الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

يحتسب .. » (١).

قسم الإمام (ع) المحبة إلى ثلاثة أقسام عند محبي أهل البيت :

أ ـ من أحب أهل البيت لله ..

المحبة الحقيقية النبيلة تكون لله وليس لأمر آخر ، وأهل البيت المجاهدون في سبيل الله ، الذين ضحوا بكل ما عندهم من قوة من أجل رفع كلمة الله ومن أجل نشر رسالة الله من واجب المؤمنين أن يحبوهم محبة خالصة ومحبة نبيلة وأصيلة ، وهذا واجب لا ريب فيه. هؤلاء يدخلهم الله تبارك وتعالى ظلا ظليلا يوم لا ظل إلا ظله.

ب ـ ومن أحبهم مكافأة لهم.

كيف نحب أهل البيت مكافأة لهم؟ لقد قدموا لنا وللناس جميعا خدمات جلى في جميع مجالات الحياة فبنشرهم الرسالة الإسلامية وجهادهم من أجل إعلاء كلمة الله أخرجوا الناس من الظلمة إلى النور ، من ظلامة الجاهلية وظلم الجاهلين إلى نور الهداية والحياة الإنسانية الحرة الكريمة. فعلى المؤمنين أن يقدموا لهم مكافأة عرفانا بجميلهم وذلك بإحياء ذكرهم. جاء في الحديث الشريف : أحيوا ذكرنا رحم الله من أحيا ذكرنا. إن إحياء ذكرهم إحياء الحق وتذكير الناس بالجهاد في سبيل الله ، وتلقينهم دروسا في التضحية والعطاء والعمل الصالح في حياتهم الدنيا والآخرة. هؤلاء يكافئهم الله بالجنة.

ج ـ ومن أحبهم لغرض دنياه ..

حتى الذي يحبهم من أجل مصالحه الشخصية وتحقيق أغراض دنيوية يرزقه الله من حيث لا يحتسب.

نخلص من هذا أن محبة أهل البيت واجب شرعي لكل مؤمن ومؤمنة

__________________

(١) الفصول المهمة ، ص ١٩٢.

١٦١

لأنهم نبراس هداية ونور الإسلام والسلام.

سيادة أهل البيت على الناس :

سأل أحدهم الإمام زين العابدين عليه‌السلام ، فقال له : بماذا فضلتم على الناس جميعا وسدتموهم؟

فأجاب عليه‌السلام : إعلم أن الناس جميعا لا يخلون من أحد ثلاثة : أما رجل أسلم على أيدينا فهو مولى لنا يرجع إلينا ولاؤه فنحن سادته.

وأما رجل قاتلناه ، فقتلناه فمضى إلى النار وبقي ماله مغنما لنا.

وأما رجل أخذنا منه جزيته وهو صاغر ، ولا رابع فأي فضل لم نجزه وشرف لم نحصله »؟ (١).

ما نلاحظه أن الإمام (ع) إنما ساق حديثه هذا إلى شخص لا يعترف بفضل أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا يقر بسيادتهم المطلقة على هذه الأمة.

وحسبهم فخرا أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وفرض مودتهم على جميع المؤمنين ، وقربهم الرسول (ص) بمحكم التنزيل وجعلهم سفينة النجاة وأمن العباد.

روى عليه‌السلام عن آبائه عن جده (ص) أن رسول الله قال لأصحابه : « إن الله قد فرض عليكم طاعتي ، ونهاكم عن معصيتي ، وفرض عليكم طاعة علي بعدي ، ونهاكم عن معصيته وهو وصيي ، ووارثي ، وهو مني ، وأنا منه ، حبه إيمان ، وبغضه كفر .. » (٢).

__________________

(١) غرر الآثار ودور الآثار للديلمي ، ص ٨٠. راجع زين العابدين للقرشي ، ص ٩٩.

(٢) ينابيع المودة ، الباب ٤١.

١٦٢

فالرسول (ص) لم يفرض طاعة الإمام أمير المؤمنين (ع) على أصحابه ، وإنما الله فرضها على جميع المسلمين. ولا ريب أن السبب في ذلك عظيم اتصال أمير المؤمنين بالله تعالى ومواهبه المتعددة وعبقريته إذ ليس في المسلمين من يدانيه في مآثره وفضائله. قال الجاحظ : « لا يعلم رجل في الأرض متى ذكر السبق في الإسلام والتقدم فيه ، ومتى ذكرت النجدة والذب عن الإسلام ، ومتى ذكر الفقه في الدين ، ومتى ذكر الزهد في الدنيا ومتى ذكر الإعطاء في الماعون ، كان مذكورا في هذه الخصال كلها ، إلا علي رضي‌الله‌عنه » (١).

أثر مجزرة كربلاء على الإمام السجاد :

قبل المجزرة :

نشأ الإمام زين العابدين في بيت النبوة ، بيت الوحي الذي تحمل المحن المتتالية والآلام القاسية والمصائب المؤلمة وكلها كانت في سبيل الله. استقبل الإمام (ع) في طفولته المبكرة محنة جده أمير المؤمنين (ع) وهو يتخبط بدمه في مسجد الكوفة بعد أن طعنه بخنجر مسموم ابن ملجم لعنه الله.

وبعدها في سن الشباب عاش محنة عمه الحسن وهو يلفظ كبده من السم الذي دسه إليه معاوية بن أبي سفيان (٢). وتجرع في شبابه أيضا ، وهو طريح الفراش من مرض فتك به آنذاك ، مصرع أبيه الإمام الحسين (ع) سيد الشهداء ، ومصرع إخوته وبني عمومته.

__________________

(١) ثمار القلوب للثعالبي ، ص ٦٧.

(٢) أمه هند آكلة الأكباد وقد استعمل معاوية السم في العسل مع كثير من خصومه ، وهو القائل : « إن لله جنودا من عسل ».

١٦٣

كما شاهد بأم عينه سبي عماته وأخواته من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام ، ورأى رؤوس الأهل والأصحاب الشهداء على الرماح يتقدمها رأس أبيه المظلوم الذي استشهد من أجل إحقاق الحق.

أثناء المجزرة :

كان علي بن الحسين أكبر ولد أبيه ، معه (ع) بطف كربلاء وقد أنهكه المرض ، روى عنه أبو مخنف أنه قال (١) : « إني لجالس في تلك العشية التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني ، اعتزل أبي في خباء له وعنده ( جون ) مولى أبي ذر الغفاري يعالج له سيفه ويصلحه وسمعته يقول :

يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالإشراق والأصيل

من صاحب وطالب قتيل

والدهر لا يقنع بالبديل

وكل حي سالك سبيل

ما أقرب الوعد من الرحيل

لما سمعت هذه الكلمات المؤثرة في نفسي خنقتني العبرة ، ولزمت السكوت وأيقنت أن البلاء واقع لا محالة. أما عمتي زينب (ع) فإنها لما سمعت ما سمعت لم تملك نفسها أن وثبت تجر ذيلها حتى انتهت إليه ونادت بأعلى صوتها : وا ثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ، ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضين وثمال الباقين. فنظر إليها أبي وقال : يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان وأوصاها بالصبر وحفظ العيال.

وفي اللحظات الأخيرة من حياة أبيه دخل عليه وأوصاه قبيل وفاته بوصاياه وسلمه مواريث النبوة وكانت آخر وصية أوصاه بها : « يا بني أوصيك بما أوصى به جدك رسول الله عليا حين وفاته وبما أوصى به جدك

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد.

١٦٤

علي عمك الحسن وبما أوصاني به عمك ، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله ، ثم ودعه ومضى إلى المعركة الأخيرة التي قتل فيها.

فيا لها من ساعة محزنة مؤلمة ، ويا له من وداع تتفطر له القلوب إنه الوداع الأخير للأخوات والأهل وابنه الوحيد الذي لم يبق غيره من نسله.

وداع الحياة الفانية ولقاء الحياة الأبدية الباقية في جنة الخلد مع أمه الزهراء ، سيدة نساء العالمين ، وأبيه علي أمير المؤمنين وأخيه الحسن المسموم المظلوم ، وجده رسول الله خاتم الرسل والنبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلي بن الحسين هو الذي دفن أباه والقتلى من أهله وأنصاره. ولما دخل الكوفة بعد ذلك ، بعد أن نفض يديه من تراب الشهداء الأبرار ، ومعه عماته وأخواته اجتمع عليهم الناس فهالهم ذلك المشهد وجعلوا يبكون وينوحون ويندبون ، ولما أجهشوا بالبكاء أومأ إلى الناس أن يسكتوا ثم وقف وقد أنهكه المرض فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي وصلى عليه ثم قال : أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي ، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات ، أنا ابن من قتل صبرا وكفى بذلك فخرا. ومضى يذكر أهل الكوفة بكتبهم ومواعيدهم وبما ارتكبوه من الفظائع حتى ضج الناس بالبكاء والعويل.

ولما أدخل على ابن زياد لعنه الله قال له : من أنت؟ قال : أنا علي بن الحسين ، فرد عليه بقوله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ، فأجابه الإمام : كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس ، فقال ابن زياد : بل الله قتله ، فقال الإمام : الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال : أبك جرأة على رد جوابي ، وأمر جلاوزته بقتله ، فتعلقت به عمته زينب واعتنقته وقالت : يا بن زياد حسبك من دمائنا ما سفكت والله لا أفارقه فإن أردت

١٦٥

قتله فاقتلني معه ، فرق لها وتركه. ثم كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يأمره بإرسال رأس الحسين ورؤوس القتلى مع السبايا إلى الشام ، أرسلهم إليه مع مخفر بن ثعلبة العائدي وشمر بن ذي الجوش ، وجماعة من جنده ، وكان كما يصفه الرواة مقيدا بالحديد ، ولما بلغوا بهم الشام خرج أهلها إلى استقبالهم بأبهى مظاهر الزينة والفرح. جاء في البحار عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال :

خرجت إلى بيت المقدس ، فلما توسطت الشام فإذا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار وقد علق أهلها الستور والحجب وهم فرحون ، والنساء تلعب بالدفوف والطبول ، فقلت في نفسي أرى لأهل الشام عيدا لا نعرفه ، فأقبلت على القوم وقلت لهم : يا قوم ألكم بالشام عيد لا نعرفه ، فقالوا : يا شيخ نظنك غريبا ، فقلت لهم : أنا صاحب رسول الله (ص) سهل بن سعد الساعدي وقد رأيت رسول الله وسمعت حديثه ، فقالوا : يا سهل ما أعجبك إن السماء لتمطر دما والأرض لتنخسف بأهلها ، فقلت لهم ولم ذاك : فقالوا : هذا رأس الحسين بن علي يهدى من أرض العراق إلى يزيد بن معاوية ، فقلت : وا عجباه رأس الحسين والناس يفرحون كما أرى ، من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات ، فبينما نحن في الحديث وإنا بالرايات يتلو بعضها بعضا ، وفارس بيده رمح منزوع السنان عليه رأس الحسين (ع) من أشبه الناس وجها برسول الله (ص) ووراءه نسوة على جمال بغير وطاء فدنوت من أولاهن وقلت : من أنت؟ قالت : أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها : ألك حاجة إلي؟ أنا سهل بن سعد ممن رأى جدك رسول الله ، قالت : يا سهل قل لصاحب هذا الرأس أن يتقدم أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه عن النظر إلى حرم رسول الله (ص) ففعل وتم له ذلك. ثم دعا يزيد أشراف الشام ووجوهها وأجلسهم حوله وأمر بإدخال الإمام زين العابدين والرؤوس والسبايا فأدخلوهم عليه مربطين بالحبال ، فقال له علي بن الحسين : أنشدك الله يا يزيد ما ظنك برسول الله لو رآنا على مثل هذه الحالة ، فلم يبق أحد ممن

١٦٦

كان حاضرا إلا بكى.

التفت يزيد إلى علي بن الحسين وقال : أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت ، فقال علي بن الحسين : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ، فقال يزيد لابنه خالد : فلم يدر خالد ما يقول. فقال له يزيد : قل له ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.

فقال له الإمام زين العابدين : يا بن معاوية وهند وصخر لم تزل النبوة والأمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) وأبوك وجدك في أيديهم راية الكفار ، ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيته لهربت في الجبال وافترشت الرماد ودعوت بالويل والثبور أبشر بالخزي والندامة إذا اجتمع الناس ليوم الحساب.

وروى الرواة أن يزيد بن معاوية أمر أحد أنصاره من المرتزقة عنده أن يصعد المنبر وينال من علي والحسين والحسن ويثني على معاوية فصعد الخطيب المنبر وأفاض في ذلك على معاوية ونال من علي والحسن والحسين (ع) ، فقال له الإمام السجاد : ويلك أيها المتكلم أتشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ، ثم التفت إلى يزيد وقال : أتسمح لي أن أصعد هذه وأتكلم بكلمات فيها لله رضا ولهؤلاء الجلوس أجر وثواب ، فلم يأذن له يزيد بذلك. فقال له من في المجلس : إئذن له يا أمير لنسمع ما يقول ، فرد عليهم يزيد بقوله : إذا صعد المنبر لا ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ، فقيل له : وما قدر ما يحسن هذا الغلام ، فقال كما يزعم الرواة : إنه من أهل بيت زقوا العلم زقا. فلم يزالوا حتى أذن له فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال :

١٦٧

أيها الناس لقد أعطينا ستا وفضلنا بسبع. أعطينا : العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة وفضلنا بأن النبي المختار (ص) منا ، والصديق منا ، والطيار منا ، وأسد الله وأسد رسوله منا والسيدة الزهراء منا وسبطا هذه الأمة منا ثم تابع قائلا :

« أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أنا ابن مكة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردى ، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى أنا ابن من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حج البيت الحرام ولبى ، أنا ابن من حمل على البراق في الهوا ، أنا ابن من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، أنا ابن من سعى به جبريل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلى بملائكة السما ، أنا ابن من أوحى الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمد المصطفى وعلي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين وبايع البيعتين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين ... ولم يزل يقول ويعدد أنا أنا ... مآثر جديه رسول الله وأمير المؤمنين وأبيه أبي عبد الله الحسين ويذكر ما جرى في طف كربلاء حتى ضج الناس جميعا بالبكاء والنحيب حتى خشي يزيد أن ينتفض أهل الشام عليه فأمر المؤذن بالأذان ليقطع حديث الإمام السجاد. فلما قال المؤذن : الله أكبر قال علي (ع) : لا شيء أكبر من الله ، ولما قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال الإمام (ع) : شهد بها لحمي ودمي وبشري وشعري ، ولما قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، التفت علي بن الحسين إلى يزيد بن معاوية وقال : محمد هذا جدي أم جدك ، فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت وكفرت ، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته؟!

وأضاف الراوي أنه كان في مجلس يزيد حبر من أحبار اليهود فقال ليزيد : من هذا الغلام؟ فقال : هو علي بن الحسين ، وسأله اليهودي عن

١٦٨

جده وأبيه وأمه فأخبره بنسبه حتى انتهى إلى رسول الله (ص) فقال اليهودي : يا سبحان الله لقد قتلتم ابن بنت نبيكم بهذه السرعة بئس ما خلفتموه في ذريته ، والله لو ترك فينا موسى بن عمران سبطا من صلبه لظننا أنا كنا نعبده من دون الله ، وأنتم قد فارقتم نبيكم بالأمس ووثبتم على ابنه فقتلتموه فسوءة لكم من أمة.

بعد المجزرة :

يروي الرواة أن يزيد بن معاوية خيّر الإمام زين العابدين بين البقاء في الشام أو الرجوع إلى المدينة فاختار الرجوع إليها لأن له فيها ذكريات لا يمكن أن يمحى من ذاكرته ومن ذاكرة التاريخ عرج الموكب على كربلاء وكان فيها جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم قد شدوا الرحال لزيارة قبر الإمام الحسين فتلاقى الجميع بالبكاء والعويل وأقاموا المأتم واجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة على الفرات ، وبعد أيام مضى الموكب في طريقه إلى المدينة.

الإمام زين العابدين في المدينة :

كانت المدينة تترقب أنباء سبط رسول الله بفارغ الصبر عندما خرج إلى الكوفة ملبيا نداء شيعته هناك. ولكن الذي راعها وأخذ منها صوت مناد ينادي : إن علي بن الحسين قد قدم إليكم مع عماته وأخواته ، إذا يا ترى أين الإمام الحسين؟ وأين النجوم الزاهرة والصحبة الطاهرة من بني الزهراء وآل عبد المطلب. انتشر الخبر ( النعي ) في كل الأرجاء حتى بلغ سفح أحد ، ثم ارتد إلى البقيع فقباء ، وما لبث أن تلاشى مع صراخ النائحين وعويل النائحات. لم تبق مخدرة في المدينة إلا خرجت من خدرها نائحة معولة. وأهل الركب الحزين يشاهدون الجموع التي خرجت لاستقباله.

١٦٩

حزنت مدينة الرسول حزنا عميقا على العترة الطاهرة وأقامت أياما بلياليها تشهد المأتم الرهيب لا يعكر صفوها سوى اليتامى والأرامل والثكالى يسعين كل يوم إلى القبور فيبكي لهن الأصدقاء والأعداء.

زوج الإمام علي (ع) كانت تخرج إلى البقيع لتبكي أبناءها الأربعة : عبد الله وعثمان وجعفرا والعباس. وتندبهم بندبة حزينة تحرق قلب كل من سمعها ، حتى قلب مروان بن الحكم ، عدو الطالبيين.

والرباب عادت بعد مصرع أبيها إلى المدينة وبقيت تنوح وتبكي سنة حتى ضعفت وماتت.

وأما السيدة زينب بطلة كربلاء فدموعها غزيرة جدا لأن اللهيب في قلبها أطفأ تلك الدموع فهبت تطلب ثأرا ، لأن هذا الدم المسفوح لا ينبغي أن يضيع هدرا كان وجودها في المدينة كافيا لأن يلهب القلوب المؤمنة بالحق على الشهداء ، ويؤلب الناس على حكم الطغاة وجورهم ، وهذا ما ضايق الحكام الأمويين ، فكتبوا إلى واليهم في المدينة : « إن وجودها بين أهل المدينة مهيج للخواطر وإنها فصيحة عاقلة لبيبة ، وقد عزمت هي ومن معها على القيام للأخذ بثأر الحسين » عندها أمره الطاغية يزيد أن يفرق البقية الباقية من آل البيت في الأقطار والأمصار (١). ولما علمت عليها‌السلام بالخبر قالت غاضبة : « وقد علم والله ما صار إلينا قتل خيرنا وسيق الباقون كما تساق الأنعام وحملنا على الأقتاب فو الله لا خرجنا وإن أريقت دماؤنا ».

لم تعش السيدة زينب (ع) بعد مقتل أخيها الحسين الشهيد وإمام الشاهدين سوى عام ونصف العام ، لكنها استطاعت في هذه الفترة القصيرة أن تقلق مضاجع الأمويين وتغيّر مجرى التاريخ. لقد ظن حكام بني أمية أن

__________________

(١) بطلة كربلاء للدكتورة بنت الشاطىء.

١٧٠

مقتل الحسين يسدل الستار على الفصل الأخير على المسرحية الكربلائية وما نحسبه يسدل حتى تتبدل الأرض ومن عليها!

الإمام الحسين (ع) باق في المهج والأرواح ، ومأساة الحسين مأساة إنسانية خالصة تأخذ بلب كل إنسان وتستثير مشاعر جميع الشرفاء.

الحسين شهيد وإمام الشاهدين ، والشاهدية حضور تام في الذات والمجتمع والكون ، تولد منها الشهادة عملا لذلك الحضور. إن الغمامة المحملة بإيحاءات البحر ، ونسمات الفلك فتحت فمها لتقول كلمة الحق ، كلمة العودة إلى المنبع ، مثلما تئن الأوتار والنايات وتصفر العلائم الموسيقية منسلة من الجسد لتعود إلى قلب الأرض وهي تحدو حول الشمس حداء الصيرورة ، وهو في الوقت ذاته نشيد الحب الأكبر والجمال الأعظم والجلال المطلق.

كلمة الحسين الشاهدة الملتزمة تقول الموت البطولي كما لم تقله شهادة في تاريخ الأرض ، لأنها عبارة جده الرسول الأعظم التي كتبها من فوح القرآن وسوف تبقى ما بقي أنبل إنسان ، ولا يستطيع أن يخفيها أو يغيّر مجراها بنو مروان أو بنو سفيان مهما تصعنوا في الظلم والبهتان.

خطبته في المدينة :

والناس يزدحمون حول فسطاطه وكان معه بشر بن حذلم ، خرج الإمام ليقابل الجموع الغفيرة المحتشدة لتقدم التعازي ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه. أخرج الخادم له كرسيا فجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، ارتفعت أصوات الناس بالبكاء من حوله فأومأ بيده إليهم أن اسكتوا وقال : « الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، ملك يوم الدين ، بارىء الخلق أجمعين الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة. ثم

١٧١

تابع قائلا : إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله وعترته وسبي نساؤه وصبيته وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية.

أيها الناس فأي الرجالات منكم يسرون بعد قتله أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أي عين منكم تحبس دمعها وتضن عن أنهما لها وأي قلب لا يتصدع لقتله ، وأي فؤاد لا يحن إليه ، وأي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم. أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأبصار من غير جرم اجترمناه ولا مكروه ارتكبناه ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هذا إلا اختلاق ، والله لو أن النبي (ص) تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفظعها وأمرها وأفدحها فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منا إنه عزيز ذو انتقام.

عندما سمع الجماهير خطابه هذا أثر في نفوسهم إلى حد بعيد فارتج المكان بالبكاء والعويل وشعر المسلمون بتلك الصدمة العنيفة التي أصابت الإسلام في الصميم. مما أثار في ضمائرهم الهامدة روح النضال والدفاع عن الحق المهدور ، ودب في نفوسهم الشعور بالإثم والتقصير ، فلم السكوت عن كرامتهم التي أصبحت تداس تحت أقدام يزيد الفاجر والمجرم بعد أن أقدم على قتل سبط الرسول وريحانته وسبى نسائه.

من هنا كانت ثورة التوابين والمختار بن أبي عبيدة الثقفي فقد استماتوا لأخذ ثأر الدم المهدور وذلك للتكفير عن تخاذلهم عن نصرة الإمام الحسين والخضوع للظالمين. ثم استمرت الثورات تقودها روح كربلائية حطمت عروش الأمويين الطغاة وقامت بعدها دولة العباسيين.

دخل الإمام زين العابدين المدينة وهو يكفكف دموعه ، فرآها موحشة يخيم على أهلها الحزن والأسى ، وديار أهله خالية تنعى سكانها فانصرف

١٧٢

عن شؤون الناس ولم يكن يعنيه شيء من الدنيا ومن فيها. فشرع يبكي على أبيه المظلوم وعلى أخوته وعمومته الشهداء حتى عده المحدثون من البكائين.

فماذا يعمل؟ أيأخذ بالثأر ، أم يصبر وفي العين قذى؟ إن الظروف لا تسمح له بأخذ الثأر وقد شاهد تلك المصيبة الفادحة والمؤلمة في كربلاء ، وأدرك أن وقعة الطف الدامية قد كفته أعباء الحرب بإظهارها ضلال الأمويين وظلمهم وطغيانهم. وهنا بعد أن تحمل أعباء الخلافة الإلهية من أبيه وأصبح حجة على خلقه ، آثر الاعتزال والبعد عن الضجيج ليحفظ دمه الذكي ودم شيعته الأبرار.

روى الشيخ الصدوق بإسناده عن أبي عبد الله (ع) قال : « البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد (ص) وعلي بن الحسين عليهم‌السلام.

فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية.

وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له : « تالله تفتىء تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ».

وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له : إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار ، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحدة منهما.

وأما فاطمة فبكت على رسول الله حتى تأذى بها أهل المدينة ، فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك فكانت تخرج إلى مقابر الشهداء فتبكي حتى تنقضي حاجتها.

وأما علي بن الحسين فبكى على أبيه عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولاه : أما آن لحزنك أن ينقضي فقال له : ويحك إن يعقوب النبي كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه وشاب رأسه واحد ودب ظهره من الحزن

١٧٣

وابنه حي في دار الدنيا وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر رجلا من أهل بيتي مضرجين بدمائهم حولي فكيف ينقضي حزني.

وكان (ع) لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها ما جرى لأبيه وأسرته في كربلاء ، وأحيانا كان يبحث عن المناسبة ليحدث بما جرى لأهل بيته ، فيذهب إلى سوق الجزارين في المدينة ويقف معهم يسألهم عما إذا كانوا يسقون الشاة ماء قبل ذبحها ، وعندما يسمعهم يقولون : إنا لا نذبح حيوانا قبل أن نسقيه ولو قليلا من الماء. فيبكي ويقول : لقد ذبح أبو عبد الله غريبا عطشانا فيبكون لبكائه حتى ترتفع الأصوات بالنحيب.

كان إذا رأى غريبا في الطريق دعاه إلى ضيافته وطعامه ، ثم يبكي ويقول : لقد قتل أبو عبد الله غريبا جائعا عطشانا في طف كربلاء. إلى غير ذلك من المواقف التي كان يقفها بعد مقتل أبيه في السنين الأولى وذلك ليشحن النفوس بالحقد على الظالمين ويهيئها للثورة عندما يحين الوقت المناسب. كما ساهمت عمته زينب (ع) في هذا النوع من التحرك السياسي. هذا اللون من الحزن المتواصل يثير عواطف الجماهير ويغضبها ويدب فيها النقمة على يزيد الطاغية وجلاوزته المجرمين. إثر ذلك خيّم على المدينة جو من القلق ينذر بتفجير الموقف بين حين وآخر لقد استطاع الإمام زين العابدين وعمته العقيلة زينب (ع) تعبئة النفوس للثورة بترديدهما لتلك المأساة والنوح المتواصل الذي ألهب النفوس بانتظار الوقت المناسب للأخذ بالثأر.

مواقف الإمام من الصحابة والعلماء :

كان موقف الإمام (ع) من أصحابه وعلماء أهل زمانه النصح والإرشاد. ومراقبة أعمالهم وتقديم المشورة لهم تجاه أنفسهم وتجاه الأمة ، ليصحح الانحراف الذي يحصل عندهم ثم يدلهم على الموقف الإسلامي الصحيح للحوادث والسلوكيات وتوضيح مفاهيم الشريعة

١٧٤

الإسلامية وأصولها حينما تلتبس عليهم الأمور ، فيجلي الأمر أمامهم ويوضح لهم حكم الله في المسائل واضحا جليا لا لبس فيه ، ثم يحذرهم من التقرب من الملوك ومداهنتهم أو تأييد الأشخاص غير المخلصين للإسلام والذين يقومون بثورات لأجل المنصب وكرسي الحكم لا لأجل رفع كلمة الله الواحد القهار وسوف نعطي مثلين على سبيل الذكر لا الحصر.

موقف الإمام مع الحسن البصري :

عمد الإمام إلى تصحيح سلوك العلماء وتقويم أخلاقهم وتوجيه النقد لهم بكل أدب واحترام ، فيحاور العالم حتى يعترف بخطئه ويقدم للإمام كل تقدير وتبجيل معترفا له بالآية الكريمة : ( ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ آل عمران : الآية ٢٤ ].

« رأى علي بن الحسين (ع) الحسن البصري عند الحجر الأسود يقص فقال : يا هذا أترضى نفسك للموت؟ قال : لا. قال : فعملك للحساب؟

قال : لا ، قال فثمّ دار للعمل؟ قال : لا ، قال : فلله في الأرض معاذ غير هذا البيت؟ قال : لا ، قال : فلم تشغل الناس عن الطواف!؟ ثم مضى. قال الحسن : ما دخل مسامعي مثل هذه الكلمات من أحد قط أتعرفون هذا الرجل؟ قالوا : هذا زين العابدين. فقال الحسين : « ذرية بعضها من بعض » (١).

موقف الإمام مع الزهري :

كان للإمام (ع) مواقف رائعة تجاه الزهري حيث وضح له معالم الدين وحكمة التشريع.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤٦ ، ص ١٣٢ عن المناقب ، ج ٣ ، ص ٢٩٧.

١٧٥

« كان الزهري عاملا لبني أمية فعاقب رجلا فمات إثر العقوبة فخرج الزهري هائما متوحشا ودخل إلى غار ، فطال مقامه تسع سنين ، قال : وحج علي بن الحسين عليه‌السلام فأتاه الزهري فقال له الإمام : إني أخاف عليك من قنوطك ما لا أخاف عليك من ذنبك ، فابعث بديّة مسلمة إلى أهله واخرج إلى أهلك ومعالم دينك ، فقال له : فرّجت عني يا سيدي! الله أعلم حيث يجعل رسالته ورجع إلى بيته » (١).

وفي رواية أخرى رواها سفيان بن عيينة عن الزهري ، يبيّن فيها الإمام للزهري أحكام الله ويفصلها له بصورة واضحة كاملة. من ذلك القول في الصوم أقسامه والواجب منه وغير الواجب وكل ما يتعلق بأحواله. وقد ورد تفصيل ذلك في باب سابق.

موقف الإمام (ع) من الأمة :

اهتم الإمام (ع) اهتماما واسعا كبيرا بشؤون أمته فاتبع أساليب متنوعة وذلك حسب الظروف والأحوال وحسب الجماعات والأشخاص نذكر من هذه الأساليب :

أ ـ تفقد شؤون الأمة :

اهتم الإمام بكل ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية في حياتها المعنوية كما في حياتها المادية. فكان عليه‌السلام يتفقد شؤون الفقراء والمساكين لأنه كان يحبهم ويشفق عليهم فيجالسهم ويستمع إلى مشاكلهم ... وكان يخرج ليلا يحمل على ظهره الغذاء والطعام والطحين وكل ما تحتاج إليه العائلة ، وقد غطى وجهه لئلا يعرفه أحد ، فيطرق باب المساكين بابا بابا ويعطيهم رزق الله ... وقد ترك هذا العمل آثارا على ظهره ، اكتشف بعد

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٣٢.

١٧٦

وفاته حين غسلوه وكفنوه عليه‌السلام. فكان الإمام بهذا العمل يعيش الهاجس الروحي مع الأمة ويستشعر المسؤولية الكبرى تجاهها إذعانا منه لحديث جده رسول الله (ص) : « من أصبح ولم يهتم بشؤون المسلمين فليس بمسلم » ... وعن عمر بن ثابت قال : لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره فقالوا : ما هذا؟ فقالوا : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة » (١).

وعن شبيبة بن نعامة قال : كان علي بن الحسين (ع) يقوّت مائة أهل بيت بالمدينة ، وكانوا يعيشون ولا يدرون من أين كان معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون بالليل ...

ب ـ مواجهة المشبهة والملحدين :

وكما تصدى الإمام عليه‌السلام للانحراف الأخلاقي لدى الأمة الإسلامية تصدى أيضا للانحراف العقائدي والفكري الذي طرأ على فكر بعض قطاعات الأمة من فئات خبيثة منحرفة عن الخط الإسلامي السليم.

كان (ع) يقاوم هذا الانحراف بكل ما يملك من جهود حتى وصل به الحد إلى الارتياع من هذه الانحرافات في الفكر والعقيدة. فنراه (ع) في مسجد رسول الله (ص) ذات يوم إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ففزع لذلك وارتاع ، ونهض حتى أتى قبر رسول الله (ص) فوقف عنده ورفع صوته يناجي ربه ومما قاله في مناجاته : « إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئة جلالك فجهلوك وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به شبّهوك ، وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك إلهي ولم يدركوك فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن يناولوك بل سوّوك بخلقك فمن

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ، ج ٢ ، ص ١٥٣.

١٧٧

ثمّ لم يعرفوك. واتخذوا بعض آياتك ربا فبذلك وصفوك فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبهون نعتوك » (١).

لقد حارب الإمام زين العابدين المشبهة والملحدين بالدعاء ، هذا الأسلوب الذي هو الصفة المميزة له في تلك الظروف هو أسلوب غير مباشر (٢) ، وهو المفضل والمؤثر أكثر في التبليغ وقد استعمله النبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام في تذكير قومه بانحرافهم عن عبادة الله الواحد الأحد الفرد الصمد ، فعبدوا الشمس والقمر والنجوم التي سرعان ما تزول وتأفل : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ : هذا رَبِّي ، فَلَمَّا أَفَلَ قالَ : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [ الأنعام : ٧٦ ـ ٨٠ ].

ج ـ التربية والتثقيف :

اتخذ الإمام السجاد جانب الموعظة والإرشاد ركنا أساسيا في مسيرته الحياتية في تبليغ الأمة الإسلامية ، فنراه تارة يلقي الخطب والمواعظ بصورة عامة ، وتارة أخرى نجده يخصص جلسات خاصة ومواعيد ثابتة لأصحابه يوجههم ويؤهلهم ويربيهم لتحمل الأمانة ، والتكليف الشرعي ، والتزام المسؤولية الاجتماعية ، فكان له موعد مع أصحابه في كل يوم جمعة يوعظهم ويذكرهم ويبلغهم ما هم عليه قادمون ، وما هم عنه مسؤولون. وقد استخدم الإمام (ع) أسلوب الدعاء استخداما ناجحا في تربية الأمة وتوجيهها الوجهات الصحيحة في الأخلاق والاجتماع والسياسة والدين ، وسوف نعرض في فصل لاحق أثر الدعاء في تربية الأمة وتثقيفها.

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ، ج ٢ ، ص ١٥٣.

(٢) أسلوب نعبر عنه « إيّاك أعني واسمعي يا جارة ».

١٧٨

د ـ تحديد العلاقة مع أهل البيت (ع) :

اختلف الناس في حبهم وفي بغضهم لأهل البيت (ع) فبعضهم أبغضهم حتى عدهم من الخوارج ، والبعض الآخر أحبهم حتى ألههم ، وقد تعرض أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) لمثل هذه الحالات ، فكان يخطب بين الجموع التي تجتمع تحت منبره وتسمع ما يقول : أشهد أنك أنت الله ، وفي الطرف الآخر من يقول : لله درّك كاذبا » (١).

ويروى أنه مر بجماعة كانوا يأكلون في شهر رمضان ، فسألهم أعن سفر أم مرض؟ وحذرهم من النار. فأجابوه : أندخل النار وأنت وأنت ، فنزل عن دابته وسجد وقال : أنا عبد من عبيد الله ... وقد شاهد الإمام زين العابدين (ع) فئة من شيعته قد أوغلوا في حبهم حتى أخرجهم عن الصراط السوي وعن خط الإسلام السليم. فتحول الحب لأهل البيت (ع) إلى غلو ثم تأليه وبالتالي إضفاء صفات عليهم ما أنزل الله بها من سلطان.

فما كان من الإمام إلا أن يقاومهم بحزم ويجابههم بكل ما يملك من أساليب ، فأفهمهم وأرشدهم بأن عملهم هذا هو انحراف عن الإسلام وبعيد كل البعد عن خط أهل البيت (ع) ، خط الرسول الأعظم (ص) حب فيه عيب عليهم ومنقصة لهم.

روى ابن شهاب الزهري قال : حدثنا علي بن الحسين (ع) وكان أفضل هاشمي أدركناه ، قال : « أحبونا حب الإسلام ، فما زال حبكم لنا حتى صار شينا علينا » (٢). أي أحبونا حبا يكون موافقا لقانون الإسلام ولا يخرجكم عنه ، ولا زال حبكم لنا حتى أفرطتم وقلتم فينا ما لا نرضى به ، فصرتم شينا وعيبا علينا ، حيث يعيبوننا الناس بما تنسبون إلينا.

__________________

(١) دراسات في نهج البلاغة للشيخ محمد مهدي شمس الدين.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٦ ، ص ٧٣ ، عن إرشاد المفيد ، ص ٢٧١.

١٧٩

وفي رواية أخرى « عن علي بن الحسين (ع) قال : يا معشر أهل العراق ، يا معشر أهل الكوفة ، أحبونا حب الإسلام ولا ترفعونا فوق حقنا » (١). فكلام الإمام واضح تمام الوضوح في الطلب من الشيعة أن يحبوا أهل البيت (ع) حب الإسلام بحيث لا يخرجهم هذا الحب عن إطار الإسلام ، وعن صورة الإيمان ، وحدود الشريعة الإسلامية ومن يخرج عن هذه الحدود فقد خرج بطبيعة الحال عن الإسلام.

شعره

عرف بعض الحكماء الشعر فقالوا : الشعر إبراز العواطف النبيلة بطريق الخيال.

وقال آخرون : الشعر هو الحق ينقله الشعور حيا إلى القلب فالتعريف الأول يصح أن يكون للفن الأدبي بضربيه الشعر والنثر. والتعريف الثاني يخاطب العقل والشعور معا.

فالوزن والقافية والاتصال بالشعور من الشروط اللازمة في قول الشعر. والإمام السجاد قال الشعر صادرا عن عقله وشعوره معا ونابعا من تجاربه ومعاناته في الحياة. وكل شعره جاء في المناجاة والأخلاق والدعوة إلى الخير والفخر ، والنهي عن الشر والأمر بمكارم الأخلاق. ولا غرو فالإمام زين العابدين (ع) من الذين كرسوا حياتهم من أجل الحق والفضيلة وتقويم الانحراف والجهاد من أجل إعلاء كلمة الإسلام. وهذه مقتطفات من شعره :

قال في إحدى مناجاته التي ترتعد منها الفرائص :

« يا نفس حتى م إلى الدنيا سكونك ، وإلى عمارتها ركونك أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ، ومن رواته الأرض من ألاّفك؟ ومن

__________________

(١) حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ١٣٧.

١٨٠