أضواء وآراء - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-74-2
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٤٥٦

ثمّ انّ مقتضى إطلاق أدلّة فعلية الأحكام الأولية بقاء التكليف الواقعي وان الرفع للاهتمام والحكم الظاهري فالتقريب الثاني والثالث متقدم رتبة على الأوّل ؛ لأنّه مستلزم لتقييد زائد في أدلّة الأحكام الواقعية ، ولا موجب له مع امكان رفع ايجاب الاحتياط وبالتالي اثبات التوسط في التنجيز لا التكليف.

وإن شئت قلت : انّ المرفوع به الفعلية المطلقة للحكم الواقعي ومن جميع الجهات بحسب مصطلح صاحب الكفاية قدس‌سره لا مطلق الفعلية.

لا يقال : لازم ذلك أن تكون القاعدة في المقام ظاهرية كما إذا دلّ دليل على جعل الترخيص الظاهري في بعض الأطراف مع انها قاعدة واقعية في سائر الموارد ، وكيف يمكن الجمع في قاعدة واحدة بين الظاهرية والواقعية.

فإنّه يقال : المحذور إنّما يكون فيما إذا كان الرفع بالقاعدة ظاهرياً وواقعياً في نفس الوقت لا ما إذا كان الرفع واقعياً على كل حال ، إلاّ انّ المرفوع قد يكون حكماً واقعياً ينشأ منه الحرج كالوضوء الحرجي وقد يكون حكماً ظاهرياً ينشأ منه ذلك كايجاب الاحتياط واهتمام المولى بأغراضه الالزامية ، وهذا لا محذور فيه لأنّه لا يعني أكثر من إطلاق النفي لكل حكم شرعي ينشأ منه الحرج وهذا واضح.

لا يقال : ظاهر الآية المباركة نفي الجعل الحرجي من ناحية أصل الشريعة وامّا الحرج الناشىء من سوء اختيار الناس وابتعادهم عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام المسبب لتحريف أو اختفاء الأحكام عليهم فليس ذلك مربوطاً بالشريعة لكي ينفى بالقاعدة ؛ وهذا نظير ما يقال من عدم ارتفاع الحكم الضرري إذا كان باقدام المكلّف نفسه على الضرر.

٣٢١

فإنّه يقال : هذا أيضاً مشمول لاطلاق القاعدة خصوصاً بالنسبة للأجيال المتعاقبة التي لم يكن لهم دور في خفاء الأحكام.

ثمّ انّ ما اختاره السيد الشهيد قدس‌سره من التفسير الثالث للقاعدة هنا وفي لا ضرر واضح إذا كان اللسان نفي جعل الحرج في الإسلام أو في الدين كما في لا ضرر في الإسلام ، وامّا ما ورد بلسان ما جعل عليكم في الدين من حرج فالمنفي به ليس نفس الحرج وطبيعيّه ، بل المجعول من قبل الدين إذا انطبق عليه عنوان الحرج هو المنفي ، وهذا أنسب مع تفسير الميرزا قدس‌سره من ارادة الجعل والحكم من الحرج بعلاقة السببية.

كما أنّ ما ذكره الكفاية سوف يأتي في قاعدة لا ضرر انّ فيه عناية التنزيل الفائقة كما انّه يناسب نفي حكم نفس العنوان المنفي ادعاءً كما في لا ربا وهو خلف المقصود في المقام وفي قاعدة لا ضرر ؛ إذ ليس المراد فيها نفي حكم الضرر والحرج بل نفي الحكم الحرجي أو الضرري المتعلّق بالفعل بعنوانه الأولي.

ثمّ انّه لا يتم التطبيقان الثاني والثالث بصياغتيهما المتقدمتين بناءً على التفسير المختار من قبل صاحب الكفاية لأنّ المرفوع عنده ما هو معروض الحكم الشرعي والاحتياط ليس كذلك حتى بلحاظ روح الحكم ، فإنّ شدة الاهتمام موضوعه الغرض الواقعي الالزامي لا عنوان الاحتياط ؛ اللهم إلاّ أن يدعى إطلاق نفي الجعل للحكم العقلي المنجعل تبعاً لجعل الحكم الشرعي الواقعي فيكون نظير تطبيق حديث الرفع على الجزئية والشرطية وهذا هو التطبيق الأوّل في الكتاب.

إلاّ أنّ الانصاف عدم تمامية هذه التوسعة لأنّ الجزئية والشرطية منتزعة عن

٣٢٢

نفس الجعل الشرعي فيمكن أن يعتبر ولو عرفاً مجعولاً شرعياً بخلاف وجوب الاحتياط العقلي.

كما أنّ التطبيق الرابع والخامس غير تامّين كما في هامش الكتاب. فإنّ اهتمام المولى له رتبتان : اهتمامه بدرجة بحيث يجعل ايجاب الاحتياط ويتصدى بنفسه لحفظ غرضه الالزامي واهتمامه بدرجة بحيث لا يجعل الترخيص ويعول على حكم العقل بالاحتياط والذي ينفى بتطبيق القاعدة على وجوب الاحتياط الشرعي المحتمل إنّما هو الأوّل لا الثاني فلا يرتفع موضوع حكم العقل بالاحتياط. فلم يبق غير التطبيق الثاني وما فيه من القيود والتحفظات.

ص ٤٤٦ قوله : ( ولكن التحقيق انّه لابد من صرف الترخيص ... ).

لا حاجة إلى هذا البيان ، إذ يكفي بعد فرض تنجز الحكم الواقعي بالاحتمال ولو لسقوط البراءة العقلية بالمعارضة أن يحكم العقل بلزوم الخروج والامتثال اليقيني إن أمكن وإلاّ فالظني لكل تكليف تنجز واشتغل ذمة المكلف به.

وإن شئت قلت : انّه على هذا سوف يكون الشك في الامتثال للتكاليف الواقعية المنجزة وأي درجة من احتمال عدم امتثالها منجزاً في هذا المقام فيتنجز الظن لا محالة ، وهذا هو الحكومة بتفسير الميرزا قدس‌سره حينما قال بحكم العقل يتقدم الامتثال الظني على غيره بعد فرض عدم وجوب الاحتياط التام.

وإن كان البيان المذكور صحيحاً أيضاً بل روحاً هو البيان الصحيح على كلا التقديرين أي سواء كان المنجز هو الاحتمال أو العلم الإجمالي إذ موضوع حكم العقل بحق الطاعة إنّما هو احتمال اهتمام المولى بأغراضه الواقعية سواءً في ذلك موارد الشك في التكليف أو الامتثال ، وهذا الاحتمال مرفوع بالقاعدة

٣٢٣

في المقام في طرف الموهومات يقيناً لأنّ القاعدة امّا ترفع نفس الحكم الواقعي أو شدّة الاهتمام به على تقدير كونه في طرف الموهومات جزماً حيث لا يشمل العكس تعييناً ومعه لا موجب لتقييد الحكم الواقعي أو شدة الاهتمام به في طرف المظنونات لو كان الحكم الواقعي فيه ؛ لأنّ هذا تقييد زائد ، فإنّ التقييد التخييري معناه تقييد كل منهما التقديري بينما يكفي تقييد الموهومات التقديري فلا وجه للتقييد الزائد.

لا يقال : التقييد التعييني للموهومات أكثر من التقييد التخييري لها.

فإنّه يقال : ليس بأكثر لأنّ المفروض على تقدير ارتكاب المظنونات وعدم الاحتياط فيها أن لا يكون التكليف مرتفعاً في الموهومات لو كان فيها ؛ إذ معناه الترخيص في المخالفة القطعية وهو خلف التوسط في التنجيز أو التكليف.

لا يقال : المفروض العلم بعدم التكليف في المظنونات والموهومات معاً وإنّما التكليف في أحدهما فإذا كان كذلك كان معنى التقييد التخييري الدوران بين تقييد واحد للتكليف امّا في مورد المظنون أو المورد الموهوم ولا معين لأحدهما في قبال الآخر.

فإنّه يقال : أوّلاً ـ يمكن أن يكون التكليف الواقعي في بعض المظنونات وبعض الموهومات.

وثانياً ـ مفاد القاعدة هو النفي التقديري وبنحو القضية الشرطية الصادقة حتى مع عدم صدق طرفيها فيكون مؤداها أنّ التكليف الواقعي وشدة الاهتمام به إذا كان في الطرف الموهوم فهو مرفوع عن المكلّف وهذا المضمون ثبوته في الطرف الموهوم مقطوع به على كل حال ولا موجب لأكثر منه بثبوته في الطرف

٣٢٤

المظنون أيضاً إذ يكفي ذلك لدفع الحرج.

وهكذا يتضح أنّه يمكن اثبات التبعيض في الاحتياط في خصوص الموهومات دون المظنونات ببيانين كلاهما تام في نفسه وإن كان روحاً أحدهما راجع إلى الآخر.

ثمّ إنّه ينبغي البحث عن الفرق بين المسالك الثلاثة في مقدار ما يثبت من حجّية الظن وكون نتيجة المقدمات بناءً عليه الإطلاق أو الاهمال من حيث المراتب للظن والأسباب ونوع التكليف المحتمل فنقول :

أمّا على مسلك الحكومة بالتفسير المتقدم لكلام صاحب الكفاية وبيانية الظن عند الانسداد فلا اشكال في انحلال العلم الإجمالي على كلا المسلكين في منجزيته وجريان البراءة العقلية لا الشرعية ـ لكون المنجزية في طول سقوطها بالمعارضة وإلاّ ارتفع حكم العقل لكونه تعليقياً ـ في المشكوكات فضلاً عن الموهومات. والميزان على هذا المسلك بالظن الشخصي لا النوعي ، لأنّ الكاشفية والبيانية الشخصية التي هي الميزان على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنّما يكون للظن الشخصي من أي سبب حصل فالنتيجة الإطلاق من حيث الأسباب.

وهل تختص الحجّية بالمرتبة القوية للظن أو تعم مطلق المراتب؟ يتوقف على مقدار ما يقول به صاحب هذا المسلك من بيانية الظن عند الانسداد أو ثبوت حق الطاعة للمولى فيه.

وامّا على مسلك الكشف فتجري البراءة الشرعية فضلاً عن العقلية في الموهومات والمشكوكات لانحلال العلم الإجمالي باستكشاف الحجة الشرعية

٣٢٥

في بعض الأطراف ، إلاّ أنّه لابد من الأخذ بالمتيقن حجيته على أساس هذا المسلك وهو الظن القوي إذا كان وافياً لمعظم الفقه وبمقدار المعلوم بالاجمال وإلاّ تنزلنا إلى المرتبة الأضعف منها لكونها المتيقن دون غيرها فهذا المسلك من حيث مراتب الظن نتيجته التقييد بالمرتبة المتيقنة الكافية بمعظم الفقه ، وامّا من حيث الأسباب بمعنى انّ الميزان هل يكون بالظن الشخصي أو النوعي ـ والنسبة بينهما عموم من وجه ـ فحيث انّ هذا الدليل يتوقف على وجود القدر المتيقن ووصول الحجّية فيه وإلاّ وقع الانسداد من جديد ووجب الاحتياط ، حيث لا يمكن استكشاف جعل الحجّية فيه ، فلا محالة يكون الحجة مجمع الظنين الشخصي والنوعي أي السبب الموجب للظن الشخصي ، وإذا فرض عدم وفاء مجمع الظنين بمعظم الفقه وتردد أمر الحجّية المستكشفة بين الظن الشخصي أو النوعي لم تثبت حجّية شيء منهما وحصل الانسداد ، ووجوب الاحتياط في دائرتهما وهو يبطل أصل مسلك الكشف لتوقفه كما تقدم على وجود القدر المتيقن ، وهذا لا يتحقق مع التردد جزماً.

ثمّ انّه على هذين المسلكين لا يؤثر اليقين أو احتمال أهمية نوع التكليف في مورد الموهومات لأنّ المفروض انحلال العلم الإجمالي وجريان البراءة العقلية على الأقل في التكاليف المحتملة مهما كانت مهمة.

وأمّا على مسلك التبعيض في الاحتياط فالنتيجة وجوب الاحتياط فيما عدا ما يرتفع به الحرج من الشبهات لعدم انحلال العلم الإجمالي بناءً عليه فلو فرض كفاية عدم الاحتياط في الموهومات لزم الاحتياط في الباقي حتى المشكوكات ، كما انّه لو ارتفع بترك الاحتياط في الموهومات التي يكون احتمال التكليف فيها ضعيفاً جداً لزم الاحتياط في سائر الموهومات أيضاً.

٣٢٦

وهكذا فالنتيجة على هذا المسلك من حيث المراتب التقييد أيضاً ولكن من طرف الوهم فيترك الاحتياط في الأكثر وهماً فالأكثر.

وهل الميزان بالوهم الشخصي أو يكفي الوهم النوعي كما إذا قام خبر على الترخيص مع عدم حصول الظن الشخصي به؟

هذا يرتبط بالقول بالحكومة بتفسير الميرزا ، بمعنى اننا لو قلنا بلزوم تحصيل الفراغ الظني مع التمكن بعد فرض تنجز التكاليف الواقعية بالعلم أو الاحتمال المنجز كان المعيار بتحصيل الظن الشخصي بالامتثال لا محالة ،

نعم ، لو لاحظنا الوجه الآخر وهو تطبيق دليل نفي العسر والحرج فقد يثبت التخيير إذا احتملنا رفع التكليف الموهوم في مورد الأهم النوعي تعييناً.

كما انّه إذا فرض انّ بعض التكاليف الموهومة على تقدير ثبوتها تكون أهم بحيث لا يرضى الشارع بتفويتها لزم الاحتياط فيها وتطبيق التبعيض في الاحتياط على غيرها ولو من المظنونات مما لا يحرز أهميتها.

كما انّه إذا فرض احتمال أهمية بعض الموهومات أهمية لا يحتمل مثلها في المظنونات جاز تطبيق التبعيض في الاحتياط على المظنونات لاحتمال التعيين في الرفع لكل من الطرفين فقد يحكم العقل بالتخيير في مقام الخروج عن عهدة أغراض المولى وطاعته.

وقد يحكم بتعيين امتثال الأهم الموهوم إذا كانت أهمية كبيرة بحيث يحرز أنّ المولى لو كان بنفسه واقعاً في هذا التردد والتزاحم الحفظي كان يرجح غرضه الأهم ولو كان موهوماً على غرضه غير الأهم ولو كان مظنوناً ، والله الهادي للصواب.

٣٢٧
٣٢٨

تعليقات على الجزء الخامس

الاصول العملية

أصالة البراءة

أصالة التخيير

٣٢٩
٣٣٠

أصالة البراءة

١ ـ البراءة العقلية :

ص ٢٠ قوله : ( والاصول العملية كأصالة الصحة أو الطهارة ... ).

ذكر في المصباح انّ خروج أصالة الطهارة عن علم الاصول مع جريانها في الشبهات الحكمية لوضوحها وعدم الاختلاف فيها.

وفيه : أوّلاً ـ منع الكبرى فإنّ كون المسألة بديهية أو غير مختلف فيها لا يجعلها خارجة عن مسائل العلم.

وثانياً ـ منع الصغرى للخلاف في حدودها وجريانها في مورد احتمال النجاسة الذاتية أو المسبوقة بالنجاسة في توارد الحالتين.

وثالثاً ـ النقض بأصالة الاحتياط في الشك في المكلف به أو البراءة العقلية أو حجّية الظهور أو غيرها.

فالصحيح ما أفاده السيد الشهيد قدس‌سره.

ص ٢٤ ـ قوله : ( وقد أوضحنا مفصلاً في بحوث القطع ... ).

حاصله : انّ المولوية التي هي ادراك عقلي عملي ليست إلاّ المنجزية

٣٣١

واستحقاق العقوبة أو حسنها ؛ لأنّ مدركات العقل العملي ليست إلاّ التحسين والتقبيح العقليين كما انّ تمام موضوعها الوصول كما تقدم في بحث القطع ، فالجمع بين إطلاق المولوية وقبح العقاب بلا بيان تناقض ؛ لأنّ الأوّل يعني اطلاقها في كل مورد يمكن فيها الطاعة بينما الثاني يعني نفيها في مورد الشك وعدم العلم ، وهذا لا محالة تقييد في إطلاق المولوية.

ص ٢٦ قوله : ( الأوّل : الاحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العقلائية ... ).

ويمكن المناقشة الصغروية فيها أيضاً فإنّ الثابت في القوانين الوضعية أنّ الجهل بالقانون لا يكون عذراً.

ص ٢٦ قوله : ( الثاني : ما تمت صياغته في مدرسة المحقق النائيني ١ ... ).

وهناك بيان آخر يظهر من فوائد الاصول حاصله : انّ فوت التكليف بعد الفحص وعدم وصوله ليس مستنداً إلى المكلف بل امّا لقصور في بيان المولى بحيث لم يكن صالحاً للوصول إليه أو لعامل آخر غير مربوط بالمكلف وخارج عن قدرته فلا يكون التفويت منه ليستحق عليه العقاب.

وفيه : انّ ملاك استحقاق العقاب ليس الاضرار أو التفويت بالمولى وإنّما ملاكه عدم اطاعته وأداء حق مولويّته والعبودية له ، ولهذا قلنا بالعقوبة حتى في موارد التجري مع عدم التفويت فيها.

ص ٢٨ قوله : ( أوّلاً ـ إنّ الانشاء يمكن أن يكون محركاً ... ).

كما في موارد الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم أو الشك في الامتثال فإنّه

٣٣٢

من المستبعد أن لا يقول هذا المحقق فيها بحق الطاعة والمنجزية.

ثمّ انّ هناك بحثاً أثاره القوم على القول بالقاعدة من انّه قد يقال بالتعارض بينها وبين قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل خصوصاً الاخروي أي العقاب.

وقد اجيب عليه بأنّ موضوع الثانية احتمال العقاب والقاعدة ترفعه وتوجب القطع بعدمه لاستحالة صدور القبيح من المولى.

هذا لو قبلنا أصل هذا الحكم كحكم عقلي ، والصحيح انّه ليس حكماً عقلياً أصلاً ، لأنّ الحكم العقلي يرجع إلى التحسين والتقبيح العقليين ، ولا إشكال في أنّ العقل لا يحكم بقبح الاقدام على الضرر لا الدنيوي ولا الاخروي ، وإنّما هذا مطلب غريزي وغرض طبيعي لا حكم عقلي عملي ، فإنّ كل انسان بحسب طبعه متنفر عن الضرر والألم ؛ وهذا تارة ندعيه كوجدان ، واخرى نقيم عليه برهاناً حاصله : انّ العقاب دائماً يكون على الخروج عن أدب العبودية وحق الطاعة والمولوية للمولى والجرأة عليه وظلمه كما تقدم في بحث التجري فيتوقف احتماله على تنجز التكليف وحق الطاعة في المرتبة السابقة فيستحيل أن يكون التنجز بهذه القاعدة وهذا يعني انّ هذه القاعدة لا يمكن أن تكون حكماً عقلياً بالتنجز لأنّها فرع التنجز في المرتبة السابقة وليس للعقل في باب الاطاعة والعصيان حكم نفسي غير التنجز وقبح العصيان والخروج عن حق الطاعة ، ولو فرض ثبوت قبح نفسي للاقدام على الضرر بقطع النظر عن حق المولى وظلمه كما في قبح الكذب مثلاً ، فهذا أجنبي عن استحقاق العقاب والتنجّز ، وهذا يعني انّه يستحيل أن تثبت بهذه القاعدة تنجز التكاليف حتى في موارد عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان كموارد الشبهة المقرونة بالعلم أو قبل الفحص أو الشك

٣٣٣

في الامتثال ، وحيث لا حكم عقلي آخر في باب الطاعة والعصيان فلا محالة يثبت انّ وجوب الدفع ليس حكماً عقلياً عملياً أصلاً ولا يمكن التمسك به في أي مجال.

وهذا هو الجواب الصحيح لا ما ذكره بعض الأعلام من الترديد بين كونه حكماً غيرياً أو نفسياً أو طريقياً أو ارشادياً ، والاستدلال على ابطال ما عدا الأخير منها تارة بلزوم اللغوية واخرى بلزوم تعدد العقاب ، فإنّ هذه التقسيمات غير جارية في الأحكام العقلية العملية التي كلها بملاكات الحسن والقبح العقليين الذاتيين وليست أحكاماً مجعولة ليتصور فيها الغرض الطريقي أو النفسي أو الغيري أو اللغوية ، وامّا تعدد العقوبة أو تأكدها فلا محذور فيه ؛ لأنّ القائل به يقبله حتى في مورد القطع بالتكليف وانّه أيضاً يقبح فيه الاقدام على العقاب فلا يلزم أسوأية الاحتمال على العلم بل استحقاق العقاب دائماً على الاقدام نظير ما يقال من انّ ملاك العقاب في التجري والعصيان أمر واحد وهو الاقدام على المعصية.

ولعلّ حاق مقصوده ما ذكرناه من استحالة أن تثبت المنجزية بهذه القاعدة لأنّها في طولها ؛ إلاّ أنّ هذا كان يقتضي منه انكار كونها حكماً عقلياً عملياً أصلاً كما أشرنا ، وعدم التمسك بها في أي مورد حتى الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي لاثبات التنجز مع انّه قد تمسك بها فيها.

وقد يقال : انّه يعقل أن تكون هذه القاعدة منجزة في فرض واحد وهو ما إذا كان الشك في كبرى التنجيز كما إذا شك المكلف ولم يدر انّ العقل هل يحكم بحق الطاعة في موارد الشك أو يحكم بقبح العقاب.

٣٣٤

إلاّ أنّ الصحيح انّه في هذه الحالة أيضاً لا يعقل تنجيز الحكم بهذه القاعدة ، إذ لو فرض انّ العقل يرى الشك في كبرى المولوية وحق الطاعة عذراً عقلاً فلا احتمال للعقوبة لكي تجري القاعدة ولو فرض انّه غير معذر عقلاً كما هو الصحيح ، ومن هنا كان احتمال العقاب أو استحقاقه ثابتاً فالتنجز ثابت في المرتبة السابقة على جريان القاعدة.

٢ ـ البراءة الشرعية :

ص ٣١ قوله : ( منها قوله تعالي( لا يكلّف الله نفساً إلاّوسعها ).

المراد من الموصول ابتداءً أحد احتمالات أربعة :

١ ـ المال بالخصوص ويكون المقصود من الايتاء في الآية الإعطاء والتكليف به بمعنى التكليف بانفاقه.

٢ ـ الفعل ويكون المقصود من الايتاء الاقدار عليه وانفاق المال يكون من مصاديقه.

٣ ـ التكليف بالخصوص ويكون المراد من الايتاء عندئذٍ ايصاله ، فإنّ ايتاء كل شيء بحسبه.

٤ ـ الأعم الشامل لجميع ذلك بمقتضى الإطلاق.

والاستدلال يتم على الثالث والرابع لا الأوّل والثاني ، إلاّ أنّ الثالث غير مطابق مع مورد الآية الذي هو انفاق المال في عدة الطلاق وارضاع ولد المطلق ، فيتعين الرابع وتقريبه بالتمسك بالاطلاق في الموصول إذ لا موجب لتقييده بخصوص المال أو الفعل وكونه مورداً للآية لا يوجبه فإنّ المورد لا يكون مخصصاً على انّ

٣٣٥

سياق الجملة ومناسباتها تقتضي ارادة تطبيق كبرى كلية على المورد.

ونوقش بأنّ الإطلاق المذكور غير تام ، إذ اضافة التكليف إلى الفعل اضافة الى المتعلق والمفول به ( المكلف به ) بينما اضافته إلى نفس التكليف لابد وأن يكون من باب المفعول المطلق والذي يعني انّه طور من أطوار الفعل وقسم منه ، وهذان معنيان متباينان فلا يمكن الاستعمال فيهما معاً.

واجيب من قبل المحقق العراقي تارة بأنّه يمكن الاستعمال في نسبة جامعه. وجوابه ما في الكتاب من عدم وجودها إلاّبنحو المعنى الاسمي لا الحرفي النسبي كما هو مقرر في محله.

واجيب من قبل المحقق النائيني والعراقي اخرى بأنّه يمكن افتراض الاستعمال في الاضافة إلى المفعول به ، ومع ذلك يعم الموصول الحكم والتكليف أيضاً. امّا لكون الحكم والتكليف بمعنى اسم المصدر هو المقصود من الأحكام الشرعية وهي تقع متعلقاً لفعل التكليف فيقال كلّف بتكليف أو حكم بحكم وهذا تقريب النائيني. أو بأنّ فعل التكليف ليس مساوقاً ومرادفاً مع الجعل والحكم ، بل مبداه الكلفة والمشقة والجهد فيكون معنى ( لا يكلف الله ) انّه لا يجهد نفساً إلاّ بما آتاها والتكليف بمعنى الحكم يمكن أن يقع متعلقاً ومفعولاً به لهذا المعنى أي لا يجهد نفساً بتكليف وحكم إلاّما آتاها. فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين. وهذا ما ذكره العراقي ووافق عليه الشهيد الصدر قدس‌سرهما.

ونلاحظ على ما ذكر :

أوّلاً ـ حتى إذا كانت النسبة إلى المفعول المطلق مع ذلك لا يمكن استفادة البراءة من الآية ، لما ذكر من انّ المراد من التكليف لغة وعرفاً الجهد والمشقة

٣٣٦

فيكون الجملة انّ الله لا يكلّف نفساً كلفةً وجهداً إلاّما آتاها ، أي جهداً آتاها ؛ وايتاء الجهد هو الاقدار عليه. فتكون الآية من أدلّة عدم التكليف بغير المقدور وما لا يطاق ، فالحاصل المفعول المطلق ليس هو التكليف بمعناه الاصولي أي الحكم والجعل حتى على هذا التقدير فلا تكون الآية على هذا التقدير ناظرة إلى جريان البراءة عن التكليف المحتمل ، ولا يبعد استظهار هذا المعنى من الآية ؛ إذ لو كان المقصود الاستثناء من المفعول به والمكلف به كان اللازم ذكر حرف الجر أي ( إلاّبما آتاها ) أو ( لا يكلّف الله نفساً بشيء إلاّما آتاها ) لعدم اضافة التكليف إلى المكلف به ابتداءً فيكون نظير لا يكلف الله نفساً إلاّوسعها كما أشرنا إليه في هامش الكتاب.

وثانياً ـ يرد على تقريب النائيني بأنّ الحكم والتكليف لو فرض اضافة فعل ( يكلّف ) إليه في الكلام كما إذا قال كلّفه بحكم أو تكليف أمكن حمله على اسم المصدر ، وامّا حيث لا يكون ذلك مذكوراً وإنّما المذكور لا يكلف الله نفساً ( بشيء ) إلاّما آتاها فهذا لا يشمل إلاّما يكون مصداقاً حقيقياً لمتعلق التكليف وليس هو إلاّ الفعل أو المال لا نفس التكليف بالمعنى اسم المصدري فإنّه بحاجة إلى اعمال عناية ولا دالّ عليها.

وثالثاً ـ يرد على كلا التقريرين :

١ ـ انّ الايتاء بمعنى الاقدار والاعطاء غير الايتاء بمعنى الايصال ، وما يقال من انّ ايتاء كل شيء بحسبه إنّما يجدي إذا كانت الاضافة إلى ما يناسب ذلك المعنى فلا يمكن استفادته من الإطلاق.

وإن شئت قلت : اضافة الايتاء إلى مطلق الشيء في الجملة لابد وأن يكون له

٣٣٧

معنىً واحد ولو كان جامعاً بين معنيين آخرين ولا يمكن أن يكون بلحاظ كل مصداق للشيء له معنىً غير معناه بلحاظ المصداق الآخر ، والمعنى الجامع هو الاعطاء وجعله واجداً له ومتمكناً منه وهو مباين مع الايصال ، بل استعماله في الايصال مجاز وما يذكر من الأمثلة كقوله تعالى : آتاه الله الحكمة أو العلم فهو أيضاً بمعنى الاعطاء والمعطى هو العلم والحكمة والمعرفة لا المعلوم بمعنى اعلامه به ، والحكم هو المعلوم لا العلم.

٢ ـ سياق الآية خير شاهد على انّ النظر إلى السعة والقدرة على الانفاق وأنّ الكبرى المنظورة هي عدم التكليف بما لا يطاق كما ذكره المفسرون طرّاً ، وهي كبرى اخرى غير كبرى البراءة عن التكليف المشكوك.

ص ٣٤ قوله : ( هذا ولكن ينبغي أن يعلم انّ المقدار الذي يثبت بها البراءة ما لم يصدر من الشارع البيان ... ).

هذا غير ظاهر بل لعلّ المناسب مع نفي العذاب والعقوبة حمل ارسال الرسل على كونه معرفاً إلى قيام الحجة ووصول التكليف ؛ لأنّ مجرد ارسال الرسول واقعاً من دون وصوله أو تنجزه على المكلفين لا يصحح العقاب أيضاً ، اللهم إلاّ أن يقال بأنّ الآية ليست في مقام البيان من ناحية عقد المستثنى بل المستثنى منه فقط وهو خلاف الظاهر.

كما انّ ما ذكرناه في الهامش واختاره النائيني قدس‌سره في فوائده وهو ارادة مطلق الحجة الأعم من البيان الشرعي أو الحجة العقلية خلاف الظاهر ، بل مستهجن أيضاً ، فإنّ ظاهر الآية إناطة العذاب بفعل يرجع إلى المولى والشارع كما انّه بناءً على حملها على الاستحقاق يكون المعنى عدم تنجز التكليف حيث لا تنجز

٣٣٨

للتكليف فيكون كالقضية بشرط المحمول.

فالانصاف تمامية دلالة الآية على امضاء ما لعله مركوز لدى العرف من عدم التنجز للتكليف وعدم استحقاق العقوبة إذا لم تصل الحجة الشرعية عليه ، وهذا لسان عرفي لبيان البراءة الشرعية ، أو قل امضاء البراءة العقلائية. نعم ، هذا اللسان لا يثبت إلاّ البراءة المحكومة للاحتياط إذا تم دليل الاخباري عليه لأنّه حجة شرعية.

ص ٣٥ قوله : ( ومن الآيات قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ) ... ).

الاستدلال بهذه الآية على البراءة خلاف الظاهر جداً ، خصوصاً مع ملاحظة سياقها الوارد في مقام بيان انّ الله لا يترك المؤمنين ومن هداهم إلى الايمان خارجاً بل يتدخل من أجل تسديدهم وارشادهم إلى ما فيه مصلحتهم الخارجية ومن ينبغي أن يتقون منه ؛ وهذا مفاد مباين عرفاً مع البراءة ومعذورية الجهل بالتكليف ، فما في الهامش هنا تام بكلا فقرتيه.

وما ورد في بعض الروايات كرواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : وسألته عن قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَايَتَّقُونَ ) قال : « حتى يعرفهم ما يرضيه ويسخطه ». ومثلها رواية حمزة بن محمّد الطيار (١) لا ينافي ما ذكرناه ، لأنّ ظاهرها انّ عدم المعرفة يوجب العجز الخارجي عن العمل ، ولهذا استشهد الإمام عليه‌السلام في نفس الرواية على ذلك بآية : ( لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ).

__________________

(١) من أبواب المقدمات ح ١٠ و ١١ جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٣٢٧.

٣٣٩

الاستدلال بالسنّة على البراءة :

ص ٣٦ قوله : ( منها ـ الحديث المعروف « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ... ).

سند هذا الحديث غير تام ؛ لأنّه مروي في الفقيه مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام ، بل حتى لو قيل باعتبار مراسيل الصدوق فهذه ليست منها ؛ لأنّ الموجود في الوسائل ص ٦٢٦ ج ١٨ وإن كان بعنوان ( محمّد بن علي بن الحسين قال ، قال الصادق عليه‌السلام ... ) إلاّ أنّه بمراجعة الفقيه ج ١ ص ٢٠٨ ( ط ـ النجف ) يلاحظ انّ الموجود فيه روي عن الصادق عليه‌السلام ، فالسند غير تام على كل حال ، فما في أكثر كتب الاصول ومنها كتابنا اشتباه منشأه نقل صاحب الوسائل.

ثمّ انّ في كلمات السيد الخوئي والسيد الإمام استشهاد على نظر الحديث إلى الاباحة الظاهرية المغياة بالوصول لا بالصدور بنكتة لم يتعرض لها السيد الشهيد قدس‌سره وهي انّ المراد لو كان هو الاباحة قبل ورود النهي بمعنى الصدور كان مختصاً بزمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا مطلقاً لتمام الأزمنة ؛ لأنّ التشريع كان مختصاً به مع انّ الرواية صادرة عن الامام الصادق عليه‌السلام فلابد وأن يكون المراد من الورود الوصول.

وهذه النكتة أيضاً يمكن الاجابة عليها بأنّ المراد من الورود ليس هو التشريع ليقال بانتهائه في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل البيان من قبل الرسول أو الامام المكلف من قبل الله سبحانه بذلك ، وهذا المعنى مستمر في زمان الأئمّة أيضاً ، فإنّ جملة من الأحكام لم تبين للناس من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة بل بتوسط الأئمّة عليهم‌السلام ، كما ورد ذلك في حديث الحجب الصادر عن الأئمّة وفي حديث التثليث الذي

٣٤٠