الذي هو امتداد للمحيط الهندي ، عبر البحر الأحمر ، وبموقعها هذا شكلت فلسطين ملتقى لطرق برية وبحرية ، منذ أقدم العصور المعروفة ، وأدت دورا مهما في التجارة الدولية والتبادل الحضاري بين الأمم. كما أنها نقطة تقاطع طرق جوية في العصر الحديث. وكان طبيعيا أن يتأثر تاريخها بهذا الموقع الاستراتيجي ، وأن تؤثر هي من هذا الموقع في تاريخ المنطقة والعالم.
ويخترق فلسطين من الشمال إلى الجنوب الانهدام السوري ـ الإفريقي في غور الأردن ، الأمر الذي جعلها معبرا لأجناس بشرية وحيوانية ونباتية منذ العصور الموغلة في القدم. وفيما هي جزء من الهلال الخصيب ، الذي يشكّل شبه دائرة من الأراضي الزراعية يمتد من الشاطىء الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، مرورا بشمال سورية ، وصولا إلى بلاد ما بين النهرين ، فإنها تقع بين البحر في الغرب والصحراء في الشرق ؛ وهذا ما جعلها تتأثر بهما مناخيا وسكانيا أيضا. وكان أثر الصحراء فيها على الصعيد الديموغرافي أكبر ، إذ ظلت موجات متتالية من هجرة القبائل تندفع من قلب الصحراء العربية إلى جميع أنحاء الهلال الخصيب ، ومنه فلسطين. لكن البحر أدّى دورا في هذا المجال أيضا ، إذ إن فلسطين نزلتها شعوب البحر ، كما شهدت حركات استيطانية في عصور متعددة ، جاءت من منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. غير