حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

عليكم (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) يقال بخل عليه وعنه (وَاللهُ الْغَنِيُ) عن نفقتكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إليه (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن طاعته (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يجعلهم بدلكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨) في التولي عن طاعته ، بل مطيعين له عزوجل.

____________________________________

قوله : (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي ومنكم من يجود ، وحذف هذا المقابل لأن المراد الاستدلال على البخل. قوله : (يقال بخل عليه وعنه) أي فيتعدى بعلى إذا ضمن معنى شح ، وبعن إذا ضمن معنى أمسك. قوله : (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (إليه) أي وفي جميع الأحوال. قوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إما خطاب للصحابة ، والمقصود منه التخويف ، لأنه لم يصل أحد من بعدهم لرتبتهم ، والشرطية لا تقتضي الوقوع ، أو خطاب للمنافقين ، والتبديل حاصل بالفعل ، واختلف في القوم المستبدلين ، فروي عن أبي هريرة قال : «تلا رسول الله هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) قالوا : ومن يستبدل بنا؟ وكان سلمان جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخذ سلمان فقال : هذا وأصحابه ، والذي نفس محمد بيده ، لو كان الإيمان منوطا بالثريا ، لتناوله رجال من فارس» وقيل هم العجم ، وقيل هم فارس والروم ، وقيل الأنصار ، وقيل الملائكة ، وقيل التابعون ، وقيل من شاء من سائر الناس ، ورد أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «هي أحب إلي من الدنيا».

٤١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفتح

مدنيّة

وآياتها تسع وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) قضينا بفتح مكة وغيرها في المستقبل عنوة

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفتح مدنية

وهي تسع وعشرون آية

سبب نزولها : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في السنة السادسة ، بألف وأربعمائة من أصحابه ، قاصدين مكة للاعتمار ، فأحرموا بالعمرة من ذي الحليفة ، وساق صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين بدنة هديا للحرم ، وساق القوم سبعمائة ، فلما وصلوا للحديبية ، وهي قرية بينها وبين مكة مرحلة ، أرسل عثمان إلى مكة ليخبر أهلها بأن رسول الله يريد زيارة بيت الله الحرام ، ولم يكن قاصدا حربا ، فلما ذهب عثمان حبسوه عندهم ، فأشاع إبليس في الصحابة أن عثمان قتل ، فبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه على أنهم يدخلون مكة حربا ، فلما بلغ المشركين ذلك ، أخذهم الرعب وأطلقوا عثمان ، وطلبوا الصلح من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يأتي في العام القابل ويدخلها ، ويقيم فيها ثلاثة أيام ، فتحلل هو وأصحابه هناك بالحلق ، وذبح ما ساقوه من الهدي ثم رجعوا يعلوهم الحزن والكآبة ، فأراد الله تسليتهم وإذهاب الحزن عنهم ، فأنزل الله عليه وهو سائر ليلا في رجوعه ، وهو بكراع الغميم ، وهو واد أمام عسفان بين مكة والمدينة (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) إلى آخر السورة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) فقال المسلمون : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، لقد بين الله لك ما يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً). قوله : (مدنية) أي لكونها نزلت بعد الهجرة.

قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) الخ ، الفتح هو الظفر بالبلاد عنوة أو صلحا ، فشبه الظفر بالبلاد ، بفتح الباب المغلق بجامع التمكن في كل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من الفتح فتحنا بمعنى ظفرنا ، أي مكناك من البلاد ، وحذف المعمول ليؤذن بالعموم ، وأسند إلى نون العظمة اعتناء بشأن الفتح ، وإشارة إلى أن هذا الأمر لا يتيسر إلا بإرادة الله وتوفيقه. قوله : (قضينا بفتح مكة وغيرها) أي كخيبر وحنين والطائف ونحوها ، وهو جواب عما يقال : إن الآية نزلت في رجوعه من الحديبية عام ست ، ومكة لم

٤٢

بجهادك (فَتْحاً مُبِيناً) (١) بينا ظاهرا (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) بجهادك (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) منه لترغيب أمتك في الجهاد ، وهو مؤول لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام بالدليل العقلي القاطع من الذنوب ، واللام للعلة الغائية ، فمدخولها مسبب لا سبب (وَيُتِمَ) بالفتح المذكور (نِعْمَتَهُ) إنعامه (عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ) به (صِراطاً) طريقا (مُسْتَقِيماً) (٢) يثبتك عليه وهو دين الإسلام (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) به (نَصْراً عَزِيزاً) (٣) ذا عز لا ذل معه (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ)

____________________________________

تفتح إلا في السنة الثامنة ، فكيف عبر بالماضي؟ فأجاب : بأن التعبير بالماضي بالنسبة للقضاء الأزلي ، والمعنى : حكمنا لك في الأزل بالفتح المبين ، وحينئذ فالتعبير بالماضي حقيقة. وأجيب أيضا بأن التعبير بالماضي مجاز لتحقق الوقوع ، نظير (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ). وأجيب أيضا : بأن الفتح على حقيقته ، وأن المراد به صلح الحديبية ، لأنه أصاب فيه ما لم يصب في غيره ، قال الزهري : لقد كان فتح الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة ، فلما وقع الصلح ، مشى الناس بعضهم على بعض ، وعلموا وسمعوا من الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان ، إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف ، وقال الشعبي في قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) هو فتح الحديبية ، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة غيرها ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس ا ه. قوله : (عنوة) هذا مذهب مالك وأبي حنيفة ، نظرا لكون النبي وأصحابه دخلوها قهرا ، ووقوع القتال من بعض الصحابة لخالد بن الوليد وأصحابه في جهة وأسفلها ، مذهب الشافعي أنها فتحت صلحا نظرا للظاهر ، وهو عدم حصول القتال من النبي ، وتأمينه أبا سفيان ، وهذا الخلاف يكاد أن يكون لفظيا. قوله : (بجهادك) متعلق بقوله : (بفح مكة) وهو جواب عما يقال : إن الفتح ناشىء من الله ، والمغفرة تكون للشخص ، فكيف تترتب عليه ، وإنما الشأن أن تترتب على ما يكون من الشخص؟ فأجاب : بأن الفتح وإن كان من الله ، لكنه ترتب على فعل النبي وهو الجهاد ، فصح أنه يترتب على الفتح المغفرة بهذا الاعتبار. قوله : (لترغب أمتك) علة لترتب الغفران على الفتح. قوله : (وهو مؤول) أي أن اسناد الذنب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤول ، إما بأن المراد ذنوب أمتك ، أو هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو بأن المراد بالغفران ، الإحالة بينه وبين الذنوب ، فلا تصدر منه ، لأن الغفر هو الستر ، والستر إما بين العبد والذنب ، أو بين الذنب وعذابه ، فاللائق بالأنبياء الأول ، وبالأمم الثاني ، إن قلت : إن عصمة النبي عليه‌السلام من الذنوب ، حاصلة بالفعل قبل النبوة وبعدها ، فكيف تكون مرتبة على جهاده؟ أجيب : بأن المرتب اظهارها للخلق لا هي نفسها. قوله : (من الذنوب) أي صغيرها وكبيرها ، عمدها وسهوها ، قبل النبوة وبعدها. قوله : (للعلة الغائية) أي وهي المترتبة على آخر الفعل ، وليست العلة باعثة لاستحالة الأغراض على الله تعالى في الأفعال والأحكام. قوله : (لا سبب) أي لأن السبب ما يضاف إليه الحكم ، كالزوال لوجوب الظهر ، والمغفرة ليست كذلك. قوله : (بالفتح المذكور) أي وهو فتح مكة وغيرها بجهادك. قوله : (يثبتك عليه) أي يديمك ويقويك عليه ، أو المراد يزيدك في الهداية باتباع الشريعة وأحكام الدين. قوله : (ذا عز) جواب عما يقال : إن العزيز وصف للمنصور لا للنصر ، وتوضيح جوابه أن فعيلا صيغة نسبة ، أي نصرا منسوبا للعز. قوله : (لا ذل معه) أي لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وأما مطلق

٤٣

الطمأنينة (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) بشرائع الدين كلما نزل واحدة منها آمنوا بها ، منها الجهاد (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلو أراد نصر دينه بغيركم لفعل (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) (٤) في صنعه ، أي لم يزل متصفا بذلك (لِيُدْخِلَ) متعلق بمحذوف أي أمر بالجهاد (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ

____________________________________

النصر ، فيكون حتى لبعض الكفار في الدنيا.

قوله : (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وهم أهل الحديبية ، حين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مناجزة الحرب مع أهل مكة ، بعد أن حصل لهم ما شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب ، من صد الكفار ، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصود ، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان ، بعد أن هاج الناس وزلزلوا ، حتى عمر بن الخطاب لما روي أنه قال : «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ألست نبي الله حقا؟ قال : بلى قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعط الدنية في ديننا إذا؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال : بلى أنا أخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال : بلى ، فقلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، فقلت : فلم نعط الدنية في ديننا؟ إذا؟ قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بأمره ولا تخالفه ، فو الله إنه على الحق ، قلت : أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال : بلى ، افأخبرك أنا نأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك آتيه فنطوف به». قال العلماء : لم يكن سؤال عمر شكا ، بل طلبا لكشف ما خفي عليه ، وحثا على إذلال الكفار ، وظهور الإسلام ، كما هو معروف من شدته وصلابته في الدين ، وأما جواب أبي بكر المطابق لجواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله ، وبارع علمه ، وزيادة عرفانه ورسوخه ، رضي الله عنهما وعنا بهما. قوله : (بشرائع الدين) متعلق ب (إِيماناً) ، وقوله : (مَعَ إِيمانِهِمْ) متعلق بمحذوف ، أي بالله ورسوله.

قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اختلف في المراد بجنود السماوات والأرض ، فقيل : هم ملائكة السماوات والأرض ، وقيل : إن جنود السماوات الملائكة ، وجنود الأرض الحيوانات ، وقيل : إن جنود السماوات مثل الصواعق والصيحة والحجارة ، وجنود الأرض مثل الزلازل والخسف والغرق ، ونحو ذلك ، وكل صحيح. قوله : (لفعل) أي لكنه لم يفعل ، بل أنزل السكينة على المؤمنين ، ليكون إهلاك الأعداء بأيديهم ، ليحصل لهم الشرف والعز دنيا وأخرى. قوله : (متعلق بمحذوف) أي لا بفتحنا ، أي لئلا يلزم عليه عمل الفعل في حرفي جر متحدي اللفظ ، والمعنى : من غير عطف ولا بدل ولا توكيد. قوله : (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي يمحوها ، وهو معطوف على قوله : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) الخ ، عطف سبب على مسبب ، فدخول الجنة مسبب عن تكفير السيئات ، وقدم الإدخال في الذكر على التكفير ، مسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. قوله : (وَكانَ ذلِكَ) أي المذكور من الإدخال والتكفير. قوله : (عِنْدَ اللهِ) حال من (فَوْزاً) لأنه صفة له في الأصل ، فلما قدم عليه صار حالا ، أي كائنا عند الله ، أي

٤٤

بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) بفتح السين وضمها في المواضع الثلاثة ، ظنوا أنه لا ينصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) بالذل والعذاب (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أبعدهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٦) أي مرجعا (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) في ملكه (حَكِيماً) (٧) في صنعه ، أي لم يزل متصفا بذلك (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على أمتك في القيامة (وَمُبَشِّراً) في الدنيا بالجنة (وَنَذِيراً) (٨) منذرا مخوفا فيها من عمل سوءا بالنار (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) بالياء والتاء فيه وفي الثلاثة بعده (وَتُعَزِّرُوهُ) ينصروه وقرىء بزاءين مع الفوقانية (وَتُوَقِّرُوهُ) يعظموه وضميرهما لله أو لرسوله (وَتُسَبِّحُوهُ) أي الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٩) بالغداة

____________________________________

في علمه وقضائه.

قوله : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) قدمهم على المشركين ، لأنهم أشد ضررا من الكفار المتجاهرين ، وذلك لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر ، ويخالط المنافق ، لظنه إيمانه. قوله : (ظَنَّ السَّوْءِ) إما من إضافة الموصوف لصفته على مذهب الكوفيين ، أو أن (السَّوْءِ) صفة لموصوف محذوف ، أي ظن الأمر السوء ، فحذف المضاف اليه ، وأقيمت صفته مقامه. قوله : (بفتح السين وضمها) أي فالفتح الذم ، والضم العذاب ، والهزيمة والشر. قوله : (في المواضع الثلاثة) أي هذين والثالث قوله فيما يأتي (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو سبق قلم ، والصواب أن يقول : في الموضع الثاني ، وأما الأول والثالث فليس فيهما إلا الفتح بإتفاق السبعة.

قوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) إما اخبار عن وقوعه بهم أو دعاء عليهم ، كأن الله يقول : سلوني بقلوبكم (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) والدائرة عبارة عن الخط المحيط بالمركز ، ثم استعملت في الحادثة المحيطة بمن وقعت عليه ، والجامع الإحاطة في كل. قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) عطف على قوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ). قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخ ، ذكر هذه الآية أولا في معرض الخلق والتدبير ، فذيلها بقوله : (عَلِيماً حَكِيماً) وذكرها ثانيا في معرض الانتقام فذيلها بقوله : (عَزِيزاً حَكِيماً) فلا تكرار. قوله : (أي لم يزل) الخ ، أشار بذلك إلى أن (كانَ) في أوصاف الله معناها الاستمرار.

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) الخ ، امتنان منه تعالى عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث شرفه بالرسالة ، وبعثه إلى كافة الخلق ، شاهدا على أعمال أمته. قوله : (شاهِداً) (على أمتك) أي بالطاعة والعصيان. قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ) متعلق ب (أَرْسَلْناكَ.) قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وقرىء) أي شذوذا. قوله : (وضميرهما لله) الخ ، أي فهما احتمالان ، أي فإذا أردت الجري على وتيرة واحدة ، جعلتها كأنها عائدة على الله تعالى ، وأما قوله : (وَتُسَبِّحُوهُ) فهو عائد على الله قولا واحدا ، ويؤخذ من هذه الآية ، أن من اقتصر على تعظيم الله وحده ، أو على تعظيم الرسول وحده ، فليس بمؤمن ، بل المؤمن من جمع بين تعظيم الله تعالى ، وتعظيم رسوله ، ولكن التعظيم في كل بحسبه ، فتعظيم الله تنزيهه عن صفات الحوادث ، ووصفه بالكمالات ، وتعظيم رسوله اعتقاد أنه رسول الله حقا وصدقا لكافة الخلق ، بشيرا ونذيرا ، إلى غير ذلك من أوصافه السنية وشمائله المرضية.

٤٥

والعشي (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) بيعة الرضوان بالحديبية (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) هو نحو : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) التي بايعوا بها النبي ، أي هو تعالى مطلع على مبايعتهم فيجازيهم عليها (فَمَنْ نَكَثَ) نقض البيعة (فَإِنَّما يَنْكُثُ) يرجع وبال نقضه (عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ) بالياء والنون (أَجْراً عَظِيماً) (١٠) (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) حول المدينة ، أي الذين خلفهم الله عن صحبتك لما طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة خوفا من تعرّض قريش لك عام الحديبية إذا رجعت منها (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) الله من ترك الخروج معك ، قال تعالى : مكذبا لهم (يَقُولُونَ

____________________________________

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الخ ، لما ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسله بشيرا ونذيرا ، بين أن متابعته متابعة له ، وطاعته له ، وذلك يشعر بعظيم منزلته وقدره عند ربه ، والبيعة في الأصل العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه ، من بذل الطاعة للإمام ، والوفاء بالعهد الذي التزمه له ، والمراد بها هنا ، بيعة الرضوان بالحديبية ، وهي قرية ليست كبيرة ، بينها وبين مكة أقل من مرحلة أو مرحلة ، سميت ببئر هناك ، واختلف فيها ، فقيل من الحرم ، وقيل بعضها من الحل ، يجوز فيها التخفيف والتشديد.

قوله : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) اعلم أن في هذا المقام ، استعارة تصريحية تبعية ومكنية وتخييلية ومشاكلة ، فالتبعية في الفعل هو (يُبايِعُونَ) وذلك لأن المبايعة معناها مبادلة المال بالمال ، فشبه المعاهدة على دفع الأنفس في سبيل الله ، طلبا لمرضاة الله بدفع السلع في نظير الأموال ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من البيع (يُبايِعُونَ) بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله والمكنية في لفظ الجلالة ، وذلك لأن المتعاهدين إذا كان هناك ثالث ، يضع يده فوق يديهما ليحفظهما ، فشبه اطلاع الله ومجازاته على فعلهم ، بملك وضع يده على يد أميره ورعيته ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشيء من لوازمه وهو اليد ، فإثباتها تخييل ، والمشاكلة لذكر الأيدي بعده. قوله : (هو نحو من يطع الرسول) الخ ، أي من حيث إنه في المعنى يرجع له ، وفيه إشارة إلى أنه تعالى منزه عن الجوارح. قوله : (يرجع وبال نقضه) أشار بذلك إلى أن في الكلام حذف مضافين. قوله : (بالياء والنون) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أَجْراً عَظِيماً) أي وهو الجنة ، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها بيعة الرضوان ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ ، فيشمل مبايعة الإمام على الطاعة والوفاء بالعهد ، ومبايعة الشيخ العارف على محبة الله ورسوله ، والتزام شروطه وآدابه ، ومن هنا استعمل مشايخ الصوفية هذه الآية عند أخذ العهد على المريد.

قوله : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ) الخ ، أي وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ، طلب من الأعراب وأهل البوادي حول المدينة ، أن يخرجوا معه ، حذرا من قريش أن يتعرضوا له بحرب ، ويصدوه عن البيت ، فأحرم بالعمرة ، وساق الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، وتخلفوا عنه وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في قعر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه. قوله : (حول المدينة) حال من الأعراب أو صفة لهم. قوله : (إذا رجعت منها) ظرف ليقول. قوله : (وَأَهْلُونا) أي النساء والصبيان ، فإنا لو تركناهم لضاعوا ،

٤٦

بِأَلْسِنَتِهِمْ) أي من طلب الاستغفار وما قبله (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فهم كاذبون في اعتذارهم (قُلْ فَمَنْ) استفهام بمعنى النفي ، أي لا أحد (يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) بفتح الضاد وضمها (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١١) أي لم يزل متصفا بذلك (بَلْ) في الموضعين للانتقال من غرض إلى آخر (ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي إنهم يستأصلون بالقتل فلا يرجعون (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) هذا وغيره (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) (١٢) جمع بائر ، أي هالكين عند الله بهذا الظن (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) (١٣) نارا شديدة (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٤) أي لم يزل متصفا بما ذكر (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) المذكورون (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) هي مغانم خيبر (لِتَأْخُذُوها ذَرُونا) اتركونا

____________________________________

لأنه لم يكن لنا من يقوم بهم ، وأنت قد نهيت عن ضياع المال والتفريط في العيال. قوله : (فهم كاذبون في اعتذارهم) أي وطلب الاستغفار.

قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ) الخ ، أي فمن يمنعكم من مشيئته وقضائه؟ قوله : (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي كقتل وهزيمة ونحوهما. قوله : (بفتح الضاد وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ترق في الرد عليهم. قوله : (للانتقال من غرض إلى آخر) أي فأضرب عن تكذيبهم في اعتذارهم ، إلى ايعادهم بجزاء أعمالهم ، ومن التخلف والاعتذار الباطل ، ثم أضرب عن بيان بطلان اعتذارهم ، إلى بيان ما حملهم على التخلف ، وهذا على سبيل الترقي في الرد عليهم. قوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ) أي لا يرجع إلى المدينة ، وسبب ظنهم ذلك ، اعتقادهم عظمة المشركين ، وحقارة المؤمنين ، حتى قالوا : ما هم في قريش إلا أكلة رجل. قوله : (جمع بائر) أي كحائل وحول ، وقيل : البور مصدر بمعنى الهلاك.

قوله : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) لما بين حال المتخلفين عن رسول الله ، وبين حال ظنهم الفاسد ، وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر ، حرضهم على الإيمان والتوبة على سبيل العموم ، و (مَنْ) إما شرطية أو موصولة ، والاسم الظاهر قائم مقام العائد ، وقوله : (فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) دليل الجواب أو الخبر. قوله : (نارا شديدة) أي فالمراد جميع طبقات النار ، لا الطبقة المسماة بذلك. قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي يتصرف فيهما كيف يشاء. قوله : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) هذا قطع لطمعهم في استغفاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ، كأن الله يقول لهم : لا يستحق أحد عندي شيئا ، وإنما أغفر لمن أريد ، وأعذب من أريد ، وقد سبقت حكمتي ، أن المغفرة للمؤمنين ، والتعذيب للكافرين ، فلا تطمعوا في المغفرة ما دمتم كفارا.

قوله : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الخ ، هذا من جملة الإخبار عما يحصل منهم. قوله : (إِذَا انْطَلَقْتُمْ) ظرف لما قبله ، والمعنى يقولون عند انطلاقكم الخ. قوله : (هي مغانم خيبر) أي وذلك أن المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ، ولم يصيبوا من المغانم شيئا ، وعدهم الله عزوجل فتح

٤٧

(نَتَّبِعْكُمْ) لنأخذ منها (يُرِيدُونَ) بذلك (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) وفي قراءة كلم الله بكسر اللام أي مواعيده بغنائم خيبر أهل الحديبية خاصة (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل عودنا (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أن نصيب معكم من الغنائم فقلتم ذلك (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) من الدين (إِلَّا قَلِيلاً) (١٥) منهم (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) المذكورين اختبارا (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي) أصحاب (بَأْسٍ شَدِيدٍ) قيل : هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة ، وقيل : فارس والروم (تُقاتِلُونَهُمْ) حال مقدرة هي المدعو إليها في المعنى (أَوْ) هم (يُسْلِمُونَ) فلا

____________________________________

خيبر ، وجعل مغانمها لمن شهد الحديبية خاصة ، عوضا عن غنائم أهل مكة ، حيث انصرفوا عنهم ، ولم يصيبوا منهم شيئا ، وكان المتولي للقسمة بخيبر ، جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة ، وزيد بن ثابت من بني النجار ، كانا حاسبين قاسمين ، وأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقسم لمن حضر من أهل الحديبية ومن غاب ، ولم يغب منهم عنها غير جابر بن عبد الله ، فقسم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضر. قوله : (ذَرُونا) أي دعونا ، وهذا الفعل هجر مصدره وماضيه واسم فاعله استغناء بمادة ترك ، وأصل مادته : وذر يذر وذرا ، فهو واذر ، والأمر منه ذر ، وهذه الجملة مقول القول.

قوله : (يُرِيدُونَ) إما مستأنف أو حال من (الْمُخَلَّفُونَ). قوله : (أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي يغيروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية به ، من جعل غنائم خيبر لهم ، عوضا عن فتح مكة في ذلك العام. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (لَنْ تَتَّبِعُونا) نفي في معنى النهي للمبالغة. قوله : (كَذلِكُمْ) أي مثل هذا القول وهو لن تتبعونا. قوله : (قالَ اللهُ) أي حكم بأن غنيمة خيبر ، لمن شهد الحديبية ، ليس لغيرهم فيها نصيب. قوله : (فَسَيَقُولُونَ) أي عند سماعهم النهي. قوله : (بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي فليس هذا النهي حكما من الله تعالى ، بل هو حسد منكم لنا على مشاركتكم في الغنائم. قوله : (من الدين) أشار بذلك إلى أن الإضراب الأول معناه رد منهم أن يكون حكم الله أن يتبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضراب عن وصفهم ، بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أهم ، وهو الجهل وقلة الفهم.

قوله : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) كرر وصفهم بهذا الاسم ، إشعارا بشناعته ، ومبالغة في ذمهم. قوله : (قيل هم بنو حنيفة) أي وهم جماعة مسيلمة الكذاب ، والداعي للمخلفين على قتالهم حينئذ أبو بكر بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (أصحاب اليمامة) اسم لبلاد في اليمن ، ولامرأة كانت بها ويقال لها زرقاء ، كانت تبصر الركب من مسيرة ثلاثة أيام. قوله : (وقيل فارس والروم) أي والداعي لهم عمر بن الخطاب ، وقيل : إن ذلك في هوازن وغطفان يوم حنين ، والداعي لهم رسول الله ، إن قلت : إن الله تعالى أمر رسوله أن لا يدعو المخلفين إلى الجهاد في قوله : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وحينئذ فيبعد أن ذلك في غزوة حنين ، والداعي لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأجيب : بأنه لا بعد ، إذ قوله : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) الخ ، إنما نزلت بعد الفتح في غزوة تبوك ، فتحصل أن الأقوال ثلاثة ، وكل صحيح. قوله : (أَوْ يُسْلِمُونَ) أشار بذلك إلى أن الجملة مستأنفة ، وليست أو بمعنى إلى ، أو إلا ، وإلا لنصب الفعل بحذف النون ، ومعنى (يُسْلِمُونَ) ينقادون ولو بعقد الجزية ، فإن الروم نصارى ، وفارس مجوس ، وكل منهما يقر

٤٨

تقاتلون (فَإِنْ تُطِيعُوا) إلى قتالهم (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦) مؤلما (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) في ترك الجهاد (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ) بالياء والنون (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ) بالياء والنون (عَذاباً أَلِيماً) (١٧) (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ)

____________________________________

بالجزية ، وأما بالنسبة لبني حنيفة ، فمعناه يسلمون بالفعل ، لأنهم كانوا مرتدين ، والمرتد لا يقر بالجزية ، بل إما السيف أو الإسلام. قوله : (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي في الحديبية.

قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) نزلت لما قال أهل الزمانة والعاهة والآفة : كيف بنا يا رسول الله؟ حين سمعوا قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) الخ. قوله : (في ترك الجهاد) أي في التخلف عن الجهاد ، وهذه أعذار ظاهرة ، وذلك لأن الأعمى لا يمكنه الكر ولا الفر ، وكذلك الأعراج والمريض ، ومثل هذه الأعذار الفقر الذي لا يمكن صاحبه أن يقضي مصالحه وأشغاله التي تعوق عن الجهاد ، وكل هذا ما لم يفجأ العدو ، وإلا وجب على كل بما يمكنه. قوله : (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) أي فعل بهم فعل الراضي من الثواب والفتح المبين ؛ وفي ذلك تلميح إلى أن الكافرين غير راض عنهم ، فلهم الخذلان في الدنيا والآخرة ، وكان سبب هذه البيعة على ما ذكره محمد بن إسحاق عن أهل العلم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية ، فبعثه إلى قريش بمكة ، وحمله على جمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغ أشرافهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء معتمرا ، ولم يجىء محاربا ، فعقروا جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا قتله ، فمنعتهم الأحابيش فخلوا سبيله ، فأتى لرسول الله فأخبره ، فدعا رسول الله عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فقال : يا رسول الله إني أخاف على نفسي قريشا ، وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أقربها مني ، لوجود عشيرته فيها ، وهو عثمان بن عفان ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت ، معظما لحرمته ، وكتب له كتابا بعثه معه ، وأمره أن يبشر المستضعفين بمكة بالفتح قريبا ، وأن الله سيظهر دينه ، فخرج عثمان وتوجه إلى مكة ، فوجد قريشا قد اتفقوا على منعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دخول مكة ، ولقيه أبان بن سعيد بن العاصي حين دخل مكة ، وقبل أن يدخلها ، فنزل عن فرسه وحمله بين يديه ، ثم أردفه وأجاره ، حتى بلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ عليهم الكتاب واحدا واحدا ، فصمموا على أنه لا يدخلها هذا العام ، وقالوا لعثمان : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به ، قال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان المسلمون قالوا : هنيئا لعثمان خلص إلى البيت وطاف به دوننا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ظني به أن لا يطوف حتى يطوف معنا ، وبشر عثمان المستضعفين ، واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شماله في يمينه وقال : هذه عن عثمان ، وهذا يشعر بأن النبي قد علم بنور النبوة ، أن عثمان لم يقتل حتى بايع عنه. وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما بايع الناس : «اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك» فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يده لعثمان ، خيرا من أيديهم

٤٩

بالحديبية (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) هي سمرة ، وهم ألف وثلثمائة أو أكثر ، ثم بايعهم على أن يناجزوا قريشا وأن لا يفرّوا من الموت (فَعَلِمَ) الله (ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١٨) هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) من خيبر (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٩) أي لم يزل متصفا بذلك (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) من الفتوحات (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) غنيمة خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) في عيالكم لما خرجتم وهمت بهم اليهود ، فقذف الله في قلوبهم الرعب (وَلِتَكُونَ) أي المعجلة عطف على مقدر أي تشكروه (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) في نصرهم (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢٠) أي طريق التوكل عليه ، وتفويض الأمر إليه تعالى (وَأُخْرى) صفة مغانم مقدرا مبتدأ (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها)

____________________________________

لأنفسهم ، ولما سمع المشركون بهذه البيعة ، خافوا وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين وكانوا عشرة ، دخلوا مكة بإذنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ظرف لرضي ، وعبر بصيغة المضارع استحضارا لصورة المبايعة. قوله : (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) معمول ليبايعونك. قوله : (هي سمرة) بضم الميم من شجر الطلح وهو الموز ، كما عليه جمهور المفسرين في قوله تعالى : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) وهذه الشجرة قد أخفيت ، لئلا يحصل الافتتان بها ، وروي أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة ويصلون عندها فتوعدهم ، ثم أمر بقطعها فقطعت. قوله : (أو أكثر) وقيل أربعمائة وهو الصحيح ، وقيل خمسمائة. قوله : (أن يناجزوا قريشا) أي يقاتلوهم. قوله : (ما فِي قُلُوبِهِمْ) معطوف على (يُبايِعُونَكَ.) قوله : (بعد انصرافهم من الحديبية) أي في ذي الحجة ، فأقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بقيته وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع. قوله : (وَمَغانِمَ) معطوف على (فَتْحاً) و (يَأْخُذُونَها) صفة لمغانم أو حال منها.

قوله : (وَعَدَكُمُ اللهُ) الالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان ، وهو لأهل الحديبية. قوله : (من الفتوحات) أي غير خيبر ، مما استقبلهم بعد ، كفتح مكة وهوازن وبلاد كسرى والروم. قوله : (غنيمة خيبر) مقتضى ما تقدم ، من أن السورة نزلت كلها في رجوعه من الحديبية أن يكون قوله : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) من التعبير بالماضي عن المستقبل ، لتحقق وقوعه من الإخبار بالغيب. قوله : (في عيالكم) أي عن عيالكم ، والجار والمجرور بدل من قوله : (عَنْكُمْ) والمراد بالناس ، أهل خيبر وحلفاؤهم من بني أسد وغطفان. قوله : (لما خرجتم) أي للحديبية ، وقوله : (وهمت بهم اليهود) أي يهود خيبر ، هموا بأخذ عيال النبي والصحابة من المدينة ، في غيبة النبي للحديبية ، وكان هو السبب في أخذ خيبر. قوله : (عطف على مقدر) هذا أحد قولين ، والآخر أنها زائدة ، وعليه فيكون تعليلا لقوله : (كَفَّ.) قوله : (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي أمارة يعرفون بها صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعده إياهم ، عند الرجوع من الحديبية بتلك الغنائم. قوله : (أي طريق التوكل عليه) فسر الصراط المستقيم بما ذكر ، لأن الحاصل من الكف ليس إلا ذلك ، ولأن أصل الهدى حاصل قبله.

ـ تنبيه ـ ملخص غزوة خيبر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من الحديبية ، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة

٥٠

____________________________________

وبعض المحرم ، ثم خرج إلى خيبر في بقية المحرم سنة سبع ، وكان إذا غزا قوما ينتظر الصباح ، فإن سمع أذانا كف عنهم ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم ، فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب عليهم ، فخرجوا بمكاتلهم ومساحييهم ، فلما رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا محمد والخميس أي الجيش ، فلما رآهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين ، وعن سلمة بن الأكوع قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم :

تالله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

ونحن عن فضلك ما استغنينا

فثبت الأقدام إن لاقينا

وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا؟ قال : أنا عامر ، قال : غفر لك ربك ، قال : وما استغفر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد ، قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له : يا نبي الله ، لو لا متعتنا بعامر ، قال : فلما قدمنا خيبر ، قدم ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

قال : وبرز له عمي عامر فقال :

قد علمت خيبر أني عامر

شاكي السلاح بطل مغامر

قال : فاختلفا بضربتيهما ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، وذهب عامر يسفل ، فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله ، فكانت فيها نفسه رضي الله عنه ، قال سلمة : فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : بطل عمل عامر ، قتل نفسه ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أبكي فقلت : يا رسول الله ، بطل عمل عمي عامر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قال ذلك؟ قلت : ناس من أصحابك ، قال : كذب من قال ذلك ، بل له أجره مرتين ، ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، أو يحبه الله ورسوله ؛ قال : فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد ، حتى أتيت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبصق في عينيه فبرىء وأعطاه الراية ، فخرج مرحب فقال :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فقال على رضى الله عنه :

أنا الذي سمتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أو فيهم بالصاع كيل السندره

قال : فضرب مرحبا فقتله ، ثم كان الفتح على يده ، أخرجه مسلم بهذا اللفظ ، وفي رواية أخرى : أنه خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يرتجز ، فخرج إليه الزبير بن العوام ، فقالت أمه صفية بنت عبد

٥١

هي من فارس والروم (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) علم أنها ستكون لكم (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢١) أي لم يزل متصفا بذلك (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالحديبية (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا

____________________________________

المطلب : أيقتل ابني يا رسول الله؟ قال : بل ابنك يقتله إن شاء الله ، ثم التقيا فقتله الزبير ، ثم لم يزل رسول الله يفتح الحصون ، ويقتل المقاتلة ، ويسبي الذرية ، ويحوز الأموال ، فجمع السبي فجاء دحية فقال : يا رسول الله أعطني جارية من السبي ، قال : اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير ، لا تصلح إلا لك ، قال : ادعوه فجاء بها ، فلما نظر إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : خذ جارية من السبي غيرها ، فأعتقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتزوجها ، فلما دخل بها ، رأى في عينها أثر خضرة ، فسألها عن سببها فقالت : إني رأيت في المنام وأنا عروس بكنانة بن الربيع ، أن قمرا وقع في حجري ، فقصصت رؤياي على زوجي فقال : ما هذا إلا أنك تمنيت ملك الحجاز محمدا ، ثم لطم وجهي لطمة اخضرت منها عيني ، فلما ظهر رسول الله على خيبر ، أراد اخراج اليهود منها ، فسألت اليهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرهم بها ، على أن يكفوهم العمل ، ولهم نصف الثمر ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نقركم بها على ذلك ما شئنا ، فقروا بها حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء وأريحاء. قال محمد بن إسحاق : لما سمع أهل فدك بما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيبر ، بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونه أن يحقن دماءهم وأن يسيرهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعلوا بهم ، ثم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعاملهم على النصف كأهل خيبر ففعل ، فكانت خيبر للمسلمين ، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب ، فلما اطمأن رسول الله ، أهدت له زينب بنت الحرث ، امرأة سلام بن مشكم اليهودية شاة مصلية ـ يعني مشوية ـ وسألت : أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، وسمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول الله ، تناول الذراع ، فأخذها فلاك منها قطعة فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، فأخذ منها كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما بشر فأساغها ، يعني ابتلعها ، وأما رسول الله فلفظها ثم قال : إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم ، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك ، فقالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت : إن كان ملكا استرحنا منه ، وإن كان نبيا فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومات بشر على مرضه الذي توفي فيه ، فقال : يا أم بشر ، ما زالت أكلة خيبر التي أكلت مع ابنك تعاودني ، فهذا أوان قطع أبهري ؛ فكان المسلمون يرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات شهيدا ، مع ما أكرمه الله به من النبوة. قوله : (مبتدأ) أي وخبره قوله : (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) قوله : (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) صفة لمغانم المقدر ، وسوغ الابتداء بالنكرة الوصف ، وهذا أسهل الأعاريب ، ولذا اختاره المفسر. قوله : (هي فارس والروم) أي وباقي الأقطار. قوله : (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي أعدها لكم في قضائه وقدره ، فهي محصورة لا تفوتكم. قوله : (أي لم يزل متصفا) أشار بذلك إلى أن المراد من (كانَ) الاستمرار.

قوله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وهم أهل مكة ومن وافقهم ، وقد كانوا اجتمعوا وجمعوا الجيوش ، وقدموا خالد بن الوليد إلى كراع الغميم ، ولم يكن أسلم حينئذ ، فما شعر بهم خالد ، حتى إذا هم بفترة الجيش ، أي بغبار أثرهم ، فانطلق يركض نذيرا لقريش. قوله : (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) أي مضوا

٥٢

يَجِدُونَ وَلِيًّا) يحرسهم (وَلا نَصِيراً) (٢٢) (سُنَّةَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين ، أي سن الله ذلك سنة (الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٢٣) منه (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) بالحديبية (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) فإن ثمانين منهم طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم فأخذوا وأتي بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، فكان ذلك سبب الصلح (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) (٢٤) بالياء والتاء ، أي لم يزل متصفا بذلك (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي عن الوصول إليه (وَالْهَدْيَ) معطوف على كم (مَعْكُوفاً) محبوسا حال (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) موجودون بمكة مع الكفار (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) بصفة الإيمان (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي تقتلوهم مع الكفار لو أذن لكم في الفتح بدل اشتمال من هم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي إثم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منكم به ، وضمائر الغيبة للصنفين بتغليب الذكور ، وجواب لو لا محذوف أي لأذن لكم في الفتح ، لكن لم يؤذن فيه حينئذ

____________________________________

منهزمين. قوله : (من هزيمة الكافرين) (من) بيانية. قوله : (الَّتِي قَدْ خَلَتْ) أي مضت ، وقوله : (مِنْ قَبْلُ) أي فيمن مضى من الأمم. قوله : (تَبْدِيلاً) (منه) أي من الله تعالى ، والمعنى : أن الله لا يبدل ولا يغير سنته وطريقته ، من نصر المؤمنين ، وخذلان الكافرين. قوله : (بالحديبية) بيان لبطن مكة ، والمراد بمكة الحرم ، والحديبية تقدم فيها الخلاف ، هل هي منه أو بعضها؟ فعلى الأول التعبير بالبطن ظاهر ، وعلى الثاني فالمراد بالبطن الملاصق والمجاور.

قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ) أي أظهركم فتعديته بعلى ظاهرة. قوله : (فكان ذلك) أي العفو عنهم وتخلية سبيلهم. قوله : (سبب الصلح) أي لعلمهم أن هذا الأمر لا يقع إلا من قادر على قتالهم ، غير مكترث بهم. قوله : (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (معطوف على كم) أي الضمير المنصوب في صدوركم ، وهو أحسن الأعاريب. قوله : (محبوسا) أي فالعكوف الاحتباس ، ومنه الاعتكاف المشهور ، وهو حبس النفس على ما تكره ، مع ملازمة المسجد. قوله : (أي مكانه) أي المعهود ، وهو منى للمحرم بالحج ، والمروة للمحرم بالعمرة ، وهو الأفضل ، وإلا فالحرم كله محل النحر. قوله : (بدل اشتمال) أي من الهدي ، والمعنى : صدوا بلوغ الهدي محله ، ويصح أن يكون على اسقاط الخافض ، أي عن أن يبلغ الهدي محله ، والجار والمجرور إما متعلق بصدوكم ، أو بمعكوفا. قوله : (موجودون) هو خبر المبتدأ. قوله : (بدل اشتمال من هم) أي والمعنى : لم تعلموا وطأهم ، ويصح أن يكون بدلا من رجال ونساء ، والمعنى : ولو لا وطء رجال ونساء قوله : (إثم) أي مكروه كالتأسف عليهم ، أو المراد بالإثم حقيقته بسبب ترك التحفط. قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) (منكم به) أي بالقتل. قوله : (وجواب لو لا محذوف) أي والمعنى : لو لا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين أظهر الكفار ، حال كونكم جاهلين بهم ، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ، لما كف أيديكم عنهم. قوله : (حينئذ) أي عام الحديبية.

٥٣

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) كالمؤمنين المذكورين (لَوْ تَزَيَّلُوا) تميزوا عن الكفار (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها (عَذاباً أَلِيماً) (٢٥) مؤلما (إِذْ جَعَلَ) متعلق بعذبنا (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعل (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) الأنفة من الشيء (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من الحمية وهي صدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فصالحوهم على أن يعدوا من قابل ، ولم يلحقهم من الحمية ما لحق

____________________________________

قوله : (لِيُدْخِلَ اللهُ) الخ ، علة لما قدره المفسر بقوله : (لكن لم يؤذن). قوله : (كالمؤمنين المذكورين) أي وكالمشركين ، لأنه آل أمر أهل مكة إلى الإسلام إلا ما قل. قوله : (تميزوا) أي تفرقوا وانفردوا ، ولكن لم يتميزوا ، بل اختلط المستضعفون بالمشركين ، والأصول المشركون بالفروع المسلمين ، كالذراري الّذين علم الله إسلامهم ، فلم يحصل العذاب. قوله : (الأنفة) بفتحتين أي الكبر. قوله : (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من الحمية قبلها ، وهي فعيلة مصدر يقال : حميت من كذا حمية ، وحمية الجاهلية عدم الإذعان للحق ونصرة الباطل.

قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) معطوف على شيء مقدر ، أي فضاقت صدور المسلمين ، واشتد الكرب عليهم ، (فَأَنْزَلَ) الخ ، روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية ، بعثت قريش سهل بن عمرو القرشي وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص بن الأحنف ، على أن يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك ، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه الصلاة والسّلام لعلي رضي الله عنه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالوا : ما نعرف هذا ، اكتب باسمك اللهم ، ثم قال اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة ، فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتب ما يريدون ، فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فتوقروا وحلموا. قوله : (على أن يعودوا من قابل) أي وعلى وضع الحرب عشر سنين ، قال البراء : صالحوهم على ثلاثة أشياء : على أن من أتاهم من المشركين مسلما ردوه إليهم ، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه ، وعلى أن يدخلها من قابل ، ويقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخلها بسلاح ، فكتب بذلك كتابا ، فلما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه : قوموا وانحروا ثم احلقوا ، فو الله ما قام منهم أحد ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد ، لما حصل لهم من الغم ، قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت له : يا نبي الله ، اخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج ففعل ، فلما رأوا ذلك منه قاموا فنحروا ، وجعل يحلق بعضهم بعضا وروى ثابت عن أنس ، أن قريشا صالحوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشترطوا أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاء منا ردوه علينا ، فقالوا : يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال : نعم ، إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم ، فسيجعل الله له فرجا ومخرجا. روي أنه بعد عقد الصلح ، جاء جندل بن سهل بن عمرو بقيوده قد انفلت ، وخرج من أسفل مكة ، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال له سهل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليّ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال : فو الله إذا لا أصالحك على

٥٤

الكفار حتى يقاتلوهم (وَأَلْزَمَهُمْ) أي المؤمنين (كَلِمَةَ التَّقْوى) لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأضيفت إلى التقوى لأنها سببها (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) بالكلمة من الكفار (وَأَهْلَها) عطف تفسيري (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦) أي لم يزل متصفا بذلك ، ومن معلومه تعالى أنهم أهلها (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ، ويحلقون ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، فلما خرجوا معه وصدهم الكفار بالحديبية ورجعوا ، وشق عليهم ذلك ، وراب بعض المنافقين نزلت ، وقوله بالحق متعلق بصدق أو حال من الرؤيا ، وما بعدها تفسيرها (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) للتبرك (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ) أي جميع شعورها (وَمُقَصِّرِينَ) بعض شعورها وهما حالان

____________________________________

شيء أبدا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأجره لي ، قال : ما أنا بمجيره لك ، قال : بلى فافعل ، قال : ما أنا بفاعل ، ثم جعل سهل يجره ليرده إلى قريش ، فقال أبو جندل : أي معشر المسلمين ، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا. وفي الحديث إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا أبا جندل احتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وعقدا ، وإنا لا نغدر ، فقام عمر وتكلم طويل منه ما تقدم لنا عند قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) ثم بعد رجوع رسول الله وأصحابه إلى المدينة ، جاءه أبو بصير عتبة بن أسد من قريش مسلما ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فسلمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتل أحدهما ، وفر عنه الآخر ، فأتى أبو بصير سيف البحر وجلس هناك ، فبلغ ذلك أبا جندل وأصحابه من المستضعفين ، فلحقوا به حتى تكاملوا نحوا من سبعين رجلا ، فما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا تعرضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تناشده الله والرحم ، بأنه لا يرسل إليهم من أتاه منهم مسلما ، وأبطلوا هذا الشرط ، فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهما فأحضرهم المدينة. قوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) أي اختار لهم ، فهو إلزام إكرام وتشريف ، والمراد تقوى الشرك. قوله : (لا إله إلا الله) هذه رواية أبي بن كعب ، وقيل إنها : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. وقيل إنها : بسم الله الرحمن الرحيم. قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) أي في علم الله ، لأنه اختارهم لدينه. قوله : (تفسيري) أي لاحق بها ، أو الضمير في (بِها) لكلمة التوحيد ، وفي أهلها للتقوى.

قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) أي رؤياه صادقة محققة ، لم يدخلها الشيطان ، لأنه معصوم منه هو وجميع الأنبياء ، وتأخيرها لا ينافي كونها حقا وصدقا ، نظير رؤيا يوسف الصديق ، أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر ساجدون له ، فتأخرت الزمن الطويل ، وبعد ذلك تحققت. قوله : (وراب بعض المنافقين) أي ارتاب ، حيث قال عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث : والله ما حلقنا ولا قصرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام. قوله : (أو حال من الرؤيا) أي فهو متعلق بمحذوف ، والتقدير ملتبسة بالحق ، ويصح أن يكون صفة لمصدر محذوف ، والتقدير صدقا ملتبسا بالحق ، ويصح أن يكون (بِالْحَقِ) قسما وجوابه قوله : (لَتَدْخُلُنَ) الخ ، وعليه فالوقف على قوله : (الحق) وقوله : (لَتَدْخُلُنَ) اللام موطئة لقسم محذوف. قوله : (للتبرك) أي مع تعليم العباد الأدب ، وتفويض الأمر إليه ، وهو جواب عما

٥٥

مقدرتان (لا تَخافُونَ) أبدا (فَعَلِمَ) في الصلح (ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الصلاح (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي الدخول (فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧) هو فتح خيبر ، وتحققت الرؤيا في العام القابل (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) أي دين الحق (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) على جميع باقي الأديان (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٢٨) أنك مرسل بما ذكر كما قال الله تعالى (مُحَمَّدٌ) مبتدأ (رَسُولُ اللهِ) خبره (وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي أصحابه من المؤمنين مبتدأ خبره (أَشِدَّاءُ) غلاظ (عَلَى الْكُفَّارِ) لا يرحمونهم (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) خبر ثان ، أي متعاطفون متوادون كالوالد مع الولد (تَراهُمْ) تبصرهم (رُكَّعاً سُجَّداً) حالان (يَبْتَغُونَ) مستأنف يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ) علامتهم مبتدأ (فِي وُجُوهِهِمْ) خبره ، وهو نور وبياض يعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) متعلق بما تعلق به الخبر أي كائنة ، وأعرب حالا من ضميره المنتقل إلى الخبر

____________________________________

يقال : إن الله تعالى خالق للأشياء كلها ، وهو عالم بها قبل وقوعها ، فكيف وقع منه التعليق بالمشيئة ، مع أن التعليق إنما يكون من المخبر المتردد ، أو الشاك في وقوع المعلق ، والله منزه عن ذلك؟ فأجاب : بأن المقصود التبرك لا التعليق ، ويجاب أيضا : بأن المشيئة باعتبار جميع الجيش ، فإن الذين حضروا عمرة القضاء كانوا سبعمائة ، وأما باعتبار المجموع ، فالقضاء مبرم لا تعليق فيه ، ويجاب أيضا : بأنه حكاية عن كلام الملك المبلغ للرسول كلام الله ، أو حكاية عن كلام الرسول عليه‌السلام.

قوله : (آمِنِينَ) حال مقارنة للدخول ، والجملة شرطية معترضة. قوله : (مقدرتان) دفع بذلك ما قد يقال : إن حال الدخول هو حال الإحرام ، وهو لا يتأتى معه حلق ولا تقصير. قوله : (لا تَخافُونَ) (أبدا) أشار بذلك إلى أنه غير مكرر مع قوله : (آمِنِينَ) والمعنى : آمنون في حال الدخول ، وحال المكث ، وحال الخروج ، وقد كان عند أهل مكة ، أنه يحرم قتال من أحرم ومن دخل المحرم ، فأفاد أنه يبقى أمنهم بعد خروجهم من الإحرام. قوله : (من الصلاح) أي وهو حفظ دماء المسلمين المستضعفين. قوله : (مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي قبله. قوله : (هو فتح خيبر) وقيل هو صلح الحديبية ، وقيل هو فتح مكة.

قوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) تأكيد لتصديق الله رؤياه ، والمعنى : حيث جعله رسولا ، فلا يريه خلاف الحق. قوله : (بِالْهُدى) أي القرآن أو المعجزات. قوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي ليعليه على جميع الأديان ، فينسخ ما كان حقا ، ويظهر فساد ما كان باطلا. قوله : (بما ذكر) أي (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ.) قوله : (كما قال) أشار بذلك إلى أن قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) مؤكد لقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ.) قوله : (لا يرحمونهم) أي لا يرأفون بهم ، وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم ، وقد بلغ من تشديدهم على الكفار ، أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمس أبدانهم. قوله : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي فكان الواحد منهم إذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه.

قوله : (تَراهُمْ رُكَّعاً) إما خبر آخر أو مستأنف ، والمعنى : أنهم في النهار على الأعداء أسود ، وفي الليل ركع سجود. قوله : (حالان) أي من مفعول (تَراهُمْ.) قوله : (مستأنف) أي واقع في جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : ماذا يريدون بركوعهم وسجودهم؟ فقيل (يَبْتَغُونَ) الخ. قوله : (سِيماهُمْ فِي

٥٦

(ذلِكَ) أي الوصف المذكور (مَثَلُهُمْ) صفتهم (فِي التَّوْراةِ) مبتدأ وخبره (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) مبتدأ خبره (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) بسكون الطاء وفتحها فراخه (فَآزَرَهُ) بالمد والقصر ، قوّاه وأعانه (فَاسْتَغْلَظَ) غلظ (فَاسْتَوى) قوي واستقام (عَلى سُوقِهِ) أصوله جمع ساق (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي زراعه لحسنه مثل الصحابة رضي الله عنهم بذلك ، لأنهم بدؤوا في قلة وضعف ، فكثروا وقووا على أحسن الوجوه (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) متعلق بمحذوف دل عليه ما قبله ، أي شبهوا بذلك (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) أي الصحابة ومن لبيان الجنس لا للتبعيض ، لأنهم كلهم بالصفة المذكورة (مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) الجنة ، وهما لمن بعدهم أيضا في آيات.

____________________________________

وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) اختلف في تلك السيما ، فقيل : إن مواضع سجودهم يوم القيامة ترى كالقمر ليلة البدر ، وقيل : هو صفرة الوجوه من سهر الليل ، وقيل : الخشوع الذي يظهر على الأعضاء ، حتى يتراءى أنهم مرضى وليسوا بمرضى ، وليس المراد به ما يصنعه بعض الجهلة المرائين من العلامة في الجبهة ، فإنه من فعل الخوارج ، وفي الحديث : «إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود». قوله : (من ضميره) أي من ضمير ما تعلق به الخبر وهو كائنة. قوله : (المنتقل إلى الخبر) أي وهو الجار والمجرور. قوله : (أي الوصف المذكور) أي وهو كونهم (أَشِدَّاءُ رُحَماءُ تَراهُمْ رُكَّعاً) الخ ، (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) الخ. قوله : (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال. قوله : (مبتدأ وخبره) أي أن قوله : (مَثَلُهُمْ) مبتدأ خبره قوله : (فِي التَّوْراةِ) والجملة خبر عن ذلك. قوله : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) الخ ، ويصح أن يكون مبتدأ خبره قوله : (كَزَرْعٍ) وحينئذ فيوقف على قوله : (فِي التَّوْراةِ) ويكونان مثلين ، وعليه مشى المفسر ، ويصح أنه معطوف على (مَثَلُهُمْ) الأول ، وحينئذ فيوقف على قوله : (الْإِنْجِيلِ) ويكونان مثلا واحدا في الكتابين ، وقوله : (كَزَرْعٍ) خبر لمحذوف أي مثلهم كزرع الخ ، وهو كلام مستأنف. قوله : (بسكون الطاء وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، والشطء أفراخ النخل ، والزرع أوراقه. قوله : (فراخه) بكسر الفاء جمع فرخ كفرع ، لفظا ومعنى. قوله : (بالمد) أي وأصله أأزره بوزن أكرمه ، قلبت الهمزة الثانية ألفا للقاعدة المعلومة ، وقوله : (والقصر) أي فهو من باب ضرب ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (غلظ) أي فهو من باب استحجر الطير. قوله : (عَلى سُوقِهِ) متعلق باستوى. قوله : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) الجملة حالية ، والمعنى حال كونه معجبا. قوله : (فكثروا) هو مأخوذ من قوله : (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) وقوله : (فَآزَرَهُ) مأخوذ من قوله : (فَاسْتَغْلَظَ) وقوله : (على أحسن الوجوه) مأخوذ من قوله : (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ). قوله : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لما دل عليه التشبيه كأنه قال : إنما قواهم وكثرهم ليغيظ الخ. قوله : (لبيان) أي لا للتبعيض كما زعمه بعضهم. قوله : (لمن بعدهم) أي كالتابعين وأتباعهم إلى يوم القيامة. قوله : (في آيات) متعلق بما تعلق به قوله : (لمن بعدهم) والمعنى : وهما ثابتان لمن بعد الصحابة في آيات كقوله تعالى (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ـ إلى قوله ـ (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

٥٧

____________________________________

ـ خاتمة ـ قد جمعت هذه الآية ، وهي قوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) إلى آخر السورة ، جميع حروف المعجم ، وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية ، باجتماع أمرهم ، وعلو نصرهم رضي الله عنهم ، وحشرنا معهم ، نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه. وهذا آخر القسم الأول من القرآن وهو المطول ، وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحاصلهما : الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهرا ، كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما نصره له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحال على من قصده بالضر باطنا ، ومن أجل ذلك اتخذ العارفون هذه الآية ، وردا وحصنا منيعا.

* * *

٥٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحجرات

مدنيّة

وآياتها ثماني عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) من قدم بمعنى تقدم أي لا تتقدموا بقول ولا فعل (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) المبلغ عنه أي بغير إذنهما (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحجرات مدنية

وهي ثمان عشرة آية

أي بالإجماع ، وهذه أوائل السور المسماة بالمفصل ، واختلف في تسميته بذلك ، فقيل : لكثرة الفصل فيه بين السور ، وقيل : لكون جميعه محكما لا نسخ فيه ، قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ذكر هذه اللفظة في هذه السورة خمس مرات ، اعتناء بشأن المؤمنين في الأوامر والنواهي ، نظير خطابات لقمان لابنه في قوله : (يا بَنِي) ولئلا يتوهم أن المخاطب ثانيا غير المخاطب أولا ، وذكر (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مرة خطابا لما يعم المؤمن والكافر ، لمناسبة ما يترتب عليه من قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) وهذه السورة جمعت آدابا ظاهرية وباطنية ، وأوامر ونواهي ظاهرية وباطنية ، عامة وخاصة ، فهي متضمنة طريقة الصوفية التي من تمسك بها وصل. قوله : (من قدم بمعنى تقدم) العامة على ضم التاء وفتح القاف وتشديد الدال مكسورة ، وفيها وجهان أحدهما : إنه متعد حذف مفعوله اقتصارا كقولهم : هو يعطي ويمنع ، وكلوا واشربوا ، والأصل لا تقدموا ما لا يصلح. والثاني : أنه لازم نحو وجه وتوجه ، ويعضده قراءة ابن عباس والضحاك (لا تُقَدِّمُوا) بالفتح في الثلاثة ، والأصل لا تتقدموا ، فحذفت إحدى التاءين ، وفي الآية استعارة تمثيلية ، حيث شبه تجري الصحابة على الحكم ، في أمر من أمور الدين ، بغير إذن من الله ورسوله ، بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريقه من غير إذن ، فإنه في العادة مستهجن ، ثم استعمل في جانب المشبه ما كان في جانب المشبه به من الألفاظ ، والغرض التنفير من التجري بغير إذن الله ورسوله ، ومثله قوله تعالى في حق الملائكة (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أصله لا يسبق قولهم قوله ، فمدحهم بنفي السبق ، تنبيها على استهجان السبق ، أو المراد بين يدي رسول الله ، وذكر لفظ الله تعظيما للرسول ، وإشعارا بأنه من الله بمكان يوجب إجلاله ، وعلى هذا فلا استعارة. قوله : (بقول أو فعل) مثال القول ما ذكره المفسر في سبب النزول أيضا ، من أنهم ذبحوا يوم النحر قبل رسول الله ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وقال : من ذبح قبل

٥٩

سَمِيعٌ) لقولكم (عَلِيمٌ) (١) بفعلكم ، نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن معبد. ونزل فيمن رفع صوته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) إذا نطقتم (فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إذا نطق (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) إذا ناجيتموه (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) بل دون ذلك إجلالا له (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢) أي خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين ، ونزل فيمن كان يخفض صوته

____________________________________

الصلاة ، فإنما هو لحم عجله لأهله ، ليس من النسك في شيء ، وما ورد عن عائشة أنه في النهي عن صوم يوم الشك ، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم ، وقال الضحاك : وهو عام في القتال وشرائع الدين ، أي لا تقطعوا أمرا دون الله ورسوله ، وهو الأولى.

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في التقدم الذي نهاكم عنه. قوله : (على النبي) الأولى أن يقول عند النبي ، ففي الحديث ، أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبوا أن يؤمر عليهم واحدا منهم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا أي تخاصما ، حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزلت تلك الآيات الخمس إلى قوله (غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومعنى قول عمر : ما أردت خلافك ، أي ما أردت مخالفتك تعنتا ، وإنما أردت أن تولية الأقرع أصلح بهم ، ولم يظهر لك ذلك. قوله : (ونزل فى من رفع صوته) الخ ، كأبي بكر وعمر في القصة المذكورة ، كما أن قوله : (ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي) أي كأبي بكر وعمر ، حين بلغهما النهي عن رفع الصوت ، فصارا يخفضان صوتهما عند النبي ، كما أن قوله : (ونزل في) الخ ، هم بنو تميم الذين تكلم في شأنهم أبو بكر وعمر ، فتلخص أنه لما اختلف أبو بكر وعمر في تأمير الأمير على الوفد المذكور ، ولم يصبرا حتى يكون رسول الله هو الذي يشير بذلك ، نزل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) الآية ، ولما رفعا أصواتهما في تلك القضية ، نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية ، ولما خفضا أصواتهما بعد ذلك نزل (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) الآية ، ولما نادى الركب المذكور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات نزل (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآيتين. قوله : (إذا نطقتم) أي تكلمتم ، وقوله : (إذا نطق) أي تكلم.

قوله : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) لما كانت هذه الجملة كالمكررة مع ما قبلها ، مع أن العطف يأباه ، أشار المفسر إلى أن المراد بالأول ، إذا نطق ونطقتم ، فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم حدا يبلغه صوته ، بل يكون كلامكم دون كلامه ، والمراد بالثاني أنكم إذا كلمتموه وهو صامت ، فلا ترفعوا أصواتكم ، كما ترفعونها فيما بينكم. قوله : (ناجيتموه) أي كلمتموه وهو صامت. قوله : (بل دون ذلك) راجع لكل من النهيين ، أي بل اجعلوا أصواتكم دون صوته ، ودون جهر بعضكم لبعض ، وقوله : (إجلالا له) تعليل لما تضمنه قوله : (بل دون ذلك).

قوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) أي يبطل ثوابها ، وقوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي بحبوطها. قوله : (أي خشية ذلك) أشار إلى (أَنْ تَحْبَطَ) على حذف مضاف ، أي خشية الحبوط ، والخشية منهم وقد تنازعه ، لا ترفعوا ولا تجهروا ، فيكون مفعولا لأجله ، والعامل فيه الثاني أو الأول. قوله : (بالرفع والجهر)

٦٠