الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

سولت لي نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخي به علي ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ فوا سوأتاه غدا من الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين : جوزوا وللمثقلين : حطوا ، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم أتب ، أما آن لي أن أستحي من ربي؟ » ثم بكى وقال : « سبحانك تعصى كأنك لا ترى ، وتحلم كأنك لم تعص ، تتودد إلى خلقك بحسن الصنيع كأن بك الحاجة إليهم ، وأنت يا سيدي الغني عنهم ».

ثم خرّ إلى الأرض ساجدا فدنوت منه وشلت رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده فاستوى جالسا وقال : « من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟ » فقلت : أنا طاووس يابن رسول الله ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون! أبوك الحسين بن علي بن أبي طالب ، وأمك فاطمة الزهراء ، وجدك رسول الله قال : « هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيا وخلق النار لمن عصاه ولو كان قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ) والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح » (١).

فالنسب في الإسلام هو العمل الصالح ، فمن عمل صالحا وأطاع ربه استقام أمره وكسب رضى الله عليه ، فالله خلق الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيا ، وكل الناس سواسية كأسنان المشط ولا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى. فالمتقون هم أولياء الله من أي جنس كانوا أو أي لون أو أي عرق ، فإن الله معهم ما داموا هم معه فهل لنا بهم وبعلي بن الحسين (ع) أسوة حسنة؟

__________________

(١) المناقب ، ج ٤ ، ص ١٥١.

٨١

وجاء في مستدرك الوسائل عن الأصمعي قال (١) :

كنت أطوف حول الكعبة ليلا فإذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤ ابتان وهو متعلق بأستار الكعبة ويقول : « نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم ، غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها وبابك مفتوح للسائلين ، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين ».

ثم أنشأ يقول :

يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيّوم لم تنم

أدعوك يا رب دعاء قد أمرت به

فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالنعم

قال فاقتفيته فإذا هو زين العابدين ».

وله (ع) حوار مع نفسه حيث يخاطبها كيف تركن إلى الدنيا ألم تأخذ درسا من الماضين قبلها ، فأين أجدادنا وآباؤنا وأين الذين فجعوا ومضوا قبلها؟ أليس يكون لها بهم عبرة؟

روى الزهري عنه (ع) في المناقب قال : « يا نفس حتام إلى الحياة سكونك؟ وإلى الدنيا ركونك؟ أما اعتبرت بمن مضى في أسلافك؟ ومن وارته الأرض من آلافك؟ ومن فجعت به من إخوانك؟ ثم أنشد :

فهم في بطون الأرض بعد ظهورها

محاسنها فيها بوالي دوائر

خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم

وساقتهم نحو المنايا المقادر

وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها

وضمتهم تحت التراب الحفائر (٢)

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ١٤٣.

(٢) المناقب لابن شهر آشوب ، ج ٤ ، ص ١٥٢.

٨٢

وجاء في حياة الحيوان للدميري :

قال الزهري : « ما رأيت قرشيا أفضل منه » وقال أيضا (١) : « ما رأيت أفقه منه ». وقال ابن المسيب : « ما رأيت أورع منه ». وقال القندوزي الحنفي : « كان الإمام زين العابدين (ع) عظيم التجاوز والعفو ، والصفح ، حتى أنه سبه رجل فتغافل عنه فقال له : إياك أعني ، فقال الإمام : وعنك أعرض. أشار إلى الآية الكريمة : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ) (٢).

لم يكتف الإمام السجاد بالإحسان إلى من كان يسيء إليه بل كان يطلب لهم المغفرة من الله سبحانه وتعالى.

قال في ذلك : « اللهم إن أعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره ، ومن معروف أسدي إلي فلم أشكره ومن مسيء اعتذر إلي فلم أعذره ومن ذي فاقة سألني فلم أوفره ومن عيب مسلم ظهر لي فلم أستره ومن كل إثم عرض لي فلم أهجره ، واجعل ندامتي على ما وقعت فيه من الزلات وعزمي على ترك ما يعرض لي من السيئات توبة توجب لي محبتك يا محب التوابين.

وقال أيضا مثل ذلك :

اللهم وأيما عبد نال مني ما حظرت عليه فاغفر له ما ألم به مني واجعل ما سمعت به من العفو عنهم وتبرعت به من الصدقة عليهم في أزكى صدقات المتصدقين وأعلى صلات المتقربين ، وعوضني من عفوي عنهم عفوك حتى يسعد كل واحد منا بفضلك وينجو كل منا بمنك.

__________________

(١) حياة الحيوان ، ج ١ ، ص ١٣٩. ونور الأبصار ، ص ١٦٢.

(٢) الصواعق المحرقة ، ص ١٢٠.

٨٣

ومع كل ما قدم وضحى وأعطى وأحسن يرى نفسه مقصرا في حقوق الناس ، كان صدره واسعا جدا يستوعب كل هفواتهم ويتسع لكل انحرافاتهم ويسامح ما كان يتجمع في صدورهم من غش وطمع وحقد. يعاملهم بما عنده هو وليس بما عندهم إن البحر الكبير لا تعكر صفوه بضعة أنهار صغيرة تصب فيه ، والجسر المتين يتحمل الكثير من الأثقال مهما كانت كبيرة ويبقى صامدا جامدا على مدى الدهور. وبائع العطر يتلذذ بما يحمل ويؤنس الآخرين بروائح وروده الجميلة.

والنور الساطع يري صاحبه معالم الطريق ويكشف المزالق والعثرات أمام المشاة التائهين.

والشجرة القوية العتيقة جذورها ثابتة في الأرض لا تؤثر فيها الرياح مهما كانت عنيفة ، يراشقها المارة بالحجارة فتنزل لهم ثمارها بكل رحابة صدر.

والغيمة المثقلة بالغيث سوف تسقط بخيراتها العميمة على جميع بقاع الأرض لا تفرق بين بقعة وأخرى.

ما قاله العظماء في سيد الحكماء :

أجمع أهل العلم والأدب على اختلاف ميولهم ونزعاتهم على أفضلية أهل البيت عليهم‌السلام ، فقد كانوا ينبوعا فياضا بالعلم والحكمة ، ومنهلا عذبا للخير والعطاء ، ورصيدا هاما في الأدب والمعرفة. ولم تجتمع الأمة بأسرها على أفضلية أحد كاجتماعها على أفضلية أئمة الهدى عليهم‌السلام. ومما يلاحظ أن ما كتبه عنهم كبار العلماء من غير الشيعة أكثر مما كتبه عنهم شيعتهم ومواليهم وهذا دليل واضح أنهم مركز الثقل الذي تركه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين ظهراني الأمة ، حيث جعلهم حكاما على العباد وخلفاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الناس.

٨٤

هذه العترة الطاهرة تبدأ بأمير المؤمنين (ع) وتختتم بالإمام المهدي (ع) اثنا عشر خليفة معصوما. وجدير بنا أن نرجع إليهم آخذين بتعاليمهم ، متبعين لأوامرهم ، لنحقق ما نصبو إليه من خير وسعادة.

وهذه مختارات من كلمات كبار العلماء في الإمام السجاد علي زين العابدين بن الإمام الحسين عليهما‌السلام.

١ ـ قال علي بن عيسى الأربلي : « فإنه عليه‌السلام الإمام الرباني ، والهيكل النوراني ، بدل الأبدال وزاهد الزهاد ، وقطب الأقطاب ، وعابد العباد ، ونور مشكاة الرسالة ونقطة دائرة الإمامة ، وابن الخيرتين (١) والكريم الطرفين قرار القلب ، وقرة العين ، علي بن الحسين.

وما أدراك ما علي بن الحسين : الأواه الأواب ، العامل بالسنة والكتاب ، الناطق بالصواب ، ملازم المحراب ، المؤثر على نفسه ، المرتفع في درجات المعارف ، فيومه يفوق على أمسه ، المنفرد بمعارفه ، الذي فضل الخلائق بتليده وطارفه ، وحكم في الشرق فتسنم ذروته ، وخطر في مطارفه وأعجز بما حواه من طيب المولد ، وكرم المحتد ، وزكاء الأرومة ، وطهارة الجرثومة ، عجز عنه لسان واصفه ، وتفرد في خلواته بمناجاته ، فتعجبت الملائكة من مواقفه ، وأجرى مدامعه خوف ربه (٢).

٢ ـ وقال الواقدي : كان من أورع الناس وأعبدهم وأتقاهم لله عز وجل ، وكان إذا مشى لا يخطر بيديه (٣).

٣ ـ وقال سفيان بن عينية : ما رأيت هاشميا أفضل من زين العابدين

__________________

(١) ابن الخيرتين : لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إن لله تعالى من عباده خيرتان : فخيرته من العرب قريش ، ومن العجم فارس ». راجع : وفيات الأعيان ، ج ٢ ، ص ٤٣١.

(٢) كشف الغمة ، ص ٢٠٩.

(٣) البداية والنهاية ، ج ٩ ، ص ١٠٤.

٨٥

ولا أفقه منه (١).

٤ ـ وقال الإمام مالك : سمي زين العابدين لكثرة عبادته (٢).

٥ ـ وقال نافع بن جبير : إنك سيد الناس وأفضلهم.

٦ ـ وقال عمر بن عبد العزيز وقد قام من عنده علي بن الحسين عليهما‌السلام : من أشرف الناس؟

فقالوا : أنتم.

فقال : كلا ، فإن أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفا ، من أحب الناس أن يكونوا منه ، ولم يحب أن يكون من أحد (٣).

وقال أيضا في موضع آخر : سراج الدنيا ، وجمال الإسلام ، زين العابدين (٤).

وقال الزهري : ما رأيت أحدا أفقه من زين العابدين (٥).

وقال طاووس اليماني :

« دخلت الحجر في الليل فإذا علي بن الحسين عليهما‌السلام قد دخل يصلي ما شاء الله تعالى ، ثم سجد سجدة فأطال فيها ، فقلت : رجل صالح من بيت النبوة لأصغين إليه فسمعته يقول : عبدك بفنائك ، مسكينك بفنائك سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك. قال طاووس : فوالله ما طلبت ودعوت فيهن في كرب إلا فرج عني » (٦).

__________________

(١) المناقب ، ج ٢ ، ص ٢٥٨.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ١٨.

(٣) كشف الغمة ، ص ١٩٩.

(٤) أعيان الشيعة ، ج ٤ ، ص ٤٤.

(٥) زين العابدين لسيد الأهل ، ص ٤٣.

(٦) الفصول المهمة ، ص ٢٠١.

٨٦

وقال جابر الأنصاري : والله ما رؤي في أولاد الأنبياء بمثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب (ع) والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف بن يعقوب ، وإن منهم لمن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا (١).

قبسات من مواعظه

للإمام زين العابدين جولات ناجحات (ع) في المواعظ التي تعد من أعظم الأرصدة الروحية ، ومن أنجح الأدوية في معالجة الأمراض النفسية التي تؤدي بالإنسان إلى التردي في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

وقد اهتم (ع) كثيرا بوعظ الناس وأثر عنه الكثير من المواعظ التي وعظ بها أصحابه وأهل عصره ، وهي لا تزال حية تحذر الناس من الغرور والطيش وتدعوهم إلى سلوك السبيل الحق في حياتهم الفردية والاجتماعية.

كما أثرت عنه حكم تهدف إلى تهذيب النفوس وإصلاحها ، وتوازن الشخصية الإنسانية وازدهارها ، وغرس النزعات الكريمة التي تقضي على الأنانية والحسد والبغي والشر والتعدي على حقوق الآخرين.

وله مواعظ هامة تدعو إلى الاتجاه إلى الله تعالى أنبل مقصد وأكرم ملجأ ، رحمان رحيم ، ينجي الإنسان من كل إثم وشر في هذه الحياة الفانية ، ويطلب إليه التزود إلى دار الآخرة التي هي المقر الدائم لكل الخيرين من عباد الله الصالحين.

وسوف نعرض لبعض ما روي عنه في ذلك :

١ ـ قال عليه‌السلام : « يا بن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ١٩.

٨٧

نفسك ، وما كانت المحاسبة من همك ، وما كان لك الخوف شعارا ، والحزن لك دثارا. يا بن آدم إنك ميت مبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل ، ومسؤول فأعدّ جوابا .. » (١).

يدعو الإمام (ع) الإنسان لأن يقيم في أعماق نفسه واعظا منها يعظها ويحاسبها على كل ما يصدر منها من زلات وهفوات ذلك أنه مبعوث يوم القيامة ، يوم الحساب ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا ما أتى الله من قلب سليم ؛ حيث يحاسب كل إنسان على جميع ما اقترفه في حياته من إثم وشر. وعلى كل إنسان أن يحاسب نفسه فيجعل منها رقيبا عليها ، فيزجرها عندما تهوي به إلى المزالق الرخيصة والنزعات الفاسدة التي تغرق صاحبها في وحول الحياة المادية. وعندها يتزود بخير زاد إلى خير معاد.

٢ ـ ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة التي كان يعظ بها أصحابه قال (ع) : « أحبكم إلى الله أحسنكم عملا ، وإن أعظمكم عند الله عملا أعظمكم في ما عند الله رغبة ، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدكم خشية لله ، وإن أقربكم من الله أوسعكم خلقا ، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله ، وإن أكرمكم على الله أتقاكم لله تعالى .. » (٢).

لقد اهتم الإمام (ع) اهتماما بالغا بمحاسن الأخلاق لذلك طلب إلى أصحابه أن يتحلوا بأحسن الصفات وأن يقوموا بذخائر الأعمال ثم دلهم على السبيل الذي ينجيهم من عذاب الله في الدار الآخرة من أجل ذلك عليهم أن :

أ ـ يتقنوا أعمالهم ويحسنوها فعلى المؤمن إذا أراد عملا أن يكمله ويتقنه.

ب ـ يرغبوا في ما عند الله وهي من أعظم الذخائر ، أما الرغبة إلى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ، ج ٣ ، ص ٤٦.

(٢) زين العابدين للقرشي ، ص ٦١. عن روضة الكافي ، ص ١٥٨.

٨٨

غيره تعالى فإنها تؤول إلى الخيبة والخسران.

ج ـ لا يخافوا إلا الله وأن لا يخشوا إلا هو ، فمن أراد النجاة من عذابه تعالى عليه أن يشعر قلبه بالخشية من عزته وجلاله ، فهي تصد الإنسان من اقتراف الشر أو الإثم.

د ـ أن يوسعوا أخلاقهم تجاه الآخرين لأن بحسن الأخلاق يتميز الإنسان عن غيره ومن فقد أخلاقه فقد إنسانيته.

ه ـ يتوسعوا على عيالهم فينفقوا عليهم مما كسبت أيديهم رزقا حلالا ، وهذا ما يوجب المحبة والمودة والألفة بين أفراد الأسرة ، الخلية الأولى في بناء لمجتمع الإنساني.

ح ـ يتقوا الله ، فتقواه تعالى هي الميزان الأصيل في الإسلام وقد دعانا الله في آيات كثيرة إلى التقوى التي هي من الإيمان. قال تعالى : ( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (١).

وجاء في القرآن الكريم الآية : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) فمن أراد أن يكون مكرما عند الله عليه بالتقوى فهي سفينة النجاة وجسر العبور إلى رضوانه عز وجل.

٣ ـ ومن مواعظه القيمة هذه الموعظة الشاملة لمواضيع عدة مؤثرة.

قال عليه‌السلام : « كفانا الله وإياكم الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبارين ، أيها المؤمنون لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا المائلون إليها ، المفتونون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد (٢) ، وهشيمها البائد غدا ، واحذروا ما حذركم الله منها ، وازهدوا في ما زهدكم الله فيه

__________________

(١) المائدة ، الآية ١١٢.

(٢) الهامد : البالي.

٨٩

منها ، ولا تركنوا إلى ما في هذه الدنيا ركون من أعدها دارا وقرارا ، وبالله إن لكم مما فيها دليلا من زينتها وتصريف أيامها ، وتغييرا نقلا بها ، ومثلا منها ».

يحذر (ع) من الخضوع للطواغيت والظالمين وأتباعهم من المفتونين بحب الدنيا ، والمغرورين بزينتها وبهجتها ، هؤلاء جميعا كانوا من المخربين الذين وقفوا عائقا على مناهضة الإصلاح الاجتماعي ، ونشر الظلم والفساد في الأرض.

ويتابع عليه‌السلام :

« تلاعبها بأهلها ، إنها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد النار أقواما غدا ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه » يذم الدنيا ويندد بطبيعتها لأنها ترفع الخاملين ، وتضع الأحرار والشرفاء ، ثم تدفع أقواما إلى النار ، لانحرافهم عن الحق. وإذا كانت طبيعة الدنيا مناصرة الرذائل ومعاكسة القوى الخيرة فالأجدر الزهد فيها ، والتجافي عن شهواتها والسعي للظفر بنعيم الآخرة.

ثم يتابع الموعظة (ع) : « وإن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان (١) ، ووسوسة الشيطان لتثبط القلوب عن نيتها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم استعان على ذلك بالزهد ، فكرر الفكر ، واتعظ بالعبر ، وازدجر ، فزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذاتها ، ورغب في دائم نعيم الآخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، فعند ذلك نظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة ، حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك

__________________

(١) لعل الأصح ورهبة السلطان.

٩٠

الظلمة ، فقد لعمري ، استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلون به على تجنب الغواة وأهل البدع والبغي والفساد في الأرض بغير الحق ، فاستعينوا بالله ، وارجعوا إلى طاعته ، وطاعة من هو أولى بالطاعة من طاعة من اتبع وأطيع ».

أبدى (ع) ما كانت تواجهه الأمة في عصره الكثير من ألوان الأسى المرير والفتن المذهلة ، وحوادث البدع ، وطرق الجور من قبل الحكام الأمويين الذين أغرقوا البلاد بالفتن والظلم والتعسف. فكان وقع تلك الأحداث شديدا على الأمة ، فقد ثبطت القلوب عن نياتها ، وأبعدتها عن طريق الحق والرشاد.

ثم تابع محذرا (ع) « فالحذر الحذر من قبل الندامة والحسرة ، والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه ، وتالله ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه ، وما آثر قوم قط الدنيا على الآخرة إلا ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم ، وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، فحثه الخوف على العمل بطاعة الله ، وإن أرباب العلم وأتباعهم ، الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه وقد قال الله تعالى : ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (١). فلا تلتمسوا شيئا في هذه الدنيا بمعصية الله ، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله ، واغتنموا أيامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم غدا من عذاب الله ، فإن ذلك أقل للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة ، فقدموا أمر الله وطاعته ، وطاعة من أوجب الله طاعته بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت ، وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته ، وطاعة أولي الأمر منكم ، واعلموا أنكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيد حاكم غدا ، وهو موقفكم ، ومسائلكم ، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمساءلة والعرض على رب العالمين ، يومئذ لا تكلم نفس إلا بإذنه ».

__________________

(١) فاطر ، الآية ٢٥.

٩١

يدعو الإمام (ع) إلى طاعة الله تعالى ، وطاعة أئمة الحق والهدى الذين يهدون الناس إلى الصراط المستقيم ويهدونهم إلى سبل النجاة ، والذين يمثلون إرادة الأمة ووعيها ، ويحققون لها جميع ما تصبو إليه من العزة والحرية والكرامة. كما دعا عليه‌السلام إلى التمرد على أئمة الجور الظالمين وعدم الركون إليهم أو التعاون معهم. لأن التعاون كما أراده تعالى ، هو مع البررة الأتقياء وليس مع الفجرة السفهاء. ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) [ المائدة : الآية ٢ ].

ثم يتابع عليه‌السلام : « واعلموا أن الله لا يصدق كاذبا ولا يكذب صادقا ، ولا يرد عذر مستحق ، ولا يعذر غير معذور ، بل لله الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء بعد الرسل ، فاتقوا الله واستقبلوا من إصلاح أنفسكم ، وطاعة الله وطاعة من تولونه فيها ، لعل نادما قد ندم على ما فرط بالأمس في جنب الله وضع من حق الله ، واستغفروا الله وتوبوا إليه فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات ، ويعلم ما تفعلون ، وإياكم وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم وتباعدوا من ساحتهم ، واعلموا أنه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبد بأمره دون أمر ولي الله ، في نار تلهّب ، تأكل أبدانا ، قد غابت عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حر النار ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، واحمدو الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة لله إلى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ثم إليه تحشرون ، فانتفعوا بالعظة ، وتأدبوا بآداب الصالحين » (١).

حث المؤمنين (ع) على تقوى الله وطاعته لأنهما أساس سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة فبهما يستقيم سلوكه ويكون محترما كريما بين

__________________

(١) تحف العقول ، ص ٢٥٢ وما بعدها. وأمالي المفيد ، ص ١١٧. وروضة الكافي ، ص ١٣٨.

٩٢

قومه ، وعن طريقهما تزدهر حياته ويكسب رضى الله تعالى وسعادته التي ما بعدها سعادة.

تعد هذه الموعظة من غرر مواعظ الإمام عليه‌السلام ذلك أنها لم تقتصر على الدعوة إلى الزهد في الدنيا والعمل للآخرة ، وإنما كانت من الوثائق الاجتماعية والسياسية والأدبية.

٤ ـ ومن مواعظه أيضا :

سأله رجل فقال له : كيف أصبحت يا بن رسول الله (ص)؟ فقال عليه‌السلام : « أصبحت مطلوبا بثمان : الله يطالبني بالفرائض ، والنبي يطالبني بالسنة ، والعيال بالقوت ، والنفس بالشهوة ، والشيطان باتباعه ، والحافظان بصدق العمل ، وملك الموت بالروح ، والقبر بالجسد ، فأنا بين هذه الخصال مطلوب » (١).

إذا تأملنا مليا أبعاد الحياة رأيناها محاطة بهذه الأمور الثمانية ، وإذا نظرنا إلى ما حولنا وجدنا أكثر الناس يحتفلون بمباهجها ويهتمون بزينتها ومفاتنها ، لكنهم لو تبصروا أكثر وأمعنوا الفكر لصمموا على الزهد فيها لأنها فانية زائلة لا تدوم.

٥ ـ وفي هذا المجال قال (ع) الموعظة التالية : « لو كان الناس يعرفون جملة الحال في صواب التبيين ، لأعربوا عن كل ما يتلجلج في صدورهم ، ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم ، وعلى أن إدراك ذلك كان لا يعدمهم في الأيام القليلة العدة ، والفكرة القصيرة المدة ، ولكنهم من بني مغمور بالجهل ومفتون بالعجب ومعدول بالهوى من باب التثبت ، ومصروف بسوء

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ٥٠.

٩٣

العادة عن فضل التعلم » (١).

لو أمعن الإنسان النظر وأطال التفكير في شؤون هذا الكون لآمن إيمانا لا يخامره الشك بأن هناك خالقا للكون ومدبرا له يخضع كل شيء لإرادته وقضائه ، وإذا آمن ذلك لوجد برد اليقين في نفسه وعاش آمنا مطمئنا لكثير من المشاكل والمصاعب التي تعترضه في حياته القصيرة الأمد ، ولكن هل يعتبر؟ وأنى له ذلك وهو يعيش في غمرة الجهل يضله الهوى عن تعلم الحقائق ويبعده عن الوصول إلى الحق.

* * *

__________________

(١) البيان والتبيين ، ج ١ ، ص ٨٤. وزهر الآداب ، ج ١ ، ص ١٠٢.

٩٤

أنوار من تعاليمه

أدلى الإمام زين العابدين عليه‌السلام بالكثير من التعاليم القيمة الرفيعة التي تدل على خبرة كاملة لواقع الحياة وعمق بعيد في شؤونها وشجونها ؛ كما يرشح من تعاليمه الحكيمة خبرته الواسعة بأحوال الناس وأمورهم ومعاشهم وكل ما يتعرضون له من أمراض نفسية وسياسية ودينية وفيما يلي بعض ما أثر عنه :

١ ـ ذم التكبر :

التكبر ظاهرة سيئة لأنها باب لكل شر ومصدر لكل رذيلة لذلك ذم الإمام (ع) التكبر ونعى على المتكبر الذي لا يرى غيره يستحق الحياة ، ومن ثم يقوم بالظلم والاعتداء على الناس. يقول عليه‌السلام : « عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غدا جيفة ».

فالمتكبر على الناس الفخور بنفسه ، لو تأمل ذاته قليلا ونظر إلى بداية تكوينه ، نطفة ، ثم إلى نهاية مصيره ، جيفة ، لما تكبر على الناس بماله أو بنيه! ليته تذكر قول الإمام علي (ع) : « إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق » أو تذكر قول الله عز وجل : ( وَلا تُخْزِنِي

٩٥

يَوْمَ يُبْعَثُونَ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ ) (١).

المتكبرون صموا آذانهم عن قول الله تعالى رب العرش العظيم : ( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) (٢). أي لا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطئك مهما شمخت بأنفك ، فإنك ضعيف ضعيف وقصير قصير لن تبلغ الجبال طولا!

فاعرف نفسك ، وقدر قدرك وزن الأمور بميزان العقل المتنور بنور الإيمان وزيت الحكمة وعبق الرحمة وحسن الإدراك والتقدير. فالله تعالى فاطر السماوات والأرض هو العزيز الحكيم ولا يحب كل مختال فخور قال تعالى : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (٣).

فالمتكبر يكرهه عباد الله في الدنيا ويكرهه الله في الآخرة ، فهو خاسر الدارين لذلك عد التكبر في الإسلام من الصفات الذميمة التي تفسد المجتمع الإنساني وتورث الفرقة والبغضاء.

٢ ـ الابتهاج بالذنب :

قال عليه‌السلام : « إياك والابتهاج بالذنب ، فإن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه ».

بعض الناس يخطئون مع الآخرين من أهلهم أو أصحابهم أو جيرانهم لكنهم بعد وقوع الخطأ تؤنبهم نفسهم فيتراجعون عن خطئهم ويعتذرون لسوء فعلتهم.

__________________

(١) الشعراء ، الآية ٨٨.

(٢) الإسراء ، الآية ٣٧.

(٣) لقمان ، الآية ١٨.

٩٦

والبعض الآخر يرتكبون الأخطاء الكبيرة والذنوب الفادحة ثم يفتخرون بما كسبت أيديهم من الآثام ويتباهون بذنوبهم بلا خجل ولا حياء.

هؤلاء قد يكونون من أصحاب السلطة أو الجاه أو أصحاب الثروات الطائلة فلا يأبهون لانتقاد الناس لهم ولا يحترمون حقوق غيرهم ، لأنهم يتوهمون أن الجميع بحاجة إليهم وإلى خدماتهم. وإننا نجد منهم الكثير في حياتنا اليوم من الذين خدمهم الحظ وتسلموا مناصب عالية في هذا الزمان البائس. وقد نجد حولهم أنصارا يحفون بهم ويسترون عليهم عيوبهم ، وهم من طينتهم لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية ولذاتهم القريبة المنال.

هؤلاء الفئة المخربة في المجتمع ، حذرهم الإمام من الابتهاج بذنوبهم لأن الابتهاج بالذنب أعظم من ركوبه. وبعد هذا التحذير عمد (ع) إلى تعداد الذنوب التي توجب سخط الله وعذابه فحذر منها ليكون الإنسان في سلامة من دينه وآخرته. قال عليه‌السلام : « الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس ، والزوال عن العادة في الخير ، واصطناع المعروف ، وكفران النعم وترك الشكر ، قال الله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (١). فالبغي على الناس من الذنوب التي تغير النعم والذنوب التي تورث الندم ، قتل النفس التي حرم الله ، قال تعالى في قصة قتل قابيل لأخيه هابيل وعجزه عن دفنه : ( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) (٢).

لقد ترك صلة القرابة والرحم طمعا بهذه الدنيا الفانية وترك الوصية ورد المظالم وترك الصلاة ومنع الزكاة حتى يحضر الموت ( فلات ساعة مندم ).

__________________

(١) الرعد ، الآية ١١.

(٢) المائدة ، الآية ٣١.

٩٧

والذنوب التي تنزل النقم : عصيان العارف ، والتطاول على الناس ، والاستهزاء بهم ، والسخر بهم ، والذنوب التي تدفع النعم إظهار الافتقار ، والنوم على العتمة (١) ، وعن صلاة الغداة واستحقار النعم وشكوى المعبود.

والذنوب التي تهتك العصم : شرب الخمر ، واللعب بالقمار ، وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح وذكر عيوب الناس ، ومجالسة أهل الريب.

والذنوب التي تنزل البلاء : ترك إغاثة الملهوف ، وترك معونة المظلوم ، وتضييع الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. والذنوب التي تديل الأعداء : المجاهرة بالظلم ، وإعلان الفجور ، وإباحة المحظور ، وعصيان الأخيار ، واتباع الأشرار. والذنوب التي تعجل الفناء : قطيعة الرحم ، واليمين الفاجرة ، والأقوال الكاذبة والزنا ، وسد طرق المسلمين ، وادعاء الإمامة بغير حق.

والذنوب التي تقطع الرجاء : اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله ، والتكذيب بوعد الله.

والذنوب التي تظلم الهواء السحر والكهانة ، والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر ، وعقوق الوالدين.

والذنوب التي تكشف الغطاء : الاستدانة بغير نية الأداء ، والإسراف في النفقة على الباطل ، والبخل على الأهل والولد وذوي الأرحام وسوء الخلق ، وقلة الصبر ، واستعمال الضجر والاستهانة بأهل الدين.

والذنوب التي ترد الدعاء : سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان ، وترك الصديق بالإجابة وتأخير الصلوات المفروضات حتى تذهب أوقاتها ، وترك التقرب إلى الله عز وجل بالبر والصدقة ، واستعمال

__________________

(١) العتمة هي وقت صلاة العشاء.

٩٨

البذاء والفحش في القول الزور ، وكتمان الشهادة ، ومنع الزكاة والقرض والماعون وقساوة القلوب على أهل الفقر والفاقة وظلم اليتيم والأرملة ، وانتهار السائل ورده بالليل .. » (١).

لقد حذر الإمام عليه‌السلام من اقتراف هذه الذنوب على اختلاف أنواعها ودرجاتها ، والجرائم التي توجب انحراف الإنسان في سلوكه وتبعده عن خالقه ، وما ينتج عن ذلك من آثار وضيعة ومضاعفات سيئة في الدنيا والآخرة.

والحقيقة أن هذا الحديث وأمثاله هو من المناجم الخصبة في التربية النفسية والسلوك الاجتماعي وتنظيم الحياة في توازنها وعدالتها. ثم استكمال الموضوع في شتى جوانبه وإصابة الهدف الذي يرمي إليه وتحقيق الغاية في إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع ، سيما وأن الإمام عاش في عصر تسوده الانحرافات في الدين والأخلاق والآداب ، ويسوسه حكام ظالمون طغاة لا يفقهون من الدين إلا اسمه ولا يعرفون من الحق إلا رسمه فكان من واجب الإمام السجاد أن يقوم بدوره الإصلاحي ليقوم الإعوجاج ويصلح ما أفسده الأمويون في رسالة جده يريد أن يكمل الطريق الذي رسمه والده سيد الشهداء (ع).

٣ ـ العدالة :

إن اكتشاف المؤمنين أمر لازم وضروري في نظر الإمام السجاد وفي أيامنا هذه يرى الإنسان نفسه في خضم معارك طاحنة تخوضها الحركات والتيارات السياسية والاجتماعية متآمرة على الإسلام حيث تسيّر بطرق خبيثة أقل ما تتصف به اللؤم والدهاء.

في هذا العالم اليوم تفتقد الشخصية الإنسانية صفاءها ونقاءها

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، ص ٧٨.

٩٩

وطهرها ، فقد كثر الرياء وتفشى النفاق ، وذهبت نصيحة الرسول الأكرم (ص) « طوبى لمن تساوت سريرته وعلانيته » أدراج الرياح.

في أيامنا هذه أصبحت المسؤولية ثقيلة على عاتق المؤمنين الرساليين حيث أضحى أول همهم معرفة من يحيطون بهم معرفة كاملة حتى تتوافر الثقة فيما بينهم ثم بعد ذلك يستطيعون أن يعملوا ويجاهدوا في سبيل الله بكل ثقة وطمأنينة وإخلاص ...

٤ ـ صفات المؤمن :

فكيف يمكن أن نتعرف على المؤمنين المخلصين؟ وكيف نكتشف المندسين المشبوهين؟ هذا ما يبينه لنا الإمام زين العابدين (ع) في حديثه التالي حيث يوضح لنا فيه العلامات المميزة لمن آمن واعتقد بالإسلام.

قال عليه‌السلام : « إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته ، وهديه ، وتمادى في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويدا لا يغرنكم ، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا ، وركوب الحرام منها ، لضعف بنيته ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخا له ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم ، فإن شهوات الخلق مختلفة ، فما أكثر من يتأبى عن الحرام وإن كثر ، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما ، فإذا رأيتموه كذلك فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا عقدة عقله ، فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله .. فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا أيكون هواه على عقله أم يكون عقله على هواه؟ وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها؟ فإن في الناس من يترك الدنيا للدنيا! ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة ، حتى إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد ، فهو يخبط خبط عشواء ، يقوده أول باطله إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمد به بعد طلبه لما لا يقدر

١٠٠