وقد نقل السّبكيّ الإجماع على أنّ الكنيسة إذا هدمت ولو بغير وجه لا تجوز إعادتها.
ومن قبائح الحاكم أنّه ابتنى المدارس ، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ، ثمّ قتلهم وخرّبها ، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارا وفتحها ليلا ؛ فامتثلوا ذلك دهرا طويلا حتّى اجتاز مرّة بشيخ يعمل التجارة في أثناء النهار ، فوقف عليه ، وقال : ألم ننهكم عن هذا! فقال : يا سيّدي ، أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنّهار؟ فهذا من جملة السهر. فتبسّم وتركه. وأعاد النّاس إلى أمرهم الأوّل. وكان يعمل الحسبة بنفسه يدور في الأسواق على حمار له ، وكان لا يركب إلّا حمارا ، فمن وجده قد غشّ في معيشته أمر عبدا أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى. وكان منع النساء من الخروج من منازلهنّ ، وأن يطلعن من الطاقات أو الأسطحة ، ومنع الخفّافين من عمل الأخفاف لهنّ ، ومنعهنّ من دخول الحمّامات ، وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك ، وهدم بعض الحمامات عليهنّ ، ومنع من طبخ الملوخيا. وله رعونات كثيرة لا تنضبط ، فأبغضه الخلق ، وكتبوا له الأوراق بالشتم له ولأسلافه في صورة قصص ، حتّى عملوا صورة امرأة (١) من ورق بخفّها وإزارها ، وفي يدها قصّة فيها من الشّتم شيء كثير ، فلمّا رآها ظنّها امرأة ، فذهب من ناحيتها وأخذ القصّة من يدها ، فلمّا رأى ما فيها غضب ، وأمر بقتلها ؛ فلمّا تحقّقها من ورق ، ازداد غضبا إلى غضبه ، وأمر العبيد من السّود أن يحرقوا مصر وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم ، ففعلوا ، وقاتلهم أهل مصر قتالا عظيما ثلاثة أيام ، والنار تعمل في الدّور والحريم. واجتمع النّاس في الجوامع ، ورفعوا المصاحف ، وجأروا إلى الله واستغاثوا به ، وما انجلى الحال حتّى احترق من مصر نحو ثلثها ، ونهب نحو نصفها ، وسبي حريم كثير وفعل بهنّ الفواحش. واشترى الرّجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد.
قال ابن الجوزيّ : ثمّ زاد ظلم الحاكم ، وعنّ له أن يدّعي الربوبيّة ، فصار قوم من الجهّال إذا رأوه يقولون : يا واحد ، يا أحد يا محيي يا مميت!
قلت : كان في عصرنا أمير يقال له أزدمر الطويل ، اعتقاده قريب من اعتقاد الحاكم هذا ، وكان يروم أن يتولّى المملكة ، فلو قدّر الله له بذلك فعل نحو ما فعله الحاكم وقد أطلعني على ما في ضميره ، وطلب منّي أن أكون معه على هذا الاعتقاد في الباطن إلى أن يؤول إلى السلطنة ، فيقوم في الخلق بالسيف حتّى يوافقوه على الاعتقاد. فضقت
__________________
(١) انظر الكامل لابن الأثير : ٧ / ٣٠٥.