أضواء وآراء - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-74-2
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٤٥٦

عقلياً عملياً آخر لا ربط له بالمولوية وحق الطاعة الواقعية الثابتة لأحكام المولى في نفسها ولا انّه تحديد لتلك المولوية.

وهذا المنهج غير تام بعد أن اتضح انّ المنجزية ليست إلاّعبارة عن حق الطاعة والمولوية وانّ القضية الثانية تكون تحديداً للقضية الاولى وتفصيلاً لمولوية المولى وحق طاعته بحسب الحقيقة ، فإنّ هذا الحق امّا أن يكون موضوعه ودائرته الالزام الواقعي للمولى أو يكون موضوعه الالزام المقطوع به بالخصوص أو يكون موضوعه الالزام الواصل ولو وصولاً احتمالياً غير المقطوع بعدمه.

والأوّل غير معقول ، لاستلزامه منجزية التكليف بوجوده الواقعي حتى إذا علم عدمه بنحو الجهل المركب ، وهو واضح البطلان.

وإن شئت قلت : انّ الأحكام العقلية العملية بالانبغاء والحسن والقبح يكون الالتفات والوصول ولو الاحتمالي مأخوذاً فيها في باب المولوية وحق الطاعة الذي يكون ملاكه ونكتته العقلية لزوم احترام المولى وتعظيمه وعدم هتكه بمخالفة أمره ؛ ومن الواضح تقوم ذلك بوصول أمره ونهيه ولو وصولاً احتمالياً على الأقل ، وامّا مع القطع بالعدم فلا تكون المخالفة الواقعية هتكاً أصلاً ، وهذا يعني انّه لا يمكن افتراض المولوية وحق الطاعة أمراً ثابتاً للمولى بلحاظ أحكامه الواقعية على واقعها.

وأمّا الثاني فهو يعني التفصيل والتحديد في مولوية المولى وحق طاعته بخصوص الالزام المقطوع به وهو خلاف وجدانية إطلاق مولوية المولى الحقيقي المطلق. وظني أنّ المشهور لعدم التفاتهم إلى هذه النكتة وبحثهم عن قضية

٤١

منجزية القطع مفصولاً ومستقلاًّ عن قضية حدود مولوية المولى وحق طاعته ذهبوا إلى البراءة العقلية.

فيتعين الثالث وهو المقصود من ثبوت المولوية والمنجزية وحق الطاعة في مطلق موارد امكان الاحتياط وحفظ غرض المولى ، وهو موارد الالتفات ووصول الالزام أو احتماله ، أي غير ما يقطع بعدمه ، لأنّ مولوية المولى الحقيقي وحق طاعته كانعامه وخالقيته مطلقة لا حدّ لها بحسب وجداننا الفطري ، وامّا العذر في مورد القطع بالترخيص فليس من باب التبعيض في المولوية وتحديدها بل لعدم إمكان المنجزية وعدم معقوليتها فيه على ما سوف يأتي تفصيله وتوضيحه فهو خروج تخصّصي لا تخصيصي.

النقطة الثانية : في عدم إمكان الردع عن العمل بالقطع وجعل حكم ظاهري على خلاف المقطوع به.

لا إشكال في انّه يمكن جعل حكم ظاهري على خلاف الوظيفة العقلية العملية الأولية في موارد غير القطع من الظن والاحتمال ـ سواء كانت الوظيفة العقلية المنجزية وحق الطاعة كما هو الصحيح أو البراءة وقبح العقاب كما هو مختار المشهور ـ بعد الجواب على شبهة ابن قبة على ما سوف يأتي في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

والوجه في إمكان ذلك هو انّ حكم العقل بالوظيفة الأولية حكم تعليقي ، فالمنجزية التي يحكم بها العقل معلقة على عدم جعل الشارع للترخيص الظاهري ، وكذلك البراءة العقلية على القول بها معلقة على عدم الالزام الظاهري من قبل المولى وايجابه الاحتياط بأي لسان كان فيرتفع موضوع الوظيفة الأولية

٤٢

العقلية بورود ذلك ، وأمّا منجزية القطع ومعذريته فلا يعقل فيه جعل حكم ظاهري على خلافه على ما سوف يظهر ، وهذا يؤدّي إلى الفرق بين منجزية القطع ومنجزية الاحتمال بناءً على مسلك حق الطاعة من وجهين :

أوّلاً ـ انّ القطع منجز ومعذر بخلاف الاحتمال.

وثانياً ـ انّ منجزيته ومعذريته لا يمكن سلبهما عنه ، بخلاف الاحتمال ، وقد انفتح هذا البحث تاريخياً في علم الاصول نتيجة دعوى الاخباريين امكان ردع الشارع عن العمل بالقطع ، بل ادعوا وقوعه في ما ثبت من الردع عن العمل ببعض الأدلّة العقلية كالقياس والاستحسان ، وادعى الاصوليون استحالة ذلك وذكروا فيه وجوهاً ثلاثة :

١ ـ لزوم التضاد بين الحكمين امّا واقعاً أو في نظر القاطع على الأقل ، وكلاهما محال.

٢ ـ انّه مناقض لحكم العقل بحجية القطع أو تفكيك بين القطع ولوازمه الذاتية.

٣ ـ لزوم نقض الغرض بحسب نظر القاطع.

وهذه الوجوه بهذه الصياغات غير تامة.

إذ الأوّل والثالث ـ أي التضاد إذا اريد به التضاد ونقض الغرض في مرحلة المبادئ فجوابه انّ الردع لا يكون بحكم نفسي بل بحكم طريقي كما في موارد الشك والاحتمال وإلاّ فجعل حكم نفسي في مورد الشك محال أيضاً لاستحالة احتمال اجتماع الضدين أيضاً ، والحكم الطريقي سوف يأتي انّه ليس فيه مبادئ مستقلة ، امّا لكون مبادئها في نفس الجعل أو لكون مبادئها نفس مبادئ الحكم

٤٣

الواقعي المقطوع به فلا تضاد ولا نقض بلحاظ المبادئ والأغراض.

وإذا اريد به التضاد أو نقض الغرض بلحاظ مرحلة المنجزية والامتثال أي بلحاظ المنتهى فهو موقوف على أن تكون المنجزية وحق الطاعة غير مرتفعة بورود حكم ولو طريقي من الشارع نفسه في هذه المرتبة وإلاّ لم يكن تضاد أيضاً كما هو واضح.

ولا ينبغي الاشكال في انّ حقّ الطاعة ـ أي المنجزية والمعذرية ـ تعليقي بهذا المعنى دائماً ؛ لأنّ حقّ الطاعة موضوعه اطاعة أوامر المولى وأحكامه ، فإذا كان جعل حكم مولوي ولو طريقي معقولاً في مورد القطع في نفسه فلا محالة يكون حاكماً رافعاً لموضوع حكم العقل بالمنجزية أو المعذرية ، فلا معنى للتشكيك في ارتفاع منجزية القطع وكذلك معذريته لو أمكن جعل الحكم الظاهري في مورده.

وبهذا يعرف الجواب أيضاً على الوجه الثاني ، فإنّه لا يوجد أي تناقض بين الحكم الطريقي الشرعي وبين المنجزية وحق الطاعة المدركة من قبل العقل في القطع بالالزام وكذلك معذرية القطع بالترخيص ؛ لأنّ الحكم الطريقي من الشارع إن كان معقولاً في نفسه كان رافعاً لموضوع المنجزية والمعذرية كما هو الحال تماماً في موارد منجزية أو معذرية الاحتمال.

فالصحيح في الجواب أن يقال : بأنّ جعل حكم طريقي في مورد القطع غير ممكن على مسلكنا في حقيقة الحكم الظاهري. نعم ، قد يتم على بعض المسالك الاخرى ، وذلك لأنّ المكلّف بنفس قطعه يرى نفسه خارجاً عن روح هذا الحكم الطريقي وملاكه إذ الحكم الطريقي كما سوف يأتي إنّما هو من أجل حفظ

٤٤

الأهم من الملاكين الواقعيين الالزامي والترخيصي المتزاحمين في مقام الحفظ ؛ والقاطع يرى أنّه بالسير على وفق قطعه يحفظ الملاك المولوي الأهم والواقعي دائماً ومن دون تزاحم.

وإن شئت قلت : انّ التزاحم الحفظي غير معقول إلاّمع الشك والتردد وامّا مع القطع بالالزام أو الترخيص فلا تزاحم حفظي في نظر المكلّف ولا يقصد بالتزاحم الحفظي إلاّذلك أي حفظ الأهم من الملاكين في مرحلة الامتثال من جهة الجهل وعدم تشخيصه لموارده المشتبهة ، فمع فرض القطع لا موضوع للتزاحم الحفظي وبالتالي لا موضوع لجعل حكم طريقي.

نعم ، في نظر المولى ومن زاوية علمه ربما يتحقق التزاحم الحفظي بأن يرى انّ معلومات المكلّف جملة منها غير مصيبة ومخالفة للواقع ، إلاّ أنّ هذا التزاحم مع فرض بقاء قطع المكلّف لا يمكن أن يوصله للمكلف لأنّه يرى انّه لا تزاحم حفظي في البين ، بمعنى انّه في كل قطع تفصيلي يلتفت إليه يراه خارجاً عن موضوع ذلك التزاحم الحفظي وإنّما يحتمل التزاحم الحفظي في موارد معلوماته الاخرى التي لا التفات تفصيلي إليها بالفعل ، فلو ردعه عن العمل بقطعه لم يكن مثل هذا الحكم منجزاً عليه ؛ لأنّه يجد نفسه خارجاً عن موضوع التزاحم الحفظي للملاكات الواقعية الالزامية والترخيصية للمولى.

والحاصل جعل الحكم النفسي لا إشكال في استحالته ، والحكم الطريقي ـ أي الظاهري ـ يجد القاطع نفسه خارجاً عن روحه وملاكه دائماً فلا يعقل أن يكون رافعاً لمنجزية القطع ومعذريته لأنّ المنجز والمعذر دائماً روح الحكم وملاكه لا الجعل والاعتبار وروح الحكم الظاهري لا يمكن وصوله إلى المكلّف في المقام.

٤٥

وبهذا يظهر الجواب عمّا ذكر في هامش الكتاب ، هذا بحسب مسلكنا وأمّا بحسب مسالك القوم الذين يجعلون ملاك الحكم الطريقي ومباديه في نفس الجعل أو في السلوك ونحو ذلك فلا يمكن الاجابة الفنية على مدعى الاخباري إذ كما يمكن جعل حكم طريقي مخالف في مورد احتمال الحكم الواقعي دون أن يلزم التضاد في المبادئ ولا في المنتهى ولا نقض الغرض كذلك في المقام.

وامّا ما في تقريرات السيد الحائري من التفصيل بين المحركية الشخصية والمحركية المطلقة وأنّه إذا كان غرض المولى في الحصة الخاصة من الفعل المتحققة من المكلف بداعي حبّه للمولى لا الزامه فيمكنه أن يسقط القطع عن الحجّية باسقاط حق طاعته ليجرب مدى حب العبد له وانّه هل بلغ حبّه إلى مستوى يكفي وحده لتحريكه نحو الامتثال كالأمر الناشىء من قبل من لا تجب عقلاً طاعته على المأمور أم لا.

ففيه : أنّه غير معقول أيضاً ـ رغم تعليقية حق الطاعة ـ بنفس البيان المتقدم ؛ لأنّ التنجيز لا يمكن أن يرتفع إلاّبروح الحكم الظاهري وهي غير متصورة وغير معقول الوصول للمكلف فلا يمكن أن ترتفع منجزية الالزام المولوي الواقعي به فإذا كانت المصلحة والملاك الواقعي في الحصة الخاصة كان أمره بها خلفاً بل في مثل هذه الحالة سوف لا يأمره أمراً الزامياً وإنّما يبلغه مجرد حبّه أو يأمره بأمر غير الزامي وإن كان الملاك والمصلحة ثبوتاً لزومية ؛ لأنّه لا يمكنه أن يصل إليه عن طريق اعمال مولويّته ، وهذا غير اسقاط حق الطاعة في مورد القطع.

وهكذا يتضح انّ التوصل إلى هذه النتيجة أعني اختبار العبد أو دفعه نحو تحقيق الحصة الخاصة من الفعل الصادرة منه لمجرد حبّ المولى لا الزامه لا يتحقق إلاّبرفع الالزام الواقعي المقطوع به الذي يعني رفع صغرى حق الطاعة

٤٦

وهو أجنبي عن مسألة الردع عن العمل بالقطع.

لا يقال : بعد فرض تصريح المولى للمكلف بأن لا يعمل مثلاً بقطوعه الحاصلة من الدليل العقلي أو من القياس وفرض أنّه لا تضاد بين جدية ذلك وبين تكاليفه الواقعية لما يراه من التزاحم الحفظي نتيجة امكان خطأ المكلف في قطوعه وفرض انّ هذا المطلب بشكله الكلي يفهمه المكلف ويحتمله أيضاً. لا وجه لدعوى انّ مثل هذا الحكم والتصريح المولوي المعقول لا يعبأ به العقل العملي ولا يراه نافذاً أي موجباً للاحتياط في مورد القطع بالترخيص أو رفع التنجيز في مورد القطع بالالزام ، فإنّ كل قطع بالخصوص وإن كان يرى المكلف انّه مصيب للواقع وانّه لو لم يعمل بقطعه سوف يضيع على المولى الملاك الواقعي الالزامي أو الترخيص المولوي تضييعاً قطعياً لا احتمالياً إلاّ انّه لا مانع منه ، إذ لو كان المانع كونه قبيحاً عقلاً فالمفروض انّ حكم العقل تعليقي لا تنجيزي ، ولو كان المانع أنّه يرى نفسه خارجاً عن التزاحم الحفظي فالتزاحم الحفظي ليس من وظيفة العبد بل المولى أي ليس التزاحم الحفظي كالامتثالي مما يرتبط بالعبد بل بالمولى فليس هو المكلّف بالحفظ للملاكات.

ولو كان المانع انّ مثل هذا الأمر لا يكون بروحه وبملاكه محفوظاً وثابتاً في مورد القطع بحسب نظر المكلف ؛ لأنّه يرى قطعه مصيباً فهو يخطِّىء المولى في المورد في روح الحكم والغرض منه.

فهذا أيضاً مدفوع بأنّ روح الحكم ليس هو التزاحم وحفظ الملاك في كل مورد مورد بل في مجموع موارد نوع حكم ظاهري واحد ـ كما سيأتي في محله ـ وهذا محتمل لدى المكلّف القاطع فإنّه وإن كان لا يحتمل خطأ قطعه في ذلك المورد ولكنه يحتمل أن يكون مجموع ما سيحصل له في سائر الموارد من

٤٧

القطوع من الدليل العقلي مثلاً خطأً ، كما يشخصه المولى.

فإنّه يقال : هذا الكلام غير تام. إذ صحيح انّ التزاحم الحفظي يكون بلحاظ مجموع الموارد إلاّ أنّ معقوليته في كل مورد وتكليف منوط باحتمال كونه من تلك الموارد أي داخلاً في ذلك المجموع. وامّا مع القطع بخروجه عن ذلك المجموع فلا يرى القاطع إلاّخطأ المولى في ذلك المورد بمعنى امكان حفظ غرضه الواقعي بلا تزاحم ، فلا يكون روح الحكم الظاهري محفوظاً فيه ، وهذا واضح.

ثمّ انّ ما فعله الميرزا وذكره السيد الخوئي في المقام وناقش فيه من أخذ عدم حصول العلم من طريق خاص كالقياس في الحكم الواقعي أجنبي عن بحث امكان الردع عن العمل بالقطع ؛ لأنّ موضوع هذا البحث القطع الطريقي وتلك المحاولة من الميرزا قدس‌سره تحويل للقطع الطريقي إلى الموضوعي بأخذ عدم حصول القطع طريق خاص في موضوع المتعلق وهو على فرض امكانه غير مربوط بالبحث عن الردع عن القطع الطريقي كما لا يخفى ، فهناك تشويش في تقريرات السيد الخوئي فراجع وتأمل.

وكذلك يظهر الجواب على اشكال آخر سجّله السيد الحائري على المقام في بحث المنع عن حجّية الدليل العقلي ( ص ٥٦٦ ) من انّه يكفي لمعقولية وصول الحكم الطريقي برفع حق المولوية ان يحتمل هذا العبد خطأ بعض قطوعه إجمالاً ، ممّا أوجب اضطرار المولى إلى اتخاذ احتياط في تمام قطوعه برفع حق المولوية عنه فيها ، والقاطع وإن كان لا يعقل أن يحتمل خطأ قطعه حين القطع لكن احتماله لخطأ بعض قطوعه على الاجمال معقول ، فبناءً على تعليقية حق المولوية يمكن الردع عن العمل بالقطع.

٤٨

فإنّ هذا الكلام لا يثبت جواز الردع عن حجّية القطع بل يثبت جواز المنع عن خوض المقدمات المنتهية إلى تلك القطوع ، وتنجيز الواقع المعلوم فيه اجمالاً على المكلف من قبل المولى قبل الخوض والوصول إلى المقطوع به تفصيلاً ، نظير باب المقدمات المفوتة فيكون مخالفة الواقع عن ذلك الطريق منجزاً عليه ، ولو فرض حصول القطع له بالترخيص وعدم امكان ردعه عن العمل به في ذلك الوقت ؛ لأنّ التفويت كان بسوء اختياره على ما سوف يأتي مشروحاً في بحث الدليل العقلي فليس هذا مربوطاً بامكان الردع عن العمل بالقطع.

وهكذا يتضح انّ الأساس لعدم إمكان الردع عن منجزية القطع وحجيته ليس تنجيزية الحكم العقلي هنا وتعليقيته في سائر الموارد كما ادعاه العراقي قدس‌سره بل عدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري بروحه وحقيقته فيه.

٤٩

التجرّي

ص ٣٦ قوله : ( قبح التجرّي ... ).

والبحث فيه عن قبحه العقلي أوّلاً ثمّ عن استحقاق العقاب عليه ثانياً ثمّ عن حرمته شرعاً ثالثاً. فالبحث في نقاط :

النقطة الاولى ـ قبح التجري :

والبحث فيه وجداني لا يمكن اقامة البرهان عليه ، نعم يمكن التنبيه واثارة الوجدان ؛ لأنّ مدركات العقل العملي بالقبح والحسن كذلك دائماً ، ولا إشكال في حكم العقل بقبح المعصية وأنّها لا تنبغي ؛ ولا إشكال أنّ هذا الحكم العقلي ليس موضوعه مخالفة الحكم الواقعي للمولى ، لوضوح لزوم تحقق العصيان في موارد الجهل المركب وغيره وهو واضح البطلان بل قد تقدم انّ موضوع أحكام العقل العملي ليس كالمصلحة والمفسدة أمراً واقعياً لا دخل لعلم المكلف وجهله فيه ، فلا محالة يدور الأمر بين احتمالين وتصورين آخرين أن يكون الموضوع نفس وصول التكليف الواقعي والعلم به ولو لم يكن تكليف واقعاً ، أو التكليف الواقعي مع وصوله ، فالقائل بقبح التجري يدعي الأوّل والقائل بعدم قبحه يدعي الثاني.

ويمكن أن يستدل على التصور الأوّل بوجوه :

١ ـ انّ التجري يقابل الانقياد كما انّ المعصية تقابل الاطاعة ، ولا إشكال عند

٥٠

أحد في حسن الانقياد كالاطاعة رغم عدم تحقق المحبوب في مورده ، فكذلك الحال في التجري والمعصية.

وهذا الاستدلال غير تام حتى كمنبه وجداني لأنّ الانقياد وإن كان حسناً إلاّ انّه لا إشكال في انّ حسن الانقياد ليس لزومياً بحيث يستحق تاركه العقاب كما في الاحتياط في موارد عدم لزومه شرعاً ولا عقلاً بخلاف قبح التجري ، وهذا يعني أنّ التجري لا يقابل الانقياد ، فلو اريد التوصل من حكم الانقياد إلى حكم التجري فهو لا يثبت قبح التجري على مستوى اللزوم.

وبعبارة اخرى : للخصم أن يقول أنّ حسن الانقياد كما انّ محموله أوسع من قبح التجري موضوعه أيضاً أوسع وهو مطلق الوصول.

٢ ـ ما أفاده السيد الاستاذ الشهيد قدس‌سره من أنّ حق الطاعة والمولوية للمولى ليس بملاك تحصيل مصلحة له أو عدم الاضرار به كما في حقوق الناس ؛ إذ لا مصلحة كذلك لله سبحانه ، وإنّما بملاك نفس أدب العبودية واحترام المولى وهذا الاحترام والأدب يكون الوصول تمام الموضوع فيه وقوامه سواءً كان مصيباً للواقع أم لا فيكون التجري بنفسه اساءة أدب للمولى وعدم احترامه الذي يعبر عنه المشهور بظلم المولى كما انّ المعصية أيضاً ما يتحقق فيه هذا الظلم على المولى لا ظلم آخر من اضرار أو دفع مصلحة إذ لا مصلحة للمولى ولا ضرر عليه في أوامره ونواهيه ، ولو فرض ذلك فهو أجنبي عن حكم العقل بحسن الاطاعة وقبح العصيان حيث يحكم به بقطع النظر عن ذلك كما لا يخفى.

وهذا البيان قد يناقش فيه : بأنّ احترام المولى اثباتاً ونفياً يكون بمخالفة الزامه الواصل ، وامّا إذا انكشف انّه لم يكن الزام بل كان يتخيل المكلّف ذلك

٥١

فلا هتك واقعاً للمولى وإنّما تخيّل الهتك إذ لا مخالفة لأمره فحيثية الاحترام وأدب العبودية لابد لها من اضافة إلى المولى زائداً على الوصول بأن يكون هناك الزام وتكليف للمولى ويكون واصلاً إلى المكلّف فيكون خروجه عليه خروجاً على المولى ومضافاً إليه ، وامّا حيث لا الزام فلا خروج على المولى وإنّما توهم الخروج عليه.

وإن شئت قلت : انّ العقل يدرك أنّ القبح في مورد المعصية إنّما هو بملاك المخالفة لالزام المولى الواصل للمكلف ، بحيث يكون عنوان المخالفة وهتك أمره الذي هو أمر واقعي محفوظاً وملحوظاً في حكمه بالقبح ، بينما على التقدير الآخر يكون الملحوظ فيه فعل ما يقطع بكونه مخالفة ، سواءً كان مخالفة في الواقع أم لا.

ولعلّ هذا هو مقصود بعض الأعلام من انّ ادراكنا للقبح إنّما هو لمحض عنوان المخالفة لا الهتك والخروج فإنّه لابد وأن يريد بذلك المخالفة الواصلة الذي هو التصور الثاني.

فالحاصل : ما ذكر من انّ ملاك القبح ليس هو دفع المصلحة أو الاضرار بالمولى بل ترك الاحترام وهتك رسم العبودية وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ هذا الهتك يتحقق بمخالفة أمر المولى ونهيه وإهماله ، فإنّ تعظيم المولى يكون بامتثال أمره ، وهتكه يكون بهدر أمره ، وهو غير المصلحة والمضرة ، فهناك أمر آخر موضوعي غير المصلحة والمضرة يكون الهتك وعدم الاحترام بلحاظه معقولاً.

ودعوى : أنّ الاحترام والتعظيم والهتك والاساءة تمام الموضوع فيه العلم والوصول غير مقبولة لوضوح أنّ هذه العناوين أيضاً مما يعقل فيه الخطأ

٥٢

والصواب كمن يتصور قدوم مولاه فيقوم له احتراماً ثمّ ينكشف عدم كون القادم مولاه ، فإنّه لا يقال انّه احترم مولاه ، وهكذا في طرف الاساءة ، وإنّما يقال أنّه أقدم على ذلك وأراد الاحترام أو الاساءة فهذا بنفسه منبه إلى التصور الثاني لا الأوّل ، وفي قبال ذلك منبهان :

المنبه الأوّل : انّ لازم أخذ المخالفة الواقعية قيداً في حق الطاعة والاحترام أن يكون حكم العقل بمنجزية القطع والذي قلنا انّه يرجع إلى نفس ادراكه لحق الطاعة والمولوية في مورده منوطاً باصابته للواقع بحيث عندما ينكشف الخلاف ينكشف عدم ثبوت القبح والمنجزية وحق الطاعة فيه لارتفاع أحد جزئي موضوعه بحيث يرى العقل فرقاً في المنجزية بين القطع المصيب والقطع غير المصيب مع انّ الوجدان قاضٍ بعدم الفرق وكون المنجزية فعلية في كليهما وأنّ التخطئة ليست للمنجزية بل لنفس القطع بحيث انّ القائل بعدم قبح التجري يلتزم أيضاً بفعلية منجزية القطع وكونها من لوازمه التي لا يمكن تفكيكه عنه.

ومنبه آخر : موارد الاحتمال المنجز فإنّه لا إشكال في فعلية المنجزية والقبح وحكم العقل فيها بذلك ، مع أنّ ملاك ذلك إن كان المخالفة لأمر المولى فهو أمر محتمل وليس على كل تقدير إذ ليس معنى المنجزية فيها احتمال المخالفة وبالتالي احتمال العقاب الذي يحكم العقل بلزوم دفعه ، فإنّ هذا المبنى غير تام على ما شرحناه في محله ، فإنّ استحقاق العقاب ليس محتملاً بل مقطوع به في موارد التنجيز وليست المحركية العقلية والمنجزية من باب قاعدة دفع الضرر المحتمل بل باستحقاق العقاب المنجز على ما سيأتي شرحه.

وكلا هذين المنبهين يمكن دفعهما بالالتزام بما يأتي من ثبوت مدرك عقلي آخر هو قبح الاقدام على الفعل القبيح حتى الاقدام الاحتمالي بالنسبة إلى المولى

٥٣

الحقيقي الذي يدرك العقل قبح هتك أمره الواصل بأي درجة من درجات الوصول ـ وهو وجه آخر لقبح التجري غير هذا الوجه سيأتي بحثه ـ نعم لو أنكرنا قبح الاقدام تم المنبهان المذكوران ، فهما يدلان على صحة أحد الوجهين لا محالة.

وقد يقال : انّ وجدانية الفرق بين مراتب التجري في موارد القطع والاحتمال المنجز يكشف عن انّ تمام الموضوع والملاك للحكم بالقبح إنّما هو درجة الوصول.

ولكن هذا لا يمكن أن يكون منبهاً على ذلك خصوصاً بناءً على قبول قبح الاقدام على الهتك حيث أنّ درجة الاقدام في موارد القطع أشد من الاقدام في موارد الاحتمال المنجز.

هذا ، ولكن الانصاف أنّ العقل يدرك بأنّ المتجري هتك المولى بالفعل لا أنّه أقدم على القبيح كما في موارد الخطأ في المولوية ، وأمّا ما تقدم من كون الاحترام والهتك أمرين واقعيين فمبني على النظر العرفي لا العقلي العملي الدقي.

هذا مضافاً إلى انكار عدم الهتك حتى عرفاً في موارد الجهل والخطأ بنحو الشبهة الموضوعية لا الحكمية كما إذا تصور أنّ هذا زيد الذي هو مولاه فلم يحترمه فخرج عمراً ، فإنّه هاتك لزيد ، نعم لو تصور انّ عمرواً أيضاً مولاه ولم يحترمه فظهر انّه ليس مولاه فلا هتك للاحترام لا لزيد الذي هو مولاه وهو واضح ولا لعمرو لأنّه ليس مولى له أصلاً.

٣ ـ ما أفاده السيد الشهيد قدس‌سره أيضاً من وجود ادراك عقلي أيضاً بقبح الاقدام

٥٤

على القبيح وهتك المولى ، فيثبت قبح التجري حتى إذا قيل بأنّ قبح المعصية يكون بملاك التصور الثاني أي دخالة المخالفة الواقعية في الهتك والقبح.

والمنبه على هذا الادراك ثبوت القبح حتى في موارد الخطأ في أصل المولوية ، ولو فرض انّه لا مولى له واقعاً أصلاً بحيث لا موضوع للهتك والظلم وسلب حق ذي حق ، وهذا الوجه يثبت قبح التجري بملاك آخر غير ملاك الهتك والظلم وعدم الاحترام فهو يثبت نتيجة التصور الأوّل.

لا يقال : على هذا يلزم تعدد القبيح في مورد المعصية وأشديته من التجري ويقال بأنّه خلاف الوجدان.

فإنّه يقال : إنّما يلزم ذلك بناءً على انكار التصور الأوّل وإلاّ كان في كليهما الهتك الفعلي والاقدام على الهتك ثابتاً فيكونان متلازمين في موارد اصابة القطع وخطأه. نعم من ينكر تحقق الهتك الفعلي ـ أي التصور الأوّل ـ لابدّ وأن يلتزم بالأشدية والتعدد أو يلتزم بأنّ القبيح دائماً هو الاقدام على الظلم لا نفس صدور الظلم ، أي انّ موضوع القبح العقلي وصول الحق صغرى وكبرى وهو واحد في الموردين وإن كان في أحدهما أمر آخر للعقوبة هو التشفي ، وهذا نتيجته كالتصور الأوّل غاية الأمر هناك قلنا انّ الوصول تمام الموضوع للظلم والاحترام وهنا يقال انّه تمام الموضوع للقبح العقلي.

لا يقال : انّ الوجدان يحكم بأنّ هناك قبحاً عقلياً واحداً مدركاً في تمام الموارد وهو قبح الاقدام على سلب ذي الحق حقه والاقدام متقوم بالوصول ويكون تمام موضوعه ذلك بالدقة لوجدانية عدم تعدد القبح والقبيح في موارد المعصية فضلاً عن التجري.

٥٥

فإنّه يقال : هذا خلاف ما سيأتي من وجدانية الفرق بين الخطأ في موضوع المولوية والخطأ في كبرى المولوية حيث يدرك العقل في الأوّل سلب حقّ من المولى بخلاف الثاني إذ لا موضوع فيه لمن يكون له الحق فكيف يكون سلباً للحق.

وأمّا ما جاء في هامش تقرير السيد الحائري ص ٣٠٤ من وجود مخالفة لحقين مولويين في موارد المعصية حق الاحترام وحق تحقيق غرضه ... الخ.

ففيه : انّ حق تحقيق الغرض ليس غير حق الاطاعة لأوامره والذي رجع إلى حق الاحترام والامتثال سواءً كان الغرض يعود عليه أو على المولى أو على شخص ثالث ، نعم عدم تحقق الغرض إذا كان راجعاً للمولى قد يوجب التشفي وذلك خارج عن البحث.

ومنه يظهر عدم الأشدية بين العاصي والمتجري لا من حيث القبح ولا الذم العقلي ولا استحقاق العقوبة بل كيف يمكن فرض وحدة درجة القبح واللوم أمام محكمة الوجدان العقلي مع أشدية استحقاق العقاب لا بملاك التشفي والتفصيل بين العقاب واللوم كما صدر منه في بحث العقاب غير صحيح أيضاً فإنّ كل ما كان يلام عليه الفاعل المختار عقلاً يستحق بمعنى يحسن عقابه عليه من قبل مولاه الذي له حق تأديبه وعقوبته ؛ فكأنّه وقع خلط بين عدم امكان عقوبة العقلاء اللائمين فيما لا يرجع إليهم ، وبين عدم استحقاق العقوبة من قبل مولاه الحقيقي على فعله للقبيح حتى إذا لم يكن مربوطاً بالمولى ، فراجع وتأمّل.

ويتلخص مما سبق : انّ العقل يدرك قبح التجري كالمعصية ، نعم يجدر البحث في أنّ هذا القبح هل هو بملاك الظلم وسلب حق الاحترام وأدب العبودية عن

٥٦

المولى أو بملاك الاقدام على الظلم ولو لم يتحقق ظلم ، وهذا بحث كبروي عن حقيقة القبح المدرك من قبل العقل العملي في أمثال هذه الموارد وأنّه ما هو موضوعه الظلم أو الاقدام عليه.

وبعبارة أدق : هل يكون العلم ووصول ذلك الحق كبرى وصغرى مأخوذاً في موضوع حكم العقل بالقبح أم لا يكون مأخوذاً؟ وهذا بحث جليل في تحليل مدركات العقل العملي وحقيقتها محمولاً وموضوعاً.

والبحث عن هذه المدركات العملية يقع من ثلاث جهات :

الجهة الاولى ـ في انّ هذه المدركات أساساً هل تكون عقلية أو شرعية؟

وهذا هو النزاع الكلامي المعروف بين الأشعري والمعتزلي وهو خارج عن محل الكلام ، ولا ينبغي الاشكال والفراغ هنا عن كون المدركات المذكورة عقلية ، أي يحكم بها العقل مع قطع النظر عن وجود الشارع وحكمه وعدمه كما هو واضح لكل وجدان وعقل عملي سليم ، بل يترتب على انكار عقليتها توالي فاسدة لا يمكن الالتزام بها بوجه على ما هو مقرر في محله من الكتب الكلامية.

الجهة الثانية ـ البحث الفلسفي المعروف عن حقيقة هذه القضايا العقلية العملية وموقعها في قائمة المعقولات والقضايا التصديقية ، وهنا مسلكان :

الأوّل : ما هو المشهور بين الفلاسفة من أنّها قضايا مشهورة داخلة في صناعة الجدل لا البرهان ، ولتفسير هذا المسلك فرضيتان كما في الكتاب ، ولا زيادة عليه إلاّفيما يتعلق بما سوف يأتي من المناقشة في أصل تصديقية هذه القضايا.

الثاني : ما اختاره بعض المحققين من علماء الاصول من انّ هذه القضايا مدركات عقلية واقعية أزلية يدركها العقل كما يدرك سائر الامور الواقعية النفس

٥٧

الأمرية غير الوجودية كالملازمات والوجوب والامتناع والامكان ونحوها.

وقد عبّر السيد الشهيد عن ذلك بأنّ لوح الواقع والتصديق أوسع من لوح الوجود كما في التصديق بالقضايا السالبة العدمية.

ونحن لا ندخل الآن في تحليل حقيقة تلك القضايا التي تسمّى بالمعقولات الثانوية في الفلسفة ، ومعنى كون لوح الواقع أو التصديق أوسع من لوح الوجود وإنّما الذي أدركه بوجداني هنا أنّ مدركات العقل العملي ليست من سنخ التصديقات أصلاً حتى نفس الأمرية ، فإنّ التصديق هو الكشف عمّا هو خارج الذهن سواء كان أمراً وجودياً أم واقعياً نفس أمرياً بينما حسن العدل وقبح الظلم ليس إلاّعبارة عن انبغاء العدل وعدم انبغاء الظلم والذي بالتحليل يرجع إلى ميل العقل وشوقه ورغبته وارادته للعدل وكراهته ونفرته عن الظلم فطبيعة القضايا العقلية العملية طبيعة التحسين والترغيب أو التقبيح والتنفر ، والعقل ليس شأنه مجرّد الادراك بمعنى الكشف عن الواقع كما قالوا ، بل له شأن آخر مهم جداً هو التقييم الذي يرجع إلى باب الابتهاج العقلي والبغض والنفرة والاشمئزاز كذلك ولنعبر عنه بالعشق والابتهاج والكره والاشمئزاز العقليين كما عبّر العرفاء.

والمنبه على هذا الكلام انّ الانبغاء واللاانبغاء قضيتان من سنخ القضايا المجعولة ومبادئها من الارادة والكراهة وما تستبطنان من البعث والزجر ، فالفرق بين هذه القضايا العملية والقضايا النظرية سواءً الوجودية أو الواقعية النفس الآمرية كالفرق بين القضية المتعلق بها الارادة والكراهة والقضية المتعلق بها التصديق والكشف.

ومنبه آخر : انّ مفهومي الحسن والقبح المحمولين في هذه القضايا كمفهوم

٥٨

الجمال أمر غير موضوعي بل يرتبط بميل الطبع ونفرته عن الشيء. وهذا هو معنى انّ هذه القضايا ليست قضايا تصديقية إلاّبنحو من التأويل بأن يكون المقصود التصديق بثبوت تلك الطبيعة الاشتياقية والرغبة العقليّة نحو الأمر الحسن والنفرة والكراهة العقلية عن القبح ، وامّا ما يذكره بعض من أن المدركات العقلية العملية ادراكات نظرية لتوقف الكمال الانساني المنشود على الفعل أو الترك والتعبير عن ذلك بصيغة انشائية مجرد تفنّن عقلي في التعبير غير تام أيضاً ؛ إذ ماذا يراد بالكمال والجمال غير نفس المدركات العقلية العملية بعد وضوح عدم إرادة الكمال الوجودي بمعنى الوجوب في قبال الامكان في الوجود أو السعة في الوجود ، وإلاّ كان كربط المدركات العقلية في باب التحسين والتقبيح بالمصلحة والمفسدة ، والله العالم بحقائق الامور.

الجهة الثالثة ـ في حدود هذه القضايا وموضوعها ، وهنا للسيد الشهيد كلمات ثلاث :

الكلمة الاولى : انّ قضيتي حسن الفعل وقبحه واستحقاق العقوبة أو عدم استحقاقها عليه قضيتان موضوع احداهما غير موضوع الاخرى وليس احداهما عين الاخرى لأنّ الحسن والقبح معناه الانبغاء واللا انبغاء وحينئذٍ تارة يلاحظ فعل الإنسان نفسه فيقال انّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل فيسمى بالحسن والقبح واخرى يلاحظ فعل الآخرين وموقفهم تجاه فاعل القبيح والحسن فيقال ينبغي عقابه ـ إذا كان مولاه ـ أو لومه أو لا ينبغي فيسمى باستحقاق العقوبة أو اللوم وعدم استحقاقها ، وسوف يأتي في الكلمة الثالثة أثر هذا التفكيك.

ويلاحظ عليه : انّ العقاب أو اللوم والذم وإن كان فعل الغير إلاّ أنّ تمام

٥٩

الموضوع لهما الفعل القبيح الصادر من الإنسان فما يستحق فاعله الذم والعقاب نفس القبيح وليس شيئاً آخر.

وإن شئت قلت : انّه ليس حكم العقل وتجويزه للوم أو العقاب من قبل الغير مدركاً عقلياً آخر له ملاك مستقل وراء ما أدركه من القبح في فعل الفاعل وما يستحقه عليه. بل ذم العقلاء عبارة اخرى عن وصف فعله بالقبيح ونفرة العقل العملي عن فاعله كما انّ عقاب مولاه ليس بمعنى انبغاء العقاب كيف وقد يحسن العفو بل بمعنى أنّ له أن يعاقبه على فعله باعتباره مولاه ، نعم هناك مدرك عقلي آخر وهو أنّ غير مولاه لا يحق له عقابه لكونه ظلماً مع عدم المولوية وعدم الحق عليه وذاك مطلب آخر لا ربط له بالبحث. وعليه فموضوع استحقاق العقوبة نفس موضوع القبح ولا يكون أحدهما غير الآخر وهو معنى وحدة القضيتين في هذا البحث.

الكلمة الثانية : أنّهم أرجعوا مدركات العقل العملي إلى حسن العدل وقبح الظلم أي انبغاء العدل وعدم انبغاء الظلم وهذه القضية رغم صحة مضمونها نتيجةً ، إلاّ أنّها من الناحية المنطقية قضية بشرط المحمول ، إذ المراد بالظلم سلب الحق من ذي الحق والحق لا يراد به الحق الجعلي بل العقلي الذي يرجع لا محالة إلى ادراك عقلي بعدم الانبغاء ، وهذا معناه انّه لابد من أخذ عدم الانبغاء والقبح الثابت في طرف المحمول في موضوع القضية ، نعم يمكن أن تكون هذه القضية تجميعاً للقضايا الأولية واشارة اليها فالمدركات العقلية هي قبح الخيانة والكذب والهتك للمولى وهكذا.

ويمكن التعليق على هذا الكلام بأنّ الوجدان يرى الفرق بين باب قبح الظلم

٦٠