الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

الدكتور حسين الحاج حسن

الإمام السجّاد جهاد وأمجاد

المؤلف:

الدكتور حسين الحاج حسن


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

بجواب مطول عن أهوال يوم القيامة قال (ع) : « إذا كان يوم القيامة بعث الله الناس عزلا ، جردا ، مردا ، في صعيد واحد يسوقهم النور ، وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عتبة المحشر ، فيزدحمون دونها ، ويمنعون من المضي ، فتشتد أنفاسهم ، ويكثر عرقهم ، وتضيق بهم أمورهم ، ويشتد ضجيجهم ، وترتفع أصواتهم ، وهو أول هول من أهوال القيامة ، فعند ما يشرف الجبار تبارك وتعالى من فوق العشر ، ويقول :

يا معشر الخلائق أنصتوا ، واسمعوا منادي الجبار ، فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم ، فتخشع قلوبهم ، وتضطرب فرائصهم ، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي ، ويقول الكافرون : هذا يوم عسير فيأتي النداء من قبل الجبار : أنا الله لا إله إلا أنا ، أنا الحكم الذي لا يجور ، أحكم اليوم بينكم بعدلي وقسطي ، لا يظلم اليوم عندي أحد آخذ للضعيف من القوي ، ولصاحب المظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات ، وأثيب على الهبات ولا يجوز هذه العقبة ظالم. ولا أحد عنده مظلمة يهبها لصاحبها ، إلا وأثيبه عليها ، وآخذ له بها عند الحساب واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا ، وأنا شاهدكم وكفى بي شهيدا » (١).

ثم يعرض الإمام عليه‌السلام بصورة شاملة أهوال يوم القيامة بكل ما فيها من مخاوف وكل ما يعاني فيها الإنسان من إرهاق كبير وخطوب فادحة.

٥ ـ وسئل عليه‌السلام عن معنى كلمة ( الصمد ) فقال : الصمد الذي لا شريك له ، ولا يؤده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء » (٢).

٦ ـ وسئل عليه‌السلام عن تفسير الآية الكريمة : ( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٢ ، ص ٩٥.

(٢) التوحيد ، ٩.

١٤١

بَخْسٍ دَراهِمَ ) (١). فقال : بأن الثمن البخس اشتروا به يوسف كان عشرين درهما (٢).

٧ ـ وسئل عليه‌السلام عن تفسير الآية الكريمة : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ) [ المائدة : ٢١ ] فأجاب بقوله : « إن هابيل تقرب إلى الله تعالى بأسمن كبش كان في حيازته ، وتقرب قابيل بضغث من سنبل فقبل الله تعالى من هابيل ، ولم يقبل من قابيل ، فوسوس إبليس لقابيل ، بأن أولاد هابيل سيفخرون على أولادك ويقولون : بأنهم أبناء من قبل الله قربانه ، وتحكم فيه هذا الخيال حتى حسد قابيل أخاه هابيل ، وعزم على قتله لئلا يكون منه نسل ، ولم يدر كيف يصنع؟ فعلمه إبليس أن يضع رأسه بين حجرين ويقتله ، ففعل ذلك ولم يدر كيف يواريه ، حتى جاء غرابان ، واقتتلا ثم حفر أحدهما للآخر وواراه ، وقابيل ينظر إليه ، فقام وحفر لهابيل ودفنه ، وأصبح من النادمين ، وصار هذا سنة في دفن الموتى.

ولما سأله آدم عن أخيه هابيل ، قال له : أجعلتني راعيا له؟ ثم جاء به إلى مكان القربان فاستبان له أنه قتله ، فلعن قابيل ، وأمر بلعنه ، وبكى على ولده أربعين سنة حتى أوحى الله إليه أني واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل ، فولدت له حواء غلاما زكيا مباركا ، وفي اليوم السابع أوحى الله إليه أن سمه ( هبة الله ) فسماه بذلك (٣).

٨ ـ قال عيد بن جبير : سألت الإمام زين العابدين عليه‌السلام عن القربى في الآية الكريمة : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٤). فقال عليه‌السلام : هي قرابتنا أهل البيت (٥).

__________________

(١) يوسف ، الآية ٢٠.

(٢) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٢٢١.

(٣) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٢٨٠.

(٤) الشورى ، الآية ٤٢.

(٥) أحكام القرآن للجصاص ، ج ٣ ، ص ٤٧٥.

١٤٢

٩ ـ روى الإمام محمد الباقر عن أبيه عليهما‌السلام في تفسير الآية الكريمة : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) (١).

قال : لقد جعل الله تعالى الأرض ملائمة لطباعكم ، موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحمأ (٢) والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم (٣) ، ولا شديدة اللين كالماء ، فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم ، وقبور موتاكم ، ولكنه عز وجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون ، وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم ، وقبوركم ، وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم ، ثم قال عز وجل ( وَالسَّماءَ بِناءً ، ) أي سقفا من فوقكم ، محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم ، ثم قال عز وجل : ( فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) يعني مما يخرجه من الأرض رزقا لكم ( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) أي أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شيء.

( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أنها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم تبارك وتعالى (٤).

حفلت هذه القطعة الكريمة من كلام الإمام زين العابدين (ع) بأروع أدلة التوحيد ، فأعطت صورة مشرقة كاملة من سر خلق الله للأرض ، فقد خلقها سبحانه بكيفية رائعة فليست صلبة ولا شديدة اللين وذلك ليسهل على الإنسان العيش عليها والانتفاع بخيراتها التي لا تحصى ..

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٢.

(٢) الحمأ : شدة حرارة الشمس.

(٣) تعطبكم : أي تهلككم.

(٤) عيون أخبار الرضا ، ج ١ ، ص ١٣٧.

١٤٣

إن الأرض بما فيها من العجائب كالجبال والأودية والبحار والأنهار والمعادن المختلفة الأنواع وغير ذلك ، من أعظم الأدلة وأوضحها على وجود الخالق العظيم الحكيم ، قال تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) [ القمر : الآية ٤٩ ].

كما استدل الإمام (ع) على عظمة الخالق سبحانه وتعالى بخلقه السماء وما تحوي من شمس وقمر وسائر الكواكب التي تنير هذه الأرض بأنوارها. وكلنا يعلم ما لأشعة الشمس من أثر بالغ في تكوين الحياة النباتية. وما لأشعة القمر من أثر على البحار في مدها وجزرها ، وكذلك الحال بالنسبة لسائر الكواكب فإن لأشعتها هي أيضا الأثر التام في منح الحياة العامة لجميع الموجودات الحيوانية والنباتية في الأرض وما نلفت إليه أن هذه الظواهر الكونية لم تكتشف إلا في هذه العصور الحديثة إلا أن الإمام زين العابدين (ع) ألمح إليها في كلامه ، فكان بلا ريب هو وأبناؤه وآباؤه المعصومون الرواد الأوائل الذين رفعوا راية العلم وساهموا مساهمة فعالة في تكوين الحضارة الإنسانية.

ثم أشار الإمام (ع) إلى العناية الإلهية في سقوط المطر وكيف يتساقط بصورة رتيبة وفي أوقات خاصة ، وذلك لإحياء الأرض ، وإخراج الثمرات والطيبات. ولو هطلت هذه الأمطار دفعة واحدة لأهلك الحرث والنسل. قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (١).

وبعدما أقام الإمام (ع) الأدلة المحسوسة على وجود الخالق الحكيم دعا إلى عبادته سبحانه وتعالى ونبذ الأصنام والأوهام التي تشل الفكر وتعيق حركة الوعي وتفقد أي قدرة على تصريف شؤون الحياة وإدارة هذا الكون إدارة حكيمة عادلة.

__________________

(١) الحجر ، الآية ٢١.

١٤٤

١٠ ـ سأل رجل الإمام زين العابدين عليه‌السلام عن الحق المعلوم الذي ورد في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) (١).

فقال (ع) : « الحق المعلوم الشيء الذي يخرجه من ماله ليس من الزكاة والصدقة المفروضتين. فقال له الرجل : فما يصنع به؟ فقال (ع) : يصل به رحما ، ويقوي به ضعيفا ويحمل له كله أو يصل أخا له في الله ، أو لنائبة تنوبه.

وبهر الرجل من علم الإمام وراح يقول له : الله أعلم حيث يجعل رسالته في من يشاء (٢).

في رحاب الحديث الشريف :

لا يخفى ما للحديث الشريف من أهمية كبرى في العلوم الإسلامية فهو يعرض بصورة موضوعية وشاملة لتفصيل الأحكام الشرعية الواردة في القرآن الكريم ، كما يعرض لمعظم الفقه الإسلامي فيذكر الواجب والحرام والمستحب والمكروه والممنوع والمباح ويوضح عموميات كتاب الله ومطلقاته فيقيدها ويخصصها. إلى جانب ذلك يتناول الحديث الشريف آداب السلوك وقواعد الأخلاق وكل ما يسعد الإنسان في حياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية.

والإمام زين العابدين عليه‌السلام كان من أعظم الرواة وأهمهم في الإسلام ، ورواياته لها أهمية خاصة عند علماء الحديث وبصورة خاصة ما يرويه الزهري عنه. قال أبو بكر بن أبي شيبة : أصح الأسانيد الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب. وقد روى مجموعة كبيرة

__________________

(١) المعارج ، الآية ٢٤.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٦٩.

١٤٥

من الأحاديث عن جديه الرسول الأعظم (ص) والإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وعن أبيه الحسين (ع) وغيرهم ..

وسوف نورد كوكبة مشرقة من الأحاديث رواها الإمام (ع) بسنده عن جده رسول الله (ص).

١ ـ روى الإمام (ع) أن رسول الله (ص) قال : « الإيمان قول وعمل » (١).

لا يخفى أن الإيمان بالله تعالى وبرسله ليس ظاهرة لفظية يردده اللسان وإنما هو عمل وجهاد يترجم ما استقر في دخائل النفس من إيمان عميق. واتحاد القول بالعمل أمر ضروري في نجاح الحياة وتطورها. جاء في كتاب ( لأنك حبيبتي ) للدكتور أسعد علي قوله : عندما يتحد القول بالعمل ينجبان صبيا يسميانه الصدق. وعندما يتحد القول بالعمل يرزقان بنتا يسميانها الوفاء ، ويلعب الجميع لعبة أظنها الحرية. أمر مهم جدا أن يؤمن الإنسان والأمر الأهم أن يترجم هذا الإيمان إلى عمل.

٢ ـ روى عليه‌السلام أن النبي (ص) قال : « الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان » (٢).

فالإيمان يترجم بثلاثة أركان :

الأول : الإقرار باللسان الذي يترجم ما انطبع في أعماق النفس.

والثاني : أن يعرف القلب (٣) الشيء الذي آمن به معرفة تفصيلية فإذا لم تكن هناك معرفة ، فإن الإيمان به ينتفي موضوعيا.

والثالث : أن يصحب ذلك العمل بالأركان فيترجم أعمالا صالحة.

__________________

(١) الخصال ، ص ٥٣.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٦٥. وتاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٢٥٥.

(٣) القلب يعني العقل.

١٤٦

٣ ـ وروى الإمام عليه‌السلام أن رسول الله (ص) قال : « والذي نفسي بيده ما جمع شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم » (١) العلم مع الحلم من الصفات الأصيلة التي تتغذى بها شخصية الإنسان فتنمو وتتطور وتزدهر.

والعلم والحلم صنوان متلازمان لا يفيد الواحد منهما دون الآخر.

فالعصر الجاهلي سمي كذلك لأنه يفتقد إلى الحلم ، فقد كان النزق والطيش والحمق تسيطر جميعها على عامة الجاهليين ، كما كانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب ، كل ذلك لعدم وجود الحلم والروية. ولما بزغ نور الإسلام أنقذهم من جهلهم وطيشهم وأوصلهم إلى شاطىء الأمان بالحلم والعلم معا.

٤ ـ وروى الإمام عليه‌السلام عن أبيه عن جده أمير المؤمنين عليهم‌السلام : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه ، وعن حبنا أهل البيت .. » (٢).

حفل هذا الحديث الشريف بعدة أمور تحذر الإنسان قبل أن يدركه ملاك الموت ويبدأ بالندم وتصعيد الحسرات.

أ ـ فالإنسان يسأل أمام الله تعالى في يوم حشره ، يوم الحساب عن أيام عمره كيف قضاها ، فهل أفناها في طاعة الله ورضوانه حتى يثاب على ذلك ، أم أنه أنفقها في اقتراف المنكرات وفي معصية الله لينال جزاءه ويكسب رضاه؟

ب ـ ويسأل أيضا عن شبابه أفضل أيام حياته وأنشطها ، هل انطوت

__________________

(١) الخصال ، ص ٥.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٣١.

١٤٧

في المعاصي والأعمال المنكرة ليعاقب عليها ، أم في طاعة الله والأعمال الصالحة ليثاب عليها؟

ج ـ ويسأل الإنسان يوم الحشر والنشر عن أمواله ، هل اكتسبها بالطرق الحلال المشروعة ، وهل أنفقها في ما يرضي الله ليشكر في الدنيا ويؤجر عليها في الآخرة؟ ، أم أنه اكتسبها بطرق حرام غير مشروعة كأكل المال بالباطل والرضا وتجارة المخدرات وغيره ، وهل أنفقها في معاصي الله ومحرماته ليعاقب عليها؟ قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [ المدثر : الآية ٣٨ ]. وقال تعالى : ( .. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) [ البقرة : ٢٨٦ ].

د ـ وفي نهاية الحديث : يسأل الإنسان يوم الحساب عن محبته لأهل البيت أعلام الهدى وسفينة النجاة وأمن العباد وأنوار الحياة. فهم المجاهدون الأبرار الذين جاهدوا من أجل إحقاق الحق ورفع الظلم ونشر الرسالة الإسلامية في شتى أنحاء الأرض. فمن أبغضهم فقد أبغض الحق ومن أبغض الحق فقد أبغض الله ، ومن أحبهم فقد أحب الحق ومن أحب الحق فقد أحب الله.

٥ ـ وقال عليه‌السلام : كان رسول الله (ص) يقول في آخر خطبته : « طوبى لمن طاب خلقه ، وطهرت سجيته ، وصلحت سريرته وحسنت علانيته ، وأنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، وأنصف الناس من نفسه » (١).

دعا الإسلام إلى التخلق بالأخلاق الحسنة والالتزام بالصفات النبيلة والنبي (ص) دعا المسلمين إلى الاتصاف بمحاسن الصفات فأوجز في هذا الحديث الشريف أمورا عدة :

أ ـ التخلق بالأخلاق الحسنة.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ب ـ طهارة النفس والضمير.

ج ـ التحلي بالفضائل النبيلة والآداب العالية.

ه ـ حفظ اللسان وعدم الخوض في توافه الأمور.

ح ـ إنصاف الناس بالحق والعدل ولو على نفسه.

٦ ـ والأحاديث التي تحض على مكارم الأخلاق كثيرة منها قوله عليه‌السلام عن رسول الله (ص) : « ما يوضع في ميزان امرىء يوم القيامة أفضل من حسن الخلق » (١).

إن التحلي بمكارم الأخلاق من أفضل ما يملكه الإنسان في حياته ، فصاحب الخلق الحسن يمتلك محبة الآخرين وتعلو قيمته بين الناس أجمعين في هذا الدنيا. وكذلك في الآخرة فإنه يدخر خير زاد ليوم المعاد.

وقال (ص) في أهمية الخلق الحسن : أقربكم مني يوم القيامة أحسنكم أخلاقا الذين يألفون ويؤلفون.

وقال الشاعر :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

٧ ـ ومن الأحاديث التي تشد المؤمنين إلى بعضهم البعض وتمتن الروابط الاجتماعية بينهم ما رواه عليه‌السلام عن أبيه عن جده رسول الله (ص) أنه قال : « إن أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على المؤمن » (٢).

حرص الإسلام كل الحرص على وحدة المسلمين وتماسكهم ليكونوا وحدة متضامنة على الخير والشر ، من أجل ذلك جعل من أهم برامجه حثه

__________________

(١) المصدر نفسه ، ج ٢ ، ص ٩٩.

(٢) الإمام زين العابدين لباقر شريف قرشي ، ص ٨.

١٤٩

المؤمنين على إدخال السرور بعضهم على بعض في أفراحهم وأتراحهم وكل ما يحف بهم من مشاكل في حياتهم. وهذا مما يوجب شيوع الألفة والمحبة والمودة بينهم ، ومما يوحد صفوفهم ويمتن العلاقات الاجتماعية بين أفراد مجتمعهم. وللرسول الأعظم أحاديث عدة في هذا المجال منها : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد فإذا تداعى عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر ».

وقال أحد الشعراء يوصي بنيه قبل موته :

كونوا جميعا يا بني إذ اعترى

خطب ولا تفرقوا آحاد

تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرا

وإذا افترقن تكسرت أفرادا

فالمؤمن عليه أن يساعد أخاه المؤمن فيؤنسه ويساعده ويخفف عنه مصائبه ويشاركه في كل ما يحتاج إليه ، لأن الرابط بينهم هو الإيمان ، والأخوة في الإيمان تستدعي المساعدة والمشاركة وإدخال البهجة والسرور إلى قلوب جميع المؤمنين. فهنيئا لكل من استطاع مساعدة الآخرين من إخوانه في الدين فيكسب محبة الدنيا وسعادة الآخرة.

٨ ـ وقال عليه‌السلام في تمجيد العقل :

روى (ع) بسنده عن آبائه أن رسول الله (ص) قال : « إن الله عز وجل خلق العقل من نور مخزون مكنون ، في سابق علمه الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، فجعل العلم نفسه ، والفهم روحه ، والزهد رأسه ، والحياء عينه ، والحكمة لسانه ، والرأفة همه ، والرحمة قلبه ، فلنتأمل هذا التسلسل المنطقي العظيم : جعل العلم أول كل شيء لأنه هو أساس فهم كل الأمور ( يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) و ( العلماء ورثة الأنبياء ) ثم ألحق العلم بالفهم ، ما فائدة العلم إذا كان يخزن في الذاكرة بلا فهم ولا وعي ولا إدراك! أبدا ، إن فهم العلوم يجعلنا نستفيد منها ونستعملها فيما يسعدنا ويسعد الآخرين. وكم من العلماء العقلاء أنقذوا البشرية وطوروا الحياة الإنسانية إلى الأفضل.

١٥٠

والزهد رأسه : وذلك حتى يبتعد الإنسان عن الطمع والجشع والأنانية.

والحياء عينه : يكمن الحياء في العين وهو صفة إنسانية تهب الإنسان قيمة وتقديرا.

والحكمة لسانه : اللسان هو ترجمان العقل يعبر عنه بكل حالاته فعليه أن ينطق بالحكمة التي هي ميزان العقل وبرهان العطاء.

والرأفة همه : القلب الرؤوف هو القلب الحنون الذي يشعر مع الآخرين ويعطف عليهم في المواقف الإنسانية الحقة.

والرحمة قلبه : والرحمة صفة إلهية كريمة وصف الرحمن نفسه بها : رحمة الله الكبرى التي وسعت كل شيء فالمؤمنون رحماء فيما بينهم يتعاونون ويتآلفون ، ويحب الواحد منهم للآخر كما يحب لنفسه.

ثم يتابع الحديث (ع) فيقول : .. ثم حشاه وقواه بعشرة أشياء : باليقين ، والإيمان ، والصدق ، والسكينة ، والإخلاص ، والرفق ، والعطية ، والقنوع ، والتسليم ، والشكر.

هذه الصفات العشر تقوي العقل وتزكيه وتكسبه قوة وتألقا وعطاء خيرا يفيض بهجة وسعادة وهناء.

ثم قال له عز وجل : أدبر فأدبر ، أقبل فأقبل ، ثم قال له : تكلم ، فقال : الحمد لله الذي ليس له سند ولا ند ، ولا شبيه ولا كفو ، ولا عديل ، ولا مثيل ، الذي كل شيء لعظمته خاضع ذليل ، فقال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ، ولا أطوع لي منك ، ولا أرفع منك ، ولا أشرف منك ، ولا أعز منك ، بك أواخذ ، وبك أعطي ، وبك أوحد ، وبك أعبد ، وبك أدعى ، وبك أرتجى ، وبك أبتغي ، وبك أخاف ، وبك أحذر ، وبك الثواب وبك العقاب .. » (١).

__________________

(١) الخصال ، ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

١٥١

حفل هذا الحديث الشريف بتمجيد العقل ، وتعظيمه وماله من أهمية في حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية والدينية. ولذلك منحه الله أفضل الخصائص وأهمها. فهو أفضل الموجودات التي خلقها الله ، وقد منحه الله للإنسان وميزه على بقية المخلوقات والكائنات.

ولا يخفى أن وجود العقل ، هذه الهبة الإلهية العظيمة ، هو شرط من شروط التكليف في الإسلام ، فالفاقد عقله هو كالحيوان الأبكم لا يصح أن يتوجه له التكليف. قال بعض الحكماء : « إذا أخذ ما وهب سقط ما وجب ».

٩ ـ وقال عليه‌السلام ، قال رسول الله (ص) : « كفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه ، وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه .. » (١).

من الجهل الأكبر أن يتغاضى الإنسان عن عيوب نفسه ويفتش عن عيوب الآخرين فينتقد ويجرح دون أي وازع أو رقيب. وكان الأولى به أن يراقب نفسه ويصلح أخطاءه ولا يلتفت إلى عورات الآخرين. قال أمير المؤمنين (ع) :

لسانك لا تذكر به عورة امرىء

فكلك عورات وللناس أعين

كما أن من عيوب المرء أن يؤذي جليسه بما لا يعنيه ، فيتدخل في شؤونه ويحرجه في قضاياه الخاصة. فلو شاء صديقه لأفضى إليه بسره وعرض عليه ما يعاني ، أما أن يكثر من أسئلته عليه فهذا ما يؤذي الجليس ويتحول من صديق حميم إلى عدو لئيم وهو في غنى عن ذلك.

وقد أخذ هذا المعنى شعراء كثيرون وبنوا عليه في قصائدهم منهم الشاعر الفرنسي ( لافنتين ) الذي سمى قصيدته بعنوان ( الخرج ) La besace ،

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٦.

١٥٢

فيضع عينة على صدره يضع فيها أخطاء الآخرين وعينة على ظهره يضع فيها أخطاءه ، فيتعامى عنها ولا يراها بينما يتأمل أخطاء غيره فينقدها وينشرها.

وكذلك الشاعر أحمد شوقي أخذ المعنى نفسه ونسجه في شوقياته.

١٠ ـ وقال عليه‌السلام عن رسول الله (ص) : « في الجنة ثلاث درجات ، وفي الآخرة ثلاث درجات : فأعلى درجات الجنة لمن أحبنا بقلبه ، ونصرنا بلسانه ويده. والدرجة الثانية لمن أحبنا بقلبه ، ونصرنا بلسانه. والدرجة الثالثة : لمن أحبنا بقلبه.

وفي أسفل الدرك من النار من أبغضنا بقلبه وأعان بلسانه ، وفي الدرك الثالث من النار من أبغضنا بقلبه .. » (١).

إن محبة أهل البيت عليهم‌السلام مدعاة إلى الفوز بأسمى الدرجات في الفردوس الأعلى ، ومحبتهم تعني محبة الحق في سبيل الله ، ومحبة الخير من أجل خير عباد الله ، ومحبة الصلاح من أجل كسب رضا الله.

كما أن بغضهم من أسباب الهلكة والتردي في أسفل درك النار. فبغضهم يعني بغض الحق والبعد عن خط رسول الله (ص) وخط الدعوة الإسلامية التي أوكلوا بنشرها والوقوف في وجه كل من عرقل مسيرتها.

١١ ـ وقال (ع) قال رسول الله (ص) : « ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب. الزائد في كتاب الله ، والمكذب بقدر الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعزه الله ، ويعز من أذله الله ، والمستأثر بفيء المسلمين ، المستحل له .. » (٢).

هؤلاء الأصناف الذين لعنهم الله تعالى ، ولعنهم كل نبي مجاب ، هم

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ١٢.

(٢) الخصال ، ص ٣٠٨.

١٥٣

المنحرفون عن الحق ، والرافضون لكل ما سنه الله في شريعته العادلة. من هؤلاء كان حكام الأمويين الذين ناصبوا العداء لأهل البيت ، للعترة الطاهرة ، ونشروا الفساد في البلاد والجور والطغيان في بقاع الأرض. لكنهم لم يستطيعوا إطفاء الشعلة المنيرة وإزالة القوة المجاهدة التي تصدت لردع الظلم ورد كيد الظالمين. والشاهد الواضح على ذلك هو سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام شهيد كربلاء الذي ضحى بنفسه ودمه الطاهر من أجل إحقاق الحق وتقومي الاعوجاج. وهو القائل : ما خرجت لا أشرا ولا بطرا وإنما خرجت من أجل الإصلاح في أمة جدي.

١٢ ـ وهذا حديث شريف من أغنى الأحاديث النبوية التي ضمت كنوز العلم الخيرة والحكمة الهادية والعرفان الجميل.

قال الإمام زين العابدين عليه‌السلام حدثني أبي أن جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أعبد الناس من أقام الفرائض ، وأسخى الناس من أدى الزكاة ، وأزهد الناس من اجتنب المحارم ، وأتقى الناس من قال بالحق في ما له وما عليه ، وأعدل الناس من رضى للناس بما يرضى لنفسه ، وأكيس الناس من كان أشد ذكرا للموت ، وأغبط الناس من كان تحت التراب قد أمن العقاب ، ويرجو الثواب ، وأعقل الناس من يتعظ بتغير الدنيا من حال إلى حال ، وأعظم الناس في الدنيا خطرا من لم يجعل للدنيا خطرا ، وأعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه ، وأشجع الناس من غلب هواه ، وأكثر الناس قيمة أكثرهم علما ، وأقل الناس لذة الحسود ، وأقل الناس راحة البخيل ، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه ، وأولى الناس بالحق أعلمهم ، وأقل الناس حرمة الفاسق ، وأقل الناس وفاء الملوك ، وأقل الناس صديقا الملوك ، وأفقر الناس الطماع ، وأغنى الناس من لم يكن للحرص أسيرا ، وأفضل الناس إيمانا أحسنهم خلقا ، وأكثر الناس عقلا أتقاهم ، وأعظم الناس حذرا من ترك ما لا يعنيه ، وأورع الناس من ترك المراء ، وإن كان محقا ، وأقل الناس مروءة من كان كاذبا ، وأشقى الناس الملوك ، وأمقت الناس المتكبر ، وأشد الناس اجتهادا من ترك

١٥٤

الذنوب ، وأحلم الناس من فرّ من جهال الناس ، وأسعد الناس من حالف كرام الناس وأعقل الناس أشدهم مداراة للناس ، وأولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة ، وأعتى الناس من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأحق الناس بالذنب السفيه ، المغتاب ، وأذل الناس من أهان الناس ، وأحزم الناس أكظمهم للغيظ ، وأصلح الناس أصلحهم للناس ، وخير الناس من انتفع به الناس » (١).

كما ترى هذا الحديث الشريف يلقي أضواء على طبائع الناس واتجاهاتهم وميولهم ومنازعهم ، وقد وضع المناهج الحية للإصلاح الشامل للعديد من القضايا النفسية والتربوية والاجتماعية. فهو منجم ثمين من مناجم المعرفة.

* * *

__________________

(١) زين العابدين للقرشي ، ص ١٦.

١٥٥
١٥٦

جامعة أهل البيت

الجامعة هي مكان تجمع الطلاب لتناول العلم بشتى أصنافه وأنواعه. وجامعة أهل البيت كانت تجمع بين الحين والآخر المئات والآلاف من مختلف العلوم وشتى الأقطار لدراسة الفقه والحديث واللغة والتفسير والفلسفة. وقد أسسها الإمام محمد الباقر حتى نمت وتكاملت في عهد ولده جعفر الصادق حيث باتت تضم آلاف العلماء في مختلف المواضيع. فتدفق إليها الطلاب من الحجاز والكوفة والبصرة وواسط وتخرج منها كبار العلماء والمحدثين والرواة. وقد أحصيت مؤلفات المتخرجين من تلك الجامعة فبلغت ستة آلاف كتاب منها أربعمائة كانت تعرف بالأصول على لسان محدثي الشيعة. ولعل أكثر محتويات الكتب الأربعة : الكافي ومن لا يحضره الفقيه والوافي والاستبصار مأخوذة منها (١).

وما نلفت إليه أن المهمة التي قام بها الإمامان الباقر والصادق في قيام جامعة أهل البيت هامة جدا وتعني كل فرد من أئمة الشيعة (ع) لكن الظروف التي تهيأت للإمامين المذكورين لم تتهيأ لغيرهما من الأئمة الآخرين (ع) ذلك أن الفترة الزمنية التي قضاها الإمام الباقر قد رافقتها بوادر نقمة عارمة من مختلف الأقطار على سياسة الأمويين فالجميع أحسوا

__________________

(١) سيرة الأئمة الأثني عشر ، ص ٢٠٢.

١٥٧

بسوء صنيعهم وأرادوا التخلص منهم وبصورة خاصة ظلمهم للعلويين الذي كان سلاحا قويا بيد خصومهم الطامعين بالحكم. وهذا ما دعاهم ليكونوا أكثر اعتدالا مما كانوا عليه بالأمس ولما جاء عهد الإمام الصادق كانت الدولة الأموية تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعاني أشد المرارة من الهزائم التي تلحق بها من خصومها العباسيين الذين قوضوا أركانها وتسلموا الحكم بمساعدة العلويين والفرس.

في ظل هذه الظروف الخاصة انطلق الإمامان الباقر والصادق (ع) لأداء رسالتهما. وقد تم لهما ذلك بين عهدين : عهدين : عهد غمرته الكوارث ودوخته الهزائم ، وعهد ظهرت فيه تباشير النصر وزهو السيطرة على الحكم. فقامت الحكومة الجديدة على أكتاف العلويين وبمساندة الفرس.

هذه الظروف هيأت للإمامين فرصة ذهبية لم تتهيأ لغيرهما من أئمة أهل البيت.

لكن يا للأسف! لما استتب الأمر للعباسيين وتسلموا زمام الحكم تستروا بظل أهل البيت وشيعتهم ثم ظهروا على حقيقتهم فغدروا بأنصارهم ومثلوا أبشع الأدوار وأقبح المؤامرات التي فعلها الأمويون حتى قال أحد الشعراء :

يا ليت جور بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس في النار

إن المشاكل التي كانت تحيط بالأمويين والأخطار المحدقة بهم من كل جانب سمحت لجامعة أهل البيت أن تنمو وتتوسع حتى أصبحت تضم أكثر من أربعة آلاف طالب. لكن ذلك حدث بعد أن مضى على المسلمين أكثر من قرن لا عهد لهم بفقه يختص بأهل البيت حتى أن الرواة كانوا لا يتجرأون أن يجهروا بحديث لهم سوى ما كان يروى عن طريق الكتابة في الغالب. ذلك أن الأمويين في عز سلطانهم كانوا ينكلون بهم وبكل من يتهم بالولاء لهم ، جادين في القضاء على كل آثارهم.

وما نلفت إليه أنه لو أتيح للأئمة بعد الإمام علي (ع) أن ينصرفوا إلى

١٥٨

الناحية التي اتجه لها الإمامان الباقر والصادق لكان فقه أهل البيت هو الفقه السائد والمعمول به عند عامة المسلمين. ذلك أن فقه الإمام علي بن أبي طالب هو الينبوع الأصيل والغزير وقد كان صاحب الرأي الأول والأخير في الفقه والقضاء بلا منازع ولكن خصومه عملوا بكل ما عندهم من وسائل لطمس آثاره وآثار أبنائه من بعده وكل من ينسب إليهم رأيا أو يروي عنهم حديثا.

لقد شاء الله لجامعة أهل البيت أن تعيش آمنة مطمئنة ولو لفترة يسيرة من الزمن ، تلك الفترة التي لا تعد شيئا ملحوظا بالنسبة لما تركته من الآثار في شرق البلاد وغربها ، فترة لا تتجاوز ثلث قرن من الزمن تقريبا.

كما شاء الله سبحانه وتعالى لمذهب أهل البيت وفقههم ، فقه الإمام علي بن أبي طالب ، الذي أخذه عن الرسول مباشرة بلا واسطة ، أن ينسبا إلى حفيده الإمام جعفر الصادق الذي اشترك مع أبيه في تأسيس تلك الجامعة المباركة ثم استقل بها بعد وفاته عليهما‌السلام. وهذا لا يعني أن له رأيا في أصول المذهب أو فقهه يختلف فيهما عن آبائه وأحفاده بل انهم جميعا صلوات الله عليهم يعملون بتعاليم القرآن الكريم ، وسيرة الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الولاء لأهل البيت :

أكد الإمام زين العابدين عليه‌السلام ضرورة الولاء لأهل البيت والمودة لهم ، واعتبر ذلك عنصرا مهما من عناصر الإسلام.

قال (ع) لأبي حمزة الثمالي : « أي البقاع أفضل »؟

فحار أبو حمزة في الجواب فقال : « الله ورسوله أعلم ».

فأجابه عليه‌السلام : « إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام ، ولو أن رجلا عمّر ما عمّر نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، يصوم النهار

١٥٩

ويقوم الليل في ذلك الموضع ، ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا » (١).

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله (ص) وأوصيائه (ع) في أن ولاية الأئمة ضرورة إسلامية يسأل عنها المسلم في يوم حشره ونشره ، ويحاسب عليها كما يحاسب على سائر الواجبات الإسلامية ، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها شرط في صحة العمل ، لا في قبوله ، كشرائط الصحة في الواجبات.

جاء في أحكام القرآن للجصاص :

قال سعيد بن جبير : سألت الإمام زين العابدين عليه‌السلام عن القربى في الآية الكريمة : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (٢). هي قرابتنا أهل البيت (٣). فالله سبحانه وتعالى قربهم منه لأنه يعلم أين يضع رسالته ، وقد ذكر الإمام عليه‌السلام في حديث آخر ما يظفر به محبو أهل البيت من الأجر الجزيل في دار الآخرة ودار الدنيا ، فقد وفد عليه جماعة من الشيعة عائدين إياه قالوا له : « كيف أصبحت يا بن رسول الله »؟

فأجابهم الإمام بلطف : « في عافية ، والله المحمود على ذلك. وكيف أصبحتم أنتم جميعا فانبروا قائلين : « أصبحنا والله لك محبين .. ».

فبشرهم بما يظفرون به من الجزاء الأوفى عند الله قائلا : « من أحبنا لله أدخله الله ظلا ظليلا ، يوم لا ظل إلا ظله ومن أحبنا يريد مكافأتنا كافأه الله عنا الجنة ، ومن أحبنا لغرض دنياه آتاه الله رزقه من حيث لا

__________________

(١) الإمام زين العابدين ، ص ٢٠٢.

(٢) الشورى ، الآية ٤٢.

(٣) أحكام القرآن ، ج ٣ ، ص ٤٧٥.

١٦٠