من ذلك اللبن ، وكان إبراهيم سريع الشباب لما أراد الله به ، فلما كان ابن ثلاث عشرة (١) سنة وهو في السرب أخرجته أمّه منه ، ثم أبرزته. فلم يشعر به أبوه حتى نظر إليه قاعدا في بيته ، فلما نظر إليه قال لامرأته : من هذا الغلام الذي أخطأه الذبح؟ فإني أعلم أنه لم يولد إلّا بعد ما أمر الملك بذبح الولدان فكيف خفي مكان هذا الغلام على الطلب والحفظة حتى بلغ مبلغه هذا؟ فلما همّ أن يبطش به ، قالت له امرأته : على رسلك حتى أخبرك خبر هذا الغلام ، اعلم أنه ابنك الذي ولد ليالي كنت معتكفا فكتمته عنك في نفق تحت الأرض حتى بلغ هذا المبلغ ، فقال لها زوجها : وما الذي حملك على أن خنتيني ، وخنت نفسك ، وخنت الملك ، وأنزلت بنا أمر البلاء ما لا قبل لنا به بعد العافية والكرامة ورفع المنزلة على جميع قومنا؟ قالت : لا يهمنك هذا ، فعندي المخرج من ذلك ، وأنا ضامنة لك أن تزداد به عند الملك كرامة ورفعة وأمانة ونصيحة ، وإنما فعلت الذي فعلت نظرا لي ولك ولابنك ولعامة الناس ما أضمرت في نفسي يوم كتمت هذا الغلام وقلت : أكتمه حتى يكون رجلا ، فإن كان هو عدو الملك وبغيته التي يطلب قدناه حتى نضعه في يده ، ثم قلنا له : دونك أيّها الملك عدوك قد أمكنك الله منه ، وقطع الله عنك الهمّ والحزن ، فارحم الناس في أولادهم ، فقد أفنيت خولك وأهل مملكتك ، وإن لم يكن هو بغية الملك وعدوّه فلم اذبح ابني باطلا مع ما قد ذبح من الولدان قال لها أبوه : ما أظنك إلّا قد أصبت الرأي ، فكيف لنا بأن نعلم أنه عدو الملك أو غيره؟ قالت نحبسه ونكتمه ونعرض عليه دين الملك وملّته فإن هو أجابك إلى ذلك كان رجلا من الناس ليس عليه قتل ، وإن عصانا ولم يدخل في ملّتنا علمنا علمه فأسلمناه للقتل ، فلما قالت له هذا رضي به ، ورأى أنه الرأي وألقى الله تعالى في نفسه الرّحمة والمحبة لابراهيم. وزيّنه في عينه ، وكان لا يعدل به أحدا من ولده ، إذا ذكر أنه يصير إلى القتل يشتد وجده عليه ، وبكى من رحمته.
وكانت أمّ إبراهيم واثقة بأنه إن كان هو عدو القوم فليس أحد من أهل الأرض يطيقه ولا يقتله ، ورأت أنه [متى](٢) ما ينصر عليهم تكون في ذلك نجاتها ونجاة من كان من إبراهيم بسبيل. فشجعها ما كانت ترجو لإبراهيم من نصرة الله له على خلاف نمرود
__________________
(١) بالأصل : «ثلاثة عشر» خطأ.
(٢) زيادة عن المختصر.