وملاحظة بسيطة على الفكر القرآني تكفي لإخبارنا بأن التكاليف الإلهية بصورتها المعتادة المقتصرة في الحلال والحرام أدنى بكثير من ان ترضي نهم الواله العاشق للذات الإلهية ، اللهم إلا أن يقال إن دائرة الكمال أو دائرة العمل بالأولى تدخل ضمن هذا الإطار ، وعندئذ فإننا سنجد أن الحياة الخاصة بالمكلّف بالعمل في هذا الإطار ، ستكون كلها رسالة فحسب فتتماهى الذات بصورة لا نحسّ بوجودها مطلقاً ، وذلك لأن أعمال الدائرة الأولى هي أطر الحلال والحرام والمباح ، وهذا المباح يمكن أن يتقلّص بشكل يتماهى إلى العدم إن أدخلنا في هذه الدائرة مسألة العمل بالأولى وترك الأقبح فسيتحول هذا المباح إلى مستحب أو مكروه.
فإن كان الشارع المقدّس قد حدّد لمريده جملة من التعليمات المبينة على قاعدة العمل بالأولى وترك الأقبح في أخص خصوصياته الذاتية فتراه يذهب معه حتى إلى بيت الخلاء ليحدد له آداب التخلي ، ويذهب معه إلى فراش الموجية ليحدد له آداب المعاشرة الزوجية الخاصة ، ويرافقه وهو في حال المشي والجلوس ، واليقظة والنوم ، ويحدد له مقدار ما يعلو بصوته (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١) ويجالسه في حال الأكل والشرب لا ليحدد له آداب الجلوس على المائدة وطبيعة ما ينبغي أن يأكل وما ينبغي أن يدع فحسب ، بل يرافقه لنفس نية الأكل والشرب ، وهي من أكثر المباحات شيوعاً في حياة الإنسان ليقول له على لسان الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يتحدّث مع الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري (رضوان الله تعالى عليه) : يا أبا ذر لو استطعت أن يكون أكلك وشربك لله فافعل. وتراه يرافقه ليحدد له حتى طريقة ضحكه وحدوده ، بل يمتد الخطاب الرسالي ليحدد للمرء طبيعة ما يفكر به حتى في هواجسه وخطراته اليومية فتراه يخاطبه : إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا
____________________
(١) لقمان : ١٩.