الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

من أفانين التعبير ، وطرق بارعة من أنواع البيان ، ومسلك معجب من فنون الكلام ، والحق إن ذلك النهج العبقري المعجز من بلاغات النبي (ص) وأهل البيت (ع) التي لم يرق إليها غير طيرهم ، ولم تتسم إليها سوى أقلامهم. فالدعاء أدب جميل ، وحديث مبارك ، ولغة غنية ، ودين قيم ، وبلاغة عبقرية ، إلهية المسحة ، نبوية العبقة .. » (١).

وقد اهتمت الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية اهتماما بالغا بالصحيفة السجادية ، فقد واظب جميع العلماء المسلمين الصالحين على الدعاء بها في غلس الليل وفي وضح النهار متضرعين بها إلى الله تعالى.

ولم تقتصر على العالم العربي فقط وإنما تعدت إلى غيره من شعوب العالم فترجمت إلى أكثر اللغات الأجنبية ، كالفرنسية والإنكليزية والفارسية والألمانية وغيرها.

ومما يدل على مدى أهميتها أن الخطاطين في مختلف العصور الإسلامية انبروا إلى كتابتها بخط أثري في منتهى الروعة وقد حفلت بها الكثير من خزائن المخطوطات الإسلامية. كما عكف العلماء على دراسة الصحيفة وإيضاح مقاصدها وشرحها. والعلماء الذين قاموا بهذه المهمة زاد عددهم على السبعين عالم. كل ذلك لأنهم وجدوا في الصحيفة نموذجا فريدا يستفيد منه كل أديب وباحث فقد كان البارز فيها جمال الأسلوب وروعة الديباجة ورقة الألفاظ وارتياح روحي يبلسم النفوس الحائرة والقلوب الضالة.

ومن مظاهر الروعة البلاغية فيها الأطناب والإيجاز حيث تدعو الحاجة. فقد أطنب (ع) في وصف الجنة وما فيها من نعم وترف ، وقصور جميلة كل ذلك بسبب تشويق الناس إليها وترغيبهم بأعمال البر والخير ليفوزوا بنعيمها. كما أطنب في التهويل من النار وقساوة العذاب وذلك

__________________

(١) مجلة البلاغ العدد السادس من السنة الأولى ، ص ٥٦.

٢٠١

لزجر الناس عن اقتراف الموبقات وإبعادهم عن ارتكاب المنكرات. وهو بهذا يجاري أسلوب القرآن الكريم. وقد نص علماء البلاغة على أن الأطناب في ذلك من أرقى مراتب البلاغة وأروع صورها.

* * *

٢٠٢

من فوح القران وبوح فكره

رسالة الحقوق ..

وما أدراك ما رسالة الحقوق! إنها وسيلة كريمة ليفهم الإنسان نفسه وما فطرت عليه من مواهب خيرة ونزعات إنسانية. هي لعمري سجل المعرفة بكل أنواعها الدينية والعلمية والفلسفية تفيد جميع الناس في كسب علومهم ومعارفهم وتقويم أخلاقهم وسلوكهم وتعمل على تطوير مجتمعهم في سائر منازعهم الاجتماعية والسياسية والتربوية والفكرية والأدبية والأخلاقية ...

رسالة الحقوق منبع غزير للعلوم الإنسانية ومنهج عزيز للقيم الأخلاقية ومشرف أعلى على جميع التطورات الاجتماعية والحضارة البشرية. هي أم الرسالات تنسق تنسيقا كاملا بين عقائد المسلم وأعماله ومشاعره وسلوكه فتطلق روحه من عقاب الأوهام والترهات ، وتوجه نفسه إلى الأعمال الصالحة والطاقات البناءة وكأنها تربط ربطا محكما بين نواميس الكون الطبيعية ومنازع الفطرة البشرية في انسجام تام وتناسق كريم.

ولا يخفى أن العمل برسالة الحقوق يهدي المسلم المؤمن إلى عبادة الله متى توجه العبد إلى ربه سبحانه وتعالى ، فهي كما وصفها الفقهاء « مشدودة إلى العروة الوثقى لا انفصام لها ».

٢٠٣

ورسالة الحقوق منارة مضيئة تهدي الفرد إلى الطريق القويم فتوقظ ضميره وتحيي شعوره بالعقيدة الإسلامية الواضحة التي لا غموض فيها ولا تعقيد ، كما أنها تهدي الناس الذين يعملون بها إلى الخير العام سواء أكانوا شعوبا أم دولا أم حكومات من شتى الألوان والأجناس فتوطد العلاقات الاجتماعية بينهم على أسس ثابتة لا تتأثر بالأغراض الشخصية ولا تميل مع الرأي والهوى ، ولا غرو فهي مستقاة من المنبع الإلهي الأصيل من كتاب الله الصامت الذي « لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ».

رسالة الحقوق أم الرسالات ومصدر البطولات وملهمة الحضارات تكون للحاكم أساس عدله في حكمه ، وللعامل أساس صدقه في عمله ، وللمسلم طمأنينة وإيمانا ، وللمؤمن بهجة ورضا وللأمة نورا وحقا وعدلا.

وحسبها قيمة وفخرا أن غارس بذرتها هو من وحي الرسالة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة ، من سلالة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ..

قال تعالى : ( ... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) [ الأحزاب : ٣٣ ] هو الإمام المعصوم علي زين العابدين (ع) الملقب بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته ومع كثرة عبادته كثرة علمه الذي لا ينحصر في هذه الرسالة فحسب فالمجال متسع كثيرا لكل عالم أراد أن يعب من معارفه المختلفة ولكل باحث أحب أن يقتبس من حكمه وأدبه. لقد ترك للإنسانية تراثا خالدا وبحرا زاخرا بشتى العلوم والمعارف التي تفيد الإنسان في دنياه وآخرته ، وهي أشبه بالغيث تحيي النفوس بعد موتها وتبعث على طاعة الله والبعد عن معصيته ؛ وبمقدار ما يبلغ الإنسان من علوم الإمام زين العابدين يبلغ حدا بعيدا من العظمة مع الخالدين.

روى أبو حمزة الثمالي قال : « دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على علي بن الحسين (ع) فقال

٢٠٤

له : جعلني الله فداك! أخبرني عن قول الله عز وجل : ( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) ، قال له (ع) : ما يقول الناس فيها قبلكم؟ قال : يقولون : إنها مكة. فقال : وهل رأيت السرق في موضع أكثر منه بمكة؟ قال : فما هو؟

قال : إنما عنى الرجال ، قال : وأين ذلك في كتاب الله؟ فقال : أو ما تسمع إلى قوله عز وجل : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ ) وقال : ( وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ ) وقال : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها ) أفيسأل القرية أو الرجال أو العير؟ قال : وتلا عليه آيات بهذا المعنى قال : جعلت فداك! فمن هم؟ قال : نحن هم ، فقال : أو ما تسمع إلى قوله : ( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) قال : آمنين من الزيغ » (١).

فالله سبحانه أعلم أين يضع رسالته فأهل البيت أهل العلم والمعرفة وأهل التقى والدين جاهدوا في الله حق جهاده وعملوا على نشر العلوم الدينية والأدبية والفلسفية والعملية بكل ما زودهم سبحانه بها من طاقات.

والإمام السجاد ورث العلم بكل أنواعه وألوانه عن أبيه وجديه فحفظ كتاب الله وتفقه فيه وعمل على نشره.

روى الطبرسي قال : « لقي عباد البصري علي بن الحسين (ع) في طريق مكة فقال له : « يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحج ولينه ، وإن الله عز وجل يقول : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ التوبة : ١١١ ] فقال علي بن الحسين : إذا رأينا هؤلاء الذي هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج ».

__________________

(١) الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ٣١٢.

٢٠٥

وجاء في المصدر نفسه : « سئل الإمام زين العابدين عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال (ع) : لكل واحد منهما آفات ، فإذا سلما من الآفات ، فالكلام أفضل من السكوت. قيل : وكيف ذاك يا ابن رسول الله؟

قال : لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنما يبعثهم بالكلام ، ولا استحقت الجنة بالسكوت ، ولا استوجب ولاية الله بالسكوت ، ولا توقيت النار بالسكوت ، ولا تجنب سخط الله بالسكوت إنما ذلك كله بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف فضل الكلام بالسكوت » (١).

وتكلم الإمام (ع) فكانت هذه الدرر الثمينة ، رسالة الحقوق التي رسم فيها معالم الشخصية الصالحة التي ينشدها الإسلام لقد وضعت حقوق الجوارح من اللسان والسمع والبصر واليد والرجل ... إلى الصلاة والصوم والحج ... إلى حقوق المعلم والسلطان والمالك .. إلى حقوق الأرحام من الأب والأم والأخ ..

كما رسمت أيضا حقوق أهل الإسلام وأهل الذمة وطلب إلينا حق رعايتها والعمل في تأديتها لنعالج على ضوئها مشاكلنا الخاصة والعامة وما يعتور طريقنا من هفوات وأخطاء وتقصير .. لقد أرادنا عناصر إنسانية صالحة تحب الخير للجميع وتعمل به وتنبذ الشر وتتجنبه. وقد كتب هذه الرسالة الذهبية (ع) وأتحف بها بعض أصحابه ، وقد رواها العالم الكبير ثقة الإسلام ثابت بن أبي صفية ، المعروف بأبي حمزة الثمالي تلميذ الإمام (ع) (٢) ، ورواها عنه بسنده المحدث الصدوق (٣) ، وحجة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني والحسن بن علي بن الحسين بن شعبة البحراني

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ٣١٥.

(٢) الكشي ـ الخصال.

(٣) من لا يحضره الفقيه الخصال.

٢٠٦

في تحف العقول (١).

الدوافع لكتابة رسالة الحقوق :

كثر اللهو والطرب وانتشرت دور الميسر ومجالس الغناء طيلة حكم الأمويين ، واستقدم ملوكهم الجواري والمغنين والمغنيات من شتى البلدان إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة وأغدقوا عليهم المال بسخاء. كما بذلوا الكثير من المال على الشعراء لتأييد سلطانهم فاصطنعوا به الأحزاب واستذلوا به الأعداء. وكان عبد الملك بن مروان من أكثر ملوك بني أمية بذلا للمال في سبيل تأييد سلطانه ، وعامله آنذاك الحجاج بن يوسف فلما حاصر الكعبة ، وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيب جنده ، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال لهم : « يا أهل الشام ، قاتلوا على أعطيات عبد الملك » ففعلوا (٢).

وكثيرا ما كان يرد أذى الأحزاب وإخماد الثورات بالمال ينثره على الناس فينشغلون به عنه. من ذلك ما فعله مع جماعة عمرو بن سعيد الأشدق لما طمع بالشام دونه. فاحتال في استحضاره إلى ديوانه وقتله غدرا ، ولما علم أصحابه بمقتله تجمهروا حول دار الخلافة مطالبين بدم زعيمهم ، خاف عبد الملك العاقبة فأمر أن يرمى برأس عمرو إلى الناس ومعه المال الكثير ، فنفذ ابنه عبد العزيز ذلك ، وجعل يلقي بالأموال على الجماهير المحتشدة. فلما رأى الناس الرأس والأموال انشغلوا بالأموال وتفرقوا (٣).

لقد استخدموا المال والنساء وبذلوا على تلك المجالس والليالي الساهرة بسخاء ، ولم يكن يدعوهم إلى هذا السلوك المنحرف والاستهتار

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) راجع التمدن الإسلامي لجرجي زيدان ، ج ١ ، ص ٨٣.

(٣) نفسه ، ص ٨٤.

٢٠٧

الفاضح حبهم لملذاتهم فقط ، وإنما كان هدفهم من وراء ذلك إماتة الروح الإسلامية الصحيحة في نفوس الناس ليبعدوهم عن الدين الإسلامي وعن رسالة الأنبياء المرسلين فلا يهمهم بعد هذا أمر الخلافة والمطالبة برفع الظلم والاستهتار فالمال ميسور أمام فراغ الشباب والجواري ودور الميسر منتشرة تستويهم للتلهي وقتل الوقت هدرا.

لقد هيأوا الأذهان أيضا إلى قبول الرأي القائل بأن الخلافة ليست إلا ملكا كالقيصرية والكسروية ، وأن الله تعالى لم ينص على إمام بعينه كما يرى كثير من المسلمين.

في وسط هذا المجتمع المريض كان لا بد للإمام السجاد أن يداوي هذه النفوس لتتخلص من أمراضها وتعرف حدودها وترجع إلى الأخلاق الإسلامية السامية التي تعيد للأمة تعاليم الإسلام القومية والسليمة التي كاد الأمويون أن يقضوا على معظمها بأعمالهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وتصرفاتهم التي لا تليق بأمة مرموقة بين الأمم تعرف مكانتها السامية بين الدول المتحضرة أجل لقد تفسخت الأخلاق وتردت حتى أصبحت تهدد بخطر عظيم الأمر الذي دعا الغيارى على الدين أن يهتموا الاهتمام الكبير لصد هذا التيار الجارف. ومن أحرى بأهل البيت الذين اختارهم سبحانه وتعالى لردع الظلم عن أعناق المستضعفين ، وهداية الناس إلى الحياة الحرة الكريمة. قال محمد صادق الصدر : « وكان أول من لفت الأنظار إلى هذا الخطر المحدق بالناس جميعا الإمام زين العابدين عليه‌السلام فقد نشط في جهاده نشاطا عظيما منقطع النظر فكان يلقي على الأمة بآرائه الإصلاحية تارة عن طريق المناجاة ، وطورا عن طريق القلم ، وهذه ( رسالة الحقوق ) أملاها عليه‌السلام دستورا عاما يتضمن كل ما تحتاجه البشرية من حقوق ، فلم يترك حقا من حقوق الله على عباده ، أو حقوق العباد أو حقوق العباد بعضهم على بعض إلا ذكره ونبه عليه ، وقد قدم الأهم فالأهم من هذه الحقوق ببيان رائع ،

٢٠٨

ومنطق لا يقبل الرد ولا أعرف أسلوبا أروع من هذا الأسلوب ، وفكرا صالحا للمجتمع أصلح من هذا الفكر ، وهي مواضيع عامة منبعثة عن حاجات المجتمع الإنساني يصلح تطبيقها ، والسير على نهجها في كل زمان ، وهي تكفل للناس السعادة والهناء في الدارين » (١).

رسالة إصلاحية يحتاجها الفرد في حياته الخاصة ليصلح أموره ويعرف حدوده ، كما يحتاجها المجتمع البشري بكل أفراده وطبقاته ، يحتاجها الراعي ليحكم بالعدل وتحتاجها الرعية لتقاوم الظلم والقهر وتعيش حياة كريمة هنية.

أما الدوافع التي دفعت الإمام السجاد إلى كتابة هذه الرسالة الخالدة ونشرها فهي دوافع إنسانية أملتها عليه الظروف السياسية والتدهور الأخلاقي والفساد المستشري في البنية الحاكمة. لقد تعلم من أبيه الإمام الحسين (ع) سيد الشهداء الذي خرج « لا أشرا ولا بطرا وإنما ليصلح رسالة جده » النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا عرض موجز للحقوق :

١ ـ أول هذه الحقوق التي بلغت خمسين حقا ( حق الله ) :

قال الإمام عليه‌السلام : « فأما حق الله الأكبر عليك فإنك تعبده لا تشرك به شيئا ، فإن فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ، ويحفظ لك ما تحب منهما ».

إن من أعظم حقوق الله تعالى على عباده أن يعبدوه بإخلاص ، ولا يشركوا بعبادته أحدا ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ، الرفض المطلق لكل الآلهة التي صنعتها الأيدي البشرية والعقول الضالة ، وبمقدار هذا الرفض يتأكد التوجه للإثبات ، فالله واحد أحد في ذاته ، واحد أحد في صفاته ،

__________________

(١) رسالة الحقوق لمحمد صادق الصدر ، ص ٣٦.

٢٠٩

واحد أحد في خصائصه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. )

الإيمان القلبي العميق يطهر القلوب من الزيغ ويحرر العقول من الرق والتبعية ، أما عبادة غير الله من الأصنام والأزلام والأوثان فإنها ذل وعبودية ، وقضاء على كرامة الانسان وعزته.

والإيمان بالله يفرض على الإنسان أن ينظر إليه سبحانه وتعالى نظر الربوبية المطلقة التي تملك الحياة كما تملك الموت ، وتملك الأعمار كما تملك الأرزاق. قال تعالى : ( اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١).

التوحيد بالله وعدم الشرك به أساس من الأسس التي لا تقبل المساومة وقد حسم القرآن الكريم هذه القضية فقال تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (٢).

والإمام زين العابدين جعل في هذه الرسالة أكبر حقوق الله على الإنسان أن يعبده ولا يشرك به شيئا ، وفي مقابل هذه العبادة بإخلاص تكون كفاية الله له لأمري الدنيا والآخرة. ففي الدنيا يشعر بالسعادة النفسية والاطمئنان القلبي في الآخرة ، وفي رحاب الله يفوز بالخلود الأبدي ورضوان الله أكبر ما يتوق إليه الإنسان ويسعى من أجله.

٢ ـ حقوق الجوارح ـ من عرف نفسه فقد عرف ربه حق النفس :

« وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله عز وجل فتؤدي إلى لسانك حقه وإلى سمعك حقه وإلى بصرك حقه وإلى يدك حقها وإلى رجلك حقها ، وإلى بطنك حقه ، وإلى فرجك حقه ، وتستعين بالله على ذلك ».

__________________

(١) آل عمران ، الآية ٢٦.

(٢) النساء ، الآية ٤٨.

٢١٠

تركزت دعوة الإمام (ع) إلى إصلاح النفس البشرية إصلاحا ربانيا شاملا كي تؤدي دورها المطلوب في طاعة الله تعالى وإعانة عباد الله لأن منها المنطلق لعملية الإصلاح الشاملة فمتى صلحت النفس صلح غيرها واستقام.

ولذا ورد الحث من الإمام (ع) لأن يقف الإنسان موقف الحذر واليقظة ، والمراقب والمحاسب يترصدها في ميولها وحركاتها فيحاسبها في كل خطوة من خطواتها ليحملها على الحق في طاعة الله تعالى ويدفعها نحو الخير.

وهذا ما عناه النبي الأكرم في حديثه الشريف عندما أرسل سرية من الجيش إلى القتال في سبيل الله ، ولما رجعوا قال (ص) : مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. فقيل : يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟

فقال (ص) : الجهاد الأكبر : جهاد النفس. ومعنى جهاد النفس أن يلزمها المرء بأحكام الإسلام فلا ينحرف لميل أو هوى ولا يميل لمصلحة شخصية ذاتية على حساب الدين فيضعف أمام المحرمات ، ويتهاون بترك الواجبات فيجعل للشيطان عليها سبيلا. وذكر الإمام أن لكل جارحة في بدن الإنسان حقا عليه فبدأ باللسان آلة النطق.

٣ ـ حق اللسان :

« وأما حق اللسان فإكرامه عن الخنى ، وتعويده على الخير ، وحمله على الأدب ، وإجمامه إلا لموضع الحجة والمنفعة للدين والدنيا ، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمن ضررها مع قلة عائدتها وبعد شاهد العقل والدليل عليه ، وتزين العاقل بعقله وحسن سيرته في لسانه ، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. »

من المعروف أن اللسان آلة النطق والمترجم عن العقل هو من أهم الجوارح في بدن الإنسان ، كما أنه من أخطرها على حياته ، سلاح ذو حدين ، بأحدهما نساهم في توفير السعادة لنا ولمجتمعنا وبالآخر نقضي على سعادتنا ونجلب الخراب والدمار للعباد والبلاد.

٢١١

والإنسان يسمو أو يهان بمنطقه ، فإن تكلم بكلام طيب صان نفسه من الزلل وعاش محترما بين أهله وأفراد مجتمعه ، وإن تكلم بكلام خبيث أهان نفسه وبات محتقرا مهانا. فالإمام (ع) يطلب للإنسان أن يكون صالح النطق ، لا فحش ولا لغو ولا عبث ، بل نظيف اللسان مهذب الكلام. قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ، يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) (١).

لقد دعا الإمام الحكيم (ع) الإنسان إلى السيطرة على لسانه وإلزامه بمراعة الأمور التالية ليعزز مكانته ويرفع من شأنه :

أ ـ البعد عن الخنى ـ أي الفحشاء ـ لأنها توجب مهانة الإنسان.

ب ـ حمله على التكلم بالكلام الطيب الذي يرفع إلى الله تعالى.

ج ـ إمساكه عن الكلام إلا لموضع الحاجة من أمور الدين والدنيا.

د ـ تعويده على مقالة الخير وما ينفع الناس.

ه ـ إبعاده عن الخوض في فضول القول الذي لا يعود عليه وعلى الناس بالخير.

والكلمة الطيبة في الإسلام صدقة ، قال تعالى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (٢).

٤ ـ حق السمع :

« وأما حق السمع فتنزيهه عن أن تجعله طريقا إلى قلبك إلا لفوهة

__________________

(١) إبراهيم ، الآية ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) البقرة ، الآية ٢٦٣.

٢١٢

كريمة تحدث في قلبك خيرا ، أو تكسب خلقا كريما ، فإنه باب الكلام إلى القلب ، يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر ولا قوة إلا بالله .. ».

جهاز السمع هو التركيب البديع للإنسان أبدعها الله تعالى كي يصل بها إلى مرضاته فيسمع بها المسموح وكل ما يصلح النفس ويهذبها. إنها الجهاز الذي ينقل المعلومات إلى الدماغ فيبدل كيان الإنسان ويحوله من حالة إلى حالة فإذا سمع فكرة رسالية قيمة وتفاعل معها تحوله إلى إنسان صالح يحب الخير ويعمل به. أما إذا سمع فكرة هدامة ملوثة بالإلحاد فقد تحوله إلى مجرم يعمل المحرمات دون أي رادع أو وازع. فمجالس الانحلال الخلقي والمفسدين في الأرض منعها الإسلام وحرمها لأنها ستنقل إلى القلب عن طريق الأذن ما يفسد خلق الإنسان ويجره إلى الهاوية. ولذا نهى الله عن ذلك بقوله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً. ) (١)

كما أن الله مدح الذين يستمعون إلى دعاة الخير والمحبة والإيمان ، قال تعالى : ( رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ... ) (٢).

فعلينا جميعا أن نصغي إلى كلمة الحق ونعمل بها ونقبل الحقيقة مهما كانت قاسية ومرة من أي إنسان وفي أي زمان. وأن نجعل الجهاز السمعي بريدا صالحا لنقل الآداب الكريمة والفضائل الحسنة والمزايا

__________________

(١) النساء ، الآية ١٤٠.

(٢) آل عمران ، الآية ١٩٣.

٢١٣

الحميدة لتكون من صفاتنا وخصائصنا.

٥ ـ حق البصر :

« وأما حق بصرك فغضه عما لا يحل لك ، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل بها بصرا أو تستفيد بها علما فإن البصر باب الاعتبار ».

إن للبصر حقا على الإنسان ، وهو حجة على النظر إلى ما حرمه الله الذي هو مفتاح الولوج في اقتراف الآثام ، فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له.

والإنسان مسؤول أمام الباري عز وجل عن بصره إذا انطلق في غير رحابه وحدوده المسموح بها. قال تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (١).

والفائدة التي يستفيدها الإنسان من نعمة البصر يعود إليه بالذات فإذا نظر إلى آثار الماضين وتأمل كيف كانت معيشتهم وأحوالهم وأخذ من ذلك كله العبرة والعظة يكون نظره نعمة له يستفيد منها في تصحيح مساره في الدارين الدنيا والآخرة.

أما إذا استعمل بصره في الحرام والمنكرات فإن الإسلام يعد ذلك خيانة لهذه الأمانة العظيمة وانحرافا عن الخط السليم ، فكم من نظرة أورثت صاحبها حسرة دائمة لأنها استعملت في غير المجال المسموح بها.

فينبغي للمسلم أن يغض بصره عما لا يحل له وعليه أن يستفيد ببصره علما يهذب به نفسه ، وينفع به مجتمعه. من هنا أمر الله المؤمنين من عباده بغض الأبصار عن الأشياء المحرمة. قال تعالى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ.

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٣٦.

٢١٤

وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ... ) (١).

والحقيقة أن البصر نعمة كبرى لا يعرف قيمتها إلا من فقدها فهي تكشف للإنسان معالم طريقه فتعرفه على كل أمور حياته وتطل به على مباهج الدنيا وجمالاتها. فهل يرعى الإنسان هذه النعمة حق رعايتها ويصونها من التجاوز والابتذال؟

٦ ـ حق الرجلين :

« وأما حق رجليك فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك ولا تجعلهما مطيتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها ، فإنها حاملتك وسالكة بك مسلك الدين والسبق لك ولا قوة إلا بالله » (٢).

خلق الله الرجلين للإنسان نعمة عظيمة يسعى بهما إلى قضاء حوائجه لينال الأهداف البعيدة التي تتطلب حركة ومشيا لكن عليه أن يستخدم هذه النعمة في طاعة الله ومعونة عباده. فقد يقطع المسافات الطويلة من أجل إعانة فقير وقضاء حاجة إنسان مؤمن ينفس عنه كربه. وقد يقطع الصحراء ليؤدي فريضة الحج التي أوجبها الله على القادرين من عباده ، وقد يسعى برجليه للجهاد في سبيل الله والدفاع عن حقوق عباد الله المؤمنين ضد الطغاة المغتصبين.

كما يستطيع برجليه أن يعتدي على أعراض الناس وأموالهم ويفسد بين المتحابين منهم أو يقتل مسلما من عباد الله الصالحين دون حق. فبهما يمكنه تحصيل الحسنات كما أن بهما يستطيع أن يكتسب المحرمات. والسعيد من الناس من تتحرك قدماه في طاعة الله ورضوانه ، ينظر مواطن الثواب فييمم وجهه نحوها ، ويدرك مواطن الشر فيجنب قدميه عنها.

__________________

(١) النور ، الآية ٣٠ و ٣١.

(٢) الأصح أن يقال : حاملتاك وسالكتان بك.

٢١٥

والمؤمنون يعرفون أن هذه الأرجل ستشهد عليهم يوم الحساب إذا انحرفوا عن الخط الإسلامي السليم. قال تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (١).

فهنيئا لمن عرف مواقع أقدامه أين تقع فاختار لها طاعة الله وابتعد بها عن معاصي الله.

٧ ـ حق اليدين :

« وأما حق يدك فأن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك ، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل ومن الناس بلسان اللائمة في العاجل ولا تقبضها مما افترض الله عليها ولكن توقرها بقبضها عن كثير مما لا يحل لها ، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها ، فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل ووجب لها حسن الثواب من الله في الآجل .. ».

وعرض الإمام (ع) لليدين وما عليهما من حقوق ، فمن حقهما أن لا يبسطهما في ما حرمه الله تعالى. فمن امتدت يده إلى أموال الغير سمي عند الله والناس سارقا ويترتب عليه آثار الفعل الشنيع فيقام عليه الحد في تشريع الله وتأخذه أعين الناس بالازدراء والتصغير لأنه وسم بميسم السارق الوضيع.

ومن امتدت يده إلى أجساد الغير اعتداء منه واعتدادا بقوته يؤدب في قانون الإسلام المثل بالمثل. وليس في قانون الإسلام التسلط على الضعفاء فالكل سواسية أمام العدالة الإسلامية وصاحب الحق هو سيد الموقف فاليد يجب أن تكون في إطارها المحدد لها وهذا ما بينه الإمام في رسالته الخالدة ، حيث يعاقب المعتدي من الله في الآجل ومن الناس باللائمة في العاجل ، وهذه اليد جعل لها حقا أن لا تبسط إلى ما لا يحل لها ولا يجوز

__________________

(١) يس ، الآية ٦٥.

٢١٦

لها أن تقبض عن إعطاء الحق إلى أصحابه ولا تقوم بمساعدة المساكين وقضاء حاجة المحتاجين.

اللهم ساعدني لتكون يدي أمينة عفيفة في الدنيا لا تهمل ما عليها من الواجبات لتنال شرف العاجل وثواب الآجل في الدار الآخرة.

٨ ـ حق البطن :

« وأما حق بطنك فأن لا تجعله وعاء لقليل للحرام ، ولا لكثير ، وأن تقتصد له في الحلال ، ولا تخرجه من حد التقوية إلى حد التهوين ، وذهاب المروءة ، وضبطه إذا همّ بالجوع والظمأ فإن الشبع المنتهي بصاحبه إلى التخم مكسلة ، ومثبطة ، ومقطعة عن كل بر وكرم ، وأن الري المنتهي بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروة .. » (١).

يدلي الإمام (ع) في هذه الفقرات بحقوق البطن على الإنسان وهي عديدة منها :

أ ـ أن لا نجعل البطن وعاء للحرام فنتغذى بمال مغصوب حرام وما ينتج عن ذلك من مضاعفات سيئة مما يؤدي بنا إلى الانحراف عن الطريق القويم.

ب ـ الاعتدال في الأكل وعدم الإسراف في تناول العديد من المآكل الدسمة والمتنوعة حتى الإصابة بالتخمة ، فعلى المسلم الاقتصاد في تناول الطعام الحلال ، لأن التخمة تسبب الإصابة بالكسل والابتعاد عن البر والكرم ؛ كما أنها تعطل جميع القوى العقلية ، بالإضافة إلى ما تحدثه من أضرار صحية كالإصابة بضغط الدم والسمنة ومرض السكر وغير ذلك من الأمراض الأخرى.

__________________

(١) اقتصد في الأمر : اعتدل. والتخمة : ثقل تسببه كثرة الأكل. المكسلة : ما يدعو إلى الكسل. مثبطة : ما يعوق ويشغل.

٢١٧

والإسلام لم يحرم الطيبات إذا كانت من باب الحلال بل يبيحها للمسلمين دون إفراط ولا تبذير.

إن شهوة البطن إذا أرسل لها العنان فإنها تقود صاحبها إلى ارتكاب الموبقات وتفتح أمامه شهوة الجنس والشبق وهاتان الشهوتان الطعام والجنس يستتبعهما الرغبة في تحصيل المال والبحث عنه بشتى الطرق دون الالتفات إلى الحرام منه أو الحلال.

من هنا نستطيع أن نقدر حكمة الصوم التي بينها الإسلام على لسان الأئمة المعصومين. وندرك الأبعاد الحقيقية التي تجعل الصائم رقيق الشعور مرهف الحس تجاه الفقراء والمعوزين فيخفف عنهم آلامهم ويغدق عليهم من يده الكريمة لا يريد منهم لا جزاء ولا شكورا.

ثم إن المسلم لا يهتم بطعامه إلا ليقوى به على الحياة والعمل في خدمة نفسه وخدمة عباد الله ونشر العدل والحكمة في التوجه إلى الله تعالى. أما الملحد أو الكافر لا يهمه سوى بطنه وما يتغذى به من أشهى المأكولات. ولذلك نرى كيف ذم الله الكافرين وشبههم بالأنعام قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) (١).

والإسلام أحل للإنسان الكثير من الطيبات وحرم عليه الخبائث ووضع له حدودا مرسومة لا يجوز له أن يتعداها. والذي حرمه الإسلام من الأطعمة والأشربة فإنما حرمه أما لخبثه أو لإفساده وإخلاله بالروح الإنسانية فأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر وأنواع المسكرات والمخدرات كلها من المحرمات التي تتقزز النفس منها لما تجر على صاحبها من الضرر والمهانة.

__________________

(١) الحج ، الآية ٢٣.

٢١٨

٩ ـ حق الفرج :

« وأما حق فرجك فحفظه مما لا يحل لك ، والاستعانة عليه بغض البصر ، فإنه من أعون الأعوان ، وكثرة ذكر الموت ، والتهدد لنفسك بالله ، والتخويف لها به ، وبالله العصمة والتأييد ، ولا حول ولا قوة إلا به ... ».

الحياة الجنسية في الإسلام تتركز على العفة والفضيلة ، وصيانة النفس من اقتراف الزنا والفحشاء ، والطرق التي يتوقى بها الإنسان من الإنزلاق في شهوات منكرة وتحجبه عن اقتراف مثل هذه الجرائم فهي كما أدلى بها الإمام (ع) :

أ ـ غض البصر عن المحارم لأن النظر هو العامل الأول للوقوع في الحرام ، وقد عبروا عنه في بعض الأخبار بزنى العين.

ب ـ الإكثار من ذكر الموت ، ذلك أنه يزهد الإنسان في طلب الملذات ويطفىء من جذوته حب الشهوات ، كما أن ذكر الموت يقضي على هيجان الشهوة الجنسية.

ج ـ التخويف من عقاب الله العظيم فإنه من عوامل القضاء على جريمة الزنا.

والإسلام لا يريد القضاء على الشهوة الجنسية لأن ذلك يفوت الكثير من المنافع التي لا يمكن تحقيقها بدونها فإذا ماتت غريزة الجنس في الإنسان انقرضت السلالة البشرية وانعدم الوجود الإنساني وانتهى دور الإنسان كخليفة الله على الأرض عمارة ورقيا وحضارة.

لكن الإسلام يعمد إلى تهذيب هذه الشهوة وضبطها وردها إلى حد الاعتدال إذا أرادت الخروج عما وضعت من أجله ، وقد تبلغ ذروتها في سن المراهقة.

إن العلاقة غير الشرعية بين الرجل والمرأة منعها الإسلام وعاقب

٢١٩

عليها كما حاربت هذه العلاقة كل الأديان وعدتها من أكبر الخطايا وأعظمها لما في هذا التعدي من ظلم وما له من انعكاسات سيئة على الفرد وعلى المجتمع.

الزنا جريمة شرعية وأخلاقية وانحراف عن السنن الطبيعية والآداب الاجتماعية. ولذلك نهى الله تعالى عن الاقتراب من هذه الفاحشة ويحرمها على المؤمنين قال تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) (١). وقال تعالى أيضا : ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

ولما كان الزنى من المحرمات فقد فتح الإسلام أمام الإنسان سبيلا شرعيا محببا رغب فيه ودعا إليه المسلمين إلى ممارسته ألا وهو الزواج الشرعي الذي يلتقي الرجل والمرأة على أساسه وينشأ منه أسرة شرعية طاهرة وهذا أشرف حل جعله الإسلام من أجل القضاء على الرذيلة والانحراف. فالمسلم مطالب أمام الله وأمام الناس بحفظ فرجه عما لا يحل له وقد مدح الله الحافظين لفروجهم وقرنهم بالمسلمين المؤمنين والصادقين الصابرين والصائمين. قال تعالى : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (٣).

وبعد حقوق الجوارح باشر الإمام زين العابدين عليه‌السلام بحقوق الأفعال فشرحها وبين حدودها.

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٣٢.

(٢) النور ، الآية ٣.

(٣) الأحزاب ، الآية ٣٥.

٢٢٠