وإذا تمَّ ذلك : لم يكن في الآية أيُّ دليل على ما يُريد الناس أو يميل إليه المُستدلُّ ، بلْ تكون بعيدة عن ذلك كلَّ البُعد.
الوجه الرابع : إنَّنا لو تنزَّلنا جدلاً عن الوجوه السابقة ، وقلنا : بحرمة التهلُكة ، فإنَّها إنَّما تحرُم ما دام صدق العنوان موجوداً ، أو قلْ : إذا كان العرف يوافق على أنَّها تهلُكة فعلاً. وأمَّا إذا لم تكن كذلك خرجت عن موضوع التهلُكة فلم تُصبح مُحرَّمة. ولا شكَّ أنَّ المفهوم ـ عرفاً وعقلائيَّاً ـ أنَّ التهلُكة إنَّما تكون كذلك ، والصعوبة إنَّما تكون صعوبة ، فيما إذا كانت بدون عوض أو بدل ، فلو مرَّ الإنسان بصعوبة بليغة مِن دون نتيجة صالحة لتعويضها كان ذلك (تهلُكة). وأمَّا إذا كانت نتائجها حسنة فليست تهلُكة بأيِّ حال.
ونحن نرى الناس كلَّهم ـ تقريباً بلْ تحديداً ـ يُضحُّون مُختلف التضحيات في سبيل نتائج أفضل ى ، سواء مِن ناحية الأرباح الاقتصاديَّة أم المصالح الاجتماعيَّة أم النتائج السياسية أم الثمرات العلميَّة أم أيِّ حقل مِن حقول هذه الدنيا الوسيعة ، فإنَّه يحتاج إلى تضحية قبل الوصول إلى نتائج. ومِن الواضح أنَّ هذه النتائج ما دامت مُستهدفة لم يعتبرها الناس تهلُكة أو خسارة ، بلْ يعتبرونها ربحاً وفيراً ، ورزقاً كثيراً ؛ لأنَّها مُقدَّمات لها ، على أيِّ حال.
فإذا طبَّقنا ذلك على حركة الحسين عليهالسلام أمكننا مُلاحظتها مع
__________________
= وتعالى عليه ، وبالتالي دخوله إلى الجنَّة فلا ينتظر الجزاء في الدنيا أو مِن الشخص المُقابل ، فإذا كانت نتيجة هذين الأمرين نتيجة أُخرويَّة يكون الأمر الثالث (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أمراً أُخرويَّاً أيضاً ؛ لأنَّه واقع بنفس السياق ، فتكون التهلُكة تهلُكة أُخرويَّة وهو دخول جهنَّم ؛ لترك الطاعات والوقوع في المعاصي.
وأشار إلى هذا المعنى عدد مِن المُفسِّرين ، ومنهم الفخر الرازي ، الذي أعطى في تفسير هذا المقطع مِن الآية عِدَّة وجوه منها وجه قريب للمعنى السابق ، فيقول : قوله : (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) هو الرجل يُصيب الذنب الذي يرى أنَّه لا ينفعه معه عمل ، فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلُكة ؛ فالحاصل أنَّ معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله ؛ لأنَّ ذلك يحمل الإنسان على ترك العبوديَّة والإصرار على الذنب. انتهى.