ومما جاء منه فى الكلام قول الآخر :
فصبّحت والطير لم تكلّم |
|
جابية طمّت بسيل مفعم (١) |
وكأن الأصل فى هذا الاتّساع إنما هو محمول على القول ؛ ألا ترى إلى قلّة الكلام هنا وكثرة القول ؛ وسبب ذلك وعلّته عندى ما قدّمناه من سعة مذاهب القول ، وضيق مذاهب الكلام. وإذا جاز أن نسمّى الرأى والاعتقاد قولا ، وإن لم يكن صوتا ، كانت تسمية ما هو أصوات قولا أجدر بالجواز. ألا ترى أن الطير لها هدير ، والحوض له غطيط ، والأنساع لها أطيط ، والسحاب له دوىّ. فأمّا قوله : وقالت له العينان سمعا وطاعة فإنه وإن لم يكن منهما صوت ، فإن الحال آذنت بأن لو كان لهما جارحة نطق لقالتا : سمعا وطاعة. وقد حرّر هذا الموضع وأوضحه عنترة بقوله :
لو كان يدرى ما المحاورة اشتكى |
|
ولكان ـ لو علم الكلام ـ مكلّمى (٢) |
وامتثله شاعرنا (٣) آخرا فقال :
فلو قدر السنان على لسان |
|
لقال لك السنان كما أقول |
وقال أيضا :
لو تعقل الشجر التى قابلتها |
|
مدّت محيّية إليك الأغصنا |
ولا تستنكر ذكر هذا الرجل ـ وإن كان مولّدا ـ فى أثناء ما نحن عليه من هذا
__________________
(١) الرجز بلا نسبة فى لسان العرب (طمم) ، (فعم) ، (كلم) ، وتاج العروس (فعم).
(٢) البيت من الكامل ، وهو لعنترة فى ديوانه ص ٢١٨ ، ولسان العرب ، (قول) ، وتاج العروس (قول). وعجز البيت يروى :
* أو كان يدرى ما جواب تكلّمى*
(٣) يريد بقوله شاعرنا المتنبى ، وكان ابن جنى يحضر عند المتنبى الكثير ، يناظره فى شيء من النحو ، وكان المتنبى يعجب به وبذكائه وحذقه. ويقول : هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس ، ويقول ابن جنى فى المحتسب وقد استشهد ببيت للمتنبى : «ولا تقل ما يقوله من ضعفت نحيزته ، وركت طريقته : هذا شاعر محدث ، وبالأمس كان معنا ، فكيف يجوز أن يحتج به فى كتاب الله ـ جل وعز ـ! فإن المعانى لا يرفعها تقدّم ، ولا يزرى بها تأخر ، ولابن جنى شرحان على ديوان المتنبى. انظر البغية ومعجم الأدباء. (النجار).