الموضع وغموضه ، ولطف متسرّبه ؛ فإن المعانى يتناهبها المولّدون كما يتناهبها المتقدّمون. وقد كان أبو العباس (١) ـ وهو الكثير التعقب لجلّة الناس ـ احتج بشىء من شعر حبيب (٢) بن أوس الطائىّ فى كتابه فى الاشتقاق ، لما كان غرضه فيه معناه دون لفظه (٣) ، فأنشد فيه له :
لو رأينا التوكيد خطّة عجز |
|
ما شفعنا الأذان بالتثويب |
وإياك والحنبليّة (٤) بحتا ؛ فإنها خلق ذميم ، ومطعم على علاته وخيم.
وقال سيبويه : «هذا باب علم ما الكلم من العربيّة» فاختار الكلم على الكلام ، وذلك أن الكلام اسم من كلّم ، بمنزلة السلام من سلّم ، وهما بمعنى التكليم والتسليم ، وهما المصدران الجاريان على كلّم وسلّم ؛ قال الله سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] وقال ـ عزّ اسمه ـ : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] فلما كان الكلام مصدرا ، يصلح لما يصلح له الجنس ، ولا يختصّ بالعدد دون غيره ، عدل عنه إلى الكلم ، الذى هو جمع كلمة ، بمنزلة سلمة وسلم ، ونبقة ونبق ، وثفنة (٥) وثفن. وذلك أنه أراد تفسير ثلاثة أشياء مخصوصة ،
__________________
(١) يريد المبرد محمد بن يزيد الإمام فى النحو واللغة والأخبار ، كانت وفاته سنة ٢٨٥ ه. ومن روائع كتبه : الكامل فى اللغة والأدب وقد حققناه فى أربعة أجزاء ط دار الكتب العلمية.
(٢) هو أبو تمام : وتوفى بالموصل سنة ٢٣١.
(٣) هذا يدلك على أن استشهاد ابن جنّى وغيره بكلام المولدين إنما هو فى باب المعانى دون الألفاظ فإن ألفاظ اللغة وأبنيتها وأصولها لا يحتج عليها بشىء من كلام المولدين اتفاقا. كما يستفاد من كلام ابن جنى كذلك صحة الاحتجاج بكلام أمثال أولئك المولدين فى أبواب البلاغة برمتها من معان وبيان وبديع ؛ فإنها من المعانى التى يتناهبها المولّدون كما يتناهبها المتقدمون كما يقول ابن جنّى ، ومن ثم فلا يغلق باب الاحتجاج فيها أو يقصر على ما ورد من شواهد البلاغة فى العصور الغابرة ، دون ما برع فيه الشعراء والمبدعون فى العصور الحديثة.
(٤) ما كان يليق بابن جنّى استخدام الحنبلية بمعنى التشدد والتزمت فإنه معنى مولّد لا يرجع إلى دراية ولا تحقيق ، وقد زاد الطين بلّة ؛ بأن وصف تلك الحنبلية بأنها خلق زميم ، ومطعم على علّاته وخيم. ولسنا من متعصبى الحنبلية ولا غيرها من المذاهب ، ولكنها عروة من عرى الإسلام نخشى عليها أن تثلم أو تكلم.
(٥) الثفنة من البعير والناقة : الركبة.