تراثنا ـ العدد [ 140 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 140 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣١٨

فرغ منه في سنة (١٢٥٧هـ) ، فأثبت بعمله القيّم المنّة على كافّة المتأخّرين وجعلهم عيالاً له في معرفة استنباط أحكام الدين»(١).

وقال في طبقات الشيعة الكرام البررة نقلاً عن بعض الفضلاء في وصفه للكتاب ما نصّه : «لو أراد مؤرّخ زمانه أن يثبت الحوادث العجيبة في أيّامه لم يجد حادثة أعجب من تصنيف هذا الكتاب في عصره»(٢).

وقال المحدّث النوري في الخاتمة بعد وصف المؤلّف بالشيخ المربّي الفقيه وكونه ممّن انتهت إليه رئاسة الإمامية في عصره : «صاحب كتاب جواهر الكلام الذي لم يصنّف في الإسلام مثله في الحلال والحرام»(٣).

فالجواهر إذن لم يصنّف في الإسلام فيما يخصّ الحلال والحرام مثله ، فهو جواهر بجميع ما تعطي الكلمة من معنى ودلالة ، إنّه اسم وافق مسمّاه ، وهنا يكمن السرّ في خلوده وتفوّقه وديمومته مرجعاً ومصدراً ومنهلاً للفقهاء ، على طول الزمان ومرّ الدهور وتعاقب العصور.

وذاع صيت الكتاب بحيث غلب عنوانه على اسم مؤلّفه ، فباتت تُعرَف شخصية مؤلّفه بـ : (صاحب الجواهر) ، كما صار اصطلاح الفقه الجواهري بين كبار الفقهاء عنواناً سائداً للتعبير عن النمط الذي تفرضه متطلّبات الاجتهاد الحقيقي في عصر النهضة الإسلامية ، حيث كان عليهم ملء الفراغ الذي أحدثه الفكر الأخباري

__________________

(١) الذريعة ٥ / ٢٧٦.

(٢) الكرام البررة ١ / ٣١٢.

(٣) خاتمة المستدرك ٢ / ١١٤.

٢٦١

في الجمود على واقع انقضى أمده ، ليُعطِّل من وجهة نظرهم كثيراً من الأحكام السياسية والاجتماعية للدين.

الهدف من تأليف الكتاب :

لم ينوِ المؤلِّف في بدء أمره القيام بشرح كتاب الشرائع بناءً على ما نُقِل عنه ، بل كان رحمه‌الله يقصد تنظيم ملاحظاته ومراجعاته حول مختلف المباحث الفقهية للاستفادة الشخصية ، وقد بيّن في مقدّمة كتابه أنّ الدواعي من انتخاب كتاب الشرائع لشرحه كانت هي خصوصيّات الكتاب في الإحاطة والبيان والإتقان ورجوع المتأخّرين إليه ، وأنّ الهدف من شرحه إنّما كان إخراج فوائد الكتاب وإيضاح دقائقه ورفع الإجمال وبيان أخطاء الشرّاح والإتيان على الأقوال ومستنداتها بأوجز العبارات.

ونُقل عن التكملة أنّ الشيخ قال في جملة كلام له مع تلميذه فقيه عصره الشيخ محمّد حسن آل يس عن كتابه الجواهر في قصّة طويلة : «والله يا ولدي أنا ما كتبته على أن يكون كتاباً يرجع إليه الناس ، وإنّما كتبته لنفسي حين كنت أخرج إلى العذارات ـ منطقة تعود إلى أخواله في إحدى مناطق الحلّة ـ وهناك أُسأل عن المسائل وليس عندي كتب أحملها لأنّي فقير ، فعزمت على أن أكتب كتاباً يكون لي مرجعاً عند الحاجة ، ولو أردت أن أكتب كتاباً مصنّفاً في الفقه لكنت أحبّ أن يكون على نحو رياض المير السيّد علي»(١).

__________________

(١) انظر : مقدّمة الجواهر ١ / ٢١.

٢٦٢

وأضاف الشيخ المظفّر قائلاً : «والحقّ أنّ الكتاب بما فيه من البسط وعدم الترتيب شاهد على صحّة هذا النقل من أنّه كتبه ليكون مذاكرات ومرجعاً له خاصّة لا على أسلوب التأليفات المنمّقة ، ومن هنا نعرف السرّ فيما كان يصنعه كثيراً، من اقتطاف نصّ عبارات الرياض وشرح اللمعة من دون الإشارة إلى المصدر ولا إلى ما يشعر بالاقتطاف»(١).

تاريخ البدء بالتأليف :

المعروف أنّ المؤلّف بادر إلى تأليف الكتاب وهو في الخامسة والعشرين من عمره ، وقد كتب السيّد محمّد باقر الخوانساري في الروضات أنّ النجفي في سنة (١٢٦٢هـ) كان قد بلغ من العمر سبعين عاماً ، فيُخمّن أن يكون بدء تأليفه سنة (١٢١٧هـ) (٢).

قال الشيخ المظفّر : «المعروف أنّه شرع في تأليفه من كتاب الخمس على غير الترتيب ، وكتاب الخمس فرغ منه بتاريخ (١٢٣١هـ) كما سجّل في آخره بخطّه الشريف(٣) ، وآخر ما كتبه منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتهى منه سنة (١٢٥٧هـ) كما سجّل في آخره وبخطّه أيضاً(٤). ولكن الشيخ آقا بزرك الطهراني حفظه الله استنتج أنّ أوّل كتاب شرع فيه هو كتاب الطهارة ، بدليل أنّه ذكر

__________________

(١) مقدّمة الجواهر ١ / ٢١.

(٢) روضات الجنّات ٢ / ٣٠٥.

(٣) جواهر الكلام ١٦ / ٥٦٠.

(٤) جواهر الكلام ٢٢ / ٦٩٦.

٢٦٣

في مبحث أحكام الاستنجاء أستاذه كاشف الغطاء وقال عنه : (سلّمه الله) كما تنطق به النسخة الأصلية المخطوطة ، ومن المعلوم أنّ الشيخ الكبير توفّي سنة (١٢٢٨هـ)»(١).

وجاء في كتاب ماضي النجف وحاضرها: «وقد هنّأه بإتمام الكتاب كثير من شعراء عصره ، كالشيخ موسى شريف ، والشيخ عبد الحسين ابن الشيخ قاسم محي الدين ، والشيخ إبراهيم قفطان ، وصهره على ابنته السيّد صالح القزويني ، وتلميذه العلاّمة السيّد حسين بحر العلوم بقوله من قصيدة له :

 لله علمك كم وكم وضحت به

سنن الهدى حتّى اهتدى حَيرانُها

كم من يد مشكورة لك في الورى

ضاف نداها سابغٌ إحسانُها

لو لم تكن إلاّ جواهرك التي

أحيى شريعة أحمد برهانُها

لكفتك بين ذوي العلوم فضيلةً

شهدت بأنّك فيهم سلطانُها»(٢)

الحواشي والتعليقات على الكتاب :

ذُكرت عدّة من الشروح والتعليقات على كتاب جواهر الكلام ، منها :

١ ـ حاشية من تأليف الميرزا محمّد التنكابني المتوفّى (١٣٠٢هـ).

٢ ـ حاشية من تأليف تلميذه الملاّ علي الكني صاحب تحقيق الدلائل

__________________

(١) مقدّمة كتاب الجواهر ١ / ٢٠. وما نقله عن آقا بزرك الطهراني في : الذريعة ٥ / ٢٧٦ ، لكن فيها تأريخ وفاة الشيخ الكبير سنة ١٢٢٧هـ.

(٢) ماضي النجف وحاضرها ٢ / ١٢٩.

٢٦٤

المتوفّى (١٣٠٦هـ).

٣ ـ حاشية للشيخ محمّد طه ابن الشيخ مهدي نجف المتوفّى (١٣٢٣هـ) ، اسمها الإنصاف في تحقيق مسائل الخلاف من كتاب جواهر الكلام.

٤ ـ حاشية على كتاب الخمس خاصّة ، تأليف السيّد أبي تراب الخوانساري المتوفّى (١٣٤٦هـ) (١).

__________________

(١) الذريعة ٦ / ٥٨.

٢٦٥

الفصل الثاني

المنهج الموسوعي لصاحب الحدائق

المبحث الأوّل

معالم المدرسة الأخبارية

تمهيد :

تأسيس وأسُس المدرسة الأخبارية :

شهد عصر صاحب الحدائق مرحلة جديدة من مراحل تطوّر مناهج استنباط الأحكام الشرعية عند الشيعة الإمامية بلغ فيها الخلاف ذروته بين مدرستين فقهيّتين إماميّتين عُرف فقهاء إحداهما بالأصوليّين أو المجتهدين وعُرف فقهاء الأخرى بالأخباريّين أو المحدّثين ، وقد برز هذا الخلاف أوّل مرّة وذاع صيته أواخر النصف الأوّل من القرن الحادي عشر الهجري بعد ما يربو على قرن وربع قرن من قيام الدولة الصفوية وعقب انتشار آراء المحدّث محمّد أمين الإسترآبادي (ت ١٠٣٣هـ) والتي أودعها في كتابه: الفوائد المدنية في الردّ على القائل بالاجتهاد والتقليد في الأحكام الإلهية والذي يُعدّ أوّل مصدر تبلورت فيه أفكار المدرسة الأخبارية بصورتها الكاملة والواضحة ، وقد نَظَّر الإسترآبادي في مصنّفه هذا جميع المرتكزات والمبادئ التي تقوم عليها هذه المدرسة ، وهاجم فيه المدرسة الأصولية محاولاً نقض منهجها من أساسه ، فأحدث بذلك هزَّة في

٢٦٦

الأوساط الشيعية انقسم الفقهاء على إثرها إلى مؤيّد ومعارض ، وصاروا فريقين معروفين : أخباريّين وأصوليّين(١).

وقد ردّ نور الدين العاملي على ما ألّفه الإسترآبادي بكتاب أسماه الفوائد المكّية في مداحض حجج الخيالات المدنية ونقض أدلّة الأخبارية ، وردّ عليه دلدار علي النقوي اللَكَهنوي بكتاب أسماه: أساس الأصول ، فألّف الميرزا محمّد عبد النبي النيسابوري الهندي كتاباً أسماه: معاول العقول لقلع أساس الأصول دافع فيه عن كتاب الفوائد المدنية للإسترآبادي وعنّف القول على مؤلّف أساس الأصول ، فانبرى عدد من تلاميذ علي وهم نظام الدين حسين وأحمد علي وغيرهما للدفاع عن شيخهم ، فألّفوا كتاب مطارق الحقّ واليقين لكسر معاول الشياطين.

وهكذا ظلّ الصراع محتدماً بين الأخباريّين والأصوليّين خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريّين ، وكانت المعارك بين الطرفين تدور بشكل خاصّ في مدينة كربلاء حيث كان للأخباريّين فيها وجود بارز ، ولم يقتصر النزاع على علماء الشيعة من الطرفين بل انتقل إلى صفوف عوامّهم ، ومن ذلك ما أوغل الأخباريّون في الازدراء بالأصوليّين وتسفيه منهجهم ومؤلّفاتهم إلى درجة أنّهم كانوا لايلمسون مؤلّفاتهم بأيديهم خوفاً من نجاستها ، بل كانوا يقبضونها من وراء ملابسهم كما جاء في بعض المصادر(٢).

__________________

(١) الحدائق الناضرة دراسة مقارنة في المنهج : ٧٥ ، الحدائق الناضرة ١ / ١٧٠.

(٢) انظر : الموسوعة الشاملة للفرق المعاصرة في العالم : ٣٩.

٢٦٧

مرتكزات المنهج الأخباري :

ويرتكز المنهج الأخباري الذي عرضه الإسترآبادي في كتابه ودعا إلى إحيائه بوصفه يمثّل حسبما يعتقد المنهج الأصيل الذي اتّبعه أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام والرعيل الأوّل من علماء الإمامية على جملة من الأسس والمبادئ يمكن إيجازها فيما يلي :

أوّلاً : انفتاح سبيل العلم بالأحكام الشرعية الفرعية بوجود الأخبار المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام والمقطوع بصدورها ودلالتها(١).

ثانياً : حرمة العمل بظواهر القرآن والسنّة النبوية قبل الوقوف على حالهما في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

ثالثاً : حرمة العمل بالأدلّة الظنّية ـ بما في ذلك الإجماع ـ والأدلّة العقلية كما هو المعمول به في الطريقة الأصولية ، وعدم مشروعية الاجتهاد والتقليد بموجب هذه الطريقة(٣).

رابعاً : التوقّف والاحتياط فيما لم يقُم عليه دليل من أخبار أهل البيت عليهم‌السلام (٤).

وقد ربط الإسترآبادي نشأة المدرسة الأصولية عند الشيعة الإمامية بالأفكار العقلية التي نادت بها مدرسة الرأي المقابلة لمدرسة الحديث عند أهل المذاهب

__________________

(١) انظر : الفوائد المدنية : ١٢٣ ، ٣١٤ ، ٣٧٠.

(٢) الفوائد المدنية : ٩١ ، ١٠٤ ، ٣٥٤.

(٣) الفوائد المدنية ، الفصل الأوّل : ١٨٠ ، وكذا الفصل السادس : ٢٦٥.

(٤) الفوائد المدنية : ٣٢٥ ، ٣٥٠.

٢٦٨

الأخرى وجسّدتها في علم أصول الفقه ، مقلّصة الاعتماد على الحديث بالاقتصار على المتواتر منه من دون غيره من أخبار الآحاد المشكوك في صحّتها ، وألقى تَبِعة القيام بالخطوات الأولى في نشأة هذه المدرسة على ذلك النحو حسب اعتقاده على الفقيهين القديمين ابن أبي عقيل وابن الجنيد الذين اتّهمهما بالعمل بالقياس ، كما ألقى بتبعة القيام بالخطوات النهائية التي استكملت بها المدرسة الأصولية جميع مقوّماتها واستوفت إطارها الكامل على العلاّمة الحلّي ، كما اتّهم فيه محمّد بن إدريس الحلّي بأنّه أوّل من فتح باب الطعن في صحّة أكثر الأحاديث المتداولة في كتب الشيعة(١).

أعلام المدرسة الأخبارية بعد الإسترآبادي إلى عصر صاحب الحدائق :

اقتفى أثر المحدّث الإسترآبادي أو تأثّر به في منهجه الأخباري ومناهضته للمنهج الأصولي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريّين كثير من الفقهاء الذين عُرفوا بالمحدّثين أو الأخباريّين ، ولعلّ من أبرز هؤلاء الأخباريّين من الفقهاء هم :

١ ـ الشيخ محمّد تقي المجلسي المتوفّى (١٠٧٠هـ) ، وهو والد العلاّمة المجلسي محمّد باقر صاحب كتاب بحار الأنوار ، له شرح على كتاب من لايحضره الفقيه بالفارسية وآخر بالعربية ، وقد صوّب المجلسي في كلا شرحيه

__________________

(١) انظر : الفوائد المدنية : ٧٨.

٢٦٩

على الكتاب المذكور طريقة المحدّث الإسترآبادي وأثنى عليه وعلى كتابه وطريقته الأخبارية ، خصوصاً في شرحه الفارسي على الكتاب(١).

٢ ـ الشيخ حسين بن شهاب الدين العاملي المتوفّى (١٠٧٦هـ) ، ذكر له الحرّ العاملي عدّة مؤلّفات ، منها هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار(٢) ، وهذا الكتاب من أشهر ما عُرف به ، وقد ضمَّنه منهجه الأخباري ونقده للمنهج الأصولي.

٣ ـ المولى محمّد محسن المعروف بالفيض الكاشاني المتوفّى (١٠٩١هـ) ، قال عنه معاصره الحرّ العاملي في أمل الآمل : «كان عالماً فاضلاً ماهراً حكيماً متكلّماً محدّثاً محقّقاً شاعراً أديباً حسن التصنيف من المعاصرين»(٣).

ومن أشهر مؤلّفاته في الحديث الوافي في خمسة عشر جزءاً ، جمع فيه أحاديث الكتب الأربعة : الكافي ومن لايحضره الفقيه والاستبصار والتهذيب ، معتقداً بقطعية صدورها عن الأئمّة عليهم‌السلام. وللفيض أيضاً رسالة الحقّ المبين كتبها في تأييد ما ذهب إليه الإسترآبادي.

٤ ـ الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي المتوفّى (١١٠٤هـ) ، وصفه المحدّث البحراني في الحدائق بأنّه من متصلّبي الأخبارية وأجلاّء المحدّثين(٤).

تبنّى الحرّ العاملي المنهج الأخباري ودافع عن الإسترآبادي وطريقته في

__________________

(١) لوامع صاحبقراني ١ / ٤٧. وكذا : روضة المتّقين ١ / ٢٤.

(٢) أمل الآمل ١ / ٧٠ ، ترجمة (٦٦).

(٣) أمل الآمل ٢ / ٣٠٥ ، ترجمة (٩٢٥).

(٤) الحدائق الناضرة ١٢ / ٥٥.

٢٧٠

كتابه الفوائد الطوسية بقوله : «إنّه رجّح طريقة القدماء على طريقة المتأخّرين بالنصوص المتواترة»(١).

وقد ناقش الحرّ العاملي في هذا الكتاب ضمن الفائدة الحادية والتسعين والفائدة الثانية والتسعين منه المنهج الأصولي في الاستنباط وحدّد أبرز الفروق بينه وبين المنهج الأخباري في ثلاثة وعشرين فرقاً ، مؤكّداً أنّ معظمها فروق معنوية وليست لفظية(٢).

وإلى جانب ما تقدّم كرَّس الشيخ الحرّ جهوده العلمية لترسيخ دعائم المنهج الأخباري ونشره ، فخصّص قسماً من كتاب الفصول المهمّة في أصول الأئمّة لبيان الكلّيات المتعلّقة بأصول الفقه وأنهاها إلى ستّة وثمانين باباً إلى جانب المقدّمة التي بحث فيها جملة من المسائل المتعلّقة بأصول الفقه أيضاً كحجّية الظواهر والعمومات ، ذلك كلّه من أجل تأصيل قواعد المنهج الأخباري كما طرحه الإسترآبادي.

كما صنّف الحرّ العاملي كتاب تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، وهو أشهر كتبه وأبقاها أثراً وتداولاً بين علماء المدرستين قاطبة حتّى اليوم.

٥ ـ السيّد هاشم بن سليمان البحراني التوبلي المتوفّى (١١٠٧هـ) ، أشار

__________________

(١) الفوائد الطوسية : ٤٥٤.

(٢) الفوائد الطوسية : ٤٠٢ ـ ٤٥٨.

٢٧١

الشيخ يوسف البحراني إلى أخباريّته بنعته بأنّه كان محدّثاً(١).

وأمّا مؤلّفاته فإنّ من أشهرها كتابه البرهان في تفسير القرآن في ستّة مجلّدات اتّبع فيه المنهج الأخباري في التفسير ، وقد أشار إلى ذلك الشيخ البحراني في الحدائق فقال : «إنّ من جملة الأخبار الواردة عنهم متّفقة الدلالة على المنع من تفسيره إلاّ بما ورد عنهم عليهم‌السلام ، ولذلك تصدّى لذلك جملة من فضلاء المتأخّرين المتبحّرين ، منهم السيّد العلاّمة السيّد هاشم الكتكاني البحراني في تفسيره المسمّى بالبرهان في تفسير القران ، فجمع تلك الأخبار الواردة في تفسير الآيات عنهم عليهم‌السلام »(٢).

٦ ـ الشيخ محمّد باقر المجلسي المتوفّى (١١١١هـ) ابن المجلسي الأوّل المتقدّم ذكره ، قال عنه المحدّث البحراني بعد وصفه بغوّاص بحار الأنوار ـ إشارة إلى كتابه المعروف بحار الأنوار ـ : «شيخ الإسلام بدار السلطنة إصفهان ، رئيساً فيها بالرئاستين الدينية والدنيوية ، إماماً في الجمعة والجماعة ، وهو الذي روَّج الحديث ونشره لاسيّما في الديار العجمية ، وترجم له الأحاديث العربية بأنواعها بالفارسية»(٣).

امتاز المجلسي الابن بالاعتدال في أخباريّته ، فلم يسلك سبيل سلفيه الإسترآبادي والفيض الكاشاني في شدّة التعصّب لمذهبه والتشنيع على

__________________

(١) لؤلؤة البحرين : ٦٣ ، ترجمة (١٩).

(٢) الحدائق الناضرة ١٨ / ١٤٣.

(٣) لؤلؤة البحرين : ٥٥ ، ترجمة (١٦).

٢٧٢

الأصوليّين ، حتّى أنّ صاحب الحدائق وصف طريقته بأنّها الطريقة الوسطى كما نقل ذلك أبو علي الحائري(١) ، ولم يشغل نفسه بالمباحث النظرية كما فعل الفيض وإنّما وجّه جلّ اهتمامه إلى جمع أحاديث الأئمّة وترويجها في الديار العجمية بعد ترجمتها إلى الفارسية ، وقد أتيح له بحكم مركزه في الدولة الصفوية اقتناص فرص نادرة في الحصول على كلّ مايطلبه من الكتب ، حتّى صنّف أبرز آثاره وأهمّها وهو كتاب بحار الأنوار الذي جمع كلّ ما وصل إليه من الأخبار التي رواها محدّثو الشيعة في أصولهم وكتبهم.

٧ ـ السيّد نعمة الله بن عبد الله الجزائري المتوفّى (١١١٢هـ) ، ويلقّب أيضاً بالشوشتري ، وتميّز الجزائري رغم التزامه بمبادئ النهج الأخباري بالدعوة إلى الاعتدال والتوسّط في مناهضة الأصوليّين والتخفيف من غلواء الانشقاق الذي شطر الفكر والمجتمع إلى شطرين ، وقد وصفه صاحب روضات الجنّات بأنّه كان مع مشرب الأخبارية كثير الاعتناء والاعتدال بأرباب الاجتهاد(٢).

٨ ـ الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي المتوفّى (١١٣٥هـ) ، وكان على عكس الجزائري متشدّداً في منهجه الأخباري كثير التشنيع على المجتهدين ، وقد أكثر صاحب الحدائق من التعرّض في كتابه لذكر أقوال السماهيجي في مسائل كثيرة وبخاصّة ما ورد منها في كتابه منية الممارسين الذي قال عنه في اللؤلؤة بأنّه أحسن ما صنّفه ، وكان يشير إليه غالباً في الحدائق بقوله : «شيخنا المحدّث

__________________

(١) منتهى المقال ٧ / ٧٥.

(٢) روضات الجنّات ٨ / ١٥٠ ، ترجمة (٧٢٦).

٢٧٣

الصالح»(١) (٢).

وقد واصلت المدرسة الأخبارية خلال القرن الثاني عشر توسّعها وانتشارها في مجمل الحواضر العلمية الشيعية في العراق وإيران والبحرين وجبل عامل ، وبلغت أوج اكتمالها وقوّتها في عهد المحدّث البحراني صاحب الحدائق الذي آلت إليه زعامة هذه المدرسة على إثر حلوله في كربلا بعد عام (١١٦٥هـ) ، وفي المقابل تراجعت المدرسة الأصولية جرّاء بروز هذه المدرسة وضعف إنتاجها في علم الأصول رغم صدور بعض الرسائل والحواشي الأصولية التي لم تخلُ من التجديد في بعض أفكارها ، كالوافية للملاّ عبد الله التوني (ت١٠٧١هـ) ، وشرحها للسيّد صدر الدين القمّي (ت١١٦٠هـ) ، وحاشية محمّد بن حسن الشيرواني (ت١٠٩٨هـ) على كتاب المعالم للشيخ حسن ابن الشهيد الثاني (ت١٠١١هـ) ، إنّها وغيرها ممّا ظهر من بحوث فقهية وأصولية للاُصوليّين في تلك الحقبة الأخبارية لم ترقَ إلى مستوى مجابهة التيّار الأخباري ، حتّى ظهر الوحيد البهبهاني على رأس مدرسته الأصولية الجديدة التي طوّرت البحث الأصولي وارتقت به إلى مستوى أعلى مكَّنها من إيقاف انتشاره وتحجيمه في أضيق الحدود(٣).

الأدلّة التي يستند إليها الفقهاء في المدرسة الأخبارية :

بلور الفكر الأصولي منذ القرن السادس الهجري أدلّة الأحكام الشرعية في

__________________

(١) انظر : لؤلؤة البحرين : ٩٦ ، ترجمة (٣٨).

(٢) انظر : الحدائق الناضرة دراسة مقارنة : ٩٩ ـ ١١٥. و : مقدّمة رياض المسائل : ١٠٥.

(٣) الحدائق الناضرة دراسة مقارنة : ١٧٠.

٢٧٤

أربعة هي : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، وقد نفى الأخباريّون حجّية اثنين منها هما : الإجماع والعقل ، واختلفوا مع الأصوليّين في شروط الاستدلال بالكتاب والسنّة بعد الاتّفاق على أصل حجّيتهما ، حيث اشترط الأخباريّون في الاستدلال بظواهر الكتاب الرجوع في تفسيرها إلى أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، وأطلقوا صحّة الأخبار الواردة في الكتب المعتمدة ـ سواء الأربعة منها المشهورة أو غيرها مثل عيون أخبار الرضا والأمالي والاحتجاج ـ بمعنى القطع بصدورها(١).

أهمّ معالم المدرسة الأخبارية :

يمكن إيجاز أهمّ المسائل الأساسية للمدرسة الأخبارية بعد وضوح موقفهم من الأخذ بالكتاب الكريم بما يلي :

أوّلاً : قطعية صدور كلّ ما ورد في الكتب الحديثية الأربعة من الروايات ؛ لاهتمام أصحابها بتدوين الروايات التي يمكن العمل والاحتجاج بها ، وعليه فلا يحتاج الفقيه إلى البحث عن أسناد الروايات الواردة في الكتب الأربعة ويصحّ له التمسّك بما ورد فيها من الأحاديث(٢).

ثانياً : عدم جريان البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية(٣).

__________________

(١) انظر : الحدائق الناضرة ، المقدّمة الثانية والثالثة ١ / ١٤ ـ ٤٢.

(٢) انظر : الفوائد المدنية : ٣٧٠ ،٣١٤ ،١٢٣ ، و : هداية الأبرار : ٨٢ ،١٦ ، و : الحدائق الناضرة ١ / ٤.

(٣) انظر : الفوائد المدنية : ٣٥٠ ،٣٢٥ ،٢٧٩ ، و : هداية الأبرار : ٢٢٣ ، و : الحدائق الناضرة ١ / ٤٤.

٢٧٥

ثالثاً : نفي حجّية الإجماع بلا فرق بين المحصّل والمنقول ، لأنّه عندهم بدعة أوجدها أهل السنّة ، وهو رأي معروف للأخباريّين(١).

رابعاً : نفي حجّية حكم العقل ونفي الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي(٢).

هذا ما يُنسب إلى الأخباريّين على نحو الإجمال ، أمّا تفصيل مرادهم بالدقّة من نفي دليلية العقل في مجال الاستنباط ففي الواقع لايمكن استخلاص نظرية واضحة من كلماتهم في ذلك ، ولذا أفاد الشيخ الآصفي رحمه‌الله في بعض تحقيقاته بما نصّه : «وتضطرب كلمات الأخباريّين بشكل يصعب على الباحث أن يستخرج منها شيئاً محدّد المعالم لنسبته إليهم ... ولكن الذي يستطيع الباحث أن يستخلصه من كلماتهم ويطمئنّ من نسبته إليهم هو القول بلزوم توسّط الأوصياء سلام الله عليهم في التبليغ ، فكلّ حكم لم يكن فيه وساطتهم فهو لايكون وأصلا إلى مرتبة الفعلية والباعثية ، وإن كان ذلك الحكم واصلا إلى المكلّف بطريق آخر فلا يمكن الاعتماد عليه»(٣).

أهمّ آراء المدرسة الأخبارية من حيث طريقة الاستنباط ومنهجه :

وأشار بعض المعنيّين إلى بعض الفروق الجوهرية بين المدرسة الأخبارية

__________________

(١) انظر : الفوائد المدنية : ٢٢٤ ،٢٦٥ ، و : هداية الأبرار : ٢٥٩ ، و : الحدائق الناضرة ١/ ٣٥.

(٢) انظر : الفوائد المدنية ، الفصل الأوّل : ١٨٠ ، وكذا الفصل السادس : في سدّ الأبواب التي فتحتها العامّة للاستنباطات الظنّية الاستحسانية : ٢٦٥ ، و : الحدائق الناضرة ، المقدّمة الثالثة : ١ / ٤٠.

(٣) مقدّمة رياض المسائل : ١٠٦.

٢٧٦

والأخرى الأصولية فيما يرتبط بطريقة الاستنباط ومنهجه ، ملخِّصاً نظر الأخباريّين بهذه النقاط الثلاث :

النقطة الأولى : وظيفة الفقيه والمقلّد :

ممّا تفرّد به الأخباريّون القول بأنّ وظيفة الفقيه هي رواية حكم المعصوم أو فتواه ونقلهما للعوامّ، ووظيفة الرعية هي تقليد المعصوم ، وأنّ اجتهاد الفقيه في مقابل النصوص وتقليد العامّي له في ذلك كلاهما غير جائز

قال المحدّث الإسترآبادي : «عند قدماء أصحابنا الأخباريّين كالشيخين الأعلَمَين الصدوقين والإمام الثقة محمّد بن يعقوب الكليني كما صرّح به في أوائل كتاب الكافي وكما نطق به باب التقليد وباب الرأي والمقاييس وباب التمسّك بما في الكتب من كتاب الكافي ، فإنّها صريحة في حرمة الاجتهاد والتقليد وفي وجوب التمسّك بروايات العترة الطاهرة المسطورة في تلك الكتب المؤلّفة بأمرهم ...»(١).

النقطة الثانية : إطلاق الاجتهاد وتجزّؤه :

أنكر الأخباريّون إمكان الاجتهاد المطلق فضلاً عن تحقّقه ووقوعه ، وذلك انطلاقاً ممّا قرّروه في أصول طريقتهم من أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكماً معيّناً وأنّ عليه دليلا قطعيّاً موجوداً عند أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنّ قسماً من أدلّة الأحكام

__________________

(١) الفوائد المدنية : ٩١.

٢٧٧

بقي مخفيّاً عندهم ، ولذا يجب التوقّف في كلّ واقعة لم يعلم حكمها ، فالمجتهد عندهم لايكون إلاّ متجزّئاً والاجتهاد المطلق لايمكن تصوّره في اعتقادهم ، وقد عقد المحدّث الإسترآبادي الفصل الثالث من كتابه الفوائد المدنية لإثبات تعذّر المجتهد المطلق(١).

النقطة الثالثة : تقليد الفقيه الميّت :

وممّا اختلف فيه الفريقان من المدرستين هو ما يتعلّق بمسألة تقليد الفقيه الميّت ابتداءً ، وقد أخذت هذه المسألة حيّزاً كبيراً ، فأفرد لبحثها في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريّين غير واحد من كلّ فريق رسالة خاصّة ، وقد تطابق رأي الأخباريّين على جواز تقليد الفقيه الميّت إذا كان على طريقتهم المرتكزة على الالتزام بنصوص الأخبار الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام ونصوص الكتاب المفسّرة بها دون غيرها من الطرق والدلالات الظنّية والعقلية.

قال في الفوائد المدنية : «ما اشتهر بين المتأخّرين من أصحابنا من أنّ قول الميّت كالميّت لايجوز العمل به بعد موته المراد به ظنّه المبني على استنباط ظنّي ، وأمّا فتاوى الأخباريّين من أصحابنا فهي مبنية على ماهو صريح الأحاديث أو لازمه البيّن ، فلا تموت بموت المفتي»(٢).

وللبحث صلة ...

__________________

(١) الفوائد المدنية : ٢٦١.

(٢) الفوائد المدنية : ٢٩٩. وانظر : الحدائق الناضرة دراسة مقارنة : ١٧٥ ـ ١٩٢.

٢٧٨

من ذخائر الترّاث

٢٧٩
٢٨٠