الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي قد شقي من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا أليما.

ولكن الرجل كل الرجل الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في قضاء الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد مع العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدي إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ، ولا تنفد ، وإن كثيرا ما يلحقه من سرائها إن اتبع هواه يؤدي به إلى عذاب لا انقطاع له ، ولا زوال ، فذلك الرجل تمسكوا به ، واتقدوا بسنته ، وإلى ربكم توسلوا به ، فإنه لا ترد له دعوة ، ولا يخيب من طلبه .. ».

استهدف هذا الحديث معرفة العدالة التي تعد من أجل الملكات النفسية لأن بها يتحرر الإنسان من أوضار المادة ومغريات النفس وشهواتها ، ويسمو فوق الطين إلى أعلى الدرجات وأنبلها ، وبذلك لم يعد عليه أي سلطان من النزعات الفاسدة كما يستهدف أيضا أن معرفة الرجل العادل الكامل في ورعه وتقواه ينبغي أن تستند إلى امتحان دقيق وخبرة شاملة لا إلى نظرة خاطفة ورأي سريع. من هذه الصفات التي نستشفها من خلال هذا الحديث :

أ ـ حسن السمت : ليس دليلا كافيا على العدالة والتقوى والأناقة في المظهر ليست دليلا على حسن الجوهر.

ب ـ إظهار الإصلاح : وهذا لا يعد دليلا كافيا على عدالة المسلم.

لأنه قد يكون خداعا ورياء ، واتخذ الدين وسيلة لنيل مآربه وتحقيق أطماعه وشهواته بعد أن عجز عن الظفر بها بسائر الوسائل الأخرى.

ج ـ الامتناع عن المال الحرام : وهذا أيضا ليس دليلا على التقوى ، فقد يرغم نفسه على ذلك ويحملها على تحقيق أغراضه الشخصية التي لا

١٠١

صلة لها بالدين أصلا (١).

أما الوسائل التي يستكشف بها كمال الورع والثقة في الدين فهي :

أ ـ اتباع أوامر الله ، والانقياد الكامل لطاعته تعالى حيث توجه جميع طاقات المؤمن للحصول على مرضاة الله والتقرب إليه ، فالرجل العادل هو العبد الصالح التقي الذي تنبعث عدالته عن فكر وتأمل وإيمان.

ب ـ الزهد في طلب الإمارات الباطلة لأن ذلك من أوثق الدلالات على العدالة والتقوى.

ح ـ أن يغلب عقل الإنسان شهواته وهواه.

يعتبر هذا الحديث من أرقى مراتب العدالة في الفقه والمرجعية (٢).

فما هي صفات المؤمن وما هي صفات المنافق؟

لقد بين الإمام زين العابدين (ع) صفات المؤمنين وصفات المنافقين بالحديث التالي ، قال : « المنافق ينهى ولا ينتهي ، ويأمر ولا يأتي ، إذا قام للصلاة اعترض ، وإذا ركع ربض ، وإذا سجد نقر ، يمسي وهمه العشاء ، ولم يصم ، ويصبح وهمه النوم ولم يسهر.

والمؤمن خلط علمه بحلمه ، يجلس ليعلم ، وينصت ليسلم لا يحدث بالأمانة للأصدقاء ، ولا يكتم الشهادة للبعداء ، ولا يعمل شيئا من الحق رياءا ، ولا يتركه حياءا ، إذا زكّى خاف مما يقولون : ويستغفر الله لما لا يعلمون ، ولا يضره جهل من جهله » (٣).

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ٧٥ عن الاحتجاج ، ج ٢ ، ص ١٧٥.

(٢) زين العابدين للقرشي ، ص ٧٥ عن سفينة النجاة.

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣١٥. وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٢٧٢. وتحف العقول ، ص ٢٨٠.

١٠٢

نستنتج من هذا الحديث أمورا عدة عن المنافق وعن المؤمن ، فمن صفات المنافقين :

أ ـ المنافق يأمر بالمعروف ولا يأتي به ، وينهى عن المنكر ولا ينتهي عنه ، لأنه لم يكن يؤمن بذلك من أعماق نفسه ، فهو يأمر وينهى للخداع والنفاق ليوهم الناس بأنه من خيارهم.

ب ـ إذا قام للصلاة اعترض على تشريعها ، كما أنه إذا ركع في صلاته هوى إلى الأرض ، ربض ، كالحيوان وأما سجوده فهو غير مستقر فيه ، فمثله كمثل الطائر عند نقره الطعام.

ج ـ أشبه ما يكون بالبهيمة التي همها علفها ، طعام ونوم وهو كذلك يصبح ويمسي ولا هم له سوى الطعام يعيش ليأكل وينام.

أما عن شخصية المؤمن وما تتحلى به من صفات فهي :

أ ـ تتحلى شخصية المؤمن بعنصرين أساسيين : العلم والحلم ، فهو عالم وحليم ، ومن اجتمعت فيه هاتان الصفتان بلغ أعلى مراتب الكمال في حياته الشخصية والاجتماعية.

ب ـ إذا جالس الناس يتعلم منهم العلم والحكمة ، ولا يجلس في مجالس اللهو والبطالة التي تحط من كرامته وتضيع وقته هدرا بلا فائدة.

ج ـ يحفظ لسانه ، فإذا نصت لأحد فإنما ليسلم منه ، ويأمن شره والاعتداء عليه. فلا يخوض في كل حديث ؛ ولا يدخل في مواطن الشبهات متجنبا مجالسة الفاسقين.

د ـ يحفظ السر ولا يفشيه لأحد حتى لأقرب الناس إليه إذا استؤمن على شيء كتمه.

ه ـ يعمل باقتناع وإيمان ، فإذا قام بعمل لا يعمله رياء وإنما خالصا لوجه الله العلي القدير.

١٠٣

و ـ إذا تحمل الشهادة يدلي بها ولا يكتمها مهما كانت النتائج.

ز ـ إذا نعت ببعض الأوصاف الشريفة فلا يغتر ولا يتعالى ولا يخاف أن لا يكون قد اتصف بذلك ، بل يستغفر الله لمن أطلق عليه تلك الأوصاف.

ح ـ لا يهتم بمن جهله ولا يقيم له وزنا ، لأن الحقيقة سوف تبان وتظهر للعيان.

هذه الصفات التي يتحلى بها المؤمن تدل على سمو ذاته ، وكمال شخصيته ، وعلو مكانته في الدنيا والآخرة.

٥ ـ أفضل الأعمال عند الله :

سئل الإمام عليه‌السلام عن أفضل الأعمال عند الله ، فقال : « ما من عمل أفضل عند الله تعالى بعد معرفة الله ، ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا ، وإن لذلك شعبا كثيرة ، وإن للمعاصي شعبا ، فأول ما عصي الله به :

الكبر : وهو معصية إبليس حيث أبى ، واستكبر ، وكان من الكافرين.

والحسد : وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعب من ذلك حب النساء ، وحب الدنيا ، وحب الرياسة ، وحب الراحة ، وحب الكلام ، وحب العلو ، وحب الثروة ، فصرن سبع خصال ، فاجتمعن كلهن في حب الدنيا فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك .. حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والدنيا دنيا بلاء .. » (١).

الحقيقة التي تحف بنا وتتملكنا حبنا للدنيا وتهالكنا على مفاتنها ومغرياتها. فالأخطار التي يمنى بها الإنسان من سبب تهالكه على الدنيا التي تجر له الكثير من المعاصي والآثام ، فنتخبط في شر عظيم ، وفتن

__________________

(١) أصول الكافي : باب ذم الدنيا.

١٠٤

كبيرة ، وبلاء خطير. لذلك حذرنا الإمام (ع) من حب الدنيا وآفاتها الكثيرة التي منها :

١ ـ التكبر ، ٢ ـ الحسد ، ٣ ـ حب النساء ، ٤ ـ حب الرياسة ، ٥ ـ حب الراحة ، ٦ ـ حب الكلام : ويعني الكلام فيما لا يعني الإنسان ولا يهمه ، ٧ ـ حب العلو : يعني العلو على الآخرين والتكبر ، ٨ ـ حب الثروة :

تجميع المال وتكديسه بأي طريقة.

هذه الآفات الفردية والاجتماعية قد جعلت الإنسان يسلك طرقات خطرة ، ومنعطفات أغرقته في بؤرة من الآثام ، وأعمت بصيرته عن رؤية الحق ، فبات غريبا عن الإسلام ، منبوذا في مجتمعه وبين قومه.

٦ ـ حقيقة الموت :

وصفه الإمام عليه‌السلام بالنسبة للمؤمنين والكافرين فقال : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة ، وفك أغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأوطأ المراكب.

وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل من منازل أنيسة والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل وأعظمها .. » (١).

وردت أحاديث كثيرة متواترة عن الأئمة المعصومين (ع) أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فإذا حل الموت بالمؤمن فإنه يرى الأمر طبيعيا ، ويجد بذلك الراحة الكبرى لأنه ينتقل إلى نعيم الآخرة ، إلى جنة عدن ، يتبوأ الفردوس حيث يشاء.

وأما الكافر فإذا حل الموت به فإنه يرى نفسه في ضيق شديد ويواجه

__________________

(١) معاني الأخبار للصدوق ، باب ١٣٦.

١٠٥

الموت بحسرات وآلام وخوف لأنه ينتقل من الجنة إلى سجن موحش وعذاب دائم.

٧ ـ الزهد :

سئل الإمام زين العابدين عليه‌السلام عن الزهد فأجاب : « الزهد عشرة أشياء ، فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا (١) ، ألا وإن الزهد في آية من كتاب الله قوله تعالى : ( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) (٢).

حفل هذا الحديث بحقائق هامة من المعرفة التي تنور عقل الإنسان وتشرح صدره للتلقي وفهم معاني الحياة على حقيقتها ، بعض هذه الحقائق العرفانية :

أ ـ إن أسمى درجة الزهد لا تعادل أدنى درجة من الورع عن محارم الله الناشىء عن ضبط النفس ، والسيطرة عليها.

ب ـ وأرقى درجة من الورع هي أدنى درجة من اليقين بالله تعالى الذي هو من أسمى مراحل الإيمان.

ج ـ وأعلى مرتبة من اليقين هي أدنى درجة من الرضا بما قسم الله تعالى فإنه جوهر الإيمان.

د ـ حقيقة الزهد حوته الآية الكريمة التي حذرت من الحسرة والأسى على ما يفوت الإنسان من المنافع في دار الدنيا ، كما حذرت من الفرح والابتهاج بما يكسبه الإنسان ويظفر من ملذات هذه الحياة ومفاتنها المادية ، التي تؤول إلى تراب.

__________________

(١) أصول الكافي ، باب ذم الدنيا.

(٢) الحديد ، الآية ٥٧.

١٠٦

٨ ـ الحب في الله :

دعا الإمام (ع) المسلمين عامة إلى التحاب والمودة فيما بينهم خالصة لوجه الله تعالى لا يشوبها شائبة من شؤون المادة التي لا تلبث أن تزول وتتلاشى بوقت قريب. قال (ع) : « إذا جمع الله الأولين والآخرين نادى مناد يسمعه الناس يقول : أين المتحابون في الله؟ فيقوم عنق من الناس ، فيقال لهم : إذهبوا إلى الجنة بغير حساب ، فتتلقاهم الملائكة ويسألونهم عن العمل الذي جازوا به إلى الجنة ، فيقولون : نحن المتحابون في الله ، فيقولون : وأي شيء كان أعمالكم؟ » فيقولون : كنا نحب في الله ونبغض في الله فيقولون لهم : نعم أجر العاملين ».

إن الحب في الله هو الحب الأصيل وهدفه في الحياة هو الهدف الشريف والمحب في الله عبد صالح يحب في الإنسان العمل الصالح فلا يأبه لمصلحة دنيوية رخيصة ولا لغاية شخصية دنيئة يهدف من ورائها تحقيق أطماعه الخاصة.

والبغض في الله هو كذلك ، بغض للانحراف عن الحق وبغض للجهل والضلالة ، وبغض للظلم والظلامة. والمبغض في الله غايته التقويم والإصلاح حتى تستقيم الأمور المحقة وتنشر العدالة رايتها على كافة الربوع الإسلامية.

من هنا كان الحب في الله عاملا موحدا يجمع بين قلوب المؤمنين ويوحد صفوفهم ضد أعداء الله ، ويجمعون أمرهم حول هدف واحد يجمع ولا يشتت ، ويوحد ولا يفرق لأنه ناشىء عن الإيمان العميق بالله تعالى الذي ( يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ).

* * *

١٠٧
١٠٨

من غرر أجوبته

هذا غيض من فيض الذي سجله المؤرخون وأهل التراجم والسير من نصائح ومواعظ تعتبر سلما إلى مرتقى الكمال ومنهجا حيا لحياة جميع الناس وصلة وصل بين العبد وخالقه. يعيش المؤمن بوحيها بعيدا عن غوغاء الدنيا وقريبا من الله تعالى.

وهذه بعض ما ورد من أجوبة الإمام السجاد عن مسائل وردت عليه جاءت عن تفسير بعض آي الذكر الحكيم أو عن توضيح أمور فقهية تشريعية أو عن قضايا دينية وغيبية لا يحسن الرد عليها إلا أهل البيت ، أهل العلم والمعرفة.

١ ـ سئل عليه‌السلام عن العصبية فأجاب :

العصبية هي التي يأثم عليها صاحبها فيرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن العصبية أن يعين قومه على الظلم » (١).

العصبية هي التي فرقت بين العرب في الماضي وما زالت موجودة عند العرب وعند غيرهم في عصرنا الحاضر ، عند الدول التي تسمي نفسها

__________________

(١) كشف الغمة ، ص ٢٠٧.

١٠٩

متحضرة حيث نجدها بأبشع صورها وأشكالها.

ففي أمريكا مثلا تمثلت العصبية البغيضة بين البيض والسود فصاحب البشرة السوداء محروم من كافة حقوقه التي يتمتع بها المواطن الأمريكي الآخر صاحب البشرة البيضاء. وكل ذنبه أن خلقه وشكله يختلفان عن خلق وشكل المواطن الأمريكي الأبيض كل ذلك بسبب العصبية البغيضة التي لا تقيم وزنا للإنسان في إنسانيته وكرامته وحريته.

أين هؤلاء من تعاليم الإسلام الإنسانية النبيلة؟ أين هؤلاء من الأخوة التي نادى بها الإسلام وطبقها المسلمون المؤمنون؟ يعتمد الإسلام في ميزانه العادل على مقياس تشريعي إلهي يقدر ما للمخلوق من حقوق فردية لا ينازعه فيها منازع ، ويفرض عليه واجبات عليه تأديتها كاملة غير منقوصة.

قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (١).

وقال الرسول الأكرم : « لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين أسود وأبيض إلا بالتقوى » فالتقوى في الإسلام هي الميزان فقط.

وقال أمير المؤمنين (ع) في وصيته لمالك الأشتر قبل أن يتجه واليا على مصر : « ... فإن لم يكونوا إخوة لك في الدين فهم أسوة لك في الخلق ».

والإمام زين العابدين هو حفيد أمير المؤمنين سار على خطى أبيه وجده عليهما‌السلام. فقد رفض العصبية لأنها تفرق بين الناس وتوهن العلاقات الاجتماعية في المجتمع الواحد.

أما العصبية لقومه عندما يعينهم على الظلم فيبعدهم عنه ويمنعهم

__________________

(١) الحجرات ، الآية ١٠.

١١٠

ليكونوا من الظالمين. لكن إذا أحبهم فهذا ليس من العصبية في شيء لأن بالمحبة تعمر الأوطان ويسعد بنو الإنسان ويعيش كل فرد وجماعة بسلم وأمان.

٢ ـ وسئل عليه‌السلام : أي الأعمال أفضل عند الله تعالى؟

فقال (ع) : ما من عمل بعد معرفة الله ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا ، وإن لذلك شعبا كثيرة وإن للمعاصي شعبا ، فأول ما عصي الله به الكبر ، وهو معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين.

والحسد وهو معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله ، فتشعب من ذلك حب النساء ، وحب الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الراحة ، وحب الكلام ، وحب العلو ، وحب الثروة ، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلهن في حب الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك : حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والدنيا دنيا بلاغ ودنيا ملعونة » (١).

والمراد من حب الدنيا الانغماس فيها والتلهي بملذاتها عن عبادة الله تعالى ؛ علما أن فيها ما يحصل به مرضاة الله عز وجل ويبلغ به إلى الآخرة وتدفع به الضرورة والكفاف لكل من عمل عملا متقنا صالحا يفيد نفسه ويفيد الآخرين.

والمراد من لعن الدنيا عندما تبعد الإنسان عن نيل السعادة وكسب الرحمات الإلهية.

وما أكثر الذين يحبون الدنيا في أيامنا هذه فانغمسوا بملذاتها ونسوا نعم الله ، وجمعوا المال وبنوا الدور والقصور وعاشوا ليومهم فإذا أتت ساعتهم ندموا وتحسروا ، ولات ساعة مندم.

٣ ـ الأخذ بالجوهر وليس بحسن المنظر.

__________________

(١) أصول الكافي في باب ذم الدنيا وزين العابدين للمقرم ، ص ١٥٢. وأئمتنا لعلي محمد علي دخيّل ، ص ٣٠٤.

١١١

سئل عن ذلك عليه‌السلام فأجاب : إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه وتمادى في منطقه وتخاضع في حركاته فرويدا لا يغرنكم فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها لضعف نيته ومهانته وجبن قلبه ، فنصب الدين فخا لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فإن تمكن من حرام اقتحمه ، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويدا لا يغرنكم فإن شهوات الخلق مختلفة فما أكثر من يتأبى عن الحرام وإن كثر ويحمل على نفسه شوهاء قبيحة فيأتي فيها محرما.

فإذا رأيتموه كذلك فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا عقدة عقله فما أكثر من ترك ذلك أجمع ثم لا يرجع إلى عقل متين فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله.

فإذا وجدتم عقله متينا فرويدا لا يغرنكم حتى تنظروا أيكون هواه على عقله أم يكون عقله على هواه وكيف محبته للرياسة الباطلة وزهده فيها فإن في الناس من يترك الدنيا للدنيا ويرى أن لذة الرياسة الباطلة أفضل من رياسة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرياسة حتى إذا قيل له : اتق الله ، أخذته العزة بالإثم! فحسبه جهنم وبئس المهاد فهو يخبط خبط عشواء يقوده أول باطله إلى أبعد غايات الخسارة ويمد به بعد طلبه لما لا يقدر في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرياسة التي شقي من أجلها فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا أليما.

بعد أن حذّرنا (ع) من هذا النوع من الرجال الذين أحبوا الرياسة الباطلة وأخذتهم العزة بالإثم فغضب الله عليهم ولعنهم دعانا لنقتدي بالرجل الذي جعل هواه تبعا لأمر الله فقال : ولكن الرجل كل الرجل الذي جعل هواه تبعا لأمر الله وقواه مبذولة في قضاء الله يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد مع العز في الباطل ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد وإن كثيرا ما يلحقه

١١٢

يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه. يا زهري عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فكبيرهم بمنزلة والدك وتربك منهم بمنزلة أخيك فأي هؤلاء تحب أن تظلم ، وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه ، وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره. وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلا على أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك ، فقل قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح ، فهو خير مني ، وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني ، وإن كان تربك فقل أنا على يقين من ذنبي وفي شك من أمره ، فما لي أدع يقيني لشكي. وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل هذا فضل أخذوا به ، وإن رأيت منهم جفاء وانقباضا فقل هذا لذنب أحدثته فإنك إذا فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك وكثر أصدقاؤك وقل أعداؤك وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم.

ثم تابع قائلا (ع) :

واعلم أن أكرم الناس على الناس من كان خيره عليهم فايضا وكان عنهم مستغنيا متعففا ، وأكرم الناس عليهم من كان مستعففا عنهم وإن كان إليهم محتاجا فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال فمن لم يزدحمهم فيما يتعقبونه كرم عليهم ومن لم يزاحمهم ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم » (١).

وهذه بعض أجوبته عليه‌السلام عن فقه الشريعة وتفسير بعض آي الذكر الحكيم. منها :

٨ ـ قال الزهري : دخلت على علي بن الحسين فقال لي : يا زهري من أين جئت؟

قلت : من المسجد.

__________________

(١) زين العابدين للمقرم ، ص ١٦٠.

١١٣

قال : فيم كنتم؟

قلت : تذاكرنا أمر الصوم ، فاجتمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم واجب إلا صوم شهر رمضان. فقال : يا زهري ليس كما قلتم ، إن الصوم على أربعين وجها. فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان وعشرة أوجه منها صيامهن حرام ، وأربعة عشر وجها منها صاحبها فيها بالخيار ، إن شاء صام وإن شاء أفطر وصوم الاذن على ثلاثة أوجه : صوم التأديب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض.

قلت : فسرهن لي جعلت فداك.

قال (ع) : أما الواجب : فصيام شهر رمضان ، وصيام شهرين متتابعين لمن أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا. وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق واجب ، قال عز وجل : ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ... فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ .. ) [ النساء : ٩٢ ]. وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار لمن لم يجد العتق واجب ، قال الله تبارك وتعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [ المجادلة : ٢ ]. وصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب لمن لم يجد إلا طعام ، قال الله تبارك وتعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) [ المائدة : ٧٩ ]. كل ذلك متتابع وليس بمتفرق.

وصيام أذى الحلق واجب ، حلق الرأس. قال الله تبارك وتعالى : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) [ البقرة : ١٩٦ ]. وصاحبها فيها بالخيار وإن صام ثلاثا.

وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي. قال الله تبارك وتعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) [ البقرة : ١٩٦ ].

١١٤

من سرائها إن اتبع هواه يؤديه إلى العذاب.

٤ ـ وسئل عليه‌السلام عن يوم القيامة فقال : « إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ، وجمع ما خلق في صعيد واحد ، ثم نزلت ملائكة السماء الدنيا وأحاطت بهم صفا ، وضرب حولهم سرادق من النار ، ثم نزلت ملائكة السماء الثانية فأحاطوا بالسرادق ، ثم ضرب حولهم سرادق من نار ، ثم نزلت ملائكة السماء الثالثة فأحاطوا بالسرادق ، ثم ضرب حولهم سرادق من نار ، حتى عد ملائكة سبع سماوات وسبع سرادقات ، وصعق الرجل فلما أفاق قيل له : يا بن رسول الله فأين علي وشيعته؟

قال : على كثبان المسك يؤتون بالطعام والشراب ، لا يحزنهم ذلك » (١).

ولما بيّن عليه‌السلام أهوال يوم القيامة والقصاص من الظالم للمظلوم قام رجل وقال : يا بن رسول الله إذا كان للمؤمن على الكافر مظلمة فأي شيء يأخذ منه وهو من أهل النار؟ فقال عليه‌السلام : يطرح عن المسلم من سيئاته بقدر ما له على الكافر ، فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره.

قال : فإن كان للمسلم على المسلم مظلمة فما يأخذ منه؟ فقال عليه‌السلام : يؤخذ من حسنات الظالم ويدفع للمظلوم وإن لم يكن له حسنات يؤخذ من سيئات المظلوم على الظالم » (٢).

جواب مسدد كامل شامل لا يشوبه شائبة يعبر تعبيرا سليما عن رأي قائله ، والإمام السجاد كعادته في كل أجوبته ، ولا غرو فهو إمام معصوم من جامعة أهل البيت مؤهل بعلوم خاصة علوية تزود بها من أبيه وجديه

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٢٤٢.

(٢) زين العابدين للمقرم ، ص ١٤٥.

١١٥

عليهم‌السلام ، وهكذا كان شأن الأئمة المعصومين الذين أتوا بعده. لقد أوجدهم الله جل شأنه رحمة للعالمين وقيضهم أعلاما يقتدى بهم ويقتفى أثرهم. فبهم قامت الدعوة الإسلامية وبهم تطورت الحياة الاجتماعية.

نتابع سرد بعض أجوبته المسددة والكافية الوافية.

٥ ـ سئل عليه‌السلام : لم أوتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبويه؟ فقال (ع) : لئلا يوجب عليه حق لمخلوق » (١).

وقيل له : ما أشد بغض قريش لأبيك؟ فقال عليه‌السلام : لأنه أورد أولهم النار ، وألزم آخرهم العار » (٢).

٦ ـ وبعد وقعة كربلاء رجع عليه‌السلام إلى المدينة فوقف عليه إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله فقال متشمتا : من الغالب؟ قال عليه‌السلام : إذا دخل وقت الصلاة فأذن وأقم تعرف الغالب » (٣).

٧ ـ روى الإمام الباقر عليه‌السلام أن الزهري ، محمد بن مسلم بن شهاب ، دخل على الإمام زين العابدين (ع) كئيبا حزينا فقال له : ما بالك مغموما؟ قال : يابن رسول الله فما امتحنت به من حساد نعمي والطامعين فيّ ممن أرجوه ومن أحسنت إليه فيخلف ظني.

فقال علي بن الحسين (ع) : احفظ عليك لسانك تملك به إخوانك.

قال الزهري : إني أحسن إليهم بما يبدر من كلامي.

فقال (ع) : هيهات ، هيهات إياك أن تعجب بذلك وإياك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره فليس كل ما تسمعه شرا يمكنك أن توسعه عذرا.

__________________

(١) كشف الغمة ، ص ٢٠٧.

(٢) أعيان الشيعة ، ج ٤ ، ص ٥٢٧. وكشف الغمة ، ص ٢٠٧.

(٣) زين العابدين للمقرم ، ص ٣٧٠.

١١٦

وصوم جزاء الصيد واجب. قال الله تبارك وتعالى : ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ... )

ثم قال (ع) : أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟ فقلت : لا أدري.

قال : تقوّم الصيد قيمة ، ثم تفض تلك القيمة على البر ، ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما.

وصوم النذر واجب وصوم الاعتكاف واجب.

وأما الصوم الحرام : فصوم يوم الفطر ، وصوم الأضحى وثلاثة أيام من أيام التشريق ، وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه ، أمرنا به أن نصومه مع شعبان ونهينا أن ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس.

قلت : جعلت فداك فإن لم يكن صام من شعبان شيئا كيف يصنع؟

قال : ينوي ليلة الشك أنه صائم من شعبان ، فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه ، وإن كان من شعبان لم يضر.

قلت : وكيف يجزي صوم تطوع عن فريضة.

قال : لو أن رجلا صام يوما من شهر رمضان تطوعا وهو لا يدري ولا يعلم أنه من شهر رمضان ، ثم علم بعد ذلك أجزأ عنه ، لأن الفرض إنما وقع على اليوم بعينه وصوم الوصال حرام ، وصوم الصمت حرام ، وصوم النذر للمعصية حرام ، وصوم الدهر حرام (١).

وأما الصوم الذي صاحبه فيه بالخيار : فصوم يوم الجمعة والخميس

__________________

(١) صوم الوصال : أي يصوم يوما وليلة. وصوم الصمت : أن ينوي أن يصوم ساكتا ، وصوم الدهر : محرم لأنه يتضمن صيام الأيام المحرمة كالأعياد.

١١٧

والاثنين ، وصوم أيام البيض ، وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان ، ويوم عرفة ، ويوم عاشوراء كل ذلك صاحبه فيه بالخيار ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر.

وأما صوم الاذن : فإن المرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن سيده ، والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحبه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم.

وأما صوم التأديب : فإنه يؤمر الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا وليس بفرض ، وكذلك من فطر لعلة من أول النهار ثم قوي بعد ذلك أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض؟

وأما صوم الإباحة : فمن أكل أو شرب أو تقيأ من غير تعمد فقد أباح الله ذلك له وأجزأ عنه صومه.

وأما صوم السفر والمرض : فإن العامة اختلفت فيه ، فقال قوم :

يصوم. وقال قوم : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام وإن شاء فطر. وأما نحن فنقول : يفطر في الحالين جميعا فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء في ذلك لأن الله عز وجل يقول : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (١) [ البقرة : ١٨٤ ].

٩ ـ ومن تفسيراته لآي الذكر الحكيم قال في تفسير قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : ١٧٩ ].

« ولكم » ينادي أمة محمد. « في القصاص حياة » ذلك أن من هم بالقتل وعرف أنه يقتص منه يكف عن القتل ، فكان ذلك حياة للذي هم

__________________

(١) الخصال ، ص ٥٣٧.

١١٨

بقتله ، وحياة لهذا الجاني الذي أراد أن يقتل ، وحياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب فلا يجسرون على القتل مخافة القصاص.

« يا أولي الألباب » يا ذوي العقول. لعلكم تتقون : لعلكم ترجعون إلى الخط السليم وتتقون الله تعالى.

١٠ ـ قال سعيد بن المسيب : سألت علي بن الحسين عليهما‌السلام عن رجل ضرب امرأة برجله فطرحت ما في بطنها ميتا.

فقال (ع) : إذا كان نطفة فإن عليه عشرين دينارا ، وهي التي وقعت في الرحم ، واستقرت فيه أربعين يوما.

وإن طرحت وهو علقة ، فإن عليه أربعين دينارا ، وهي التي وقعت في الرحم واستقرت فيه ثمانين يوما.

وإن طرحته مضغة فإن عليه ستين دينارا ، وهي التي وقعت في الرحم واستقرت فيه مائة وعشرين يوما.

وإن طرحته وهو نسمة مخلقة ، له لحم وعظم ، مرتل الجوارح وقد نفخ فيه روح الحياة والبقاء ، فإن عليه دية كاملة (١).

لقد ذكر (ع) جميع الأحوال التي يمر بها الجنين من النطفة إلى الولادة ولم يترك واحدة منها ، ولا غرو فهو إمام معصوم لا يسهى ولا ينسى.

وسئل عليه‌السلام : من أعظم الناس خطرا؟

فقال : من لم ير الدنيا خطرا لنفسه (٢).

١١ ـ وعن أبي مالك قال : قلت لعلي بن الحسين عليه‌السلام :

__________________

(١) المناقب ، ج ٢ ، ص ٢٥٩.

(٢) فضائل الإمام علي للشيخ محمد جواد مغنية ، ص ٢١٩.

١١٩

أخبرني بجميع شرائع الدين.

قال : قول الحق ، والحكم بالعدل ، والوفاء بالعهد (١).

فتأمل معي هداك الله إلى هذا الإيجاز وهذه البلاغة وهذا التكثيف في المعنى والبعد في الدلالة ، والإحاطة الشاملة بتسديد الجواب ، والتسلسل المنطقي.

فالذي يقول الحق ويعرف حدوده لا بد وأن يحكم بالعدل ويعلم أصوله وقواعده لا بد وأن يفي بالعهد.

والذي يفي بالعهد ويحكم بالعدل ويقول الحق لا بد وأن يكون من المؤمنين الصالحين الذين كسبوا رضا الله بأعمالهم الصالحة. وسمعوا قوله تعالى : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) [ التوبة : ١٠٥ ].

من روائع حكمه :

الحكمة هي ثمرة تجارب طويلة وحصيلة نظر ثاقب في أمور الحياة ، وبصيرة نافذة في قضايا الناس وأخلاقهم.

والحكمة تأمل هادىء في سعي الإنسان وفي الغاية التي ينشدها والنهاية التي يترقبها ، كما هي إحساس دقيق في جميع فروع الحياة البشرية.

والحكمة هي إحساس بكل ما تتفتق به الحياة من ولادة أفكار تزهر وتعقد وتثمر على هذه الأرض التي منها وإليها الإنسان ، وهي تأخذ زخما في النمو والعطاء من إبداع الإنسان وحسن فهمه لأسرار الوجود.

تأخذ الحكمة غذاءها من الماضى وتتلون بألوان الحاضر وتكون

__________________

(١) الخصال ، ص ١١٣.

١٢٠