الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

حقوق الأفعال

١٠ ـ حق الصلاة :

« فأما حق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة إلى الله ، وأنك قائم بها بين يدي الله ، فإذا علمت ذلك كنت خليقا أن تقوم فيها مقام الذليل ، الراغب ، الراهب ، الخائف ، الراجي ، المسكين ، المتضرع ، المعظم من كان بين يديه ، بالسكون والإطراق وخشوع الأطراف ، ولين الجناح ، وحسن المناجاة له في نفسه ، والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت به خطيئتك ، واستهلكتها ذنوبك ولا قوة إلا بالله .. ».

هذه صورة الصلاة كما يريدها الله وكما يحب أن يكون عليها صاحبها ، صورة العبد الكادح إلى ربه ، الوافد عليه ، صورة الإنسان الضعيف الصغير ، يقف بين يدي الله العزيز الكبير. صورة توحي بعظمة الباري عز وجل فيها التوبة والإنابة والخضوع والخشوع. إنها لقاء الشوق والمحبة يعترف المصلي لخالق الكون بالربوبية والإلهية بكل أوصافها : العلم والقوة والرحمة والحكمة والعزة ...

الصلاة هي قربان كل تقي وعمود الدين ووجهة يعرج بها المسلم إلى الله ويسأل عنها يوم القيامة ، فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها ... والإمام زين العابدين (ع) أعطانا لوحة جميلة في التعليم والتوجيه ، يريد أن يصلنا بالله ومن خلال هذه الصلة يعلمنا الأدب مع عزته وجلاله. فعلى المسلم أن يصلي بسكينة ووقار ، خاشع الأطراف ، حسن المناجاة ، لا يشغل فكره بأي شأن من شؤون الدنيا ، وعليه أن يسأل الله العلي القدير لينقذه من التبعات والخطيئات ، وفك رقبته من النار. فعلى المصلي أن يكون راغبا في ثواب الله ، راهبا من عذابه ، متضرعا خاشعا ، خائفا ، فلا يترك لليأس مدخلا إلى قلبه ولا يترك للرجاء أن يقف مانعا عن التوجه إلى الله والازدياد من الأعمال الصالحة.

فعلينا أن نؤدي صلاتنا بشروطها وآدابها وخشوعها وأن نؤديها

٢٢١

بفاعليتها وروحانيتها وسموها لتكون هذه الصلوات محطات من أجل الوصول إلى رضا الله وطاعته.

١١ ـ حق الصوم :

« وأما حق الصوم فأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار وهكذا جاء في الحديث « الصوم جنّة من النار » (١) فإن سكنت أطرافك في حجبها رجوت أن تكون محجوبا وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها وترفع جنبات الحجاب ، فتطلع على ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله ، لم تأمن أن تخرق الحجاب ، وتخرج منه ، ولا قوة إلا بالله .. ».

الصوم هو من العبادات المهمة في الإسلام ، هو رياضة روحية يتجرد الإنسان فيه من كل شهوات الدنيا ليحلق في أجواء من الصفاء والروحانية.

تتجسد في الصوم المساواة بين جميع المسلمين يجمعهم شهر رمضان المبارك ويوحد نفوسهم ومشاعرهم ، وهو لا يعني الامتناع عن الطعام والشراب فحسب بل هناك وراء ذلك ما هو أعمق وأدق. فعلى الصائم أن يمسك لسانه عن الكذب وقول الباطل ، ويمسك سمعه عن سماع الغيبة ، وفرجه مما لا يحل له ، وبطنه عن تناول الحرام ، وبهذا يكون الصوم « جنة » من النار ومنجى من عذاب الله وعقابه. أما إذا تعدت هذه الجوارح والأعضاء وظائفها الشرعية وانحرفت عن خطها السوي فإنها توصل بصاحبها إلى ما لا تحمد عقباه.

١٢ ـ حق الصدقة :

« وأما حق الصدقة فأن تعلم أنها ذخرك عند ربك ، ووديعتك التي لا

__________________

(١) جنّة : أي وقاية من النار.

٢٢٢

تحتاج إلى الأشهاد ، فإذا علمت ذلك ، كنت بما استودعته سرا أوثق بما استودعته علانية ، وكنت جديرا أن تكون أسررت إليه أمرا أعلنته وكان الأمر بينك وبينه فيها سرا على كل حال ، ولم تستظهر عليه فيما استودعته منها بأشهاد الأسماع والأبصار عليه بها كأنها أوثق في نفسك لا كأنك لا تثق به في تأدية وديعتك إليه.

ثم لم تمنن بها على أحد لأنها لك فإذا امتننت بها لم تأمن أن تكون مثل تهجين حالك منها إلى من مننت بها عليه لأن ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها ولو أردت نفسك بها لم تمتّن بها على أحد ولا قوة إلا بالله .. ».

لقد رغب الإسلام بكل الصدقات والهبات والتبرعات والمسلم إذا عاش مع الناس بحاجاتهم وقضاياهم وتفاعل معهم عاطفيا وعمليا سوف يتحول إلى عنصر عطاء. والعطاء إذا خرج عن نفس طيبة يتحسس بآلام الناس وينفس عنهم كربتهم ويرفع عنهم عوزهم سوف يتحول العمل إلى عبادة تعادل الصلاة والصوم.

لذلك أكد الإمام على الصدقة واعتبرها ذخرا عند الله للمتصدق وهو إنما يقدمها لنفسه ، فإنه يجدها حاضرة يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون.

كما أكد الإمام (ع) على ضرورة إعطاء الصدقة في السر ، وأن تكون خالية من المن لأن ثوابها يعود على منفقها ولا يضيع عند الله تعالى وهي لا تحتاج إلى الأشهاد ولا إلى الوثائق وكلما كانت سرا كانت أكثر ثوابا وأبعد عن الظهور والكبرياء ، أما إذا أعطيت جهارا وأمام الملأ من الناس فإنها تخرج عن هدفها المحدد لها وهو التوجه نحو الله والتماس رضاه. قال تعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١).

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٦٢.

٢٢٣

ونظرا لأهمية الصدقة في السر فقد كان الإمام (ع) يعول مائة بيت في يثرب ، وهم لا يعلمون من هو الذي يعيلهم.

١٣ ـ حق الهدي :

« وأما حق الهدي فأن تخلص بها الإرادة إلى ربك والتعرض لرحمته وقبوله ولا تريد عيون الناظرين دونه ، فإذا كنت كذلك لم تكن متكلفا ولا متصنعا وكنت إنما تقصد إلى الله واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير كما أراد بخلقه التيسير ، ولم يرد بهم التعسير ، وكذلك التذلل أولى بك من التدهقن (١) لأن الكلفة والمؤونة في المتدهقنين ، فأما التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ، ولا مؤونة عليهما ، لأنهما الخلقة ، وهما موجودان في الطبيعة ولا قوة إلا بالله ... ».

الهدي من فريضة الحج تمتاز بطابعها السياسي العبادي وهو ما يذبحه حجاج بيت الله الحرام من الأنعام في مكة أو في منى وقد أكد الإمام (ع) على أن يكون خالصا لوجه الله تعالى غير مشفوع بأي سبب آخر ومظاهر فاسدة كالرياء وطلب السمعة. لأن الله تعالى يتقرب إليه باليسير من الأعمال لا بالعسير وبالتذلل لا بالتكبر.

والحاج يهرق دما ضحية تعبيرا عن تتويج تلك الأعمال العبادية المأمور بها بثورة دامية ينفذها المسلم إذا احتاج هذا الدين دماء طاهرة من أجل الجهاد في سبيل الله.

والهدي يرمز إلى العطاء الكريم والفداء العظيم والمسلم على استعداد دائم لهذا العطاء والفداء .. يقدمه خاليا من كل الشوائب التي تفسد قبوله.

__________________

(١) التدهقن : التكبر والتجبر.

٢٢٤

ثم بيّن لنا الإمام قاعدة إسلامية هامة وهي اليسر استمدها من القرآن الكريم. قال تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ .. ) (١).

ومن حقوق الأفعال تحدث عليه‌السلام عن حقوق الأئمة.

حقوق الأئمة

١٤ ـ حق الأئمة :

« فأما حق سائسك بالسلطان فأن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه ابتلي فيك ، بما جعله الله له عليك من السلطان ، وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لا تماحكه (٢) وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه.

وتذلل وتلطف لإعطائه الرضى ما يكفّه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله. ولا تعازه (٣) ولا تعانده فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك (٤) فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك ، ولا قوة إلا بالله .. ».

ومن الشؤون الدينية إلى الشؤون السياسية. ففي التشريع الإسلامي الحاكم هو الله جل جلاله ، فهو الذي يملكنا تكوينيا من أنه خلقنا وصورنا وأخرجنا إلى عالم الوجود. قال تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ) (٥). وقد اختار سبحانه رسلا كراما حملهم أمانة تبليغ الرسالة الإسلامية ، فهم ينقلون إرادة الله وينفذون أوامره ونواهيه. لقد تولوا المهمتين : التبليغ والتنفيذ. فالرسول الأعظم (ص) قام بإبلاغ الناس بوحي الله المتجسد في

__________________

(١) البقرة ، الآية ١٨٥.

(٢) أي لا تخاصمه.

(٣) لا تعازه : لا تعارضه.

(٤) عققت نفسك : آذيتها والعقوق : نكران الجميل.

(٥) الأنعام ، الآية ٥٧.

٢٢٥

القرآن والسنة وكان الحاكم المطلق الذي نفذ هذه الأحكام فأعلن الحروب وفتح البلاد ونظم الجيش وحكم في الحدود وهكذا كانت السلطة بيده ولا يجوز مخالفته. ولأنه كان يعلم أن الله سبحانه سيختاره إلى جواره كما اختار الأنبياء من قبله أبلغ الأمة عن الخليفة بعده وعينه باسمه وأشار إليه بأوصافه فكان الإمام علي بن أبي طالب (ع) نص عليه صريحا بأمر من الله في حديث المنزلة وحديث الدار. قال تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .. ) (١).

وقد تأكد حديث تعيين الإمام علي (ع) في حديث الغدير الذي بلغه النبي (ص) للأمة في حجة الوداع ثم تتابعت السلسلة الطاهرة من أهل البيت فكانوا اثنا عشر إماما مع الإمام علي عليهم‌السلام. آخرهم الإمام الحجة محمد ابن الحسن العسكري الذي شاءت حكمة الله أن يغيب عن الأبصار وإن كان حاضرا في الأمصار. وهناك شروط ومواصفات من اجتمعت فيه كان الحاكم الذي يقوم في تدبير شؤون الأمة الإسلامية. وأهم هذه الشروط :

١ ـ الإيمان : على الحاكم أن يكون مؤمنا يعتقد بالشريعة الإسلامية أصولا وفروعا ، عقائدا وأحكاما.

٢ ـ العدالة : فلا يترك واجبا ولا يرتكب حراما دون عذر شرعي ، لأن الفاسق يجعل نفسه حجة بأيدي الأشرار والفاسقين ، وبهذا يطعن بالشريعة الإسلامية ويقتدي به أصحاب المصالح الشخصية.

٣ ـ العلم : على الحاكم في الإسلام أن يكون أعلم الناس بالشريعة لأن وظيفته القيادية تحتم عليه حفظها وبيانها ، وشرحها لا يكون إلا على أيدي العلماء الفقهاء. قال الإمام علي (ع) : « ألا وإن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه ». إن القيادة الشرعية الصالحة التي

__________________

(١) آل عمران ، الآية ١٤٤.

٢٢٦

تهتم بشؤون المسلمين وتحافظ على كرامة الناس وعزتهم هي التي تقلب مفاهيم الناس وتحولهم إلى أعضاء صالحين يتمسكون بالفضيلة وينشدون الخير. فإن كان الحاكم ورعا تقيا صالحا عالما انعكس ذلك على مجتمعه كله فتسود الفضيلة وينتشر العدل ويعم الرفاه. أما إذا كان غاضبا فاسدا فاسقا منحرفا انعكس ذلك على مجتمعه فانتشر الفساد وساد الظلم واضطربت أمور الناس. وما نراه اليوم من مظالم وما نعيشه من نكبات واستغلال واستعباد ، كل ذلك نتيجة للانحراف عن الإسلام.

والإمام زين العابدين (ع) في رسالته المباركة وضع الحاكم أمام واجبه ومسؤولياته ويضع المواطن أمام واجبه أيضا فإذا أخطأ الحاكم الظالم عليك إرشاده بأيسر الطرق بحيث تخرج عن تبعة ما يلحقك من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

١٥ ـ حق المعلم :

« وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، والمعونة له على نفسك في ما لا غنى بك عنه ، بأن تفرّغ له عقلك ، وتحضره فهمك ، وتذكي له قلبك ، وتجلي له بصرك ، بترك اللذات ونقص الشهوات ، وأن تعلم أنك في ما ألقى إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم ، ولا تخنه في تأدية رسالته ، والقيام بها عنه إذا تقلدتها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ».

المعلم من أكرم رجال الأرض الذين ساهموا في نشر العلم وفك عقال الجهل ، إنه صانع الفكر والحضارة ، ينير دروب السالكين للوصول إلى الحقيقة وشاطىء السلامة. لقد ارتفع عن الأنانية البغيضة ليفتح قلوب الآخرين المغلقة ويزرع في نفوسهم حب الخير ونداء التقدم وثورة التحرير ، يدفع طلابه نحو الأمجاد العظيمة في كل مجالات العلم والأدب

٢٢٧

والأخلاق. وبالعلم والأخلاق قامت الحضارات الإنسانية. فله أياد بيضاء على الإنسانية عامة ، وعلى المتعلم خاصة. وقد أشاد الإمام (ع) بمكانة المعلم فأثبت له حقوقا على المتعلم وجعله مسؤولا عن رعايتها والقيام بها. وهذه الحقوق هي :

١ ـ احترام المعلم وتعظيمه وتقدير عطائه لما له من عظيم الفضل على المتعلمين في تنوير طريقهم وإنقاذهم من ظلام الجهل وظلم الجاهلين.

٢ ـ توقير مجلسه واعتماد الحشمة والأدب فيه.

٣ ـ حسن الاستماع لمحاضراته والإقبال عليها بجدية واهتمام.

٤ ـ تفريغ العقل وتحضير الفهم وإذكاء القلب وإجلاء البصر ومن الطبيعي أن طالب العلم إذا لم يقبل على معلمه برغبة واهتمام فإنه لا يستفيد في مدرسته أو جامعته.

٥ ـ ترك اللذات والابتعاد عن الشهوات لأنهما شرطان أساسيان في تحصيل العلوم عامة ، والدينية خاصة. فطالب اللذات لا يحصل غالبا على شيء من العلوم.

٦ ـ على المتعلم أن ينشر جميع العلوم والمعارف التي تلقاها عن أستاذه لأن ذلك واجب شرعي عليه في استمرار رسالة العلم ونشره بين جميع الناس.

هذه الأصول التربوية التي دعا إليها الإمام تمثل التربية السليمة التي يجب على طلابنا اليوم الاقتداء بها لأنها تعاليم علمائنا الأبرار الذين قدموا للبشرية كل خير وصلاح وتعاليم الإسلام العظيم الذي دخل إلى القلب والروح فقلب الموازين وغير المفاهيم الجاهلية ونقل الناس من الظلام إلى النور فصاغهم صياغة ربانية خالصة.

٢٢٨

١٦ ـ حق المالك :

« وأما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك ، تلزمك طاعته في ما دق وجل منك إلا أن تخرجك من وجوب حق الله ، ويحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق ، فإذا قضيته رجعت إلى حقه ، فتشاغلت به ، ولا قوة إلا بالله .. ».

اهتم أهل البيت عليهم‌السلام بالرق وعملوا كل ما لديهم على فك رقاب العبيد ، ولو أنهم تولوا قيادة الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة لقضوا على الرق بشتى صوره ولم يبق أي أثر له. والإمام زين العابدين (ع) تمشيا مع خط الإسلام في تحبيذ العتق أعتق الألوف من العبيد.

قال سيد الأهل : « فهو يشتري العبيد لا لحاجة به إليهم ولكن ليعتقهم ، وقالوا : إنه أعتق مائة ألف (١).

لقد عمل الإمام (ع) على إنقاذ الإنسان من العبودية وعامل الأرقاء كما يعامل أبناءه باللطف والرحمة واللين فلم يجعل الرق يحمل العبودية والذل ، عملا بقول جده أمير المؤمنين : « إن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق ».

وقد تعرض الإمام (ع) إلى حق المالك على رقه ، فأوجب طاعته إلا أن يدعو مولاه إلى معصية الله فلا طاعة له.

١٧ ـ حق الرعية :

« فأما حقوق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم ، وذلهم ، فما أولى

__________________

(١) زين العابدين لسيد الأهل ، ص ٧.

٢٢٩

من كفافه ضعفه وذله حتى صيره رعية ، وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع منك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله ، بالرحمة والحياطة والأناة (١) ، وما أولاك إذا عرفت ما أعطاك الله من فضله هذه العزة والقوة التي قهرت بها ، أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه فيما أنعم عليه ولا قوة إلا بالله .. » (٢).

نظر الإمام (ع) إلى الحكومات القائمة في عصره فرأى الطواغيت والفراعنة وأنصاف الآلهة الذين توصلوا إلى كرسي الحكم بالقوة والقهر فقتلوا ونهبوا وأجرموا وسجنوا دون وازع من دين أو رادع من ضمير ، لقد تجردوا من إنسانيتهم ولبسوا ثياب الذئاب الكاسرة وحكموا على أشلاء الناس وجماجم البشر فكان فرعون وهامان ويزيد وابن زياد والوليد والحجاج ... واليوم في عالمنا المعاصر يوجد أمثالهم ممن يسومون الناس بالذل والهوان ويحاسبونهم على التهمة والظن كل ذلك في سبيل الحفاظ على عروشهم ومصالحهم.

هؤلاء الطواغيت يدّعون الحكم باسم الإسلام ، والإسلام منهم بريء كل البراءة ، إنهم عبء على الإسلام والمسلمين ، تولوا عروشهم الدنيئة بمعونة أسيادهم المستعمرين ، والإسلام لا يعترف بشرعية حكمهم ولا يسمح للشعب أن يتقيد بما يأمرون وينهون.

على الحاكم في الإسلام أن يكون كالأب الرحيم على رعيته يرعاهم ويتفقذ شؤونهم ويعيش آمالهم وآلامهم ، عليه أن يتمثل بوصية أمير المؤمنين لمالك الأشتر عندما ولاه على مصر. جاء في الوصية : « وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان : إما أخ في الدين أو نظير لك في الخلق!

__________________

(١) الحياطة : الحماية والصيانة.

(٢) الأصح : مما أنعم عليه.

٢٣٠

تفرض منهم الزلل ، وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك ... ».

والإمام زين العابدين (ع) يوصي الحكام برعاية الشعوب والرحمة بها ، والحياطة لشؤونها ، والأناة في التصرف في أحوالها ، وقد وضعهم وجها لوجه أمام الله كي يقوموا بأداء شكر هذه النعمة التي استطاعوا من خلالها أن ينفذوا حكم الله وإرادته ويجعلوا كلمته هي العليا.

١٨ ـ حق المتعلمين :

« وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله قد جعلك لهم في ما آتاك من العلم ، وولاك من خزانة الحكمة فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك ، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبده ، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه ، كنت راشدا ، وكنت لذلك آملا معتقدا ، وإلا كنت له خائنا ولخلقه ظالما ، ولسلبه عزه متعرضا ».

حث الإسلام على العلم ودعا إليه وأمر بطلبه ولو كان في أبعد البلاد وأقصاها. وقد رفع الله المؤمنين والمتعلمين درجات. قال تعالى : ( .. يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ». فنشر العلم أمر ضروري وواجب على المعلمين وذلك حتى يقضى على الجهل وتمنع البدع

__________________

(١) المجادلة ، الآية ١١.

٢٣١

وتستقيم الأمور في الحياة. وكما أخذ الله على الجاهل أن يتعلم أخذ على العالم أن يبذل علمه.

والإمام زين العابدين (ع) يوجه حديثه إلى المعلم فيقول له : إن الله سبحانه وتعالى بما أعطاك من العلم جعلك محط حاجة طلابه فإن أحسنت فيما توليت وقمت بما يدعوك إليه الواجب من نشر العلم وبذله للمتعلمين ، فالله تعالى فيما رزق العلماء من العلم والحكمة ، قد جعلهم خزنة عليها ، فإن بذلوه إلى الناس فقد قاموا بواجبهم وأدوا رسالتهم وإلا كانوا خائنين وظالمين وتعرضوا لنقمة الله وسخطه.

١٩ ـ حق المملوكة أو حق رعيتك بملك النكاح :

« وأما حق رعيتك بملك النكاح فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا ، وكذلك كل واحد منكم يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ، ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ، ويكرمها ويرفق بها ، وإن كان حقك عليها أغلظ ، وطاعتك بها ألزم فيما أحببت وكرهت ، ما لم تكن معصية ، فإن لها حق الرحمة ، والمؤانسة ، وموضع السكون إليها قضاء اللذة التي لا بد من قضائها ، وذلك عظيم ولا قوة إلا بالله .. ».

أوصى الإسلام بالزواج الشرعي وحدد مواصفات المرأة ومواصفات الرجل كي يستمر الزواج ويعطي ثماره التي يرغبها. ففي مقام الدعوة إليه قال تعالى : ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (١).

وقال تعالى أيضا : ( وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

__________________

(١) النور ، الآية ٣٢.

٢٣٢

يَتَفَكَّرُونَ ) (١). فالمرأة سكن للرجل وهدوء وراحة ضمير من هنا قول الإمام زين العابدين (ع) : « فأن تعلم أن الله جعلها سكنا ومستراحا وأنسا وواقية ».

وقال تعالى : ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ).

فالمرأة تستر عيوب الرجل وعوراته كما تسترها الثياب ، وكما أن الإنسان يختار من الثياب المناسب واللائق به وهذه نعمة يجب على كل منهما أن يؤدي شكرها. يقول الإمام زين العابدين (ع) : « وكذلك كل واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه ويعلم أن ذلك نعمة منه عليه ووجب أن يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها .. ». هذه المعاشرة الحسنة تتجسد في مسيرة المرأة المسلمة والرجل المسلم على حد سواء ولكل منهما الأجر والفضل وعلى الزوجة أن تطيع زوجها وتحافظ على شؤونه وما ملكت يداه ولا تعصي له أمرا إلا إذا كان فيه معصية لله فعندها تسقط طاعته. « إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ».

٢٠ ـ حق رعيتك بملك اليمين :

« وأما حق رعيتك بملك اليمين فأن تعلم أنه خلق ربك ولحمك ودمك وأنك تملكه لا أنت صنعته دون الله ، ولا خلقت له سمعا ولا بصرا ، ولا أجريت له رزقا ، ولكن الله كفاك ذلك بمن سخره لك ، وائتمنك عليه ، واستودعك إياه لتحفظه فيه ، وتسير فيه بسيرته فتطعمه مما تأكل ، وتلبسه مما تلبس ، ولا تكلفه مما لا يطيق ، فإن كرهته خرجت إلى الله منه ، واستبدلت به ، ولم تعذب خلق الله ، ولا قوة إلا بالله .. ».

ملك اليمين هم العبيد والإماء الذين تحت يد إخوانهم من بني البشر ، وقد جهد الإسلام منذ يومه الأول في سبيل تحريرهم وإخراجهم من ذل الرق والعبودية إلى عز الانطلاق والحرية.

__________________

(١) الروم ، الآية ٢١.

٢٣٣

وهذا الإمام زين العابدين ما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان الكثير من العبيد. وهذه الوصية منه (ع) تمثل موقفا رائعا من مواقفه.

لقد نظر الإمام (ع) إلى المملوك نظرة رحيمة مستمدة من جوهر الإسلام وواقعه ، فالمملوك كالحر هو من صنع الله ، خلق له السمع والبصر ، وأجرى له الرزق كما صنع ذلك للحر ، فليس للمالك أن يتكبر عليه ، أو يحمله فوق طاقته. وليعلم المالك أن الله سبحانه سخره له وائتمنه عليه واستودعه إياه فحق له أن يحفظ الأمانة والوديعة فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يعذب خلق الله. وهذه لفتة كريمة من الإمام كي يعود المالك إلى ضميره وعقله.

حقوق الرحم

وفي استعراضه للحقوق وجه الإمام (ع) نظرة صائبة نحو الأرحام وأدلى بحقوقهم.

٢١ ـ حق الأم :

« فحق أمك أن تعلم أنها حملتك ، حيث لا يحمل أحد أحدا ، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا ، وأنها وقتك بسمعها وبصرها ، ويدها ورجلها وشعرها وبشرها ، وجميع جوارحها ، مستبشرة بذلك ، فرحة موبلة (١) محتملة لما فيه مكروهها ، وألمها ، وثقلها وغمها حتى دفعتها عنك يد القدرة ، وأخرجتك إلى الأرض ، فرضيت أن تشبع وتجوع هي ، وتكسوك وتعرى ، وترويك وتظمأ ، وتظلك وتضحي وتنعمك ببؤسها ، وتلذذك بالنوم بأرقها ، وكان بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء (٢)

__________________

(١) موبلة : مواظبة ومستمرة.

(٢) الحواء : ما يحتوي الشيء ويحيط به.

٢٣٤

وثديها لك سقاء ، ونفسها لك وقاء ، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك ، فتشكرها على قدر ذلك ، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه .. ».

الأم : هذه الكلمة العذبة ، الطيبة التي تفيض عطفا وحنانا ، وحبا وإخلاصا ، وتضحية وإيثارا. إنها تمثل العطاء بمدلوله الإسلامي الإنساني فيها تتجسد كل معاني الخير ، ومن نفسها تقدم أعلى ما عندها راغبة في العطاء ، تقدم سعادتها وراحتها وقلبها ونفسها وكل ما تطاله يدها دون منّ ولا جزاء.

حملت وليدها وهنا على وهن وأطعمته من ثمرة قلبها وروته من صدرها ، فكانت تضعف ليقوى وتبذل ليشتد. لقد أشغلت سمعها وبصرها ويدها ورجلها وبشرها وجميع جوارحها ، كل ذلك قدمته راغبة لئلا يتأذى أو يتضرر وليدها.

وبعد الحمل والخروج إلى عالم النور لم تكتف الأم الحنون عن تقديم عطاياها بل سلكت مسلك الإيثار بأجمل صوره وأجلها ، فبذلت جميع طاقاتها للحفاظ عليه والسهر على راحته إلى أن يكبر ويأخذ طريقه في الحياة والإمام زين العابدين في رسالته الكريمة شرح واقع الحال عندها ودفع الولد إلى شكرها على ما قدمته من جميل وهذه كانت وصية الله في كتابه الكريم. قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (١).

ما أعجز الإنسان عن أداء حقوق أمه ، وإذا قدم لها جميع الخدمات والمبرات لما أدى أبسط شيء من حقوقها « فيا رضا الله ورضا الوالدين ».

٢٢ ـ حق الأب :

« وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك ، وأنك فرعه ، وأنك لولاه لم تكن

__________________

(١) لقمان ، الآية ١٤.

٢٣٥

فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه ، واحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلا بالله .. ».

أولى الإسلام ركنا الأسرة اهتماما كبيرا ، وأما حق الأب على الولد فهو كبير أيضا كحق الأم. فالأب يسعى في تحصيل لقمة العيش له ولأسرته فيبذل جهدا كبيرا ويتحمل مشقات كثيرة من أجل إسعاد أولاده.

الأب يمثل الأصل والابن يمثل الفرع ، ولا وجود للفرع دون الأصل لأنه السبب في وجوده ونموه وازدهاره.

وما نراه اليوم أن الفرع قد يطغى على الأصل ، فيرى الابن نفسه أكبر من أبيه وأكثر فهما وتطورا فيتطاول على الوالدين وينال من كرامتهما ناسيا أنه من تربية أيديهما ونتاج فضلهما وثمرة لوجودهما.

هذا النوع من الأبناء هو إنسان عاق منحرف ابتعد عن الصواب وغفل عن وصية الله له التي تحث الأولاد على طاعة الوالدين واحترامهما. قال تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) (١).

والإسلام دعا إلى تمتين روابط الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة فالولد البار يقوم بأداء حق الوالدين ويطيعهما ويوفر لهما كل أسباب الرضا فلا يفحش في الكلام لهم ولا يغلظ وإنما المعاملة بالعطف والرقة وخفض الجناح والكلام الطيب ولئن كانت الكلمة الطيبة صدقة فإنها في حق الوالدين أكبر من الصدقة وأنبل. ورد في أحكام القرآن لأبي بكر ابن عربي الأندلسي ج ٢ ص ٣٥ ، أن شيخا قال أبياتا يعتب فيها على ولده قرأها على النبي (ص) وهي :

__________________

(١) الإسراء ، الآية ٢٤.

٢٣٦

غذوتك مولودا وقد كنت يافعا

تعل بما أحنى عليك وتنهل

إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت

لسقمك إلا ساهرا أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي

طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنها

لتعلم أن الموت وقت مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي

إليك مدى ما فيك كنت أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة

كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي

فعلت كما الجار المجاور يفعل

فلما سمع النبي (ص) هذه الأبيات قال للولد : « أنت ومالك لأبيك ».

٢٣ ـ حق الولد :

« وأما حق ولدك فتعلم أنه منك ، ومضاف إليك ، في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وأنك مسؤول عما وليته من حسن الأدب ، والدلالة على ربه ، والمعونة على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ، ومعاقب ، فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا المعذور إلى ربه في ما بينه وبينه بحسن القيام عليه ، والأخذ له منه ولا قوة إلا بالله .. ».

الولد قطعة من الكبد بل هو الكبد كله. قال أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليهما‌السلام : « ووجدتك بعضي بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني وكأن الموت لو أتاك أتاني ، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي » والولد هو امتداد لحياة أبيه ، واستمرار لوجوده هو بعضه بل هو كله. من هذا المنطلق يبادر الأب إلى الحفاظ على أولاده فيقوم بإعالتهم من مأكل ومطعم وكساء. وهذا العمل هو جزء كبير من الواجبات المطلوبة من الوالد. ولم يقتصر واجبه عند هذا الحد من الواجبات المادية بل عليه واجب أكبر في تربية أولاده تربية إسلامية فاضلة ، فيغرس في أعماقه النزعات الكريمة ، ويعوده على العادات الحسنة

٢٣٧

ويجنبه الرذائل ويقيم له الأدلة على الخالق العظيم الذي يملك كل شيء وبذلك يكون قد أدى واجبه نحو أسرته ونحو مجتمعه فالأسرة الصالحة لبنة في بناء مجتمع صالح وإن أخفق فهو مسؤول أمام الله تعالى ، ومعاقب على ذلك.

والإمام زين العابدين يبين أن القضية ليست نتاج فحسب بل هي مسؤولية وحساب فالولد يعيد وجود أبيه فإن كان صالحا برا تقيا نسب إلى أبيه ، وإن كان شقيا طالحا نسب إليه أيضا فالإمام (ع) يستثير في الوالد مكامن العز ويحرك في نفسه حب الاستمرارية في الحياة فإن أحسن تربيته يكون قد حقق لنفسه السمعة الطيبة والأحدوثة الحسنة ، من هنا كان القول المأثور : « الولد سر أبيه ».

٢٤ ـ حق الأخ :

« وأما حق أخيك فتعلم أنه يدك التي تبسطها ، وظهرك الذي تلتجىء إليه ، وعزك الذي تعتمد عليه ، وقوتك التي تصول بها فلا تتخذه سلاحا على معصيته ، ولا عدة للظلم بحق الله (١) ، ولا تدع نصرته على نفسه ، ومعونته على عدوه ، والحول بينه وبين شياطينه وتأدية النصيحة إليه ، والإقبال عليه في الله ، فإن انقاد لربه وأحسن الإجابة له ، وإلا فليكن الله آثر عندك (٢) ، وأكرم عليك منه .. ».

الإسلام كدين إنساني اجتماعي جاء ليشد أواصر القربى ويقوي العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، فشرع قانون الأخوة الإسلامية ، الأخوة في الله ، فمهما تباعدت البلاد ونأت الديار نجد المسلم العربي يفرح للقاء أخيه الهندي أو الإيراني أو المصري أو السوري أو العراقي أو

__________________

(١) ورد في نسخة أخرى : « للظلم لخلق الله ».

(٢) أثر عندك : أفضل وأولى.

٢٣٨

الجزائري ... أو أي أخ من بلد عربي مسلم آخر. وذلك تحت ظلال الأخوة الإسلامية « إنما المؤمنون إخوة ».

هذه الأخوة تتوثق أكثر إذا انضمت إليها أخوة النسب فإنهما تتآلفان وتتساندان في طريق الحق والإيمان ، لكن أخوة النسب لا يقيم لها الإسلام وزنا إذا لم تكن ضمن الخط الإسلامي وفي طريق تقوى الله.

والإمام زين العابدين (ع) يلقننا درسا من دروس الإسلام في التربية الاجتماعية فبلغت أنظارنا أن الأخ يد لأخيه وعز ومنعة وقوة له ، هو سنده في الملمات وشريكه في السراء والضراء وله من الحقوق ما يلي :

١ ـ أن لا يتخذه سلاحا على المعاصي ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) ولا يستعين به على ظلم الناس والاعتداء عليهم بغير حق.

٢ ـ أن يرشده إلى سبل الخير ويهديه إلى طريق الرشاد.

٣ ـ أن يعينه على ( الوسواس الخناس ) ويحذره منه ، ويخوفه من عقاب الله تعالى ، يوم لا ينفع لا مال ولا بنون إلا ما أتى الله بقلب سليم.

٤ ـ أن ينصحه في أمور آخرته ودنياه ، فإن أطاعه وانقاد للحق فذاك ، وإلا فليعرض عنه ، ولا يتصل به لأنه عصى الله وليكن سبحانه وتعالى أكرم عليك منه وآثر لديك.

٢٥ ـ حق المنعم عليك بالولاء :

« وأما حق المنعم عليك بالولاء فتعلم أنه أنفق فيك ماله ، وأخرجك من ذل حق الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها ، وأطلقك من أسر الملكة وفك عنك حلق العبودية ، وأوجدك رائحة العز ، وأخرجك من سجن القهر ، ودفع عنك العسر ، وبسط لك لسان الإنصاف ، وأباحك الدنيا ، فملكك نفسك ، وحل أسرك ، وفرغك لعبادة ربك ، واحتمل بذلك التقصير في ماله ، فتعلم أنه أولى الخلق بك بعد أولي رحمك في حياتك وموتك ،

٢٣٩

وأحق الخلق بنصرك ومعونتك ومكافأتك في ذات الله فلا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك ».

كان الرق سائدا في المجتمع الجاهلي ولما جاء الإسلام عمد إلى ترغيب الناس في تحرير العبيد وتخليصهم من نير الاستعباد ، وقد شجع النبي الأكرم والأئمة الأطهار من بعده على تحرير الرقيق بشتى صوره وأشكاله. فتسابقوا جميعهم (ع) إلى عتق العبيد فالإمام علي بن أبي طالب (ع) أعتق ألف مملوك من كد يمينه وعرق جبينه ، وحفيده الإمام زين العابدين (ع) كانت إحدى خصائصه عتقه للعبيد حيث كان يشتريهم ويقوم بتعليمهم وتهذيبهم ثم يحررهم لوجه الله ، فكان العبد عنده لا يستقر أكثر من ستة أشهر إلى سنة.

إن هذا التصرف العظيم ينطلق من قاعدة أساسية وهي إرادة الحرية لجميع الناس وينسجم مع نظرة الإسلام إلى كون الناس أحرارا والرق حالة طارئة يجب أن تزول ، وقد جعل تحرير العبيد كفارة لبعض الذنوب.

فعلى الإنسان الذي عادت إليه حريته أن يشعر بهذه النعمة الكبيرة التي تمت على يد هذا المنعم الذي أطلق سراحه وأعتق رقبته. وليعلم أن تحريره نعمة تفرض عليه الشعور بأن هذا المنعم هو أولى الناس به بعد أهله وأرحامه في حياته وموته ، لأنه أطلقك من سجن العبودية وملكك نفسك وفرغك بعبادة ربك واحتمل ذلك التقصير في ماله لذلك لا تؤثر عليه نفسك ما احتاج إليك.

٢٦ ـ حق المولى :

« وأما حق مولاك ، الجارية عليه نعمتك ، فأن تعلم أن الله جعلك حامية عليه ، وواقية وناصرا ، ومعقلا ، وجعله لك وسيلة ، وسببا بينك وبينه ، فالحري أن يحجبك عن النار فيكون في ذلك ثواب منه في الآجل ويحكم لك بميراثه في العاجل إذا لم يكن له رحم مكافأة لما أنفقته من

٢٤٠