أضواء وآراء - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-74-2
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٤٥٦

العقلي بحجية العلم وحجّية العقل لا ينافي بوجه الردع عن العمل بالقطع الخاص سواء كان بمعنى الردع عن حجيته بناءً على امكانه وكونه تعليقياً أو كان بمعنى النهي عن سلوك الطريق العقلي بنحو يكون العقاب على نفس السلوك أو بنحو يكون العقاب على الواقع وتنجزه بذلك كما هو واضح ، فإنّه على كل التقادير سوف يكون هذا النهي رافعاً لموضوع الحكم المرشد إليه ولا يقاس المقام بالنهي عن اتباع الظن المعارض مع إطلاق آية النبأ مثلاً لأنّ مفاده نفي الحجّية للظن بخلاف المقام.

فالحاصل لا يعقل التنافي والتعارض بين الطائفتين وبين روايات النهي عن اتباع الرأي لو سلم دلالتها في نفسها بعد فرض كون الطائفتين ارشاديتين كما هو كذلك.

لا يقال : انّه بعد فرض امكان الردع عن القطع شرعاً أو امكان تنجز الواقع في مورده من أوّل الأمر بالمنع عن سلوك الطريق العقلي كان نفس هذا المفاد الشرعي منفياً بأدلّة الأمر باتباع العلم أو العقل لا محالة كما في الظنّ فلا وجه للحكومة.

فإنّه يقال : هذا يصحّ لو كان الدليلان معاً ظاهرين في المولوية ، وامّا إذا كان أحدهما في نفسه ظاهراً في الارشاد إلى الحكم العقلي القبلي كما في المقام ـ ولعلّه كذلك في باب النهي عن اتباع الظن ـ فالحكومة تامّة عندئذٍ.

وثانياً ـ أساساً لا إطلاق للطائفتين امّا روايات الحثّ على العمل بالعلم فهي ليست في مقام بيان حجّية العلم أصلاً حتى يتمسك باطلاقه للعلم العقلي ؛ إذ لو كان النظر إلى أدلّة لزوم تحصيل العلم بالأحكام الشرعية وتعلمها ،

١٦١

فهي في مقام بيان عدم معذرية الجهل لا معذرية العلم ليتمسك باطلاقه للعلم الحاصل بالطرق العقلية ، وأمّا روايات الأمر بتعلّم الناس الأحكام الشرعية فهي خاصة وناظرة إلى العلم بحلالهم وحرامهم ، أي تعلّم الروايات الصادرة منهم وتعليمهم للناس.

وأمّا روايات الحثّ على التعقل واتباع العقل فهي أجنبية أصلاً عن باب استكشاف الأحكام الشرعية بالأدلّة العقلية الاستدلالية ، فإنّ المراد بالعقل فيها العقل الفطري أو العقل الهادي في اصول الدين وليس في شيء منها ما يمكن استفادة إطلاق منها للحثّ على اتباع الطرق البرهانية والفلسفية للكشف عن الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ ما أبرزه السيد الشهيد قدس‌سره هنا من إمكان الردع عن دخول الطرق العقلية من أوّل الأمر والتسبّب إلى حصول القطع بها ، ويكون حكماً طريقياً لا نفسياً ، ويكون بمعنى تنجيز الواقع من أوّل الأمر لا ينفع في رفع منجزية القطع بالتكليف الحاصل بالدليل العقلي ، وإنّما يفيد فقط في رفع معذرية القطع بعدم التكليف الحاصل منه ، كما أنّه لا ينفع في رفع معذرية القطع الحاصل من الدليل العقلي صدفة وبلا تسبّب ، أو القطع الحاصل من الأدلّة العقلية التي تكون مقيّدة لاطلاقات الأدلّة السمعية ومحدّدة لها ، ممّا قد يحصل للمجتهد من خلال ممارسته ودراسته لنفس الأدلّة السمعية واستفراغ وسعه للاجتهاد فيها وفي مقدماتها العلمية ، فهذه الدعوى مضافاً إلى بطلانها إثباتاً غير نافع ثبوتاً في أكثر الحالات.

١٦٢

منجزية العلم الإجمالي

ص ١٤٩ قوله : ( الجهة السابعة ... ).

البحث الثبوتي عن أصل منجزية العلم الإجمالي ـ كالتفصيلي ـ لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة وكونه بنحو العلية أو الاقتضاء مورده هنا كما انّ البحث عن جريان الاصول اثباتاً في تمام الأطراف أو بعضها مناسب مع بحث الاصول العملية ، ومنه يظهر عدم صحة ما في المصباح من انّ البحث عن حرمة المخالفة هنا والبحث عن وجوب الموافقة هناك فراجع وتأمل.

ص ١٥٠ قوله : ( حرمة المخالفة القطعية للعلم الإجمالي ... ).

لا مزيد عمّا في الكتاب من البيان ، إلاّ انّه ينبغي اصلاح ما ورد في ص ١٥١ حيث انّ ظاهره قد يوهم ارتباط المسألة بالمسلك المختار في التوفيق بين الأحكام الظاهرية والواقعية مع انّه ليس كذلك ، بل ينبغي أن يقال : بأنّ علية العلم لحرمة المخالفة تعني عدم امكان الترخيص بخلافه وهذا يكون لأحد وجهين :

١ ـ ما هو ظاهر كلمات بعض المحققين من انّ حكم العقل بمنجزيته حكم تنجيزي يقبح الترخيص شرعاً في مخالفته لأنّه ترخيص في ما هو قبيح بالفعل فلا يمكن الترخيص الشرعي على خلافه.

٢ ـ ما تقدم منّا سابقاً من انّ حكم العقل بمنجزية العلم وإن كان تعليقياً فيرتفع بورود الترخيص بخلافه ، إلاّ انّه لا يعقل ثبوتاً صدور الترخيص الشرعي

١٦٣

بالخلاف في مورد العلم لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيه.

وكلا الأمرين غير تام في المقام ، امّا الأوّل فلما يأتي في دفع كلام الميرزا قدس‌سره ؛ وأمّا الثاني فلانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في موارد العلم الإجمالي لتحقق الالتباس والتزاحم الحفظي الذي هو ملاك معقولية جعل الحكم الظاهري.

ثمّ انّه جاء في مصباح الاصول انّ العلم الإجمالي علّة لحرمة المخالفة بحيث لا يجوز الترخيص الشرعي في تمام أطرافه لوقوع التضاد بينهما بلحاظ مرحلة الامتثال ـ أي المنتهى ـ لأنّ العلم الإجمالي بيان رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بحكم الوجدان بحيث لا يكون العقاب على المخالفة القطعية عقاباً من دون بيان فيقع التنافي بين اقتضاء العلم الإجمالي للامتثال وعدم المخالفة القطعية وبين الترخيص الشرعي ، وهذا بخلاف موارد الشبهات البدوية حيث لا تنافي بين الترخيص فيها وبين الحكم الواقعي لا من حيث المبدأ ؛ لأنّ المصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري ولا بلحاظ المنتهى لأنّ الحكم الواقعي غير منجز بعدم وصوله لكي ينافي امتثال الحكم الظاهري.

وهذا الكلام فيه مواقع للنظر :

الأوّل : الاشكال المبنائي بعدم معقولية كون المصلحة في نفس جعل الحكم الظاهري على ما سيأتي في محلّه فالتنافي بلحاظ المبدأ لا يمكن حلّه بما ذكر.

الثاني : إذا كان ارتفاع التنافي بلحاظ المنتهى مبنياً على عدم منجزية الحكم الواقعي لعدم وصوله لزم عدم امكان جعل الحكم الظاهري الترخيصي في مورد يكون الحكم الواقعي المشكوك منجزاً حتى على تقدير عدم وصوله لوقوع التنافي بحسب المنتهى حينئذٍ كما في موارد الشك قبل الفحص أو الشك في

١٦٤

الامتثال مع انّه لا اشكال في امكان جعله فيه أيضاً.

الثالث : انّ البيان المذكور يؤدي إلى عدم إمكان جعل الترخيص الظاهري ولو في بعض الأطراف لأنّه منافٍ مع اقتضاء العلم الإجمالي للامتثال عقلاً ، وإن قيل بأنّه يقتضي امتثال الجامع وبمقدار عدم حرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية كان خلف ما هو الثابت عندهم من اقتضائه وجوب الموافقة القطعية وعدم جريان البراءة العقلية حتى في بعض الأطراف كما سوف يأتي.

الرابع : الخطأ في أصل هذه المنهجة للبحث فإنّ التنافي بين العلم الإجمالي والحكم الظاهري في مرحلة الامتثال مربوط بتحقيق محتوى الحكم العقلي بالمنجزية من حيث كونه تعليقياً أو تنجيزياً وليس مربوطاً بجريان البراءة العقلية ومنجزية الحكم الواقعي في نفسه بقطع النظر عن الترخيص الظاهري وعدمه ، إذ هذا يجعل البراءة الشرعيّة لغواً دائماً لكونه معلقاً على جريان البراءة العقلية في المرتبة السابقة وعدم منجزية الواقع في ذلك المورد لكي لا يلزم التنافي بلحاظ المنتهى ، وهذا واضح البطلان بل منجزية الحكم الواقعي يرتفع بنفس الترخيص الظاهري الشرعي لكونه تعليقياً في موارد الجهل والاشتباه بل في تمام الموارد ، غاية الأمر لابد من ملاحظة امكان جعل الترخيص الظاهري حقيقة وإمكان وصوله إلى المكلّف وهو كذلك في غير موارد العلم التفصيلي كما تقدم ، فالصحيح في منهجة البحث ما ذكره السيد الشهيد قدس‌سره.

ثمّ إنّ بيان المحقق النائيني وبيان المحقّق العراقي ٠ مذكوران في الكتاب مع الجواب عليهما بما لا مزيد عليه. وكلام صاحب الكفاية قدس‌سره مذكور مع جوابه أيضاً ، إلاّ أنّ ذيله أشبه باثبات مدعى الكفاية وكأنّ الجواب الحقيقي هو الصدر فقط ، فإنّه لا يريد الفعلية من ناحية التزاحم الحفظي ، فإنّه لا يسمى بالفعلية

١٦٥

وبحاجة إلى بيان نكتة التزاحم الحفظي ودفع التضاد فيه بين مبادئ الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فلا يمكن تحميله على الكفاية بل الظاهر ارادته للفعلية بلحاظ مبادئ الحكم الواقعي من الارادة والكراهة ، وكأنّه اريد هنا الاجابة بجواب جامع صالح لانطباق كلامه على مدعانا وإن كان بعيداً.

ثمّ إنّ هنا كلاماً في تهذيب الاصول هو التفصيل بين العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي والعلم الإجمالي بالحجة ، فالأوّل علّة تامة والثاني مقتضٍ له وقد ذكره هنا وفي بحث الاشتغال مدّعياً أنّ البحث عن العلم الإجمالي بالتكليف الواقعي محلّه هنا ، والبحث عن العلم الإجمالي بالحجة والحكم الظاهري الالزامي ـ كما في مورد ثبوت الحكم الالزامي باطلاق في دليل التكليف مع اشتباه موضوعه بين فردين في الخارج ـ محلّه بحث الاشتغال ، وأنّ الأوّل علّة تامّة من جهة لزوم التناقض وعدم امكان جعل حكم ظاهري ترخيصي مع فعلية التكليف الواقعي.

بل احتماله أيضاً محال ما لم ترتفع فعلية الحكم الواقعي ـ وهذا نظير كلمات صاحب الكفاية ـ وأمّا الثاني فيمكن جعل الترخيص فيه في تمام أطراف العلم الإجمالي ؛ لأنّه لا يلزم التناقض ، بل هو تقييد لاطلاق دليل التكليف الثابت بالحجّة (١).

ومواقع النظر في هذه البيانات عديدة ، نشير إلى بعضها :

١ ـ ما سيأتي من عدم التناقض بين الأحكام الظاهرية والواقعية ، لا في موارد العلم الإجمالي ولا الشبهات البدوية ، وهذا يرجع إلى تشخيص حقيقة الحكم الظاهري والذي هو حكم طريقي وليس نفسياً على ما سيأتي في شرح حقيقة

__________________

(١) راجع : تهذيب الاصول ٢ : ٥٢ و ٢٤٨.

١٦٦

الحكم الظاهري.

٢ ـ انّ الأصل الترخيصي لا يمكن أن يكون مقيداً لاطلاق أدلّة الأحكام التكليفية ، فثبوت التكليف المعلوم بالعلم الإجمالي بالحجة وإطلاق دليل الحكم الواقعي ـ الذي هو امارة ـ لا يغيّر النتيجة شيئاً ، فإنّ الترخيص الظاهري في طرفي هذا العلم الإجمالي إذا اريد جعله مقيداً لاطلاق دليل الحكم الواقعي فهو واضح البطلان ؛ لأنّ الأصل العملي لا ينفي ذلك ، وإن اريد جعله رافعاً لحجية الإطلاق فهو خلف تقدّم الأصل اللفظي والامارة على الأصل العملي.

٣ ـ انّ ما ذكر من أنّ البحث هنا عن العلم الإجمالي الوجداني بالتكليف وعليته أو اقتضائه للمنجزية في مبحث أصال الاشتغال عن العلم الإجمالي بالحجة وعليته أو اقتضائه للمنجزية لا أساس له ، بل البحث عن العلية والاقتضاء راجع إلى العلم الإجمالي بالتكليف الالزامي نفسه ، سواء كان معلومه تلكيفاً واقعياً أو ظاهرياً.

نعم ، يشترط أن يكون ذلك الحكم الظاهري الالزامي مقدماً على الأصل الترخيصي الجاري في أطراف العلم الإجمالي وإلاّ وقع التعارض بين إطلاق دليل الأصل الترخيصي في الطرفين المثبت للحكم الظاهري أي الترخيصي فيهما مع دليل ذاك الحكم الظاهري الالزامي المعلوم بالاجمال ، وهذا ما سوف يتعرض إليه تفصيلاً في تنبيه من تنبيهات مبحث الاشتغال ، وهو غير مربوط ببحث منجزية العلم الإجمالي.

ثمّ إنّ هذا البحث مكرّر في مبحث الاشتغال ج ٥ بصورة أركز وأوضح فليراجع هناك أيضاً.

١٦٧

ص ١٥٥ قوله : ( وجوب الموافقة القطعية ... ).

شرح حقيقة العلم : لا إشكال في انّ العلم الإجمالي علم بتحقق الجامع بين الحكمين لا الحكم على الجامع بين الفعلين على نحو التخيير حتى الجامع الانتزاعي ، وحينئذٍ قد يقال بأنّه ينحل إلى علم بالجامع أي جامع الحكم وعلم آخر سلبي بعدم كون ذلك الجامع في غير الفردين المحتملين للحكم كوجوب الجمعة ووجوب الظهر على حدّ العلم بتحقق جامع الإنسان في الدار ضمن زيد أو عمرو وهذا هو مدعى المحقق الاصفهاني قدس‌سره.

ولكن من الواضح وجداناً انّ العلم الإجمالي فيه أكثر من العلم الإجمالي بتحقق الجامع والعلم السلبي بعدم كونه في غير الفردين كما إذا علم بتحقق فرد وحصة من الإنسان غير الحصص الاخرى ، فإنّه علم تفصيلي بتحقق جامع الإنسان ضمن حصة وفردٍ ما ووجود غير الوجودات الاخرى ، وليس هذا بعلم اجمالي بل في العلم الإجمالي اضافة على العلم بتحقق الانسانية في الخارج ضمن وجود عيني حقيقي يوجد علم زائد بتحقق احدى خصوصيتين خارجيتين ثابتة مع قطع النظر عن وجود الجامع.

وهذا يعني الالتزام بأنّه علم بشيء زائد على الجامع الحقيقي وهو تحقق احدى الخصوصيتين.

إلاّ أنّ هذا العلم بتحقق احدى الخصوصيتين معقول ثانوي أي يرجع إلى التردّد في الإشارة بالمفهوم إلى الخارج وإن كان قد يعبر عنه بوجود الجامع الانتزاعي أو الاختراعي ، والعلم بوجود أحدهما ، إلاّ أنّ الجامع الانتزاعي أو الاختراعي معلوم تحقّقه ضمناً في العلم التفصيلي بأحدهما ، ولكنه أقل من

١٦٨

العلم (١) الإجمالي كأقلية العلم بالجامع الحقيقي كالانسان ضمن الفرد التفصيلي عن العلم الإجمالي بوجود أحد الانسانين.

فالحاصل فرق وجداناً بين الإشارة بالجامع إلى واقع خارجي معين والإشارة به إلى واقع مردّد ، فالعلم الإجمالي يكون فيه التردد في الإشارة والتطبيق الذهني على الخارج بخلاف العلم التفصيلي بالجامع.

هذا مضافاً إلى البرهان المذكور في الكتاب من أنّ الجزئية لا يكون إلاّ بالإشارة إلى الخارج لا بضم مفهوم إلى مفهوم.

ومن هنا صحّ أن يقال بأنّه علم بالجامع بمعنى انّ المفهوم الذي به الإشارة جامع وكلي دائماً وانّه علم بالواقع بمعنى انّه جزئي بلحاظ الإشارة والتطبيق الذي هو ملاك الجزئية في المفاهيم دائماً وعلم بالمردّد بمعنى أنّ هناك ترديداً في الإشارة والانطباق.

ومن خلال هذا البيان نحصل على تفسير دقيق جديد لهذا النحو من المعقولات الثانوية المخترعة من قبل الذهن فإنّ ثانويتها ناشئة من كونها منتزعة عن الإشارة الذهنية المرددة بالمفهومين التفصيليين إلى مطابقه الخارجي ، وفي طول هذا الاختراع والانتزاع الذهني كأن هناك اشارة واحدة معينة بالجامع

__________________

(١) قد يمنع ذلك وأنّ الجامع الانتزاعي لا يقاس بالحقيقي حيث لا يكون أقل وضمن المعلوم التفصيلي بلحاظ الخصوصية الفردية بل ينطبق الجامع الانتزاعي على الخصوصية المعلوم تفصيلاً أيضاً. إلاّ أنّ الوجدان قاضٍ حينئذٍ بأنّ العلم التفصيلي بالخصوصية فيه زيادة على العلم الإجمالي بها ، وهذه الزيادة إذا لم يمكن تفسيرها على أساس تصوري ومفهومي تعين أن تكون الزيادة من ناحية تعيّن الإشارة في التفصيلي وترددها في الإجمالي.

١٦٩

الاختراعي ـ أحدهما ـ إلى مطابقة الخارجي.

وبعد توضيح حقيقة العلم الإجمالي ينبغي البحث :

أوّلاً ـ عن أصل منجزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة.

وثانياً ـ عن كونها بنحو الاقتضاء أو العلية.

أمّا البحث الأوّل : فالمشهور هو المنجزية ، وهناك مسلكان في تصويرها :

١ ـ مسلك مدرسة الميرزا قدس‌سره في بعض تقريراته من أنّ تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية فرع تعارض الاصول وتساقطها في الأطراف.

٢ ـ مسلك المحقق العراقي والميرزا في تقريره الآخر.

وبعد ردّ المسلكين بما في الكتاب ننتهي إلى مسلك السيد الشهيد قدس‌سره وهو التفصيل بين موارد العلم الإجمالي الناشىء من التردد في قيد يعلم تقيد الواجب واشتغال الذمة به وبين العلم الإجمالي غير الناشىء من ذلك ، مثال الأوّل بعض الشبهات الموضوعية كتردد العالم الواجب اكرامه مثلاً بين زيد وعمرو فيعلم بوجوب اكرام أحدهما ، ومثال الثاني الشبهات الحكمية أو الموضوعية مع تعدد متعلّق الحكم المردد كالدوران بين وجوب الصدقة أو وجوب الصلاة.

فإنّه في الأوّل طبّق السيد الشهيد قاعدة الاشتغال على الخصوصية والقيد المعلوم تقيّد الواجب به للعلم باشتغال الذمة به يقيناً فالمكلّف يعلم هنا بوجوب اكرام أحد الشخصين وبوجوب كونه عالماً ؛ لأنّ تعلّق الحكم باكرام العالم الموجود ضمن أحدهما خارجاً معلوم وواصل ولو ضمناً فيجب الخروج عن عهدته بقاعدة الاشتغال ، وهذا بخلاف الثاني فإنّه تجري فيه البراءة العقلية

١٧٠

على القول بها عن كل من الخصوصيتين ولا يتنجز إلاّ الجامع المعلوم ؛ لأنّ هنا عناوين ثلاثة : عنوان الجامع ولو جامع الخصوصية بالجعل الأولي ، وعنوان هذا الفرد وذاك الفرد والأوّل باعتبار كونه مبيناً ومعلوماً لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أمّا الثاني والثالث فكلاهما صورتان ذهنيتان مشكوكتان فتجري فيهما البراءة.

ولنا في المقام ملاحظتان :

الاولى : ما ذكرناه في هامش الكتاب ، وحاصله : انّ هناك فرقاً واضحاً وجداناً بين العلم بوجوب الجامع والشك في وجوب الخصوصية زائداً عليه كما إذا احتمل تعيّن أحد الخصال في بعض الكفارات ، وبين العلم اجمالاً بوجوب احدى الصلاتين من الجمعة أو الظهر بخوصيتهما ، فإنّه في الأوّل أصل تعلّق الوجوب بالخصوصية مشكوك بخلاف الثاني ، حيث يعلم بتعلقه باحدى الخصوصيتين.

فالحاصل كأنّه وقع خلط بين تعلّق الوجوب بالجامع والعلم بجامع أحد الوجوبين المتعلّق باحدى الخصوصيتين ، فالأوّل مجرى البراءة العقلية على القول بها دون الثاني للفرق بينهما وجداناً كما ذكرنا وبرهاناً بما تقدم من انّ الاشارة محفوظة في احدى الخصوصيتين ، فإذا قيل بكفاية ذلك في البيانية حيث انّ المراد به العلم والتصديق وقوامه بالاشارية كما تقدم فهي محفوظة بالنسبة للخصوصية بخلاف موارد العلم بتعلّق الوجوب بالجامع والشك في ارادة الخصوصية.

وإن شئت قلت : بأنّ ثبوت الإشارة التصديقيّة إلى واقع خارجي ولو بنحو

١٧١

الترديد يكفي عند العقل في عدم قبح العقاب على المخالفة للخصوصية المعلومة ؛ ولعلّ هذا هو روح مقصود المحقق العراقي قدس‌سره من انّ الجامع المعلوم في المقام حيث انّه جامع مفروغ عن تخصّصه بالخصوصية فيكون منجزاً لها.

ودعوى : أنّ التردد في الإشارة وعدم تعيّنها يكفي في جريان القاعدة العقلية بحرفيّتها ؛ لأنّ كلاً من الطرفين مشكوك لا إشارة إليه كالشبهة البدويّة والإشارة إلى الجامع المعلوم يكفي فيه امتثال الجامع.

مدفوعة : بأنّ للقائل بالبراءة العقلية أن يشترط في جريانها انتفاء أصل الاشارية بالتعبير المتقدم منّا في شرح حقيقة العلم أو يشترط عدم العلم بالعنوان الإجمالي المعلوم انطباقه على احدى الخصوصيتين زائداً على الجامع المتحقّق بامتثال أحدهما بناءً على التعبيرات الاخرى في حقيقة العلم الإجمالي ، كما يشهد الوجدان بالفرق بين الموردين ، ولهذا تجري البراءة العقلائية في الشبهة البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي.

فتحميل صاحب القاعدة بلزوم عدم التفرقة بين الموردين مصادرة ، فإنّه إذا اريد بذلك عدم وجود الفرق فقد عرفت وجوده سواءً على شرحنا لحقيقة العلم أو على شرحهم وان اريد عدم مفرّقية هذا الفرق فهو واضح البطلان لوضوح انّ درجة الكشف عن الخصوصية في مورد الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي أكثر من موارد الدوران بين الأقل والأكثر ، فلا معنى للمنع عن دعوى اكتفاء العقل بالمنجزية بهذا المقدار.

والحاصل : في موارد العلم الإجمالي بالتكليف يعلم بفعليّة تكليف ضمني

١٧٢

زائد على التكليف الضمني المتعلّق بالجامع بين الطرفين ، وهذا التكليف الضمني الزائد المعلوم غير محفوظ في موارد الدوران بين الأقل والأكثر أو التعيين والتخيير فضلاً عن الشبهات البدوية ، والعقل يحكم بمنجزيّة العلم بالتكليف الضمني كالتكليف الاستقلالي على ما هو مقرّر في بحث الانحلال في الدوران بين الأقل والأكثر.

وهذا يعني أنّ العقل لا يحكم بالبراءة عن الوجوب الضمني الزائد المعلوم لكونه معلوماً وإن كان يحتمل امتثاله وتحقق متعلّقه ضمن امتثال الوجوب الضمني المتعلّق بالجامع ، بل لولا الترخيص الظاهري الشرعي ـ حيث إنّه يجري عن كل من الوجوبين في الطرفين بحسب لسان دليله ـ يحكم العقل بوجوب الاحتياط واشتغال الذمة بالوجوب الضمني الزائد ؛ لكونه فعلياً زائداً على فعلية الوجوب الضمني المتعلّق بالجامع.

ولعمري هذه التفرقة واضحة عند العقل ووجدانية ، فلا ينبغي التسوية بين موارد العلم الإجمالي وموارد الدوران بين الأقل والأكثر ، فضلاً عن الشبهة البدوية في جريان البراءة العقلية على القول بها ، وليس ما ذكرناه من جهة انكارنا لأصل البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان ، واختيار مسلك حق الطاعة حتى في الشبهات البدوية.

وإن شئت قلت : انّ وجداننا العقلي القاضي بحق الطاعة يرى ثبوت هذا الحق للمولى في موارد العلم الإجمالي ـ بقطع النظر عن الترخيص الشرعي ـ بدرجة أشد وآكد منه في موارد الشبهة البدوية أو الدوران بين الأقل والأكثر ، والله الهادي للصواب.

١٧٣

الثانية : بالنسبة للدعوى الثانية والقول بالتفصيل الصحيح هو المنع عن جريان قاعدة الاشتغال اليقيني في الشبهات الموضوعية حتى في مثل ( أكرم العالم ) ؛ لأنّ خصوصية كون المكرم عالماً قيد للوجوب أيضاً لا للواجب فحسب ، فيجب اكرام زيد إذا كان عالماً وعمرو إذا كان عالماً. وقيود الوجوب لا تدخل في العهدة لتجري قاعدة الاشتغال عند الشك فيها كما هو محقّق في محلّه.

وإن شئت قلت : ما يدخل في العهدة إنّما هو متعلّق الأمر والوجوب ، وهو وجوب اكرام زيد إذا كان عالماً ووجوب اكرام عمرو إذا كان عالماً ، فتعلق الاكرام وتقيده بكون المكرم عالماً ليس تحت الأمر ، وإنّما هو شرط في تعلّق الوجوب بذات تلك الحصة والفرد ، فيكون نظير ما إذا علم بوجوب اكرام زيد أو عمرو بنحو القضية الخارجية حيث لا إشكال في جريان البراءة حينئذٍ عن كل من الطرفين بخصوصيته.

نعم ، لو كان الواجب بدلياً كما إذا قال : ( أكرم عالماً ) كان متعلّق الأمر ولا وجوب صرف وجود اكرام العالم ، فتشتغل الذمة به يقيناً ، فيجب الفراغ عنه. ففرق بين الواجب البدلي بنحو صرف الوجود والواجب الانحلالي بنحو مطلق الوجود ، حيث يكون لكلّ فرد خارجي وجوب يخصّه ولكنه مشروط بكون ذاك الفرد عالماً بنحو لا يدخل تقيد الاكرام بقيد العلم في العهدة.

هذا مضافاً إلى أنّ لازم هذا التفصيل أن لا تجري في هذا القسم من الشبهات الموضوعية البراءة الشرعية أيضاً في أحد الطرفين إذا فرض انحلال العلم الإجمالي المذكور بالعلم التفصيلي بوجوب اكرام أحد الطرفين على كلّ حال ،

١٧٤

كما إذا قامت البينة على انّ زيداً يجب اكرامه على كل حال ، امّا لكونه عالماً أو لكونه عادلاً مثلاً إذا وجب اكرام العادل أو علم بأنّه امّا عالم أو عادل فإنّه لا إشكال في جريان البراءة عن وجوب اكرام عمرو وانحلال العلم الإجمالي بوجوب اكرام أحدهما لكونه عالماً ، مع انّه بناءً على اشتغال الذمة يقيناً بوجوب اكرام العالم لا يجدي جريان البراءة عن وجوب اكرام عمرو في الخروج اليقيني عن عهدة التكليف اليقيني بوجوب اكرام العالم ؛ ولهذا لو كان الواجب بدلياً وبنحو صرف الوجود في هذا الفرض ـ ولابد وأن يفرض فيه انحصار العالم في المعلوم بالإجمال ـ كان يجب اكرام عمرو أيضاً خروجاً عن عهدة التكليف المعلوم اشتغال الذمة به. فالحاصل كان لابدّ حينئذٍ من الاحتياط واحراز تحقّق الامتثال امّا وجداناً أو تعبداً ، والبراءة عن وجوب اكرام عمرو لا يحرز ذلك وهذا واضح ، مع انّه لا يلتزم به السيد الشهيد قدس‌سره جزماً. فالتفصيل المذكور لا أساس له.

ص ١٧٣ قوله : ( الوجه الأوّل : ما أفاده المحقّق النائيني ١ ... ).

بالنسبة للوجه الأوّل يحتمل أن يكون مقصود الميرزا قدس‌سره ما يرجع إلى المنشأ الثالث لا الأوّل أي يرى لزوم الامتثال التفصيلي مع امكانه عقلاً من باب حق الطاعة للمولى ويناسبه تعبير أجود التقريرات من أنّ هذا واجب عقلي لا تجري عنه البراءة ، فإنّ قصد القربة والحسن العبادي وجوبه شرعي لا عقلي.

وأيّاً ما كان ففي المنشأ الثالث يمكن أن يذكر وجهان :

١ ـ أن يقال بحكم العقل بوجوب الطاعة التفصيلية مع الامكان لأنّه مقتضى حق المولى على عبده نظير ما تقدم في الموافقة الالتزامية من دعوى كونها من حق المولى على عبده عقلاً.

١٧٥

وفيه : أوّلاً ـ النقض بالواجبات التوصلية لجريان ذلك فيها أيضاً فلماذا خصّص بالعبادات.

وثانياً ـ على تقدير ثبوته لا يكون موجباً لبطلان العمل لأنّه قد جيىء به على طبق المأمور به وإنّما هو نظير ضم معصية إلى اطاعة. نعم ، لو قيل بأنّ المستفاد من أدلّة العبادات شرطية الطاعة الكاملة في صحتها وقعت باطلة وتمّ التفصيل بين العبادات والتوصليات من حيث الصحة والفساد لا من حيث العقوبة.

وثالثاً ـ انكار حكم العقل بذلك فإنّه لا يحكم إلاّبتحقّق ما أمر به المولى ويكون متعلّق غرضه لا أكثر.

٢ ـ ما ذكره السيد الشهيد في الكتاب مع أجوبته.

ص ١٧٩ قوله : ( التنبيه الأوّل ـ انّه لو بني على تقدم الامتثال التفصيلي ... ).

لو كان مقصود الميرزا لزوم الاطاعة التفصيلية مع الامكان في تحقق الحسن أو الاطاعة فهذا وإن صحّ في المقام في نفسه إلاّ انّه حيث انّ الامتثال الإجمالي فيه حسن الاحتياط المفقود في الامتثال التفصيلي التعبدي ـ بخلاف الوجداني ـ فقد يقال بعدم حكم العقل بأولوية التفصيلية في مقام الاطاعة عن الاحتياط ، ففرق بين الامتثال التفصيلي التعبدي والوجداني من هذه الناحية ، فلا تتمّ دعوى وجدانية حسن التفصيلي في المقام حتى لو تمت في التفصيلي الوجداني ، كما انّه بالنسبة لما يرجع إلى التنبيه الثاني والتكليف العبادي المستحب أو غير المنجز ؛ إذا كان مقصود الميرزا دخالة التفصيلية في الاطاعة عقلاً كالموافقة الالتزاميةلا في تحقق التقرب شرعاً فالاستثناء صحيح لاختصاص وجوب الاطاعة العقلية بالتكاليف الالتزامية والمنجزة لا غير فتأمل.

١٧٦

حجّية الظنّ

ص ١٨٦ قوله : ( وعلى هذا الضوء يعرف أنّ منجزية الظن في الجهة الاولى ذاتية له بمعنى أنّها ثابتة له كما هي ثابتة للعلم ... ).

وهذا التعبير موهم فالأولى أن يقال بأنّ الظن بالالزام منجز كالقطع به وكالشك به والظن بالترخيص ليس مؤمناً لا في موارد احتمال التكليف ولا في موارد الشك في الامتثال. أمّا الثاني فلما يأتي وأمّا الأوّل فلمنجزية الاحتمال حتى الموهوم عقلاً. نعم ، لو كان هناك مؤمن آخر من قبيل البراءة الشرعية كما إذا كان بعد الفحص وفي الشبهة البدوية لا المقرونة بالعلم الإجمالي أو مؤمن عقلي كالبراءة العقلية على القول بها الذي ملاكها عدم البيان لا الظن كان ذلك المؤمن هو الحجة ، ومن هنا يعرف انّ قولهم انّ الظن ليس حجة ذاتاً يكون له معنى معقول إذا اريد به أحد أمرين :

١ ـ انّه ليس بحجة في طرف التأمين كالقطع بل يحتاج مؤمنيّته إلى جعل الحجّية له أو طروّ حالة يحكم العقل بحجيته كالانسداد.

٢ ـ انّه ليس بحجة حتى في طرف التنجيز أيضاً بخصوصيته وإنّما المنجز مطلق احتمال التكليف في موارد عدم المؤمِّن الشرعي والعقلي. نعم ، خصوصية الظن قد توجب أولوية التنجز وآكديته عقلاً من ناحية كون الانكشاف الاحتمالي فيه أكثر من الشك والوهم.

١٧٧

أصالة الامكان :

ص ١٨٩ قوله : ( وقبل البدأ في مناقشة هذه البراهين لا بأس بالاشارة إلى ما جاء في كلمات الشيخ قدس‌سره ... ).

ذكر المحقق العراقي قدس‌سره انّ المراد بالامكان هنا ليس هو الامكان الذاتي المقابل للامتناع الذاتي لوضوح عدم وجود امتناع ذاتي في التعبد بالظن وإنّما المراد الامكان الوقوعي المقابل للامتناع الوقوعي ، أي ما قد يستلزمه التعبد به من المحاذير العقلية الممتنعة.

وذكر في تهذيب الاصول انّ المراد بالامكان الامكان الاحتمالي كما في المقالة المشهورة كل ما قرع سمعك فذره في بقعة الامكان ، وذهب الميرزا قدس‌سره إلى انّ المراد بالامكان هنا الامكان التشريعي لا التكويني ، واعترض عليه من قبل المحقق العراقي وغيره من الاعلام انّ الامكان والامتناع لا ينقسمان إلى تكويني وتشريعي وإنّما هما تكوينيان دائماً ، والأحكام الشرعية بما لها من المبادئ التكوينية تكون مورداً للامكان والامتناع التكوينين كلزوم اجتماع المثلين أو الضدين ونحو ذلك.

ويرد على ما في التهذيب بأنّ الامكان الاحتمالي لا يعني إلاّ احتمال الوقوع والصدق في قبال الكذب وهذا المعنى لا وجه لوقوع البحث عنه في قبال أدلّة جعل الحجة والتعبد بالظن لأنّه يرجع إلى البحث عن وقوع الحجة وعدم وقوعها اثباتاً كما لا يخفى.

ويرد على ما ذهب إليه المحقق العراقي :

أوّلاً ـ بأنّ المراد بالامكان الوقوعي ما يقابل الامتناع الوقوعي أي الامتناع

١٧٨

بالغير لا بالذات كامتناع وجود المعلول بغير علته ، ومن الواضح انّ الاستحالة المتوهمة في المقام ليست ذلك بل هي استحالة اجتماع المثلين أو الضدين والتناقض في الغرض وهذه كلها مصاديق للامتناع الذاتي ، نعم لو لاحظنا الحكم الظاهري بما هو جعل وانشاء لا بروحه فقد يصحّ أن يقال بأنّه على تقدير الامتناع الذاتي لاجتماع مباديه مع مبادئ الحكم الواقعي يكون الانشاء ممتنعاً بالغير ؛ لأنّ مباديه ومقتضيه غير ممكنة ذاتاً. إلاّ أنّ البحث ليس عن خصوص الصياغة وانشاء الحكم الظاهري.

وثانياً ـ لا ينحصر البحث عن الامكان في التعبد بالظن بخصوص محذور اجتماع الضدين والمثلين بل من جملة المحاذير ما يكون مناقضاً مع العقل العملي والحسن والقبح العقليين ـ كما تقدم ـ وهذا ليس بابه باب الامتناع لا الذاتي ولا الوقوعي بل هو من سنخ آخر يمكن أن نسمّيه بالامتناع العملي فإنّ صدور القبيح من الفاعل المختار الحكيم لا يلزم منه لا اجتماع المثلين ولا الضدين ولا وقوع المعلول بلا علته ، وإنّما لا يقع منه لكونه حكيماً نظير ما نقول من انّ المعصية لا تصدر من المعصوم اختياراً رغم عدم امتناع صدورها منه ؛ ولعلّه مراد الميرزا قدس‌سره من الامكان التشريعي.

وهناك تفسير آخر لكلام الميرزا وحاصله : أنّ المقصود من أصالة الامكان في كلام الشيخ ليس هو اثبات الامكان المدرك بالعقل النظري بل المقصود اثبات حكم العقل بلزوم العمل ومنجزية حكم المولى وعدم امكان رفع اليد عنه في مقام العمل بمجرد احتمال الامتناع وهذا من مقولة حكم العقل العملي لا النظري ، فالمراد بأصالة الامكان الامكان في مقام الوظيفة العملية اوالمنجزية وهو امكان تشريعي عقلي عملي لا نظري.

١٧٩

وهكذا يتضح انّ المراد من الامكان هنا ما يقابل مطلق المحذور الثبوتي الأعم من الامتناع الذاتي أو الوقوعي أو العملي الذي لا يصدر من الشارع الحكيم ، ويمكن أن نصطلح عليه بالامكان التشريعي.

ثمّ انّ أصالة الامكان في كلام الشيخ فسّر بتفسيرين :

أحدهما ـ التعبد العقلائي بالامكان وهذا ما فهمه الكفاية واعترض عليه بالاعتراضات الثلاثة.

ثانيهما ـ ما ذكره المحقق العراقي وتابعه عليه السيد الخوئي قدس‌سره ـ وقد تخلّصوا بذلك أيضاً عن اعتراضات الكفاية الثلاثة ـ من أنّ المراد بأصالة الامكان حجّية الظهور ولزوم الأخذ بظاهر الدليل الدال على التعبد بالظن ما لم يثبت الامتناع لوضوح انّه بمجرد احتمال امتناع مدلول دليل لا يرفع اليد عن حجيته فاحتمال الامتناع كاحتمال الكذب منفي بنفس كاشفية الدليل وحجيته وليس احراز عدمه شرطاً في الحجّية والكاشفية.

ويرد على كلا التفسيرين اشكال مشترك حاصله : انّ اثبات امكان الحكم الظاهري التعبدي بأصالة الامكان التعبدية الظاهرية دور ومصادرة سواء اريد بها الأصل العقلائي أو اريد بها أصالة الظهور ، وإنّما يصحّ أن يستدل بها لاثبات حكم آخر من غير سنخ نفس التعبّد المتضمَّن في أصالة الامكان ، كما إذا احتملنا استحالة جعل اجتماع الأمر والنهي مثلاً وامكانه أو استحالة الترتب وامكانه ، وإلاّ كان منشأ الشك سارياً وجارياً على أصالة الامكان نفسه أيضاً كما في المقام ؛ وهذا هو الاشكال الأساسي الذي لابد من علاجه.

وهذا الاعتراض لم يعالجه السيد الشهيد بشكل أساسي ، خصوصاً بناءً على

١٨٠