حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

الشين وتشديدها ، بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها (الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) جمع سريع ، حال من مقدر ، أي فيخرجون مسرعين (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤٤) فيه فصل بين الموصوف والصفة بمتعلقها للاختصاص ، وهو لا يضر ، وذلك إشارة إلى معنى الحشر المخبر به عنه ، وهو الإحياء بعد الفناء ، والجمع للعرض والحساب (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي كفار قريش (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) تجبرهم على الإيمان ، وهذا قبل الأمر بالجهاد (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥) وهم المؤمنون.

____________________________________

قراءتان سبعيتان. قوله : (حال من مقدر) أي ويصح أن يكون حالا من ضمير عنهم. قوله : (للاختصاص) أي الحصر ، والمعنى لا يتيسر ذلك إلا على الله وحده. قوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) فيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (بِجَبَّارٍ) صيغة مبالغة من جبر الثلاثي ، ويقال أيضا : أجبر رباعيا ، فهما لغتان فيه. قوله : (وهذا قبل الأمر بالجهاد) أي فهو منسوخ. قوله : (مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) يرسم بدون ياء ، وفي اللفظ يقرأ بإثباتها وصلا لا وقفا ، وبحذفها وصلا ووقفا ، قراءتان سبعيتان. قوله : (وهم المؤمنون) خصهم لأنهم المنتفعون به ، ويؤخذ من الآية أنه ينبغي للشخص أن لا يعظ إلا من يسمع وعظه ويقبله.

* * *

٨١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الذّاريات

مكيّة

وآياتها ستون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ) الرياح تذر والتراب وغيره (ذَرْواً) (١) مصدر ، ويقال تذريه ذريا : تهب به (فَالْحامِلاتِ) السحب تحمل الماء (وِقْراً) (٢) ثقلا مفعول الحاملات (فَالْجارِياتِ) السفن تجري على وجه الماء (يُسْراً) (٣) بسهولة ، مصدر في موضع الحال ، أي ميسرة (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤) الملائكة تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد والبلاد (إِنَّما تُوعَدُونَ) ما مصدرية ، أي إن وعدهم بالبعث وغيره (لَصادِقٌ) (٥) لوعد صادق (وَإِنَّ الدِّينَ)

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الذاريات مكية

وهي ستون آية

وفي بعض النسخ والذاريات بالواو. قوله : (وَالذَّارِياتِ) الواو للقسم ، و (الذَّارِياتِ) مقسم به ، و (فَالْحامِلاتِ) عطف عليه ، و (فَالْجارِياتِ) عطف على (فَالْحامِلاتِ) و (فَالْمُقَسِّماتِ) عطف على (فَالْجارِياتِ) والمقسم عليه هو قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) وإنما أقسم بهذه الأشياء تعظيما لها ، ولكونها دلائل على باهر قدرة الله ، ويصح أن يكون الكلام على حذف مضاف ، أي ورب هذه الأشياء ، فالقسم بالله لا بتلك الأشياء. قوله : (وتذور التراب) أي ففعله واوي من باب عدا ، وأشار به إلى أن مفعول (الذَّارِياتِ) محذوف. قوله : (مصدر) أي مؤكد وناصبه اسم الفاعل. قوله : (ويقال تذريه) أي ففعله يأتي من باب رمى. قوله : (تهب به) راجع لكل من الواوي واليائي. قوله : (وِقْراً) الوقر والثقل والحمل كلها ألفاظ متحدة الوزن والمعنى. قوله : (مفعول الحاملات) أي مفعول به للحاملات. قوله : (أَمْراً) إما مفعول به أو حال أي مأمورة ، وعليه فيحتاج إلى حذف مفعول (فَالْمُقَسِّماتِ.) قوله : (الملائكة تقسم الأرزاق) الخ ، أي ورؤساء ذلك أربعة ، جبريل وهو صاحب الوحي إلى الأنبياء ، وميكائيل صاحب الرزق ، وإسرافيل صاحب الصور ، وعزرائيل صاحب قبض الأرواح ، وما مشى عليه المفسر في تفسير هذه الأشياء هو المشهور ، وقيل : هذه الأوصاف الأربعة للرياح ، لأنها تثير السحاب ثم تحمله وتنقله ، ثم تجري جريا سهلا ، ثم تقسم الأمطار بتصريف السحاب. قوله : (أي إن وعدهم) صوابه

٨٢

الجزاء بعد الحساب (لَواقِعٌ) (٦) لا محالة (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٧) جمع حبيكة كطريقة وطرق ، أي صاحبة الطرق في الخلقة كالطرق في الرمل (إِنَّكُمْ) يا أهل مكة في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) (٨) قيل : شاعر ساحر كاهن ، شعر سحر كهانة (يُؤْفَكُ) يصرف (عَنْهُ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، أي عن الإيمان به (مَنْ أُفِكَ) (٩) صرف عن الهداية في علم الله تعالى (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) (١٠) لعن الكذابون أصحاب القول المختلف (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) جهل يغمرهم (ساهُونَ) (١١) غافلون عن أمر الآخرة (يَسْئَلُونَ) النبي استفهام استهزاء (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢) أي متى مجيئه ، وجوابهم يجيء (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (١٣) أي يعذبون فيها ، ويقال لهم حين التعذيب (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) تعذيبكم (هذَا) التعذيب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (١٤) في الدنيا استهزاء (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) (١٥) تجري فيها (آخِذِينَ) حال من الضمير في خبر إن (ما آتاهُمْ) أعطاهم (رَبُّهُمْ) من الثواب (إِنَّهُمْ كانُوا

____________________________________

بكاف الخطاب. قوله : (لَواقِعٌ) أي حاصل.

قوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) بضمتين في قراءة العامة ، وقرىء بوزن إبل وسلك وجبل ونعم وبرق. قوله : (في الخلقة) أشار به إلى أن المراد بها الطرق المحسوسة التي هي مسيرة الكواكب ، ويصح أن المراد بها الطرق المعنوية للناظرين الذين يستدلون بها على توحيد الله تعالى. قوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) جواب القسم. قوله : (قيل شاعر) الخ ، المناسب أن يقول قلتم. قوله : (عن النبي والقرآن) أي فالضمير عائد على أحدهما ، وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فما من عبد كفر بك إلا لسابق كفره أزلا ، ويصح أن يكون الضمير عائدا على القول المذكور ، والمعنى يصرف عن هذا القول المختلق من صرف عنه ، وهو من أراد الله هدايته كالمؤمنين. قوله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) هذا التركيب في الأصل ، مستعمل في القتل حقيقة ، ثم استعمل في اللعن على سبيل الاستعارة ، حيث شبه من فاتته السعادة بالمقتول الذي فاتته الحياة ، وطوي ذكر المشبه به ، ورمز له من لوازمه وهو القتل ، فإثباته تخييل.

قوله : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أَيَّانَ) خبر مقدم ، و (يَوْمُ الدِّينِ) مبتدأ مؤخر. قوله : (أي متى مجيئه) جواب عن سؤال مقدر تقديره : إن الزمان لا يخبر به عن الزمان ، وإنما يخبر به عن الحدث. فأجاب : بأن الكلام على حذف مضاف. قوله : (وجوابهم) أي جواب سؤالهم ، وإنما أجيبوا بما لا تعيين فيه ، لأنهم مستهزئون لا متعلمون. قوله : (عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) عداه بعلى لتضمنه معنى يعرضون. قوله : (هذَا) مبتدأ ، وقوله : (الَّذِي كُنْتُمْ) الخ خبره.

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الخ ، لما بين حال الكفار ، وما أعد لهم في الآخرة ، أخذ يبين أحوال المتقين ، وما أعد لهم. قوله : (تجري فيها) جواب عما يقال : إن المتقين لم يكونوا في العيون ، فكيف قال في جنات وعيون؟ فأجاب : بأن المراد أن العيون تجري في الجنة ، وتكون في جهاتهم وأمكنتهم. قوله : (حال من الضمير في خبر إن) أي كائنون في جنات وعيون ، حال كونهم آخذين ما آتاهم ربهم ، أي راضين به.

٨٣

قَبْلَ ذلِكَ) أي دخولهم الجنة (مُحْسِنِينَ) (١٦) في الدنيا (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) (١٧) ينامون ، وما زائدة ، ويهجعون خبر كان ، وقليلا ظرف ، أي ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١٨) يقولون : اللهم أغفر لنا (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (١٩) الذي لا يسأل لتعففه (وَفِي الْأَرْضِ) من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها (آياتٌ) دلالات على قدرة الله سبحانه وتعالى ووحدانيته (لِلْمُوقِنِينَ) (٢٠) (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) آيات أيضا ، من مبدأ خلقكم إلى منتهاه ، وما في تركيب خلقكم من العجائب (أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي المطر المسبب عنه النبات الذي هو رزق (وَما تُوعَدُونَ) (٢٢) من المآب والثواب والعقاب أي مكتوب ذلك في السماء (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ) أي ما توعدون (لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) برفع مثل صفة ،

____________________________________

قوله : (من الثواب) بيان لما. قوله : (كانُوا قَلِيلاً) الخ ، تفسير للاحسان. قوله : (وَبِالْأَسْحارِ) متعلق ب (يَسْتَغْفِرُونَ) المعطوف على (يهجعون) والباء بمعنى في و (بِالْأَسْحارِ) جمع سحر وهو سدس الليل الأخير. قوله : (يقولون اللهم اغفر لنا) أي تقصيرنا في حقك ، فإنه لا يقدرك أحد حق قدرك.

قوله : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ) أي بمقتضى كرمهم ، جعلوه كالواجب عليهم ، كصلة الأرحام ومواساة الفقراء والمساكين ، والمعنى : أنهم بذلوا نفوسهم وأموالهم في طاعة ربهم. قوله : (لتعففه) أي فيظن غنيا فيحرم الصدقة ، وهذا على حد تفسير القانع والمعتر. قوله : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) الخ ، الجار والمجرور خبر مقدم ، و (آياتٌ) مبتدأ مؤخر ، وقوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) خبر حذف مبتدؤه لدلالة ما قبله عليه ، وهو كلام مستأنف قصد به الاستدلال على قدرته تعالى ووحدانيته ، وقد اشتمل على دليلين : الأرض والأنفس. قوله : (من الجبال) الخ ، بيان للأرض ، فالمراد بها ما قابل السماء. قوله : (دلالات على قدرة الله تعالى) الخ ، أي وجميع صفاته الكمالية. قوله : (من مبدأ خلقكم إلى منتهاه) أي كالأطوار المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) إلخ. قوله : (وما في تركيب خلقكم) إلخ ، أي كحسن القامة وحسن الشكل ونحو ذلك. قوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) جملة مستأنفة قصد بها الحث على النظر والتأمل.

قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) كلام آخر قصد به الامتنان والوعد والوعيد. قوله : (أي المطر المسبب عنه النبات) أي فالكلام على حذف مضاف ، والتقدير وفي السماء سبب رزقكم. قوله : (وَما تُوعَدُونَ) عطف عام على قوله : (أي مكتوب ذلك) أي (ما تُوعَدُونَ) فهو تفسير لظرفية ما توعدون في السماء ، وأما ظرفية الرزق فيها فظاهرة ، إذا المطر فيها حقيقة ، والمعنى : أن جميع ما توعدون به من خير وشر ، مكتوب في السماء ، تنزل به الملائكة الموكلون بتدبير العالم على طبق ما أمروا به.

قوله : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الخ ، هذا قسم من الله تعالى ، على ما ذكره من الرزق وغيره ، وأنه مثل النطق في كونه حقا ، لا يفارق الشخص في حال من أحواله. قوله : (أي ما توعدون) أي رزقكم أيضا. قوله : (برفع مثل صفة) أي لحق. قوله : (وبفتح اللام) أي والقراءتان سبعيتان. قوله : (مركبة مع ما) أي حال كونها مركبة مع (ما) تركيب مزج ككلما وطالما ، فيقال في إعرابها (مِثْلَ ما) صفة (لَحَقٌ)

٨٤

وما مزيدة ، وبفتح اللام مركبة مع ما ، المعنى : مثل نطقكم في حقيته أي معلوميته عندكم ، ضرورة صدوره عنكم (هَلْ أَتاكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٤) وهم ملائكة ، اثنا عشر ، أو عشرة ، أو ثلاثة ، منهم جبريل (إِذْ) ظرف لحديث ضيف (دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي هذا اللفظ (قالَ سَلامٌ) أي هذا اللفظ (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٢٥) لا نعرفهم ، قال ذلك في نفسه ، وهو خبر مبتدأ مقدر أي هؤلاء (فَراغَ) مال (إِلى أَهْلِهِ) سرا (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) (٢٦) وفي سورة هود بعجل حينئذ أي مشوي (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) (٢٧) عرض عليهم الأكل فلم يجيبوا (فَأَوْجَسَ) أضمر في نفسه (مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ) إنا رسل ربك

____________________________________

مبني على السكون في محل رفع ، و (مِثْلَ ما) مضاف ، وجملة (أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) مضاف إليه في محل جر قوله : (المعنى) أي معنى القراءتين. قوله : (مثل نطقكم في حقيقته) أي فكما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ، ينبغي لكم ألا تشكوا في حقيقته. حكي أن رجلا جاع في مكان ، وليس فيه شيء ، فقال : اللهم رزقك الذي وعدتني فائتني به ، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب.

قوله : (هَلْ أَتاكَ) الخ ، استفهام تشويق وتفخيم لشأن تلك القصة ، وقيل : إن (هَلْ) بمعنى قد ، كما في قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ.) قوله : (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) الضيف في الأصل مصدر مضاف ، ولذلك يطلق على الواحد والجماعة. قوله : (الْمُكْرَمِينَ) أي المعظمين. قوله : (مكنهم جبريل) أي على جميع الأقوال. قوله : (ظرف لحديث ضيف) هذا أحد أوجه في عامل الظرف ، الثاني : أنه منصوب بما في (ضَيْفِ) من معنى الفعل ، لكونه في الأصل مصدرا ، الثالث : أنه منصوب بالمكرمين ، الرابع : منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر ، ولا يصح نصبه بأتاك لاختلاف الزمانين.

قوله : (فَقالُوا سَلاماً) أي نسلم عليكم سلاما ، وقوله : (قالَ سَلامٌ) أي عليكم سلام ، وعدل إلى الرفع قصدا للإثبات ، فتحيته أحسن من تحيتهم. قوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي لا نعرف من أي بلدة قدموا ، وفي هود (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) فمقتضاه أن إنكارهم إنما حصل بعد مجيئه لهم بالعجل ، وامتناعهم من الأكل ، ومقتضى ما هنا أنه قبل ذلك ، وحاصل الجمع بين الموضعين ، أن الإنكار هنا غيره فيما تقدم ، فما هنا محمول على عدم العلم بأنهم دخلوا عليه لقصد الخير أو الشر.

قوله : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي خدمه ، وكان عامة ماله البقر. قوله : (سرا) أي في خفية من ضيفه ، فإن من دأب رب المنزل الكريم ، أن يبادر بالقرى في خفية ، حذرا من أن يمنعه الضيف. قوله : (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) عطف على محذوف ، والتقدير فشواه. قوله : (عرض عليهم الأكل) أشار بذلك إلى أن (أَلا) للعرض ، وهو الطلب بلين ورفق ، كما قال الشاعر :

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك فما راء كمن سمعا

قوله : (فَأَوْجَسَ) عطف على ما قدره المفسر. قوله : (خِيفَةً) أي من عدم اكلهم ، فإن الضيف إذا لم يأكل من طعام رب المنزل يخاف منه. قوله : (قالُوا لا تَخَفْ) أي لما ظهر لهم أمارات خوفه. قوله : (إنا رسل ربك) أي إلى قوم لوط ، وقيل : مسح جبريل العجل بجناحه ، فقام يمشي حتى لحق بأمه ،

٨٥

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٢٨) ذي علم كثير ، هو إسحق كما ذكر في هود (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) سارة (فِي صَرَّةٍ) صيحة حال أي جاءت صائحة (فَصَكَّتْ وَجْهَها) لطمته (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (٢٩) لم تلد قط ، وعمرها تسع وتسعون سنة ، وعمر إبراهيم مائة سنة أو عمره مائة وعشرون سنة وعمرها تسعون سنة (قالُوا كَذلِكَ) أي مثل قولنا في البشارة (قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ) في صنعه (الْعَلِيمُ) (٣٠) بخلقه (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) شأنكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٣١) (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٣٢) كافرين أي قوم لوط (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (٣٣) مطبوخ بالنار (مُسَوَّمَةً) معلمة عليها اسم من يرمى بها (عِنْدَ رَبِّكَ) ظرف لها (لِلْمُسْرِفِينَ) (٣٤) بإتيانهم الذكور مع كفرهم (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي قرى قوم لوط (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٥) لإهلاك الكافرين (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦) وهم لوط وبنتاه ، وصفوا بالإيمان والإسلام ، أي هم مصدقون بقلوبهم ، عاملون بجوارحهم الطاعات (وَتَرَكْنا فِيها) بعد إهلاك الكافرين (آيَةً) علامة على إهلاكهم (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٣٧) فلا يفعلون مثل فعلهم (وَفِي مُوسى) معطوف على فيها ، المعنى : وجعلنا في قصة موسى آية (إِذْ

____________________________________

فعرفهم وأمن منهم. قوله : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ) أي لما سمعت البشارة المذكورة ، وكانت في زاوية من زوايا البيت ، فجاءت وقالت ما ذكر. قوله : (سارة) بالتخفيف والتشديد لغتان. قوله : (صيحة) تفسير لصرة ، وتقدم في هود أنها ضحكت أي حاضت ، فلم يكن بين البشارة والولادة إلا سنة. قوله : (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي ضربته بيدها مبسوطة أو بأطراف اصابعها مثل المتعجب ، وهي عادة النساء إذا انكرن شيئا. قوله : (وَقالَتْ عَجُوزٌ) أي أنا عجوز.

قوله : (قالُوا كَذلِكَ) منصوب على المصدر بقال الثانية ، أي مثل ذلك القول الذي أخبرناك به (قالَ رَبُّكِ) أي قضى وحكم في الأزل ، فلا تعجبي منه. قوله : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي لما رأى من حالهم ، وأن اجتماعهم لم يكن لهذه البشارة. قوله : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً) استدل به على أن اللائط يرجم بالأحجار ، وكان في تلك المدائن ستمائة الف ، فأدخل جبريل جناحه تحت الأرض فاقتلعها ورفعها ، حتى سمع أهل السماء اصواتهم ، ثم قلبها ، ثم ارسل الحجارة على من كان منهم خارجا عنها. قوله : (مُسَوَّمَةً) إما حال من (حِجارَةً) أو صفة ثانية لها.

قوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) الخ ، حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط بطريق الإجمال ، بعد حكاية ما جرى بين الملائكة مع إبراهيم. قوله : (أي قرى قوم لوط) أي وهي وإن لم تذكر ، دل عليها السياق. قوله : (غَيْرَ بَيْتٍ) أي غير أهل بيت. قوله : (وهم لوط وابنتاه) أي وقيل : كانوا ثلاثة عشر منهم ابنتاه. قوله : (وصفوا بالإيمان والإسلام) أي لأن المسلم قد يكون مؤمنا وقد لا يكون. قوله : (وَتَرَكْنا) أي ابقينا في القرى. قوله : (علامة) أي وهي تلك الأحجار والصخر المتراكم والماء الأسود المنتن ، يشاهدها من يمر بأرضهم. قوله : (معطوف على فيها) أي على الضمير المجرور بفي. قوله : (المعنى وجعلنا) الخ ، أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، والمفعول محذوف.

٨٦

أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ) ملتبسا (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) بحجة واضحة (فَتَوَلَّى) أعرض عن الإيمان (بِرُكْنِهِ) مع جنوده لأنهم له كالركن (وَقالَ) لموسى هو (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٣٩) (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) طرحناهم (فِي الْيَمِ) البحر فغرقوا (وَهُوَ) أي فرعون (مُلِيمٌ) (٤٠) آت بما يلام عليه ، من تكذيب الرسل ودعوى الربوبية (وَفِي) إهلاك (عادٍ) آية (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (٤١) هي التي لا خير فيها ، لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ) نفس أو مال (أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢) كالبالي المتفتت (وَفِي) إهلاك (ثَمُودَ) آية (إِذْ قِيلَ لَهُمْ) بعد عقر الناقة (تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) (٤٣) أي إلى انقضاء آجالكم كما في آية (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَعَتَوْا) تكبروا (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي عن امتثاله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) بعد مضي الثلاثة أيام أي الصيحة المهلكة (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٤٤) أي بالنهار (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي ما قدروا على النهوض حين نزول العذاب (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) (٤٥)

____________________________________

قوله : (إِذْ أَرْسَلْناهُ) الظرف متعلق بآية المحذوف ، والمعنى : تركنا في قصة موسى علامة في وقت إرسالنا إياه. قوله : (ملتبسا) (بِسُلْطانٍ) الخ ، أشار بذلك إلى أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال ، والباء للملابسة. قوله : (بحجة واضحة) أي وهي الآيات التسع. قوله : (كالركن) أي كركن البيت الذي يعتمد عليه ، فسمى الجنود ركنا ، لأنه يحصل بهم التقوى والاعتماد ، كما يعتمد على الركن. قوله : (وَقالَ) (لموسى) أي شأن موسى. قوله : (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) يحتمل أن (أَوْ) على بابها من الإبهام على السامع أو للشك ، نزل نفسه منزلة الشك تمويها على قومه ، ويحتمل أنها بمعنى الواو وهو الأحسن لأنه قالهما ، قال تعالى : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وقال في موضع آخر (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). قوله : (وَجُنُودَهُ) معطوف على مفعول (أخذناه). قوله : (وَهُوَ مُلِيمٌ) الجملة حالية من مفعول (أخذناه). قوله : (آت بما يلام عليه) أشار بذلك إلى أن اسناد الإيلام مجاز عقلي على حد عيشة راضية. قوله : (من تكذيب الرسول) الخ ، اشار بذلك إلى أن الفعل الذي يحصل اللوم عليه مختلف باعتبار من وصف به ، فاندفع بذلك ما يقال : كيف وصف فرعون بما وصف به ذو النون.

قوله : (وَفِي) (إهلاك) (عادٍ) الخ ، أي فما تقدم من تقدير المضاف ، والمفعول يأتي هنا. قوله : (التي لا خير فيها) أي فالعقم في الأصل وصف للمرأة التي لا تلد ، وصفت به الريح من حيث إنها لا تأتي بخير. قوله : (وهي الدبور) وقيل هي الجنوب ، وقيل هي النكباء ، وهي كل ريح هبت بين ريحين ، والأظهر ما قاله المفسر لما في الحديث : «نصرت بالصبا واهلكت عاد بالدبور». قوله : (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذه الجملة في محل المفعول الثاني لتذر ، كأنه قال : ما تترك شيئا إلا مجعولا كالرميم. قوله : (البالي المتفتت) وقيل : الرميم الرماد ، وقيل : التراب المدقوق ، والمعاني متقاربة.

قوله : (فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) هذا الترتيب في الذكر فقط ، وإلا فقول الله لهم (تَمَتَّعُوا) متأخر عن العتو. قوله : (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) أي المذكور في سورة هود بقوله : (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) الخ. قوله : (أي الصيحة المهلكة) أي فصاح عليهم جبريل فهلكوا جميعا ، والصاعقة تطلق على النار تنزل من المساء ، وعلى الصيحة وهو المراد هنا. قوله : (أي بالنهار) أشار بذلك إلى أن قوله : (وَهُمْ يَنْظُرُونَ)

٨٧

على من أهلكهم (وَقَوْمَ نُوحٍ) بالجر عطف على ثمود ، أي وفي إهلاكهم بما في السماء والأرض آية وبالنصب أي وأهلكنا قوم نوح (مِنْ قَبْلُ) أي قبل إهلاك هؤلاء المذكورين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٤٦) (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) بقوة (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٤٧) قادرون ، يقال : آد الرجل يئيد قوي ، وأوسع الرجل صار ذا سعة وقوة (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) مهدناها (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٤٨) نحن (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ) متعلق بقوله (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) صنفين كالذكر والأنثى ، والسماء والأرض ، والشمس والقمر ، والسهل والجبل ، والصيف والشتاء ، والحلو والحامض ، والنور والظلمة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤٩) بحذف إحدى التاءين من الأصل ، فتعلمون أن خالق الأزواج فرد فتعبدونه (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي إلى ثوابه من عقابه ، بأن تطيعوه ولا تعصوه (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ

____________________________________

من النظر ، وقيل هو من الانتظار ، والمعنى ينتظرون ما وعدوه من العذاب. قوله : (على من أهلكهم) المناسب أن يقول : وما كانوا دافعين عن أنفسهم العذاب ، إذ لا يتوهم انتصارهم على الله ، وإنما يتوهم الفرار منه. قوله : (بالجر عطف على ثمود) هذا احد أوجه وهو أقربها. قوله : (وبالنصب) أي على أنه معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (وأهلكنا) وفيه أوجه أخر ، وهذا أحسنها ، وقيل منصوب باذكر مقدرا ، والقراءتان سبعيتان ، وقرىء شذوذا بالرفع على أنه مبتدأ ، والخبر محذوف أي أهلكناهم.

قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) قرأ العامة بنصب السماء على الاشتغال ، وكذا قوله : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) وقرىء شذوذا برفعهما على الابتداء ، والخبر ما بعدهما ، والأفصح في النحو قراءة العامة ، لعطف الفعلية على الفعلية. قوله : (بِأَيْدٍ) حال من فاعل (بَنَيْناها) والمعنى بنيناها حال كوننا ملبسين بقوة وبطش ، لا بواسطة شيء ، بل بقول كن. قوله : (قادرون) فسر الإيساع بالقادرية ، إشارة إلى أن قوله : (إِنَّا لَمُوسِعُونَ) حال مؤكدة ، وهو من أوسع اللازم ، كأوراق الشجر إذا صار ذا ورق ، ويستعمل متعديا ، والمفعول محذوف أي لموسعون السماء ، أي جاعلوها واسعة ، وعليه فتكون حالا مؤسسة ، إذا علمت ذلك ، تعلم أن النسخ التي فيها لفظة لها بعد موسعون غير صحيحة ، لأنها لا تناسب إلا استعماله متعديا ، والمفسر استعمله لازما حيث قال : (وأوسع الرجل) الخ. قوله : (يقال آد الرجل) أي اشتد وقوي كما في المختار ، وبابه باع. قوله : (مهدناها) أي فالفرش كناية عن البسط والتسوية. قوله : (نحن) أي فالمخصوص بالذم محذوف. قوله : (متعلق بقوله) (خَلَقْنا) ويصح أن يكون متعلقا بمحذوف حال من (زَوْجَيْنِ) لأنه نعت نكرة قدم عليها. قوله : (صنفين) أي امرين متقابلين. قوله : (كالذكر والأنثى) أشار بتعداد الأمثلة إلى ما نشاهده ، فلا يرد العرش والكرسي واللوح والقلم ، فإنه لم يخلق من كل إلا واحد. قوله : (بحذف إحدى التاءين) أي وهذه إحدى القراءتين السبعيتين ، والأخرى ادغام التاء الثانية في الذال.

قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) مفرع على ما علم من توحيد الله ، والمعنى : حيث علمتم أن الله واحد لا شريك له ، وأنه الضار النافع ، المعطي المانع ، فالجأوا إليه واهرعوا إلى طاعته ، والفرار مراتب ، ففرار العامة من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة ، وفرار الخاصة من كل شاغل عن الله ، كالمال والولد ، إلى شهود الله والانهماك في طاعته ، فلا يصرف جزءا من اجزائه لغير الله ، فكما أن الله في خلق العبد واحد ،

٨٨

مُبِينٌ) (٥٠) بين الإنذار (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥١) يقدر قبل ففروا قل لهم (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا) هو (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥٢) أي مثل تكذيبهم لك بقولهم : إنك ساحر أو مجنون ، تكذيب الأمم قبلهم رسلهم بقولهم ذلك (أَتَواصَوْا) كلهم (بِهِ) استفهام بمعنى النفي (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) (٥٣) جمعهم على هذا القول طغيانهم (فَتَوَلَ) أعرض (عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤) لأنك بلغتهم الرسالة (وَذَكِّرْ) عظ بالقرآن (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) من علم الله تعالى أنه يؤمن (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا

____________________________________

فليكن العبد في إقباله على ربه واحدا ، بحيث لا يجعل في قلبه غير حب ربه ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. قوله : (أي إلى ثوابه من عقابه) الخ ، حمله على الفرار العام ، لأن اوامر القرآن ونواهيه لعامة الخلق التي من امتثلها فقد زحزح عن النار وادخل الجنة. قوله : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) تعليل لما قبله ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على الله ، والمعنى فروا إليه لأني مخوف لكم منه.

قوله : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخ ، أشار بذلك إلى أن الطاعة لا تنفع مع الإشراك ، ولذا كرر قوله : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) فالفائز من جمع بين الطاعة والتوحيد ، والمعنى لا تنسبوا وصف الألوهية لغير الله ، فإنه لا يستحقه غيره. قوله : (يقدر قبل ففروا قل لهم) أي فهو مقول لقول محذوف وليس بمتعين ، إذ يصح أن تكون الفاء فصيحة ، والتقدير : إذا علمتم ما تقدم من صفات الله الكمالية (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) كما تقدم. قوله : (كَذلِكَ) خبر مقدم ، وقوله : (ما أَتَى) الخ ، مبتدأ مؤخر ، والمعنى تكذيب الأمم السابقة لأنبيائهم كائن كذلك ، أي كتكذيب أمتك لك كما افاده المفسر. قوله : (إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) تقدم أن (أَوْ) بمعنى الواو ، وحكمة جمعهم بين الوصفين ، أن خروجه عن عوائدهم وعما عليه آباؤهم ، وعدم مبالاته بالجم الغفير ، اقتضى تسميته مجنونا ، وإتيانه بالمعجزات التي بهرت عقولهم ، اقتضت تسميته ساحرا.

قوله : (أَتَواصَوْا بِهِ) أي اوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة واجتمعوا عليها. قوله : (استفهام بمعنى النفي) أي فهو إنكار تعجبي ، والمعنى ما وقع منهم تواص بذلك ، لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد. قوله : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) إضراب عن الاستفهام المتقدم ، وبيان لحقية الباعث لهم على تلك المقالة.

قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي اعرض عن خطابهم وجدالهم. قوله : (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي لا لوم عليك في الإعراض عنهم ، فإنك قد بلغت الغاية في النصح وبذل الجهد ، ولما نزلت هذه الآية ، حزن رسول الله ، واشتد الأمر على أصحابه ، وظنوا أن الوحي قد انقطع ، وأن العذاب قد حضر ، إذ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتولى عنهم ، وجرت عادة الله في الأمم السابقة ، متى امر رسولهم بالإعراض عنهم ، حل بهم العذاب فأنزل الله (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فسروا بذلك ، ولذلك قيل إنها ناسخة لما قبلها ، ولكن الحق أن ما قبلها منسوخ بآية السيف قوله : (فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لقوله : (ذَكِّرْ) والمعنى لا تترك التذكير ، فربما انتفع به من علم الله إيمانه ، ويؤخذ من الآية أن البلاء لا ينزل بقوم وفيهم المتذكرون لما ورد : إن الله يطلع على عمار المساجد ، فيرفع العذاب عن مستحقيه.

٨٩

لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأن الغاية لا يلزم وجودها ، كما في قولك : بريت هذا القلم لأكتب له ، فإنك قد لا تكتب به (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) لي ولا لأنفسهم وغيرهم (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (٥٧) ولا أنفسهم ولا غيرهم (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨) الشديد (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالكفر من أهل مكة وغيرهم (ذَنُوباً) نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ) نصيب (أَصْحابِهِمْ) الهالكين قبلهم (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) (٥٩) بالعذاب

____________________________________

قوله : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي لا لطلب الدنيا والانهماك فيها. قوله : (ولا ينافي ذلك) أي الحصر المذكور ، وهو جواب عن سؤال مقدر حاصله : أن الله تعالى حصر الجن والإنس في العبادة ، فمقتضاه أنه لا يخرج أحد عنها ، مع أنه شوهد كثير من الخلف كفر وترك العبادة ، فأجاب المفسر ، بأن اللام للغاية والعاقبة لا للعلة الباعثة ، لأن الله لا يبعثه شيء على شيء ، وقوله : (فإنك قد لا تكتب به) اعترض بأن هذا مسلم في أفعال المخلوقين ، لجهلهم بعواقب الأمور ، وأما في حق الله تعالى ، فلا يصح التخلف في فعله ، بل مقتضاه أنه عالم بأنهم سيعبدونه ولا بد ، ولا يمكن تخلفه في البعض ، فالجواب الصحيح أن يقال : إن الله تعالى خلق الخلق ، وجعلهم مهيئين صالحين للعبادة ، بأن ركب فيهم عقلا وحواس ، وجعلهم قابلين للعبادة والطاعة ،. وبعد ذلك اختار لعبادته وطاعته من أحب منهم ، فلا يلزم من الصلاحية للعبادة وقوعها منهم بالفعل ، وقيل : معنى ليعبدون لآمرهم وأكلفهم بعبادتي ، لا ليهتموا بالرزق وينهمكوا في خدمة الدنيا ، وهذا على حد (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) وقيل : معناه إلا ليوحدون ، فالمؤمن يوحده طوعا ، والكافر يوحده كرها ، وقيل : إنه عام أريد به الخصوص ، والمعنى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) بدليل القراءة الشاذة : وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين. قوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) (لي ولا لأنفسهم) دفع المفسر بقوله : (لي) ما يتوهم من عادة سادات العبيد في احتياجهم لمكاسب عبيدهم ، فالمعنى : أن عادة الله سبحانه وتعالى ، ليست كعادة السادات مع عبيدهم ، فإنهم يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم. قوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) إن قلت : إن هذا يغني عنه ما قبله. أجيب : بأنه أتى به لدفع توهم ما عليه سادات العبيد الأغنياء ، من احتياجهم للاستعانة بهم في صنع الطعام مثلا وتهيئته ، ونحو ذلك ، فكأنه قال : شأن ربنا ليس كشأن السادات مع عبيدهم ، فليس محتاجا لعبيده في تحصيل رزق ولا في صنعه ، لا له ، ولا لغيره ، وهذا من تنزلات الحق سبحانه وتعالى لضعفاء العقول ، وإلا فيستحيل على الله عقلا تلك الأوصاف ، ولا ينفي في نفس الأمر إلا ما جوزه العقل. قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أتى بالاسم الظاهر للتفخيم والتعظيم ، وأكد الجملة بإن ، والضمير المنفصل ، لقطع أوهام الخلق في أمور الرزق ، وليقوى اعتمادهم عليه. قوله : (الْمَتِينُ) العامة على رفعه ، وهو إما نعت للرزق ، أو لذو ، أو خبر بعد خبر ، وقرىء شذوذا بالجر. قوله : (الشديد) أي الذي لا يطرأ عليه ضعف ولا عجز. قوله : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) الخ ، أي فلا تحزن على كفر قومك ، وتسل عنهم ، فلا بد لهم من العذاب. قوله : (ذَنُوباً) هو في الأصل الدلو العظيم ، شبه به النصيب من العذاب ، اشارة إلى أنه يصب عليهم كما يصب الذنوب ، قال تعالى (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ). قوله : (أَصْحابِهِمْ) أي نظائرهم من الأمم السابقة. قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الموصول

٩٠

إن أخرتهم إلى يوم القيامة (فَوَيْلٌ) شدّة عذاب (لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ) في (يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (٦٠) أي يوم القيامة.

____________________________________

موضع ضميره ، تسجيلا عليهم بالكفر ، واشعارا بعلة الحكم. قوله : (شدة عذاب) وقيل واد في جهنم. قوله : (الَّذِي يُوعَدُونَ) هو مرتبط بقوله تعالى فيما تقدم (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) الخ.

ـ فائدة ـ قد تلقينا عن الصالحين فوائد في استعمال هذه السورة العظيمة ، كلها مجربة ، منها : استعمالها إحدى وأربعين مرة على وضوء في مجلس واحد ، لتفريج السجن ، وقضاء الدين ، وتيسير الرزق ، والانتصار على الخصم ، والأمن من كل هول دنيا وأخرى. واستعمالها ستين مرة عدة آياتها أبلغ في تلك المطالب.

* * *

٩١
٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطّور

مكيّة

وآياتها تسع وأربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ) (١) أي الجبل الذي كلم الله عليه موسى (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) (٢) (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣) أي التوراة أو القرآن (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) هو في السماء الثالثة أو السادسة أو السابعة بحيال الكعبة ، يزوره كل يوم سبعون ألف ملك بالطواف والصلاة لا يعودون إليه أبدا (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) أي السماء (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) أي المملوء (إِنَ

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الطور مكية

وهي تسع وأربعون آية

وفي نسخة والطور. قوله : (وَالطُّورِ) الخ. أقسم الله سبحانه وتعالى بخمسة أقسام تعظيما للمقسم عليه ، وهو قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) وتعظيما به أيضا ، فإن تلك الأشياء الخمسة عظيمة ، والواو في كل إما للقسم أو للعطف ، فيما عدا الأول. قوله : (أي الجبل الذي كلم الله عليه موسى) أي والمراد به طور سيناء ، وهو أحد جبال الجنة ، وأقسم الله به تشريفا له وتكريما. قوله : (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) أي متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مترتبة جامعة لكلمات متفقة. قوله : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرق الجلد الرقيق الذي يكتب فيه ، وقيل : ما يكتب فيه جلدا كان أو غيره ، وهو بفتح الراء في قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بكسرها ، ومعنى المنشور المبسوط ، أي أنه غير مطوي وغير محجور عليه. قوله : (أي التوراة أو القرآن) هذان قولان من جملة أقوال كثيرة في تفسير الكتاب المسطور ، وقيل : هو صحائف الأعمال ، قال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) وقيل : سائر الكتب المنزلّة على الأنبياء ، وقيل غير ذلك. قوله : (هو في السماء الثالثة) وقيل هو في الأولى ، وقيل هو في الرابعة ، وقيل هو تحت العرش فوق السابعة ، وقيل هو الكعبة نفسها ، وعمارتها بالحجاج والزائرين لها ، لما ورد : أن الله يعمره كل سنة بستمائة ألف ، فإن عجز الناس عن ذلك ، أتمه الله بالملائكة. قوله : (بحيال الكعبة) أي مقابلا لها بإزائها على كل قول. قوله : (يزوره) الخ ، بيان لتسميته معمورا. قوله : (أي السماء) أي لأنها كالسقف للأرض ، وقيل هو العرش ، وهو سقف الجنة. قوله : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي وهو البحر المحيط ، ومعنى المسجور :

٩٣

عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) (٧) لنازل بمستحقه (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) (٨) عنه (يَوْمَ) معمول لواقع (تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩) تتحرك وتدور (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) (١٠) تصير هباء منثورا وذلك في يوم القيامة (فَوَيْلٌ) شدة عذاب (يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١١) الرسل (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) باطل (يَلْعَبُونَ) (١٢) أي يتشاغلون بكفرهم (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) (١٣) يدفعون بعنف ، بدل من يوم تمور ، ويقال لهم تبكيتا (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٤) (أَفَسِحْرٌ هذا) العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في الوحي : هذا سحر (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (١٥) (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا) عليها (أَوْ لا تَصْبِرُوا) صبركم وجزعكم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) لأن صبركم لا ينفعكم (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ

____________________________________

الممتلىء ماء ، وقيل البحر المسجور هو الممتلىء نارا ، لما ورد : أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم ، وقيل هو بحر تحت العرش عمقه كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين ، فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان ، يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحا ، فينبتون من قبورهم. قوله : (معمول لواقع) أي والجملة المنفية معترضة بين العامل ومعموله. قوله : (تتحرك وتدور) أي كدوران الرحى ، وتذهب ويدخل بعضها في بعض ، وتختلف أجزاؤها ، وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة. قوله : (تصير هباء منثورا) ليس تفسيرا لتسير كما توهمه عبارته ، بل معناه أنها تنتقل عن مكانها ، وتطير في الهواء ، ثم تقع على الأرض متفتتة كالرمل ، ثم تصير كالعهن ، أي الصوف المندوف ، ثم تطيرها الرياح فتصير هباء منثورا ، والحكمة في مور السماء وسير الجبال ، الإعلام بأنه لا رجوع ولا عود إلى الدنيا ، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما ، إنما خلقت لعمارة الدنيا ، وانتفاع بني آدم ذلك ، فلما لم يبق لهم عود إليها ، أزالها الله لخراب الدنيا وعمارة الآخرة ، فيحصل للمؤمنين مزيد السرور وطمأنينته ، وللكافرين غاية الحزن والكرب. قوله : (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم تمور السماء مورا ، وتسير الجبال سيرا ، وهو يوم القيامة. قوله : (فِي خَوْضٍ) هو في الأصل الدخول في كل شيء ، ثم غلب على الدخول في الباطل ، فلذا فسره به. قوله : (يُدَعُّونَ) العامة على فتح الدال وتشديد العين من دعّه ، دفعه في صدره بعنف وشدة ، وقرىء شذوذا بسكون الدال وتخفيف العين المفتوحة من الدعاء ، أي يقال لهم : هلموا فادخلوا النار. قوله : (يدفعون بعنف) أي وذلك بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم ، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ، فيدفعون إلى النار. قوله : (كما كنتم تقولون في الوحي) أي القرآن الجاثي بالعذاب. قوله : (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) يصح أن تكون (أَمْ) متصلة معادلة للهمزة. والمعنى : هل في أمرنا سحر؟ أم هل في بصركم خلل؟ والاستفهام إنكاري وتهكم ، أي ليس واحد منهما ثابتا ، ويصح أن تكون (أَمْ) منقطعة تفسر ببل والهمزة ، والمعنى : أبل أنتم عمي من العذاب المخبر ، كما كنتم عميا عن الخبر.

قوله : (اصْلَوْها) أي ذوقوا حرارتها. قوله : (صبركم وجزعكم) (سَواءٌ) أشار بذلك إلى أن (سَواءٌ) خبر لمحذوف ، ويصح أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير سواء الصبر والجزع ، والأول أولى ، لأن جعل النكرة خبرا أولى من جعلها مبتدأ. قوله : (لأن صبركم لا ينفعكم) أي لا ينزعكم من ديوان الرحمة ، بخلاف الدنيا ، فإن الصبر فيها على المكاره ، من أعظم موجبات الرحمة. قوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تعليل لاستواء الصبر وعدمه. قوله : (أي جزاءه) أشار بذلك إلى أن الكلام

٩٤

تَعْمَلُونَ) (١٦) أي جزاءه (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (١٧) (فاكِهِينَ) متلذذين (بِما) مصدرية (آتاهُمْ) أعطاهم (رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (١٨) عطفا على آتاهم ، أي بإتيانهم ووقايتهم ، ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) حال أي مهنئين (بِما) الباء سببية (كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٩) (مُتَّكِئِينَ) حال من الضمير المستكن في قوله تعالى (فِي جَنَّاتٍ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) بعضها إلى جنب بعض (وَزَوَّجْناهُمْ) عطف على في جنات أي قرناهم (بِحُورٍ عِينٍ) (٢٠) عظام الأعين حسانها (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ (وَاتَّبَعَتْهُمْ) معطوف على آمنوا (ذُرِّيَّتُهُمْ) الصغار والكبار (بِإِيمانٍ) من الكبار ومن الآباء في الصغار ، والخبر (أَلْحَقْنا بِهِمْ

____________________________________

على حذف مضاف.

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) الخ ، مقابل قوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) إنما أتى بأوصاف المتقين عقب أوصاف المكذبين ، ليحصل الترغيب والترهيب ، كما هو عادته سبحانه وتعالى. قوله : (وَنَعِيمٍ) أي تنعم بتلك الجنات ، إذ لا يلزم من كونه في جنات أنه يتنعم بها ، فأفاد أنهم مع كونهم في جنات يتنعمون ويتفكهون بها. قوله : (فاكِهِينَ) العامة على قراءته بالألف ، أي ذوي فاكهة كثيرة ، كما يقال لابن وتامر ، أي ذو لبن وذو تمر ، وقرىء شذوذا فكهين بغير ألف ، أي متنعمين متلذذين ، إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر تفسيره بذوي فاكهة لا بمتلذذين. قوله : (أي بإتيانهم ووقايتهم) إنما جعلها مصدرية في المعطوف والمعطوف عليه ، لما يلزم عليه من خلو الصلة في المعطوف عن العائد لو جعلت موصولة ، والأحسن أن تجعل موصولة ، ويجعل قوله : (وَقاهُمْ) معطوفا على قوله : (فِي جَنَّاتٍ).

قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ما مصدرية والباء سببية. والمعنى : أن الملائكة تقول لأهل الجنة : كلوا واشربوا متهنئين بسبب عملكم ، وهذا من مزيد السرور والتكرمة ، على حسب عادة الكرام في منازلهم ، وإلا فذلك من فضل الله وإحسانه. قوله : (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير ، قال ابن عباس : هي سرر من ذهب ، مكللة بالدر والزبرجد والياقوت ، والسرير كما بين مكة وأيلة ، وورد أن ارتفاع السرر خمسمائة عام ، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها قربت منه ، فإذا جلس عليها عادت إلى حالها ، وفي الكلام حذف تقديره على نمارق على سرر. قوله : (أي قرناهم) أي جعلناهم مقارنين لهن ، وفي ذلك إشارة إلى جواب سؤال مقدر تقديره : إن الحور العين في الجنات مملوكات بملك اليمين لا بعقد النكاح ، فأجاب : بأن التزويج ليس بمعنى عقد النكاح ، بل بمعنى المقارنة. قوله : (عظام الأعين) تفسير لعين جمع عيناء ، وأما الحور فهو من الحور ، وهو شدة البياض.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ خبره قوله : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) والذرية تطلق على الأصول والفروع ، قال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) والمعنى : أن المؤمن إذا كان عمله أكثر ، ألحق به من دونه في العمل إبنا كان أو أبا ، ويلحق بالذرية من النسب الذرية بالسبب وهو المحبة ، فإن حصل مع المحبة تعليم علم أو عمل ، كان أحق باللحوق كالتلامذة ، فإنهم يلحقون بأشياخهم ، وأشياخ الأشياخ يلحقون بالأشياخ ، إن كانوا دونهم في العمل ، والأصل في ذلك عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة سأل أحدهم عن أبويه وعن زوجته وولده فيقال : إنهم لم يدركوا ما أدركت ،

٩٥

ذُرِّيَّتُهُمْ) المذكورين في الجنة ، فيكونون في درجتهم وإن لم يعملوا بعملهم تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم (وَما أَلَتْناهُمْ) بفتح اللام وكسرها نقصناهم (مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ) زائدة (شَيْءٍ) يزاد في عمل الأولاد (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ) عمل من خير أو شر (رَهِينٌ) (٢١) مرهون يؤاخذ بالشر ، ويجازى بالخير (وَأَمْدَدْناهُمْ) زدناهم في وقت بعد وقت (بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٢٢) وإن لم يصرحوا بطلبه (يَتَنازَعُونَ) يتعاطون بينهم (فِيها) أي الجنة (كَأْساً) خمرا (لا لَغْوٌ فِيها) أي بسبب شربها يقع بينهم (وَلا تَأْثِيمٌ) (٢٣) به يلحقهم بخلاف خمر الدنيا (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) للخدمة (غِلْمانٌ) أرقاء (لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) حسنا ولطافة (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) مصون في الصدف لأنه فيها أحسن منه في غيرها (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٢٥) يسأل بعضهم بعضا عما كانوا عليه وما وصلوا إليه تلذذا واعترافا بالنعمة (قالُوا) إيماء إلى علة الوصول (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي

____________________________________

فيقول : يا رب إني عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به». قوله : (بفتح اللام وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالأولى من باب علم ، والثانية من باب ضرب. قوله : (مِنْ) (زائدة) أي في المفعول الثاني. قوله : (يزداد في عمل الأولاد) أي لم نأخذ من عمل الآباء شيئا نجعله للأولاد ، فيستحقون به هذا الإكرام ، بل عمل الآباء باق لهم بتمامه ، وإلحاق الذرية بهم بمحض الفضل والكرم.

قوله : (رَهِينٌ) أي مرهون عند الله تعالى ، كأن نفس العبد مرهونة عند الله بعمله الذي هو مطالب به ، فإن عمل صالحا فكها من الرهن وإلا أهلكها ، كما يرهن الرجل رقبة عبده بدين عليه ، فإن وفى ما عليه ، خلص رقبته من الرهن ، وإلا استمر مرهونا. قوله : (في وقت بعد وقت) أخذه من لفظ الإمداد. قوله : (وإن لم يصرحوا بطلبه) أي بل بمجرد ما يخطر ببالهم يقدم إليهم ، لما ورد : أن الرجل يشتهي الطير في الجنة ، فيخر مثل البختي حتى يقع على خوانه ، لم يصبه دخان ، ولم تمسه نار ، فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير. قوله : (يتعاطون بينهم) أي يتجاذب بعضهم الكأس من بعض ، ويناول بعضهم بعضا تلذذا وتأنسا ، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة.

قوله : (كَأْساً) الكأس هو إناء الخمر ، وكل كأس مملوء بشراب أو غيره ، فإذا فرغ لم يسم كأسا. قوله : (غِلْمانٌ) (أرقاء) (لَهُمْ) أي كالأرقاء في الحيازة والاستيلاء ، وهؤلاء الغلمان يخلقهم الله في الجنة كالحور ، وقيل : هم الأولاد من أطفالهم الذين سبقوهم ، فأقر الله تعالى أعينهم بهم ، وقيل : هم أولاد المشركين ، وليس في الجنة نصب ولا حاجة إلى خدمة ، بل هو من مزيد التنعم ، قال عبد الله بن عمر : ما من أحد من أهل الجنة ، إلا يسعى عليه ألف غلام ، وكل غلام على عمل غير ما عليه صاحبه ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تلا هذه الآية قالوا : يا رسول الله ، الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال : فضل المخدوم على الخادم ، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وروي أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه ، فيجيبه ألف ببابه : لبيك لبيك ، وطواف الغلمان عليهم بالفواكه والتحف والشراب ، قال تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) قوله : (مصون في الصدف) جمع صدفة وهي غشاء الدر. قوله : (عمّا كانوا عليه) أي في الدنيا. قوله :

٩٦

أَهْلِنا) في الدنيا (مُشْفِقِينَ) (٢٦) خائفين من عذاب الله (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) (٢٧) أي النار لدخولها في المسام وقالوا إيماء أيضا (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي في الدنيا (نَدْعُوهُ) أي نعبده موحدين (إِنَّهُ) بالكسر استئنافا وإن كان تعليلا معنى ، وبالفتح تعليلا لفظا (هُوَ الْبَرُّ) المحسن الصادق في وعده (الرَّحِيمُ) (٢٨) العظيم الرحمة (فَذَكِّرْ) دم على تذكير المشركين ولا ترجع عنه لقولهم لك : كاهن مجنون (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي بإنعامه عليك (بِكاهِنٍ) خبر ما (وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) معطوف عليه (أَمْ) بل (يَقُولُونَ) هو (شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٣٠) حوادث الدهر ، فيهلك كغيره من الشعراء (قُلْ تَرَبَّصُوا) هلاكي (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) (٣١) هلاككم ، فعذبوا بالسيف يوم بدر ، والتربص الانتظار (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) عقولهم (بِهذا) أي قولهم له : ساحر كاهن شاعر مجنون ، أي لا تأمرهم بذلك (أَمْ) بل (هُمْ

____________________________________

(وما وصلوا إليه) أي من نعيم الجنة. قوله : (قالُوا) أي قال المسؤول للسائل. قوله : (إيماء) أي إشارة. وقوله : (إلى علة الوصول) أي محطها. قوله : (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا).

قوله : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا) الخ ، أي وشأن من كان في أهله وعزوته أن يكون آمنا ، فخوفهم من الله في تلك الحالة ، دليل على خوفهم في غيرها بالأولى ، فهم دائما خائفون ، ويحتمل أن قوله : (مُشْفِقِينَ) من الشفقة وهي الرفق ، أي نرفق بأهلنا وغيرهم. قوله : (لدخولها في المسام) هذا بيان لوجه تسميتها سموما ، فالسموم من أسماء جهنم ، وهي في الأصل الريح الحارة التي تتخلل المسام. قوله : (وقالوا إيماء أيضا) أي إلى علة وصولهم إلى النعيم ، ومحط العلة قوله : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ.) قوله : (أي نعبده) أي أو نسأله الوقاية من النار ، ودخول دار القرار. قوله : (وبالفتح تعليلا لفظا) أي والقراءتان سبعيتان. قوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) الباء سببية مرتبطة بالنفي المستفاد من ما ، والمعنى : انتفى كونك كاهنا أو مجنونا ، بسبب إنعام الله عليك ، بكمال العقل وعلو الهمة والعصمة. قوله : (بِكاهِنٍ) أي مخبر بالأمور المغيبة من غير وحي. قوله : (خبر ما) أي فهي حجازية ، والباء زائدة في خبرها.

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ) اعلم أن (أَمْ) ذكرت في هذه الآيات خمس عشرة مرة ، وكلها تقدر ببل والهمزة ، فهي للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر أن يقدرها في الجميع ببل والهمزة. قوله : (حوادث الدهر) في الكلام استعارة تصريحية ، حيث شبهت حوادث الدهر بالريب الذي هو الشك بجامع التحير ، وعدم البقاء على حالة واحدة في كل ، وقيل : المنون المنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد.

قوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا) أمر تهديد على حد اعملوا ما شئتم. قوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) جمع حلم ، يطلق على الأناة وعلى العقل ، وهو المراد هنا. قوله : (أي قولهم له ساحر كاهن شاعر مجنون) أي وهذا تناقض ، فإن شأن الكاهن أن يكون ذا فطنة ورأي ، وشأن الشاعر والساحر كذلك ، ونسبتهم الجنون له بعد ذلك مناقضة. قوله : (أي لا تأمرهم) أشار بذلك إلى أن الاستفهام المستفاد من (أَمْ) إنكاري ، وفيه توبيخ أيضا.

٩٧

قَوْمٌ طاغُونَ) (٣٢) بعنادهم (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) اختلق القرآن ، لم يختلقه (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) استكبارا ، فإن قالوا اختلقه (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ) مختلق (مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) في قولهم (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي خالق (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥) أنفسهم ، ولا يعقل مخلوق بدون خالق ، ولا معدوم يخلق ، فلا بد لهم من خالق هو الله الواحد ، فلم لا يوحدونه ويؤمنون برسوله وكتابه؟ (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ولا يقدر على خلقها إلا الله الخالق ، فلم لا يعبدونه؟ (بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦) به ، وإلا لآمنوا بنبيه (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) من النبوة والرزق وغيرهما ، فيخصوا من شاؤوا بما شاؤوا (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧) المتسلطون الجبارون ، وفعله سيطر ومثله بيطر وبيقر (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) مرقى إلى السماء (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي عليه كلام الملائكة حتى يمكنهم منازعة النبي بزعمهم إن ادّعوا ذلك (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ) أي مدّعي الاستماع عليه (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٣٨) بحجة بينة واضحة ، ولشبه هذا الزعم بزعمهم أن

____________________________________

قوله : (أَمْ) (بل) (هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) المناسب للمفسر أن يقدر (أَمْ) ببل والهمزة ، ليوافق قوله فيما يأتي ، والاستفهام بأم في مواضعها الخ ، والمعنى : لا ينبغي منهم هذا الطغيان. قوله : (لم يختلقه) أشار به إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) جواب شرط مقدر قدره المفسر بقوله : (فإن قالوا اختلقه) والأمر للتعجيز. (ولا يعقل مخلوق بدون خالق) راجع لقوله : (خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) وقوله : (ولا معدوم يخلق) راجع لقوله : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) والمعنى : أنهم لو كانوا هم الخالقين لأنفسهم ، وأنفسهم كانت معدومة أولا ، لزم أن يكونوا في حالة العدم ، وجدوا أنفسهم أو أخرجوها من العدم ، فيكون المعدوم خالقا ، وهذا لا يعقل. قوله : (وإلا لآمنوا بنبيه) أي فحيث لم يترتب على إيقافهم بالله ، إقبال على توحيد وتصديق نبيه ، جعل إيقانهم كالعدم ، وفيه تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) لم يبين أن الاستفهام إنكاري ، مع أنه كذلك. والمعنى : ليس عندهم خزائن ربك ، والمراد بخزائنه مقدوراته ، شبهت بها لأن خزانة الملوك بيت مهيؤ لجمع أنواع مختلفة من الذخائر التي يحتاج إليها. قوله : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) اعلم أنه لم يأت على وزن مفيعل إلا خمسة ألفاظ ، أربعة صفة اسم فاعل : مهيمن ومبيقر ومبيطر ومسيطر ، وواحد اسم جبل وهو محيمر. قوله : (المتسلطون) أي الغالبون على الأشياء ، يدبرونها كيف شاؤوا. قوله : (ومثله بيطر) أي عالج الدواب ومنه البيطار ، وقوله : (وبيقر) أي أفسد وأهلك ، فالحاصل أن معنى المهيمن الرقيب والمبيقر المفسد ، والمسيطر المتسلط الجبار ، والمبيطر المعالج للدواب. قوله : (أي عليه كلام الملائكة) أشار بذلك إلى أن مفعول (يَسْتَمِعُونَ) محذوف ، وفي بمعنى على. قوله : (بزعمهم) متعلق بقوله : (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ.) قوله : (إن ادعوا ذلك) أي الاستماع من الملائكة ، والمعنى : إن فرض أنهم ادعوه فليأت مستمعهم الخ. قوله : (ولشبه هذا الرغم) الخ ، أشار بذلك إلى وجه المناسبة بين الآيتين ، ووجه الشبه بين الزعمين ، أن كلا منهما فاسد ، وإن كان الزعم الأول فرضيا ، والثاني تحقيقيا لوقوعه منهم. قوله : (أي بزعمكم) أي دعواكم واعتقادكم.

٩٨

الملائكة بنات الله ، قال تعالى (أَمْ لَهُ الْبَناتُ) أي بزعمكم (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٣٩) تعالى الله عما زعموه (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على ما جئتهم به من الدين (فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ) غرم ذلك (مُثْقَلُونَ) (٤٠) فلا يسلمون (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي علمه (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤١) ذلك حتى يمكنهم منازعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البعث وأمور الآخرة بزعمهم (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) بك ليهلوك في دار الندوة (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) (٤٢) المغلوبون المهلكون ، فحفظه الله منهم ، ثم أهلكهم ببدر (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣) به من الآلهة ، والاستفهام بأم في مواضعها للتقبيح والتوبيخ (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) بعضا (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) عليهم كما قالوا فأسقط علينا كسفا من السماء ، أي تعذيبا لهم (يَقُولُوا) هذا (سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤) متراكب نروى به ولا يؤمنوا (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٤٥) يموتون (يَوْمَ لا يُغْنِي) بدل من يومهم (عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٦) يمنعون من العذاب في الآخرة (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بكفرهم

____________________________________

قوله : (وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي لتكونوا أقوى منه ، فإذا كذبتم رسله ، تكونون آمنين لقوتكم بالبنين ، وزعمكم ضعفه بالبنات. قوله : (تعالى الله عما زعموه) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (مُثْقَلُونَ) أي متعبون ومغتمون ، لأن العادة أن من غرم شخصا ما ، لا يكون المأخوذ منه كارها للآخذ ومغتما منه. قوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) جواب لقولهم (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) والمعنى : أعندهم علم الغيب بأن الرسول يموت قبلهم؟ فهم يكتبون ذلك.

قوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي مكرا وتحيلا في هلاكك. قوله : (في دار الندوة) إن قلت : السورة مكية ، والاجتماع بدار الندوة كان ليلة الهجرة ، فالتقييد بها مشكل ، فالأوضح حذف قوله في دار الندوة ، لأن إرادة الكيد حاصلة منهم من يوم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) أوقع الظاهر موقع المضمر ، تشنيعا وتقبيحا عليهم بصفة الكفر. قوله : (ثم أهلكهم ببدر) أي أهلك رؤساءهم وهم سبعون. قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله عما ينسبونه له من الشركة في الألوهية. قوله : (والاستفهام بأم) أي المقدرة ببل والهمزة أو بالهمزة وحدها ، وقوله : (في مواضعها) أي وهي خمسة عشر. قوله : (للتقبيح والتوبيخ) أي والإنكار.

قوله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) أي على فرض حصوله ، فإنه لم يحصل لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) والمعنى : لو عذبناهم بسقوط قطع من السماء عليهم ، لم ينتهوا ولم يرجعوا ، ويقولون في هذا النازل عنادا واستهزاء وإغاظة لمحمد إنه سحاب مركوم. قوله : (فأسقط علينا كسفا) هذه الآية إنما وردت في قوم شعيب ، كما ذكر في سورة الشعراء ، فكان الأولى للمفسر أن يستدل بما نزل في قريش في سورة الإسراء وهو قوله : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً). قوله : (فَذَرْهُمْ) جواب شرط مقدر ، والمعنى : إذا بلغوا في العناد إلى هذا الحد ، وتبيّن أنهم لا يرجعون عن الكفر ، فدعهم ولا تلتفت لهم. قوله : (يُصْعَقُونَ) هكذا ببنائه للفاعل والمفعول ، قراءتان سبعيتان. قوله : (ويموتون) أي بانقضاء آجالهم في بدر أو غيرها ، هذا هو الأحسن. قوله : (من العذاب في الآخرة) المراد به العذاب الذي يأتي

٩٩

(عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي في الدنيا قبل موتهم ، فعذبوا بالجوع والقحط سبع سنين ، وبالقتل يوم بدر (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤٧) أن العذاب ينزل بهم (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم ، ولا يضق صدرك (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا ، نراك ونحفظك (وَسَبِّحْ) متلبسا (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل : سبحان الله وبحمده (حِينَ تَقُومُ) (٤٨) من منامك أو من مجلسك (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) حقيقة أيضا (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) (٤٩) مصدر ، أي عقب غروبها سبحه أيضا ، أو صلّ في الأوّل العشاءين ، وفي الثاني الفجر ، وقيل : الصبح.

____________________________________

بعد الموت. قوله : (دُونَ ذلِكَ) أي قبل العذاب الذي يأتيهم بعد الموت ، وذلك صادق كما قال المفسر : بالجوع والقحط والقتل يوم بدر.

قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لتزيين الشيطان لهم ما هم عليه ، والمراد بالأكثر من سبق في علم الله شقاؤه. قوله : (بمرأى منا) أي فأطلقت الأعين وأريد لازمها ، وهو إبصار الشيء والإحاطة به علما وقربا ، فيلزم منه مزيد الحفظ للمرئي الذي هو المراد ، وعبر هنا بالجمع لمناسبة نون العظمة ، بخلاف ما ذكر في سورة طه في قوله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي.) قوله : (من منامك) أي فقد ورد عن عائشة قالت : كان إذا قام أي استيقظ من منامه ، كبر عشرا ، وحمد الله عشرا ، وسبّح عشرا ، وهلّل عشرا ، واستغفر عشرا ، وقال : اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني ، وكان يتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة ، وفي رواية كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استيقظ من منامه قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران. قوله : (أو من مجلسك) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس مجلسا فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، كان كفارة لما بينهما» وفي رواية : كان كفارة له. قوله : (أي عقب غروبها) المراد بغروبها ذهاب ضوئها لغلبة ضوء الصبح عليه ، وإن كانت باقية في السماء ، وذلك بطلوع الفجر. قوله : (أو صلّ في الأول) أي الليل ، فهذا راجع لقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وأما (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) فالمراد به حقيقة التسبيح على كل حال. قوله : (وفي الثاني الفجر) أي الركعتين اللتين هما سنة الصبح ، وقوله : (وقيل الصبح) أي فريضة صلاة الصبح.

١٠٠