الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

فجعت به من إخوانك؟

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم

وساقتهم نحو المنايا المقابر

فهم في بطون الأرض بعد ظهورها

محاسنهم فيها بوال دوائر

وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها

وضمتهم تحت التراب الحفائر

فكم خرمت أيدي المنون من قرون ، وكم غيرت الأرض ببلائها وغيبت في ترابها ممن عاشرت من البشر وشيعتهم إلى القبور ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الإفلاس.

ثم يتابع في نصحه لأهل الدنيا :

وأنت على الدنيا مكب منافس

لخطابها فيها حريص مكاثر

على خطر تمسي وتصبح لاهيا

أتدري بماذا لو عقلت تخاطر

وإن امرءا يسعى لدنياه جاهدا

ويذهل عن أخراه لا شك خاسر

فحتى م على الدنيا إقبالك؟ وبمغرياتها اشتغالك؟ وقد أسرع إلى قذالك الشيب البشير ، وأنذرك النذير ، وأنت ساه عما يراد بك ولاه عن غدك وقد رأيت بأم عينك انقلاب أهل الشهوات ، وعاينت ما حل بهم من المصائب والنكبات.

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى

عن اللهو واللذات للمرء زاجر

أبعد اقتراب الأربعين تربص

وشيب قذال منذ ذلك ذاعر

كأنك معني بما هو صائر

لنفسك عمدا أو عن الرشد حائر

فحول نظرك إلى الأمم الماضية والقرون الخالية كيف اختطفتهم عوادي الأيام فأفناهم الحمام ، فأمحت من الدنيا آثارهم وأصبحوا رمما تحت التراب إلى يوم الحشر والحساب.

وأضحوا رميما في التراب وأقفرت

مجالس منهم عطلت ومقاصر

وحلوا بدار لا تزاور بينهم

وأنى لسكان القبور التزاور

فما أن ترى إلا قبورا ثووا بها

مسطحة تسفي عليها الأعاصر

١٨١

ثم يحذر (ع) المتكبرين ويعظ الملوك الجبارين الذين نزل بهم ما لا يصد فتعالى الله العزيز القهار ، مبيد المتكبرين وقاصم الجبارين الذي ذل لعزه كل سلطان ، وباد بقوته كل ديان :

مليك عزيز لا يرد قضاؤه

حكيم عليم نافذ الأمر قاهر

عنا كل ذي عز لعزة وجهه

فكم من عزيز للمهين صاغر

لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت

لعزة ذي العرش الملوك الجبابر

ويتابع (ع) تحذيره للناس عامة من الدنيا ومكائدها ، وما نصبت للناس من مصائبها ، وتحلت لهم من زينتها وأظهرت لهم من بهجتها ومن شهواتها وأخفت عنهم من مكائدها وقواتلها :

وفي دون ما عينت من فجعاتها

إلى دفعها داع وبالزهد آمر

فجد ولا تغفل وكن متيقظا

فعما قليل يترك الدار عامر

فشمّر ولا تفتر فعمرك زائل

وأنت إلى دار الإقامة صائر

ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها

وإن نلت منها غبه لك ضائر

وما دام اللبيب على ثقة من زوال الدنيا وفنائها ، فلماذا يحرص عليها ويطمع في بقائها ، وكيف تنام عينه وتسكن نفسه وهو يتوقع الممات في جميع أموره!!

إلا له ، ولكنا نغر نفوسنا

وتشغلنا اللذات عما نحاذر

وكيف يلذ العيش من هو موقن

بموقف عدل يوم تبلى السرائر

كأنا نرى أن لا نشور ، وإنما

سدى ما لنا بعد الممات مصادر

وبعد الوقوع في الخطايا وانغماسه في الرزايا يبكي على ما سلف ويتحسر على ما فاته من دنياه ، فيشرع بالاستغفار حين لا ينجيه لا استغفار ولا اعتذار من هول المنية ونزول البلية :

أحاطت به أحزانه وهمومه

وأبلس لما أعجزته المقادر

فليس له من كربة الموت فارج

وليس له مما يحاذر ناصر

١٨٢

وقد جشأت خوف المنية نفسه

ترددها منه اللها والحناجر

فتذكر أيها الإنسان الحالة التي أنت صائر إليها لا محالة ، فإنك منقول إلى دار البلى ومدفوع إلى هول ما ترى :

ثوى مفردا في لحده وتوزعت

مواريثه أولاده والأصاهر

واحنوا على أمواله يقسمونها

فلا حامد منهم عليها وشاكر

فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها

ويا آمنا من أن تدور الدوائر

ولم تتزود للرحيل وقد دنا

وأنت على حال وشيك مسافر

فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي

وعمري فان والردى لي ناظر

وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت يجازي عليه عادل الحكم قادر

تخرب ما يبقى وتعمر فانيا

فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر

وهل لك إن وافاك حتفك بغتة

ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر

أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي

ودينك منقوص ومالك وافر

روى الزهري قال : كان علي بن الحسين عليه‌السلام يناجي ربه تعالى ويقول : « قل لمن قل عزاؤه ، وطال بكاؤه ، ودام عناؤه ، وبان صبره ، وتقسم فكره ، والتبس عليه أمره ، من فقد الأولاد ، ومفارقة الآباء والأجداد ، ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد؟.

تعز فكل للمنية ذائق

وكل ابن أنثى للحياة مفارق

فعمر الفتى للحادثات دريئة

تناهبه ساعاتها والدقائق

كذا نتفانا واحد بعد واحد

وتطرقنا بالحادثات الطوارق

وفيم وحتى م الشكاية والردى

جموح لآجال البرية لاحق

فكل ابن أنثى هالك وابن هالك

لمن ضمنته غربها والمشارق

فلا بد من إدراك ما هو كائن

ولا بد من اتيان ما هو سابق

فما للإنسان والخلود إلى دار الأحزان والهوان ، وقد نطق القرآن بالبيان الواضح في سورة الرحمن ، ( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ).

١٨٣

فالشباب للهرم ، والصحة إلى السقم ، والوجود إلى العدم ، فلماذا التلهف والندم وقد خلت من قبلنا الأمم :

أترجو نجاة من حياة سقيمة

وسهم المنايا للخليقة راشق

سرورك موصول بفقدان لذة

ومن دون ما تهواه تأتي العوائق

وحبك للدنيا غرور وباطل

وفي ضمنها للراغبين البوائق

فأين السلف الماضون وأين الأهلون والأقربون ، وأين الأنبياء المرسلون فقد طحنتهم المنون ، وفقدتهم العيون وإنا إليهم صائرون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

إذا كان هذا نهج من كان قبلنا

فإنا على آثارهم نتلاحق

فكن عالما أن سوف تدرك من مضى

ولو عصمتك الراسيات الشواهق

فما هذه دار المقامة فاعلمن

ولو عمر الإنسان ما ذر شارق

فتأمل وتبصر واسأل أين من بنى القصور وهزم الجيوش وجمع الأموال ، أين ملوك الفراعنة والأكاسرة والغساسنة؟

كأن لم يكونوا أهل عز ومنعة

ولا رفعت أعلامهم والمناجق

ولا سكنوا تلك القصور التي بنوا

ولا أخذت منهم بعهد مواثق

وروى طاووس الفقيه قال : رأيت زين العابدين (ع) يطوف بالبيت من العشاء إلى السحر ويتعبد ثم قال : « ... إذا قيل للمخفين جوزوا وللمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب أما آن لي أن أستحي من ربي؟ ثم أنشأ يقول :

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين محبتي

أتيت بأعمال قباح ردية

وما في الورى خلق جنى كجنايتي

وحدث عبد الله بن المبارك أنه كان في بعض السنين يساير الحاج إذ

١٨٤

رأى صبيا سباعيا أو ثمانيا يسير في ناحية الحاج بلا زاد ولا راحلة فقال له : مع من قطعت البر؟ فقال : مع الباري جل شأنه ، فسأله عن راحلته وزاده فأجابه : بأن زاده تقواه وراحلته رجلاه وقصده إلى مولاه سبحانه وتعالى ، فكبر في عينه وازداد تعجبه فتشوق إلى استكشاف نسبه فقال : هاشمي علوي فاطمي. وكان هذا يفسر مواهبه الأدبية فسأله عن معرفته بالشعر فاستنشده من شعره فقال :

لنحن على الحوض رواده

نذود ونسقي وراده

وما فاز من فاز إلا بنا

وما خاب من حبنا زاده

ومن سرنا نال منا السرور

ومن ساءنا ساء ميلاده

ومن كان غاصبنا حقنا

فيوم القيامة ميعاده

ثم فارقه ولم يشاهده إلا بالأبطح ، فرآه جالسا وحوله جماعة يسألونه عما أبهم عليهم من الحلال والحرام وما أشكل عليهم فإذا هو زين العابدين (ع) ومما يروى له صلوات الله عليه قوله :

نحن بنو المصطفى ذوو غصص

يجرعها في الأنام كاظمنا

عظيمة في الأنام محنتنا

أولنا مبتلى وآخرنا

يفرح هذا الورى بعيدهم

ونحن أعيادنا مآتمنا

والناس في الأمن والسرور وما

يأمن طول الزمان خائفنا

وما خصصنا به من الشرف ال

طائل بين الأنام آفتنا

يحكم فينا والحكم فيه لنا

جاحدنا حقنا وغاصبنا (١)

ذكر الألوسي في روح المعاني عند قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ

__________________

(١) راجع زين العابدين للمقرم عن مناقب ابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ٢٥٥. وبحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٢٦.

١٨٥

النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (١). علم الأسرار والحقيقة ثم قال أشار إلى هذا رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتننا

وقد تقدم في هذا أبو حسن

إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا (٢)

وذكر ابن شهر آشوب في المناقب أن الأصمعي قال : كنت أطوف ليلة بالبيت الحرام فإذا شاب ظريف عليه ذؤابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول نامت العيون إلى أن قال :

يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك ربي دعاء قد أمرت به

فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالنعم (٣)

وقال عليه‌السلام مخاطبا الحكام الظالمين :

لكم ما تدعون بغير حق

إذ ميز الصحاح من المراض

عرفتم حقنا فجحدتمونا

كما عرف السواد من البياض

كتاب الله شاهدنا عليكم

وقاضيا الإله فنعم قاض (٤)

وقال عليه‌السلام ليزيد بن معاوية :

لا تطمعوا أن تهينونا فنكرمكم

وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا

والله يعلم إنا لا نحبكم

ولا نلومكم أن لا تحبونا

__________________

(١) المناقب ، ج ٣ ، ص ٢٦٨.

(٢) المائدة ، الآية ٦٧.

(٣) زين العابدين للمقرم ، ص ٢٥٨.

(٤) المناقب ، ج ٢ ، ص ٢٥٢.

١٨٦

قال : صدقت يا غلام ، ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين ، والحمد لله الذي قتلهما وسفك دماهما.

فقال عليه‌السلام : لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد (١).

ومن الأشعار المنسوبة إلى الإمام زين العابدين مقطوعتين من المناجاة المنظومة ذكر أنهما وجدتا بخط بعض العلماء.

الأولى :

ألم نسمع بفضلك يا منايا

دعاء من ضعيف مبتلاء (٢)

غريقا في بحار الغم حزنا

أسيرا بالذنوب والخطاء

أنادي بالتضرع كل يوم

مجدا بالتبتل والدعاء

لقد ضاقت علي الأرض طرا

وأهل الأرض ما عرفوا دوائي

فخذ بيدي إني مستجير

بعفوك يا عظيم ، ويا رجائي

أتيتك باكيا فارحم بكائي

حيائي منك أكثر من خطائي

ولي هم وأنت لكشف همي

ولي داء وأنت دواء دائي

وأيقظني الرجاء فقلت ربي

رجائي أن تحقق لي رجائي

تفضل سيدي بالعفو عني

فإني في بلاء من بلاء

والثانية :

إليك يا رب قد وجهت حاجاتي

وجئت بابك يا ربي بحاجاتي

أنت العليم بما يحوي الضمير به

يا عالم السر علام الخفيات

اقض الحوائج لي ربي فلست أرى

سواك يا رب من قاض لحاجاتي

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٤٢.

(٢) هذه الأبيات نسبها السيد حسن النوري في الصحيفة السجادية الرابعة إلى الإمام (ع).

١٨٧

وهكذا كما ترى اختلال الوزن والركة في المعنى والنظم ظاهرة بوضوح. والذي أراه أن كلا المقطوعتين وما يشبههما من الشعر الركيك من الموضوعات على الإمام عليه‌السلام ، إذ كيف تنسب للإمام مثل هذه الأبيات المفككة الركيكة التي تخلو من أية مسحة أدبية أو بلاغية ، وهو صاحب الشأن الأدبي الرفيع يكفيه فخرا أنه صاحب الصحيفة السجادية التي لم يؤثر في الكلام العربي مثل فصاحتها وبلاغتها.

كما نسب إلى الإمام زين العابدين ديوان شعر حافل بالنصائح والمواعظ وتوجد منه نسخة مخطوطة في مكتبة الإمام أمير المؤمنين بخط السيد أحمد بن الحسين الجزائري ، وقع الفراغ من كتابتها سنة ١٣٥٨ ه‍ وقد استنسخها عن نسخة بخط السيد محمد بن السيد عبد الله الشوشتري المتوفى سنة ( ١٢٨٣ ه‍ ).

وقد نشره الدكتور حسين علي محفوظ في مجلة البلاغ العدد الثامن من السنة الأولى ص ٢٤ وقال في تقديمه له : « ينسب إلى السجاد عليه‌السلام ٣٨٧ بيتا من الشعر جمعها شيخنا المرحوم محمد علي التبريزي المدرس المتوفى سنة ( ١٣٧٣ ه‍ ) من كتاب التحفة المهدية المطبوع في تبريز سنة ١٣٥٧ ه‍ وهو القسم الثاني من ديوان المعصومين الذي سماه : الدر المنثور ، وقد أهدى إلي صديقنا الباحث الفاضل الكريم مرتضى المدرس نسخة خطية من شرح ديوان السجاد (ع) مكتوبة في أوائل القرن الثالث عشر الهجري فيه ٢٩ مقطوعة من بحر الوافر ذوات خمسة أبيات مرتبة على الهجاء عدتها ١٤٥ بيتا ، وإذا صح أن ينسب شيء من الشعر إلى الإمام فالظن كل الظن أن في المضامين إليه من المنظوم ما هو قيد كلماته ، ونظم معانيه ، واتباع منهجه ، ودليل سيرته ، واقتداء بهداه .. ».

ولا يخالني الشك في عدم صحة نسبة هذا الديوان إلى الإمام زين العابدين (ع) لا لمعانيه وإنما لركاكة ألفاظه وضعف صياغته. والذي يطالع

١٨٨

للإمام ما أثر عنه من غرر الحكم والآداب يجد أن الإمام قد استعمل أفصح الألفاظ وأبلغها ، وأعذب الأسلوب وأكثره جاذبية للقارىء. فقد كان عليه‌السلام من أفصح بلغاء الأمة العربية على الإطلاق.

وما أذهب إليه أنه ليس من نظم الإمام (ع) وإنما نظمه بعض المعجبين بمواعظه وحكمه ونسبه إليه. لكن هذا الناظم لا يجيد النظم ، فقد صاغ أغلب الأبيات بألفاظ ركيكة تخلو من حسن الديباجة وجمال الأسلوب.

ومن آثار الإمام زين العابدين المخطوطة ذكر الدكتور حسين علي محفوظ أن للإمام مصاحف تنسب إلى خطه الشريف توجد في مكاتب شيراز وقزوين وأصفهان ومشهد (١).

التكافل الاجتماعي

كان الإمام عليه‌السلام يحث أصحابه وشيعته على المواساة فيما بينهم والإحسان إلى الآخرين لأن ذلك خير ضمان لوحدتهم واجتماع كلمتهم ، وقد أثر عنه وعن الأئمة الأطهار الكثير من النصائح الرفيعة في هذا الشأن وهذه بعض منها : قال عليه‌السلام :

١ ـ « من قضى لأخيه حاجة قضى الله له مائة حاجة ، ومن نفّس عن أخيه كربه نفّس الله عنه كربه يوم القيامة بالغا ما بلغت ، ومن أعانه على ظالم له ، أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام ، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له فسر بقضائها ، كان كإدخال السرور على رسول الله (ص) ، ومن سقاه من ظمأ ، سقاه الله من الرحيق المختوم ، ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن كساه من عري ، كساه الله من استبرق وحرير ، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على

__________________

(١) مجلة البلاغ العدد السابع السنة الأولى ، ص ٥٩.

١٨٩

المسكي من الثوب سلك ، ومن كفاه ما أهمه أخدمه الله من الولدان ، ومن حمله على راحلة بعثه الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة ، ومن كفنه عند موته كساه الله يوم ولدته أمه إلى يوم يموت ، ومن زوجه زوجة يأنس بها ، ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه ، ومن عاده في مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف ، وتقول : طبت ، وطابت لك الجنة .. والله لقضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام .. » (١)

يحفل هذا الحديث بتعاليم إنسانية رفيعة المستوى تدعو المسلمين إلى التعاون والتضامن والمحبة ، مما يمتن أواصر المودة والرحمة والتعاطف بينهم. ويعتبر هذا الحديث وأمثاله من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام ، فالمسلم أخ المسلم يشعر معه في أفراحه ويساعده في أتراحه ويعمل من أجل سعادته بكل ما يستطيع بالمال أو اليد أو اللسان وهو أضعف الإيمان.

٢ ـ وقال عليه‌السلام في المؤاساة والإحسان لضمان وحدة المسلمين : « إن أرفعكم درجات وأحسنكم قصورا وأبنية (٢) ، أحسنكم إيجابا للمؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم ، إن الله ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة (٣) طيبة يكلم بها أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ألف عام يقدمه ، وإن كان من المعذبين بالنار ، فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره .. » (٤).

في هذا الحديث الطيب حث الإمام (ع) المسلمين ليعملوا على

__________________

(١) ثواب الأعمال ، ص ٨١.

(٢) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٤. والقصور يعني في الجنة.

(٣) راجع سورة إبراهيم ، الآية ٢٤ ـ ٢٦.

(٤) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٤.

١٩٠

مواساة الفقراء والإحسان إليهم ، وذكر ما يترتب عليه من الأجر الجزيل عند الله.

وعد من المواساة الكلمة الطيبة التي يقدمها الإنسان المسلم لأخيه المسلم ، فإذا لم يكن لديه مالا يساعد به المحتاجين فيمكن مساعدتهم بيده ، وإذا تعذر عليه ذلك فباستطاعته مساعدتهم ومواساتهم بفكره ، بكلمة طيبة تفيدهم وتهديهم وتطيب خاطرهم. وقد عد هذا الأمر واجب شرعي على المسلمين.

٣ ـ وقال الإمام عليه‌السلام : « من بات شبعانا وبحضرته مؤمن جائع طاو فإن الله تعالى يقول لملائكته : اشهدوا على هذا العبد ، أمرته فعصاني ، وأطاع غيري ، فوكلته إلى عمله ، وعزتي وجلالي لا غفرت له أبدا .. » (١).

في هذا الحديث تأكيد صريح على عاتق كل مسلم تجاه إخوانه في الإيمان ، فعليه أن يشعر معهم في محنهم ومصائبهم وحرمانهم في مجتمعهم الظالم الذي كان يحكمه حكام طغاة.

كما يمكن أن نعد هذا الحديث وأمثاله مما أثر عن أئمة أهل البيت (ع) من العناصر الرئيسية في بناء التكافل الاجتماعي الذي أسسه الإسلام ، ليقضي بصورة جازمة على الفقر والحرمان في المجتمع الإسلامي.

٤ ـ ولم يكتف الإسلام بحث المسلمين على مساعدة إخوانهم في الدين ، بل يحاسبهم على تقصيرهم إذا ما حصل. قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « من أطعم مؤمنا حتى يشبع ، لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل إلا الله رب

__________________

(١) زين العابدين للقرشي عن عقاب الأعمال ، ص ٣٠.

١٩١

العالمين .. وأضاف عليه‌السلام : « من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان ، ثم تلا قوله تعالى : ( أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (١).

إن إطعام الجائع ودفع السغب عنه ضرورة إسلامية ملحة يسأل عنها الإنسان المسلم ويحاسب عليها ، وبصورة خاصة إذا كان الفقير بحاجة ماسة إلى الطعام.

فمساعدة المعوزين توطد العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وتحيي في نفوسيهم المحبة ، مصدر كل خير وعطاء. ثم يمكن اعتبار ما ينفق على المحتاجين في هذا المجال من الصدقات والصدقة زكاة وهي ركن أساسي من فروع الدين الإسلامي. من هنا كان الواجب الشرعي يقضي على المسلمين المؤمنين مساعدة إخوانهم وقضاء حوائجهم.

٥ ـ وفي ذلك قال الإمام السجاد عليه‌السلام : « من أطعم مؤمنا من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، ومن سقى مؤمنا من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن كسى مؤمنا من عري ، لم يزل في ستر الله وحفظه ما بقيت منه خرقة .. » (٢).

يحرص الإسلام كل الحرص على شد أزر المسلمين وتضامنهم صفا واحدا لدرء الظلم عنهم والوقوف في وجه الظالمين ، والمنحرفين ، وليس لهم ذلك إلا بمساعدتهم لبعضهم البعض وسد حاجات إخوانهم في الإيمان مهما كانت المساعدات بسيطة.

__________________

(١) البلد ، الآية ١٢ ـ ١٣ ـ ١٤. والسغبان : الجائع.

(٢) المؤمن ، ص ١٩ للحسين بن سعيد الأهوازي من مخطوطات السيد الحكيم تسلسل ١٩٦ ، وقد قامت بتحقيقه ونشره مدرسة الإمام المهدي في قم ( عج ) سنة ١٤٠٤ ه‍ ـ وقد ورد هذا الحديث تحت رقم ١٥٩ ، ص ٦٢. راجع زين العابدين للقرشي ، ص ٨١.

١٩٢

٦ ـ صلة الأرحام :

دعا الإسلام إلى صلة الأرحام وحث المسلمين على العلم بها وحذر من قطيعتها وذلك لما يترتب عليها من التواصل والمحبة إذا وصلت ، ومن المضاعفات السيئة إذا قطعت ، والإمام زين العابدين (ع) حث على صلة الأرحام فقال : « من سره أن يمد الله في عمره ، وأن يبسط له في رزقه ، فليصل رحمه ، فإن الرحم لها لسان يوم القيامة ذلق تقول : يا رب صل من وصلني ، واقطع من قطعني ، فالرجل ليرى بسبيل خير إذا أتته الرحم التي قطعها فتهوي به إلى سفل قعر في النار .. » (١).

لقد تواترت الأخبار عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام في الحث على صلة الأرحام ، فالذي يصل رحمه يمد الله في عمره ، ويزيد في رزقه ويكسب الأجر الجزيل في الدار الآخرة. وصلة الأرحام توجب تماسك المجتمع وشيوع المحبة والمودة والصفاء بين المسلمين ، وذلك من أهم ما يدعو إليه الإسلام.

إن هذه المبادىء الإنسانية الرفيعة التي دعا إليها الإسلام ورفع شعارها تمثل الجوهر الحقيقي له ، ولو طبقها المسلمون على واقع حياتهم لأصبحوا سادة الأمم وقادة الشعوب ولساد الأمن والأمان والسلم والسلام على الدنيا بأسرها.

الإسلام دين إنساني يراعي مصالح الإنسان في كل مكان ليعيش عيشة حرة كريمة ، ويعمل على تنوير بصائر الناس ليكسبوا أجر الدارين الدنيا والآخرة. فهل يفقه المسلمون جوهر إسلامهم اليوم؟ وهل يعقلوا أن بعدهم عن الوحدة الإسلامية يعني بعدهم عن الخط الإسلامي الذي رسمه لهم النبي الأكرم في دعوته المباركة؟ إن عزة المسلمين تكمن في تعاونهم على البر والتقوى ، وفي تآلفهم ورص صفوفهم صفا واحدا ليستطيعوا

__________________

(١) البحار واللسان الذلق : اللسان الفصيح.

١٩٣

الوقوف في وجه أعداء الله وأعداء الإنسانية عامة. وهذا أمر سهل جدا لو تنازلوا عن حبهم للمنصب وتعلقهم في هذه الدنيا الفانية.

من هنا كان نداء الإسلام لأهل الفضل وما يستحقون من خير وجزاء. ولهذا حثّ الإمام زين العابدين (ع) أصحابه ودعاهم إلى إسداء الفضل وعمل المعروف إلى الناس كافة. قال (ع) :

٧ ـ « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم أهل الفضل ، فيقوم ناس قبل الحساب ، فيقال لهم : إنطلقوا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم إلى أين؟ فيقولون : إلى الجنة ، فإذا سألوهم عما استحقوا ذلك ، يقولون : كنا إذا جهل علينا حلمنا ، وإذا ظلمنا صبرنا ، وإذا أسيء إلينا غفرنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.

ثم ينادي مناد : ليقم أهل الصبر ، فيقوم ناس ، فيقال لهم : إنطلقوا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم مثل الأول. فيقولون : صبرنا أنفسنا على طاعة الله ، وصبرناها عن معصية الله عز وجل ، فيقولون لهم : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.

ثم ينادي مناد : ليقم جيران الله عز وجل ، فيقوم ناس ، فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة فتسألهم الملائكة عما استحقوا ذلك ، وما مجاورتهم لله عز وجل؟ فيقولون : كنا نتزاور في الله ، ونتجالس في الله ، ونتبادل في الله ، فيقولون : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .. » (١).

يدعو الإمام (ع) في هذا الحديث الشريف المسلمين خاصة إلى إسداء المعروف إلى الناس عامة والتحلي بمكارم الأخلاق التي توجب رفع مستوى الإنسان إلى أرفع الدرجات ، وبلوغه ذروة الشرف والكمال التي أرادها له رب العالمين. قال الله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ، ج ٣ ، ص ٤٦.

١٩٤

تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ .. ) (١). والأمر بالمعروف حث عليه الإمام زين العابدين فقال (ع) :

٨ ـ « التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كنابذ كتاب الله وراء ظهره ، إلا أن يتقي تقاه ، فقيل له : ما تقاته؟ قال : يخاف جبارا أن يفرط عليه ، أو أن يطغى .. » (٢).

فكما نرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المبادىء الإسلامية البارزة التي تبناها الإسلام بصورة إيجابية وذلك من أجل أن تسود العدالة الاجتماعية بين الناس ، ويزول الظلم والطغيان عن عباد الله ، فلا يبقى منكر ولا اعتداء على واقع الحياة العامة بين البشر. وقد تواترت الأخبار عن أئمة الهدى عليهم‌السلام على ضرورته ولزومه.

وقد ذكر الفقهاء في رسائلهم العملية شروط القيام بهذا الواجب الإسلامي الخطير والهام في بناء مجتمع إسلامي عظيم يعيش موفور الكرامة عزيز الجانب.

* * *

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١١٠.

(٢) طبقات ابن سعد ، ص ٢١٣٥.

١٩٥
١٩٦

مؤلفات الإمام زين العابدين عليه‌السلام

إن أول من ألف في دنيا الإسلام هم أئمة أهل البيت عليهم‌السلام والعلماء العظام من شيعتهم ، فهم الرواد الأوائل في الميدان الأدبي والاجتماعي والديني ، الذين خططوا مسيرة الأمة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والمعرفة والحكمة في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية.

وما نلفت إليه أن مؤلفاتهم وسائر بحوثهم لم تقتصر على علم خاص ، وإنما تناولت جميع أنواع العلوم التي يحتاج إليها الإنسان ، في حياته الخاصة والعامة والتي تفيده في دنياه وآخرته. فقد ألفوا في علوم كثيرة منها : الفقه ، والتفسير ، والحديث ، والأصول ، والصرف والنحو ، والكلام ، والفلسفة والحساب ، والتاريخ والفلك ...

وإلى جانب هذه العلوم وضعوا قواعد هامة في الأخلاق الإنسانية ، وآداب السلوك الفردية والاجتماعية وأصول التربية الوطنية. وكان أول الرواد الذي سبق في هذا المضمار رائد الأمة الفكرية والعلمية والأدبية الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي فتق أبواب العلوم العقلية والنقلية والتربوية وأسس أصولها وقواعدها. يقول العلامة المعروف عباس العقاد : « إن الإمام أمير المؤمنين (ع) قد فتق أبواب اثنين وثلاثين

١٩٧

علما ، فوضع قواعدها وأرسى أصولها » (١).

ومن الذين ألّفوا من الأئمة الطاهرين الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فقد كانت مؤلفاته نموذجا فريدا لتطور الفكر الإسلامي وتقدم الحركة العلمية والثقافية في العالم العربي.

١ ـ الصحيفة السجادية

هي من ذخائر التراث الإسلامي ، ومن مناجم المباحث البلاغية والأخلاقية والتربوية والأدبية في الإسلام ونظرا لأهميتها فقد سماها كبار رجال الفكر والعلم ، بأخت القرآن وإنجيل أهل البيت وزبور آل محمد (٢).

ومما زاد في أهميتها أنها جاءت في عصر طغت فيه الأحداث الرهيبة في السياسة التي أحالت حياة المسلمين إلى جحيم مظلم ليس فيه أي بصيص نور من هدي الإسلام وإشراقه ، فالتكتل الحزبي والسياسي الذي سعى وراءه أصحاب المصالح والأطماع الشخصية حيث اختفى أي ظل لروحانية الإسلام وتعاليمه السمحة وآدابه الإنسانية وحكمه الخالدة.

لقد فتحت الصحيفة السجادية آفاقا جديدة للوعي الديني ، كان المسلمون قد فقدوه ، ودعت إلى التبتل الروحي والصفاء النفسي والطهارة والتجرد من الأنانية ونبذ الجشع والطمع وغير ذلك من الرذائل والنزعات الشريرة التي نهى عنها الإسلام. كما دعت الصحيفة إلى الاتصال بالله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ومصدر الخير والحق والجمال سبحانه وتعالى أحسن الخالقين.

__________________

(١) عبقرية الإمام علي للعقّاد.

(٢) حياة الإمام زين العابدين ، ص ١١٦. عن الذريعة في تصانيف الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٨.

١٩٨

فرادتها :

تمتاز الصحيفة السجادية بأمور بالغة الأهمية ومميزات عديدة ، من بينها ما يلي :

١ ـ تمثل الانقطاع الكامل لله تعالى والاعتصام بحبله والتجرد التام من عالم المادة.

٢ ـ لقد كشفت عن معرفة كاملة يتمتع بها الإمام تفيد عن عمق إيمانه بالواحد القهار ، ولم يكن ذلك ناشئا عن عاطفة عابرة أو تقليد قديم ، وإنما هو قائم على العلم اليقين والعرفان الأكيد. وقد أدلى (ع) في صحيفته هذه بكثير من البحوث الكلامية التي انتهل منها علماء الكلام والفلاسفة المسلمون في ما كتبوه عن واجد الوجود.

٣ ـ احتوت على كمال الخضوع أمام الله تعالى ، وبذلك قد امتازت على بقية أدعية الأئمة الطاهرين بما فيها من أفانين التضرعات وإظهار التذلل لله تعالى. قال الفاضل الأصفهاني : « إن الله تعالى قد خص كل واحد منهم بمزية وخصوصية لا توجد في غيره ، كالشجاعة في أمير المؤمنين وابنه الحسين (ع) والرقة والتفجع في أدعية زين العابدين (ع) لا سيما أدعية الصحيفة الكاملة ، المعروفة بين أصحابنا الإمامية بزبور آل محمد ، وأخرى بإنجيل أهل البيت » (١).

٤ ـ لقد فتحت أبواب الأمل والرجاء برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء. فالإنسان مهما كثرت ذنوبه وعظمت خطاياه لا ينبغي له أن يقنط من رحمة الله تعالى ، وعفوه وكرمه.

يقول الإمام عليه‌السلام : « إلهي وعزتك وجلالك ، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك ، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنك بكرمك .. ».

__________________

(١) الصحيفة الخامسة السجادية ، ص ١٣ ـ ١٤.

١٩٩

٥ ـ أكثر ما ورد من أدعية في الصحيفة يصلح برامج للأخلاق الروحية وآداب السلوك والفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان عن عالم المادة.

٦ ـ احتوت على حقائق علمية لم تكن معروفة في عصره ، نذكر منها قوله (ع) : « اللهم وامزج مياههم بالوباء وأطعمتهم بالأدواء .. ».

لقد أشار هنا (ع) إلى حقيقة علمية اكتشفت في العصور الأخيرة ، وهي أن جراثيم الوباء المعروفة بـ ( الكوليرا ) إنما تأتي عن طريق الماء ، فهو الذي يتلوث بجراثيمها كما أن جراثيم هذا الوباء تنتقل إلى الأطعمة فإذا أكلها الإنسان وهي ملوثة بتلك الجراثيم فإنه يصاب بهذا الداء. هذه الحقيقة لم تعرف إلا في هذا العصر.

٧ ـ إنها تمثل فلسفة الدعاء الذي هو معراج المؤمن إلى الله والبالغ به إلى أرقى مراتب الكمال ، إذ ليس شيء في هذه الحياة ما هو أسمى من الاتصال بالله تعالى خالق الكون ، وواهب الحياة إلى النفوس الحائرة التي تشعر بالطمأنينة بعد القلق ، وبالأمل بعد القنوط أن الدعاء الخالص ليسمو بالإنسان إلى عالم الملكوت.

٨ ـ تعتبر الصحيفة السجادية ثورة على الفساد والانحلال الذي كان سائدا في ذلك العصر بسبب السياسة الأموية التي أشاعت المجون والفساد والتحلل بين المسلمين. فجاءت الصحيفة ثورة على الجمود والتخلف والانحطاط في العصر الأموي.

٩ ـ لقد بلغت أرقى مراتب الفصاحة والبلاغة في اللغة العربية. فلا نجد كلاما عربيا بعد القرآن الكريم ونهج البلاغة ما هو أبلغ وأفصح من أدعية الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

قال الدكتور حسين محفوظ : « وعلى الرغم من أنه ـ الدعاء ـ المأثور عن الأئمة نثر فني رائع ، وأسلوب ناصع من أجناس المنثور ، ونمط بديع

٢٠٠