أضواء وآراء - ج ٢

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي

أضواء وآراء - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2730-74-2
ISBN الدورة:
978-964-2730-72-8

الصفحات: ٤٥٦

الطرفين بنحو يناقض ذلك الالتزام فإنّه أيضاً غير عقلائي.

وفيه : ما في الكتاب من المنع عن ذلك فإنّ الالتزام غير العمل خصوصاً إذا كان اجمالياً والموقف العملي تفصيلي في الطرفين.

٣ ـ لزوم المخالفة العملية لتكليف الزامي منجز غاية الأمر متعلقه من أفعال الجوانح لا الجوارح وهذا ليس بفارق لأنّ الميزان قبح الترخيص في المعصية سواءً كانت جارحية أو جانحية فيكون جريان الاصول في تمام الأطراف دائماً مؤدياً إلى مخالفة عملية ، غاية الأمر قد يؤدي إلى مخالفتين عمليتين والترخيص في معصيتين كما في موارد امكان المخالفة العملية القطعية ، وقد يؤدي إلى مخالفة واحدة عملية وترخيص في معصية واحدة ، وعلى كل حال يكون ذلك مانعاً عن جريانها.

وجه اللزوم انّ الاصول في تمام الأطراف تنفي الحكم الواقعي في الطرفين مع العلم بوجوده في أحدهما ووجوب الالتزام به فبنفيه ظاهراً وتعبداً يرخص في عدم الالتزام به رأساً وهو معصية معلومة ، وهذا هو التقريب الفني.

الأمر الثالث : في تحقيق حال المانعية بصيغتها الفنية المتقدمة ، وهو متوقف على ملاحظة المحتملات في وجوب الالتزام فإنّه تارة نفترض انّه تكليف عقلي من شؤون باب الاطاعة والانقياد لأوامر المولى ، واخرى يفترض انّه تكليف شرعي ، وعلى كل منهما تارة يكون موضوعه الالتزام بالتكليف الواصل وصولاً منجزاً ـ ولابد من أخذ قيد الوصول وعدم الاكتفاء بمطلق التكليف المنجز لوضوح عدم جواز الالتزام بالواقع المنجز في موارد الشبهات قبل الفحص أو الشك في الامتثال ـ واخرى الواصل ولو لم يكن منجزاً وثالثة الواقع سواءً وصل

١٤١

أم لم يصل ، فالأقسام ستة ؛ إلاّ انّ اثنين منها غير محتمل في نفسه وهو أن يكون الوجوب عقلياً وعلى الواقع فإنّ العقل إذا حكم بالالتزام فإنّما يحكم به من باب الانقياد والطاعة للمولى والمفروض أخذ الوصول تمام الموضوع في حق الطاعة والمولوية ـ خصوصاً إذا قلنا بحرمة التشريع عقلاً ـ كما انّ الوجوب إذا كان شرعياً فلا يحتمل أن يكون موضوعه خصوص التكليف المنجز بما هو منجز فتبقى أقسام أربعة لابد من ملاحظتها.

الأوّل : أن يكون الوجوب عقلياً وموضوعه ما يتنجز من التكليف ، وقد بين حكمه في الكتاب بما لا مزيد عليه.

الثاني : أن يكون عقلياً وموضوعه التكليف الواصل فيكون في عرض المنجزية العقلية وأعم منها لشمولها للتكاليف غير الالزامية أي يجب الالتزام بمقدار ما وصل من التكاليف لأنّ الوصول تمام الموضوع لحكم العقل بالانقياد والاطاعة ، وهنا أيضاً يتمّ ما ذكر في الكتاب ، وهو تام على كلا المسلكين في باب العلم من انّه متعلق بالواقع أو الجامع إذ لا اشكال في انّ الصورة الذهنية المعلومة بالاجمال غير المعلومة بالتفصيل في الذهن كما انّ جريان الاصول في الطرفين إنّما هو بعنوانهما التفصيليين المشكوكين ، وامّا العنوان الإجمالي فمعلوم لا شك فيه ليكون مجرى الأصل لا بالمطابقة ولا بالملازمة ، امّا الأوّل فواضح ، وامّا الثاني فلأنّ نفي الفردين لا يلازم نفي العلم بالجامع الذي هو موضوع هذا الحكم العقلي وإنّما يلزم منه نفي واقع الجامع تعبداً على القول بالأصل المثبت وهو لا ينافي العلم به وجداناً ، فالمسألة غير مربوطة بنكتة الأصل المثبت.

١٤٢

لا يقال : بناءً على عموم الوصول للتعبدي فإذا جرى استصحاب النجاسة في الطرفين لزم الالتزام بالنجاسة الواقعية في الطرفين معاً وهو ينافي الالتزام بطهارة أحدهما ولو بالعنوان الإجمالي الجامعي بملاك التناقض العقلائي المتقدم شرحه.

فإنّه يقال : هذا لا وجه له بناءً على القول بالوجوب العقلي لأنّ الوصول التعبدي إنّما يفيد لتوسعة موضوع الأحكام الشرعية لا العقلية ـ كما تقدم مفصلاً في بحث قيام الامارات مقام القطع الطريقي المحض ـ وأمّا روح الحكم الظاهري من شدة الاهتمام فلا يقتضي أكثر من الاهتمام بلحاظ الواقع وحفظ أغراضه الواقعية ، والمفروض انّه ليس موضوعاً لوجوب الالتزام.

الثالث : أن يكون وجوب الالتزام شرعياً وموضوعه التكليف الواصل وهنا إذا كان موضوعه خصوص الوصول الوجداني فالكلام فيه عين الكلام في القسم السابق. وإن كان موضوعه الأعم من الوجداني والتعبدي ـ وهو معقول هنا ، خصوصاً في الامارات والاصول التنزيلية ـ سواءً كان ذلك بملاك انّ موضوع وجوب الالتزام الشرعي ابتداءً هو الأعم من العلم الوجداني والتعبدي أو لاستظهار قيام الاصول التنزيلية مقام القطع الموضوعي ـ وقع التنافي بين إطلاق دليل وجوب الالتزام للمعلوم بالاجمال مع الالتزام بمؤدّى الاصول التنزيلية في تمام الأطراف ـ إذا كانت تنزيلية ـ بلحاظ أثر القطع الموضوعي حيث لا يمكن الجمع بينها عقلائياً بحسب الفرض وحيث انّ هذه الحكومة واقعية لا ظاهرية ليتحقق موضوع كلّ منها واقعاً فهو يوجب لا محالة التعارض والتساقط بين الاطلاقات الثلاثة في دليل القطع الموضوعي وهو وجوب الالتزام إذا كان موضوعها الأعم وإلاّ فإن كان قيام الأصل من باب قيامه مقام القطع الموضوعي

١٤٣

بدليل الحجّية فالتمسك وإن كان بدليل الحجّية ولكن بلحاظ اطلاقه للأثر الموضوعي الذي هو حكومة واقعية لا ظاهرية فهو إطلاق أجنبي عن مفاد الحكم الظاهري ، وعلى كلّ حال لا يسري التعارض والاجمال إلى دليل الأصل بلحاظ الحكم الظاهري ؛ فلا يجب الالتزام بشيء أصلاً لو لم يدع تقدم وجوب الالتزام بالمعلوم بالاجمال على اجماله بنكتة اخرى ، إلاّ أنّ هذا على كل حال لا يوجب تساقط الاصول بلحاظ آثار الواقع المترتبة تعبداً ، وهذا واضح.

الرابع : أن يكون الوجوب شرعياً وموضوعه الواقع كوجوب العمل الذي موضوعه الواقع. وهذا الوجوب لا يمكن أن يجتمع مع حرمة التشريع شرعاً الذي لا اشكال في ثبوته ، فلابد من تقييده ، فإن فسرنا التشريع باسناد ما لا يعلم إلى الدين وان كان منه واقعاً رجع إلى القسم السابق ؛ لأنّ معناه اختصاص وجوب الالتزام بالواقع المعلوم لوقوع المنافاة بين الحكمين فلابد من تقييد وجوب الالتزام بذلك.

وإن فسرناه باسناد ما ليس من الدين واقعاً إليه الذي هو نقيض موضوع وجوب الالتزام فلا منافاة بينهما حينئذٍ ، بل كان المقام بلحاظ كلا الحكمين في موارد الشك في الحكم من الدوران بين الحرام والواجب بمعنى انّه لا يمكنه الالتزام بكلا الطرفين ولا ترك الالتزام بهما معاً للمخالفة القطعية في الأوّل من ناحية التشريع ومن ناحية عدم الالتزام بالحكم الواقعي المعلوم في البين الملازم عقلاً أو عقلائياً مع الالتزامين التفصيليين في الطرفين ، وفي الثاني من ناحية عدم الالتزام بالحكم الواقعي الموجود ، ولا يكفي على هذا التقدير الالتزام بالجامع المعلوم بالاجمال لأنّ المفروض وجوب الالتزام بالحكم الواقعي بحدّه الواقعي لا العلمي والجامع المعلوم بالاجمال ولو كان أمراً واقعياً ثابتاً إلاّ أنّ الالتزام

١٤٤

به لا يكفي عن الالتزام الواجب إذ يعلم بزيادة الحكم على الحد الجامعي وتعلقه باحدى الخصوصيتين ، والمفروض وجوب الالتزام بالواقع بعنوانه التفصيلي فلابد من الالتزام باحدى الخصوصيتين أيضاً بناءً على انّ الواقع هو موضوع الوجوب ، فيكون من موارد الدوران بين تكليفين واقعيين تكون الموافقة القطعية لأحدهما مساوقاً للمخالفة القطعية بالنسبة إلى الآخر.

وسيأتي حكمه في بحث الدوران بين المحذورين من لزوم المخالفة الاحتمالية لهما.

كما انّه بلحاظ كل طرف في نفسه أيضاً يكون علم اجمالي بوجوب الالتزام امّا بنجاسته وحرمته أو طهارته وإباحته ، ولا يمكن الالتزام بهما معاً ـ بناءً على عدم امكان الالتزام بالنقيضين والضدين الذي لا ثالث لهما ، وإلاّ كان كالالتزام في طرفي العلم الإجمالي ـ كما انّ تركهما يكون فيه مخالفة قطعية لوجوب الالتزام ولكنه موافقة قطعية لحرمة التشريع ، فوجوب الالتزام المعلوم اجمالاً يمكن مخالفته القطعية ولا يمكن موافقته القطعة وحرمة التشريع يمكن موافقته القطعية ولا يمكن مخالفته القطعية.

وعندئذٍ إذا قلنا بأنّ العلم الإجمالي الذي لا يمكن موافقته القطعية من جهة الاضطرار إلى ترك أحد طرفيه يسقط عن التنجيز مطلقاً ـ كما هو مقالة صاحب الكفاية ـ بخلاف العلم الإجمالي الذي لا يمكن مخالفته القطعية ولكن يمكن موافقته القطعية ، حيث يكون منجزاً ـ كما هو الصحيح ـ فالنتيجة وجوب ترك الالتزامين معاً لفعلية حرمة التشريع المعلومة بالاجمال وسقوط وجوب الالتزام وإن قلنا بمقالة المشهور. والصحيح من بقاء التنجيز في موارد الاضطرار إلى

١٤٥

أحد الأطراف لا بعينه ـ ويسمّى بالتوسط في التكليف أو في التنجيز ـ وقع التزاحم بين التكليفين في مقام تحصيل الموافقة القطعية لأحدهما ـ وهو حرمة التشريع ـ مع المخالفة القطعية للآخر ـ وهو وجوب الالتزام ـ فيدخل في الدوران الذي أشرنا إليه بلحاظ الالتزام في طرفي العلم الإجمالي.

إلاّ أنّ هذا كلّه فرض في فرض ؛ لأنّ حرمة التشريع يقيّد وجوب الالتزام بالحكم المعلوم لا الواقعي.

مضافاً إلى ما في الكتاب من أنّ الصحيح مع ذلك جريان الاصول في تمام الأطراف حتى على هذا القول بلحاظ ترتيب الآثار العملية على الواقع غير هذا الأثر الطولي وهو وجوب الالتزام الذي موضوعه الحكم الواقعي ؛ إذ لا محذور بلحاظها وإنّما المحذور بلحاظ هذا الأثر الطولي فقط فتجري الاصول حتى التنزيلية فضلاً عن غيرها لاثبات الواقع وآثاره العملية غاية الأمر لا يترتب هذا الأثر الطولي فيسقط إطلاق الأصل بلحاظ الأثر الطولي ، لا أصله كما أفاده السيد الشهيد.

لا يقال : قد يسري التعارض إلى الأثر العملي في مورد أحد الأصلين كما إذا علم اجمالاً بأنّ الانائين امّا طهرا معاً أو تنجسا معاً وكانت الحالة السابقة لأحدهما النجاسة وللآخر الطهارة فإنّه سوف يعلم بكذب أحد الاستصحابين اجمالاً ، ولكن لا يلزم منه محذور المخالفة العملية بلحاظ آثار الواقع ابتداءً إلاّ أنّه بادخال التكليف بوجوب الالتزام في الحساب سوف يتشكل علم اجمالي امّا بوجوب الاجتناب عن الاناء مستصحب الطهارة أو وجوب الالتزام بطهارة الاناء مستصحب النجاسة وهو علم اجمالي منجز يمكن موافقته العملية وذلك

١٤٦

باجتناب الاناء مستصحب الطهارة والالتزام بطهارة الآخر فيسقط الأصل المؤمن في الاناء المذكور ويجب الاجتناب عنه ولا يشفع لعدم سقوطه كون الطرف الآخر لا يمكن موافقته القطعية بلحاظ علم اجمالي آخر لكونه في نفسه مجرى للأصل النافي لوجوب الالتزام بالطهارة فيكون معارضاً في رتبة واحدة مع الأصل النافي لوجوب الالتزام بالنجاسة واستصحاب الطهارة في الاناء مستصحب الطهارة فتسقط الجميع.

فإنّه يقال :

أوّلاً ـ هذا غير محذور المخالفة الالتزامية التي كان يريدها المستشكل وانعقد له أصل البحث ، فإنّ المقصود من هذا البحث أن يكون تساقط الاصول من جهة محذور المخالفة الالتزامية محضاً.

وثانياً ـ هذا المحذور غير مرتبط بجريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي بل هو محذور في نفسه يرد على القول بوجوب الالتزام بالحكم الواقعي على كل حال ، ولهذا يرد نفس الاشكال إذا كانا معاً مستصحبي الطهارة أو النجاسة حيث لا علم اجمالي بكذب أحد الأصلين ، بل يرد الاشكال في الشبهة البدوية التي لا اشكال في جريان الأصل فيها حيث يتشكل دائماً علم اجمالي منجز بلحاظ التكليف العملي والتكليف الالتزمي فإذا شك في حرمة شرب التتن مثلاً علم اجمالاً إمّا بحرمة شربه أو وجوب الالتزام بحليته ، وهذا العلم الإجمالي يمكن مخالفته العملية وذلك بشربه وعدم الالتزام بحليته فلابد من ترك شربه مع الالتزام بحلّيته من أجل الموافقة القطعية للعلم المذكور ، وهو واضح البطلان ، وهذا يعني أنّ نفس دليل جريان الأصل العملي في الشبهة البدوية ـ الذي هو قطعي بحسب

١٤٧

الفرض ـ يدل بالالتزام على عدم وجوب مراعاة هذا العلم الإجمالي فتدبّر جيداً.

الأمر الرابع : لا دليل على أصل وجوب الالتزام بالتكاليف لا عقلاً ولا شرعاً.

نعم ، يجب الالتزام القلبي والتعبد بل والاظهار أيضاً بأنّ كلّ ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو من قبل الله سبحانه ، فإنّه من شؤون الإسلام وقبول الرسالة والشريعة ، وهذا التزام اجمالي بأنّ كل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقعاً صحيح ومن قبل الله سبحانه ، وهو غير الالتزام بأنّ هذا واجب وذاك حرام.

نعم ، الالتزام على خلاف الواقع المعلوم اجمالاً قد يكون مناقضاً عقلائياً مع الالتزام المذكور ، فيكون كاشفاً عن عدم الالتزام بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصديقه ، كما انّه يكون تشريعاً محرماً فيكون ممنوعاً ، إلاّ أنّ هذا غير وجوب الالتزام المبحوث عنه في المقام كما هو واضح.

تنبيه :

يمكن أن يستدلّ على عدم الوجوب العقلي للالتزام أنّه إذا كان من ناحية ادراكه لغرض وملاك شرعي فيه فهو واضح البطلان ، إذ من أين للعقل أن يدرك أغراض المولى؟ وإن كان من ناحية حكم العقل بقبح عدم الالتزام في نفسه نظير قبح الكذب ، فالوجدان يحكم بعدمه خصوصاً وانّ الالتزام يراد به مجرد فعل اعتباري نفساني في المقام ، وإن كان من ناحية انّه من شؤون اطاعة تكاليف المولى والانقياد له فالاطاعة عنوان ثانوي تابع لما يتعلق به أمر المولى ونهيه ولا يعقل أن يكون أوسع منه ، فإذا كان متعلق الأمر الشرعي فعل الجوارح لا الجوانح فلا موجب لكونه داخلاً في الاطاعة ومقوماً لها ، وهذا بيان آخر غير ما في الكتاب.

١٤٨

حجّية الدليل العقلي

ص ١٢١ قوله : ( أمّا المقام الأوّل ـ فالضيق في عالم جعل الحكم ... ).

ليس هنا كلام زائد غير أنّ هناك صحيحة ابن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « والله لو انّ ابليس سجد لله بعد المعصية والتكبر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عزوجل ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزوجل أن يسجد له وكذلك هذه الامّة العاصية المفتونة بعد نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد تركهم الامام الذي نصبه نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم فلن يقبل الله لهم عملاً ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله من حيث أمرهم ويوالوا الامام الذي امروا بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم » (١).

وظاهر ذيلها أنّ الدخول من بابهم له موضوعية في أصل اتيان الله الظاهر في امتثال أحكامه تعالى ، وأنّ هذا غير ما امروا به من الولاية ، وهذه أقرب الروايات إلى مدعى الاخباري في المقام.

إلاّ انّه مع ذلك لا يمكن الاستدلال بها ؛ لأنّه :

أوّلاً ـ الحصر في المقام اضافي ، أي في قبال الأبواب الاخرى التي فتحها الآخرون المدّعون لخلافة النبي وولاية التشريع ، وليس في قبال مدركات العقل العملي إذا أمكن الوصول من خلالها إلى استكشاف حكم شرعي.

__________________

(١) وسائل الشيعة : أبواب مقدمات العبادات.

١٤٩

وثانياً ـ أساساً يكون استخدام العقل في استكشاف أحكام المعصومين فهو في طول بابهم لا في عرضه بحسب الدقة ، وهذا جواب صغروي آخر.

ص ١٢٤ قوله : ( المقام الثاني : دعوى قصور الدليل العقلي ... ).

مبنى هذا البحث دعوى كثرة الأخطاء والاشتباه في أحكام العقل النظري إذا استثنينا الرياضيات ؛ لكونها قريبة من الحس أو من البديهيات ، وهذا يوجب عدم حصول اليقين من الاستدلالات العقلية النظرية. وهنا بحث تاريخي لطيف في الكتاب أوّلاً. ثمّ ما ينبغي ذكره في التعليق على كلام الاخباري هنا.

ثمّ ما ذكره القوم في التعليق عليه. ثمّ بحث منطقي أساسي مع المنطق الارسطي في نفسه.

امّا تعليقنا على كلام الاخباري فيبدأ بتشقيق مراده هل هو انكار حصول اليقين بمعنى الجزم من البراهين النظرية بمجرد الالتفات إلى كثرة الخطأ فيها ـ وهو معنى انكار حصول اليقين الاصولي ـ أو انكار حصول اليقين المنطقي وهو المضمون الحقانية أي الذي لا يمكن أن لا يطابق الواقع لكونه مستنتجاً من البرهان الذي صورته بديهية الانتاج ومادته بديهية أيضاً أو منتهية إلى البداهة ، فكل عناصر البرهان مما لا يمكن خطأها فتكون النتيجة أيضاً مما لا يمكن خطأها بخلاف اليقين الاصولي أي مطلق حصول الجزم فإنّه قد يكون على أساس تصور البرهان مع كونه خاطئاً في الواقع ؛ لغفلة أو غيرها من المستدل وقد يكون على أساس الحدس أو غير ذلك.

فإذا قصد الاخباري أنّ وقوع الخطأ فضلاً عن كثرتها في البراهين النظرية العقلية يكشف عن عدم بداهة تمام عناصر الاستنتاج والاستدلال وإلاّ لاستحال ذلك ، فهذا غايته نفي حصول اليقين المنطقي لا الاصولي وما هو موضوع الحجّية

١٥٠

فيه الكاشفية المطلوبة اصولياً ، وحصول الجزم واليقين ولو كان على أساس تصور البرهان من قبل المستدل خطأ ، وهذا واضح.

وإن قصد الاخباري انكار حصول أصل الجزم مع الالتفات إلى هذه الأخطاء في مثل هذه البراهين العقلية فهذا قد ينقض عليه بنقضين ( كما في الدورة السابقة ) كلاهما غير وارد كما هو مذكور في الكتاب.

وقد يجاب بالحل ( كما في الدورة الاولى ) باننا وجداناً وبالتجربة نجد حصول اليقين والجزم رغم العلم بالأخطاء في بعض البراهين.

وهذا الجواب بهذه الصيغة ناقصة ، فإنّه يمكن للاخباري أن يناقش فيه بأنّ الاستناد إذا كان للبراهين العقلية لا للحدس أو القطع بلا سبب كالقطاع الذي هو خارج عن موضوع البحث حيث انّ البحث عن الأدلّة العقلية البرهانية فبعد فرض عدم البرهانية بمعنى عدم بداهة تمام عناصر الاستدلال بدليل وقوع الخطأ فيها كيف يحصل اليقين على أساس البرهان ، وامّا اليقين على أساس الحدس ونحوه فليس من باب الدليل العقلي البرهاني كما يدعيه الاصولي.

والصحيح أنّ كلام الاخباري في انكار حصول اليقين حتى الاصولي له تقريبان مذكوران في الكتاب ؛ والتقريب الأوّل منهما تقريب فني مبني على قواعد حساب الاحتمال وجوابه النقضي بالقضايا الحسية. وثانياً بالحل بأنّ هذا يفيد بالنسبة إلى تقييم استدلالات الغير لا الإنسان المستدل نفسه لأنّ المستدل الذي يعيش القضية البرهانية والدليل العقلي مدركه على يقينه البرهاني العقلي إنّما هو وجدانه العقلي وما يراه من انطباق القضايا البديهية والانتاج الصوري البديهي ، وهذا على حد الوجدان الحسّي المورث لليقين في الحسيات التي قبلها الاسترابادي كالفحص عن أخيك في المسجد ، فالمستدل يرى لنفسه انطباق

١٥١

البرهان في طول هذا الفحص ، وهذا العلم بالانطباق والتشخيص كالتشخيص في المدركات الحسية حاكم على العلم الإجمالي المنقسم على أطرافه بالقانون الرياضي البديهي سواء كان علماً حسّياً كما في الحسّيات أو عقلياً كما في البرهانيات (١).

لا يقال : لما إذاً يكثر الخطأ في القضايا البرهانية دون الحسية.

فإنّه يقال : بناءً على مسلك المشهور صعوبة الفحص والوجدان العقلي وكثرة الخطأ فيه دون الحسّي وبناءً على المسلك الصحيح الذي يأتي عدم بداهة مواد القضايا على ما سوف يذكر ، وكثرة التعميمات الخاطئة القبلية فيها.

وعلى كلّ حال لا ينبغي التشكيك في امكان حصول اليقين الاصولي ولو من ناحية تصور البرهان واثباته بحسب الوجدان والفحص العقلي.

والتقريب الثاني : دعوى شبهة الملازمة بين العلم بكثرة وقوع الخطأ في القضايا العقلية وبين انتفاء حصول العلم من مثل تلك البراهين.

وهذه الدعوى أيضاً غير تامة كما هو مفصّل في الكتاب.

وامّا تعليق القوم فظاهره اثبات اليقين المنطقي في موارد البراهين العقلية إذا ما روعيت قضايا المنطق التي هي بديهية أو راجعة اليها.

وأشكل عليه الاسترابادي بأنّها تعالج الصورة دون مواد القضايا في الأقيسة.

واجيب : بأنّ الخطأ لابد وأن يرجع إلى الصورة لا المادة ؛ لأنّ البرهان مؤلف من صورة بديهية ـ الشكل الأوّل للقياس المنطقي ـ أو راجعة إلى البداهة

__________________

(١) ونكتته الحكومة مبينة في محلها من الاسس المنطقية.

١٥٢

ـ اشكال القياس الاخرى والاستقراء والتمثيل ـ ومادة بديهية أو مستنتجة من قياس كذلك فالخطأ دائماً يرجع امّا إلى صورة القياس المباشر أو الأسبق منه بعد فرض لزوم الانتهاء إلى قضايا أولية بديهية.

وهذا المطلب لو قبلناه ـ وسوف يأتي عدم قبوله ـ لا يبطل مدعى الاخباري من نفي اليقين المنطقي فإنّ قواعد المنطق لو فرضت بديهية كبرىً وصغرىً أي تطبيقاً أيضاً لاستحال وقوع الخطأ في البراهين فضلاً عن كثرتها ، فهذا يكشف عن عدم البداهة لا محالة امّا في مواد القضايا أو صورة القياس كبروياً أو تطبيقها صغروياً في مقام ترتيب البرهان والاستدلال العقلي ، ومع فرض عدم البداهة في عنصر من هذه العناصر الثلاثة المتشكل منها البرهان كيف تكون النتيجة برهانية واليقين بها منطقياً يستحيل خطأه؟

لا يقال : الخطأ في التطبيق يرجع إلى الخطأ في الالتفات والملاحظة والوجدان الفعلي المتقدم ذكره فيتصور المستدل البرهان مع انّه ليس ببرهان ؛ ففي فرض كونه غير مخطىء في التطبيق ومراعات القواعد المنطقية يكون استدلاله برهاناً واليقين الحاصل منه منطقياً ، وكل يقين حتى الاصولي يكون بحسب نظر صاحبه منطقياً ، والخطأ ليس في اليقين المنطقي بل الاصولي ، أي ما يكون برهانياً بحسب نظره وتطبيقه للبرهان.

فإنّه يقال : أوّلاً ـ هذا معناه عدم إمكان البرهان في أي استدلال عقلي لعدم كون التطبيق بديهياً والنتيجة تتبع أخسّ المقدمات فعندما يلتفت المستدل إلى أنّه بلحاظ التطبيق لا بداهة أي لا يستحيل عدم المطابقة للواقع فسوف لا يكون يقينه منطقياً حتى بالنسبة إليه بل اصولي كالقطع الحاصل في الجزئيات والمحسوسات الخارجية ، لأنّ القطع البرهاني هو الذي لا يمكن أن يكون خطأ

١٥٣

لا مجرد أن يكون مطابقاً للواقع بحسب نظر القاطع وإلاّ كان كل قطع برهانياً ، ومجرد كون القياس على تقدير عدم الخطأ في التطبيق مضمون الحقانية لا يكفي لكون النتيجة كذلك طالما هناك عنصر ثالث في الاستدلال وهو التطبيق لكبريات القياس وأشكاله ، وهل هذا إلاّ أن يقال في المحسوسات أيضاً بأنّه لو لم يخطأ في التطبيق فالنتيجة مضمون الحقانية لاستحالة التناقض مثلاً بين الموجبة الكلية المستقرئة والسالبة الجزئية ، وهي قضية بديهية فتكون قصة البرهان وكونه مضمون الحقانية كلاماً صورياً لا يرجع إلى محصل ، لأنّه يشبه قولنا : انّ كل يقين لم يخطأ فيه المستدل وكان مطابقاً للواقع فلا خطأ فيه!!

وثانياً ـ حيث انّ تطبيق قضايا المنطق وأشكالها الصورية بحسب الوجدان العقلي من الامور المحسوسة لدى الوجدان العقلي بالذات لا بالعرض فتكون كالعلوم الحضورية يقل فيها الخطأ أو ينبغي أن ينتفي بمجرد الالتفات والتروّي ، فمع كون العنصرين الآخرين ـ مواد القضايا وكبريات المنطق ـ بديهيين أيضاً كيف حصل كثرة الخطأ في البراهين العقلية بحيث أصبح أكثر من الامور الحسية الخارجية المدركة بالعرض؟ وهذا بنفسه يكشف عن خلل في هذا الطرز من التفكير المنطقي.

وأمّا البحث مع المنطق الارسطي فمجمله بالنحو المناسب للمقام أنّ المنطق الأرسطي يقسّم المعارف البشرية إلى قائمتين :

١ ـ القضايا اليقينية البديهية وهي التي يدركها العقل ويصدق بها قبل الاستدلال بتمام أشكاله ، ومن هنا تكون أولية ، أي مدركة قبل الاستدلال أو الاستقراء ، وقد تسمى بالمدركات العقلية الأولية ، أي بلا استدلال أو مع استدلال واضح بديهي للكل ، ويسمّى العقل المدرك لها بالعقل الأوّل.

١٥٤

٢ ـ القضايا الثانوية أو النظرية أو المكتسبة أو البعدية ، وهي التي يدركها العقل ويصدق بها من خلال الاستدلال بحيث من دونه وبقطع النظر عنه لا تصديق بها ، وقد يسمّى العقل المدرك لها بالعقل الثاني.

وفيما يتعلق بالقائمة الاولى يحصرها المنطق الارسطي في ست قضايا.

١ ـ الأوليات : وهي التي يكفي نفس تصور القضية للتصديق بها كالكل أكبر من الجزاء وامتناع التناقض.

٢ ـ الفطريات : وهي التي قياساتها معها ، كانقسام عدد الزوج إلى متساويين ، أو استحالة الدور ، ويمكن ارجاعها إلى الأوّل.

٣ ـ التجريبيات.

٤ ـ المحسوسات.

٥ ـ الحدسيات : ( الملاحظة المنظمة ).

٦ ـ المتواترات.

وبالنسبة للقائمة الثانية يدعي المنطق الارسطي أنّ الاستدلال المنطقي ينقسم إلى القياس والاستقراء والتمثيل ، إلاّ أنّ الثاني والثالث ـ حيث لا يمكن الاستقراء التام في القضايا المستنتجة بالاستقراء ـ لابد وأن يرجعا إلى القياس المستتر وإلاّ لم يكن الاستنتاج صحيحاً.

والقياس اقتراني واستثنائي ، والاقتراني على أربعة أشكال ، ترجع ثلاثة منها إلى الشكل الأوّل ، والاستنتاج على أساس القياس الاستثنائي يكون على أساس التلازم المنطقي كالتلازم بين الجزئية والكلية والأصل والعكس في الصدق.

١٥٥

كما انّ الاستنتاج على أساس القياس الاقتراني يكون على أساس التضمن حيث انّ كبرى القياس الكلية يثبت محمولها بتوسط الحد الأوسط على موضوع الحد الأصغر ، ومن هنا يكون سير الاستنتاج في الاستدلال القياسي من العام إلى الخاص ، وعلى أساس تطبيق الكليات والكبريات البديهية على الأخص منها.

ومن هنا وجّه إلى هذا المنهج الاشكال بأنّه لا تكون هناك معرفة جديدة ونمو وزيادة حقيقية في المعرفة عن طريق القياس والمنهج الأرسطي لأنّه ليس فيه إلاّ تحليل ما هو مجمل وتطبيق ما هو عام ، واستخراج لما هو كامن في الكبرى على الصغريات.

وبعبارة اخرى : سوف لا نحصل بناءً على هذا المنهج على كبريات كلية زائداً على القضايا العقلية الأولية.

إلاّ أنّ هذا الكلام قابل للدفع بناءً على قبول رجوع الاستقراء إلى قياس مستتر ، فإنّ الكبريات المستنتجة من هذا القياس تكون مساوقة مع كل المعارف الجديدة.

والمنطق الارسطي بعد أن فرض يقينية وحقانية القضايا الست البديهية ( القائمة الاولى ) المدركة بالعقل الأوّل وكان استنتاج المعارف النظرية منها بالعقل الثاني على أساس القياس البديهي ـ بنحو التضمن أو الاستلزام المنطقي ـ من هنا حكم بحقانية مدركات العقل الثاني أيضاً إذا روعيت قضايا المنطق الصوري ولم يقع خطأ في تطبيقها.

ولنا مع هذا المنهج كلامان كلام يتعلّق بالعقل الأوّل وكلام بالعقل الثاني :

أمّا الكلام الأوّل : فاجماله أنّ القضايا الأولية والفطرية أولية قبلية أي يدركها

١٥٦

العقل الأوّل ، وامّا القضايا الأربع الباقية فكلها ثانوية وبعدية ، ولا يمكن أن تكون قبلية ، فإنّ أوضح تلك القضايا الأربع هو المحسوسات ( وتتوقف الثلاثة الاخرى عليها أيضاً بحيث إذا ثبت عدم أولية المحسوسات ثبت ذلك في الثلاثة الاخرى لا محالة ) لا تكون أولية بل مستنتجة ـ والبحث عن المحسوس الخارجي الموضوعي لا الذهني الوجداني كالاحساس بالألم أو بالادراك نفسه مما يسمّى بالعلم الحضوري ـ وقد كانت هناك ثلاث نظريات سابقاً في اثبات حقانية المحسوسات ومطابقتها للواقع.

١ ـ دعوى بداهتها وأوليّتها ، وقد ناقش فيه جمع كالعلاّمة الطباطبائي بأنّها لو كانت بديهية لم يكن يقع فيها الخطأ.

٢ ـ دعوى بداهة أصل الواقع الموضوعي في الخارج على نحو الاجمال دون التفاصيل ، وهذا ما اختاره الطباطبائي.

٣ ـ دعوى اثبات ذلك بقانون العلية ، وهذا ما سلكناه في فلسفتنا وهو غير تام ، لأنّ هذا القانون يثبت وجود علة لاحساساتنا ، وامّا انها الواقع الموضوعي الخارجي أو حركة جوهرية ذاتيّة داخل نفوسنا فهو لا يتشخص بكبرى العلية.

والصحيح ما أثبتناه في مبحث الاستقراء من أنّ اثبات الواقع الموضوعي للمحسوسات إنّما يكون على أساس منهج المنطق الاستقرائي الذي سوف يأتي شرحه في الكلام الثاني ، وعلى هذا تكون هذه القضايا الأربع كلها بعدية لا قبلية ، ولكن تثبت بمنهج المنطق والاستدلال الاستقرائي لا القياسي ، والذي اصطلحنا عليه بالعقل الثالث في قبال العقل الأوّل والثاني.

وأمّا الكلام الثاني : فهو يتعلّق بما ذكره المنطق الأرسطي من حقانية المعارف

١٥٧

اليقينية وما يتولد منها بالمنهج القياسي لكونه برهاناً قائماً على أساس التلازم المنطقي البديهي فيكون مضمون الحقانية أيضاً.

ولنا تعليقان هنا :

١ ـ أنّ القضايا اليقينة يمكن الخطأ فيها ، أي ليست مضمونة الحقانية ، لأنّ الإنسان قد يخطأ في قضية أولية لا بمعنى انها ثانوية ويتصورها أولية ـ وإن كان هذا معقولاً أيضاً كما قلنا في الحسيات ـ بل بمعنى أنّه يخطأ فيها أو يتصورها كلية ولم تكن بكلية فإنّ أوليّة المعرفة وعدم احتياجها إلى الاستدلال لا تنافي وقوع الخطأ فيها أو في حدودها ، وهذه نكتة أساسية وقع الخلط فيها عند المنطق الارسطي ببرهان انّه قد يشك الإنسان في معلومه بالذات الذي هو أيضاً لا يحتاج إلى الاستدلال بل لا يمكن الاستدلال عليه ، كما يشك في انّه شاك أو ظانّ ، والاستدلالات على استحالة التسلسل من الشواهد على وقوع الأخطاء في مواد البراهين ، وأكثر الأخطاء في الاستدلالات العقلية تنشأ من هذه الناحية خصوصاً بعد التركيب وتأليف أقيسة واستدلالات منها.

٢ ـ انّ ما ذكر من انّ سير التفكير البشري من العام إلى الخاص على طريقة القياس دائماً غير صحيحة ، بل هناك سير آخر من العام إلى الخاص أيضاً وهو المنهج الاستقرائي في كل القضايا المستقرئة والتجريبية والحسية وكل القضايا الأربع المتقدمة ، والمنطق الارسطي كان يرجعه إلى قياس مستتر كبراه : ( الصدفة لا تكون أكثرية ) ولكن أثبتنا في منطق الاستقراء عدم أولية هذه القضية. وبذلك ينهار مبنى هذا المنطق في باب كل الكبريات الخارجية المستحصلة من التجربة والاستقراء بحيث لابد من منطق آخر شرحناه في الاسس المنطقية.

١٥٨

ص ١٣٥ قوله : ( المقام الثاني ـ مدركات العقل العملي ... ).

ولا كلام زائد في هذا المقام عمّا في الكتاب إلاّمن ناحية حقيقة الحسن والقبح العقليين ، فإنّه يمكن أن يقال أنّ فيهما ثلاث اتجاهات رئيسية :

١ ـ أنّهما من القضايا الاعتبارية الموضوعة من قبل العقلاء لحفظ نظامهم ـ المشهورات ـ وقد ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة والاصوليين.

٢ ـ أنّهما من القضايا التصديقية الواقعية ، وهذا تحته ثلاثة أقوال :

١ ـ أنّهما راجعان إلى المصلحة والمفسدة النوعيّين لا الشخصين.

٢ ـ أنّهما راجعان إلى سعة في الوجود الحقيقي العيني.

٣ ـ أنّهما راجعان إلى لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود نظير الامكان والامتناع والضرورة في مدركات العقل النظري. فكأنّ هناك ضرورة يدركها العقل النظري وهي ضرورة وجودية وضرورة يدركها العقل العملي وهي ضرورة خلقية عملية وكلاهما من المعقولات الفلسفية الثانوية التي لها ثبوت في لوح الواقع الأوسع من لوح الوجود.

٣ ـ أنّهما راجعان إلى خصوصية ذاتية في العقل المجرد وهي الابتهاج تجاه الفعل الحسن والكراهة والاشمئزاز تجاه الفعل القبيح.

وقد تقدّم الكلام مختصراً عن ذلك في مبحث التجري وتفصيله في علم آخر. ثمّ حيث انّ مدركات العقل العملي لا يمكن بمفردها أن يستكشف منها حكم شرعي بلا ضمّ قاعدة الملازمة النظرية وهي غير تامة على ما بيّن مفصلاً في الكتاب هنا وفيما سبق فلا موضوع لأصل هذا النقاش بين الاخباري والاصولي في هذا الدليل العقلي.

١٥٩

ص ١٤٠ قوله : ( المقام الثالث ـ في دعوى قصور الدليل العقلي من حيث المنجزية والمعذرية ... ).

وليس في هذا المقام كلام زائد إلاّبلحاظ ما ذكر من الاعتراض الثاني على التمسك بروايات النهي عن العمل بالرأي وانّ دين الله لا يقاس بالعقول. من دعوى المعارضة بنحو العموم من وجه من طائفتين من الروايات :

١ ـ روايات الحثّ على لزوم اتباع العلم وجواز القضاء والعمل به وبراءة ذمّة العامل به.

٢ ـ روايات الحثّ على الرجوع إلى العقل وانّ العقل ما عبد به الرحمن وانّه المعاقب والمثاب ونحو ذلك مما هو موجود في أوّل الكافي كتاب العقل والجهل ـ وفيها ما هو صحيح السند ـ.

وقد حكم السيد الشهيد بوقوع التعارض بينها وبين روايات النهي عن العمل بالرأي بنحو العموم من وجه لشمول العلم للعلم الحاصل من الدليل السمعي أو العقلي حتى إذا كان حاصلاً بالنظر والرأي ، وشمول الرأي للظنون الاستحسانية ونحوها وليست علماً وشمول العقل للحكم العقلي البديهي الفطري دون الرأي فإنّه غير صادق فيه وشمول الرأي للظنون دون العقل فإنّه لا يصدق فيه وبعد التعارض والتساقط يثبت حجّية القطع الحاصل من الدليل العقلي.

ويمكن أن يناقش في ذلك :

أوّلاً ـ انّ كلتا الطائفتين مفادها حكم ارشادي لا تأسيسي فليس في شيء منهما اثبات حجّية ومنجزية أو رفع لها ، ومن الواضح انّ الارشاد إلى الحكم

١٦٠