حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

(مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي من قبل هود ومن بعده إلى أقوامهم «أن» أي بأن قال (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وجملة وقد خلت معترضة (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عبدتم غير الله (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٢١) (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) لتصرفنا عن عبادتها (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب على عبادتها (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٢) في أنه يأتينا (قالَ) هود (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) هو الذي يعلم متى يأتيكم العذاب (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٣) باستعجالكم العذاب (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي ما هو العذاب (عارِضاً) سحابا عرض في أفق السماء (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي ممطر إيانا ، قال تعالى (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب (رِيحٌ) يدل من ما (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٤) مؤلم (تُدَمِّرُ) تهلك (كُلَّ شَيْءٍ) مرت عليه (بِأَمْرِ رَبِّها) بإرادته أي كل شيء أراد إهلاكه بها ، فأهلكت رجالهم

____________________________________

قوله : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) الواو اعتراضية ، والخلو بالنسبة لزمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأتى بهذه الجملة لبيان أن إنذار هود لعاد وقع مثله للرسل المتقدمين عليه والمتأخرين عنه ، فلم يكن مختصا بهود ، ويحتمل أن معنى قوله : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) الخ ، أي مضى لك ذكرهم في القرآن مرارا ، فلا حاجة للإعادة ، فهو ذكر لباقي القصص إجمالا ، نظير قوله تقدم (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) فتدبر. قوله : (أي من قبل هود) الخ ، لف ونشر مرتب ، والذين قبله أربعة : آدم وشيث وإدريس ونوح ، والذين بعده : كصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر بني اسرائيل. قوله : (إلى أقوامهم) متعلق بمضت لتضمنه معنى مرسلين. قوله : (أي بأن) أشار بذلك إلى أن «أن» مصدرية ومخففة من الثقيلة ، والباء المقدرة للتصوير. قوله : (معترضة) أي بين الإنذار ومعموله.

قوله : (إِنِّي أَخافُ) علة لقوله : لا (تَعْبُدُوا.) قوله : (عَظِيمٍ) بالجر صفة ل (يَوْمٍ) ووصف اليوم بالعظم لشدة هوله. قوله : (قالُوا أَجِئْتَنا) أي جوابا لإنذاره. قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله : (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي علم وقت إتيان العذاب عند الله ، فلا علم لي بوقته ، ولا مدخل لي في استعجاله. قوله : ((وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم) أي أن وظيفتي تبليغكم لا الإتيان بالعذاب ، إذ ليس في طاقتي ، و (أُبَلِّغُكُمْ) بسكون الباء وتخفيف اللام ، وبفتحها وتشديد اللام مكسورة ، قراءتان سبعيتان. قوله : (وَلكِنِّي) بسكون الياء وفتحها قراءتان سبعيتان. قوله : (أي ما هو العذاب) أشار بذلك إلى أن الضمير في (رَأَوْهُ) عائد على ما في قوله : (بِما تَعِدُنا.) قوله : (سحابا عرض) أي فالعارض هو السحاب الذي يعرض في الأفق.

قوله : (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي متوجها إليها ، والإضافة لفظية للتخفيف ، وكذا هي في قوله : (مُمْطِرُنا) ولذا وقع المضاف في الموضعين صفة للنكرة ، وهي عارضا وعارض. قوله : (أي ممطر إيانا) أي يأتينا بالمطر. قوله : (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله : (بَلْ هُوَ) الخ من كلامه تعالى ، ويصح أن يكون من كلام هود ، ردا لقولهم (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) وهو الأولى. قوله : (بدل من ما) أي أو خبر لمحذوف أي هي ريح. قوله : (فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) الجملة صفة ل (رِيحٌ) وكذا قوله : (تُدَمِّرُ.) قوله :

٢١

ونساءهم وصغارهم وأموالهم ، بأن طارت بذلك بين السماء والأرض ومزقته ، وبقي هود ومن آمن معه (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ) كما جزيناهم (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) غيرهم (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما) في الذي (إِنْ) نافية أو زائدة (مَكَّنَّاكُمْ) يا أهل مكة (فِيهِ) من القوة والمال (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً) بمعنى أسماعا (وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) قلوبا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي شيئا من الإغناء ، ومن زائدة (إِذْ) معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل (كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) حججه البينة (وَحاقَ) نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢٦) أي العذاب (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) أي من أهلها ، كثمود وعاد وقوم لوط (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) كررنا الحجج البينات (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢٧) (فَلَوْ لا) هلا (نَصَرَهُمُ) بدفع العذاب عنهم (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (قُرْباناً) متقربا بهم إلى الله (آلِهَةً) معه وهم الأصنام ، ومفعول اتخذ الأول ضمير محذوف يعود على الموصول أي هم وقربانا الثاني وآلهة بدل منه (بَلْ ضَلُّوا) غابوا (عَنْهُمْ) عند نزول العذاب (وَذلِكَ) أي

____________________________________

(أي كل شيء أراد إهلاكه بها) تفسير لقوله : (بِأَمْرِ رَبِّها.) قوله : (فأهلكت رجالهم) قدر هذا ليعطف عليه قوله : (فَأَصْبَحُوا) الخ ، روي أن هودا لما أحس بالريح ، أخذ المؤمنين ووضعهم في حظيرة ، وقيل خط حولهم خطا ، فكانت الريح لا تعدو الخط ، وجاءت الريح فأمالت الأحقاف على الكفرة ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، يسمع لهم أنين ، ثم كشفت عنهم الرمل ، واحتملتهم فقذفتهم في البحر. قوله : (وبقي هود ومن آمن معه) أي وهم آلاف ، وكانت الريح تأتيهم لينة باردة طيبة ، والريح التي تصيب قومه ، شديدة عاصفة مهلكة ، وهي معجزة عظيم لهود عليه‌السلام. قوله : (فَأَصْبَحُوا) أي صاروا. قوله : (لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) بتاء الخطاب ونصب المساكن وبياء الغيبة ، مبنيا للمفعول ، ورفع مساكن على أنه نائب الفاعل ، قراءتان سبعيتان ، والمعنى : فصاروا لا يرى إلا أثر مساكنهم ، لأن الريح لم تبق منها إلا الآثار ، والمساكن معطلة .. قوله : (كما جزيناهم) أي عادا.

قوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) أي عادا. قوله : (في الذي) أشار به إلى أن ما موصوله. قوله : (نافية) أي بمعنى ما ، ولم يؤت بلفظها دفعا لثقل التكرار ، ويكون المعنى : ولقد مكنا عادا في الذي لم نمكنكم يا أهل مكة فيه. قوله : (أو زائدة) أي والمعنى : ولقد مكنا عادا في مثل الذي مكناكم فيه ، ويصح أن تكون شرطية ، وجوابها محذوف ، والتقدير : ولقد مكناهم في الذي إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم ، وأوضحها أولها. قوله : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً) الخ ، أفرد السمع لأن ما يدرك به متحد وهو الصوت ، بخلاف ما بعده من الأبصار والأفئدة ، فإنه يدرك بهما أشياء كثيرة. قوله : (أي شيئا) أشار بذلك إلى أن (مِنْ شَيْءٍ) مفعول مطلق منصوب بفتحة مقدرة ، منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد. قوله : (معمولة لأغنى) أي لنفيه ، فإن التعليل للنفي ، والمعنى : انتفى نفع هذه الحواس عنهم ، لأنهم كانوا يجحدون ، الخ.

قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ) الخطاب لأهل مكة. قوله : (مِنَ الْقُرى) أي أهلها. قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أن (لو لا) تحضيضية. قوله : (ومفعول اتخذوا) الخ ، أي والمعنى : فلا تدفع عنهم العذاب الأصنام الذين اتخذوهم قربانا آلهة ، والمقصود توبيخهم. قوله : (وآلهة بدل منه) هذا أحد

٢٢

اتخاذهم الأصنام آلهة قربانا (إِفْكُهُمْ) كذبهم (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٨) يكذبون ، وما مصدرية أو موصولة ، والعائد محذوف أي فيه (وَ) اذكر (إِذْ صَرَفْنا) أملنا (إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) جن نصيبين باليمن أو جن نينوى ، وكانوا سبعة أو تسعة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل يصلي بأصحابه الفجر

____________________________________

أعاريب ، ويصح أن يكون (آلِهَةً) الثاني و (قُرْباناً) حال أو مفعول من أجله. قوله : (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) إضراب انتقالي من نفي الدفع عنهم ، إلى غيبتها عنهم بالكلية ، والمعنى : لم يحضروا عندهم فضلا عن كونهم يدفعون عنهم العذاب. قوله : (إِفْكُهُمْ) قرأ العامة بكسر الهمزة وسكون الفاء ، مصدر أفك يأفك إفكا ، وقرىء شذوذا بفتح الهمزة ، وهو مصدر له أيضا ، وبفتحات فعلا ماضيا. قوله : (وما مصدرية) أي وافتراؤهم وهو الأحسن لتناسب المعطوفين. قوله : (أي فيه) أي فحذف الجار فاتصل الضمير ثم حذف ، لو قال : أي يفترونه لكان أوضح.

قوله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي اذكر يا محمد لقومك قصة صرفنا إليك نفرا من الجن ، ليعتبروا بأن رسالتك عامة ، للإنس والجن والملائكة وجميع الخلق ، لكن إرساله للإنس والجن إرسال تكليف إجماعا ، وإرساله للملائكة قيل إرسال تكليف بما يليق بهم ، وقيل إرسال تشريف ، وارساله لما عداهم من الحيوانات الغير العاقلة والجمادات ارسال تشريف ورحمة. قوله : (نَفَراً) النفر بفتحتين ، والنفر والنفير من ثلاثة رجال إلى عشرة. قوله : (نصيبين) أي وهي قرية باليمن. قوله : (أو جن نينوى) بنون مكسورة فياء ساكنة ، فنون مضمومة أو مفتوحة ، فواو فألف مقصورة ، هي قرية يونس عليه‌السلام قرب الموصل. قوله : (وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببطن نخل) الصواب أن يقول : وكان ببطن نخلة لأنه هو الذي في طريق الطائف ، وأما بطن نخل ، فهو المكان الذي صلى فيه صلاة الخوف ، وهو على مرحلتين من المدينة. قوله : (يصلي بأصحابه الفجر) فيه شيء ، إذ لم يثبت أنه كان معه من الصحابة إلا زيد بن حارثة ، وهذه الواقعة كانت قبل فرض الصلوات ، فالصواب أن يقول : كان يصلي في جوف الليل ، وعبارة المواهب : ثم خرج عليه‌السلام إلى الطائف ، بعد موت خديجة بثلاثة أشهر ، في ليال بقين من شوال سنة عشر من النبوة ، لما ناله من قريش بعد موت أبي طالب ، وكان معه زيد بن حارثة ، فأقام به شهرا يدعو أشراف ثقيف إلى الله تعالى ، فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ، ولما انصرف عليه‌السلام عن أهل الطائف راجعا إلى مكة ، نزل نخلة وهو موضع على ليلة من مكة ، صرف إليه سبعة من جن نصيبين ، وكان عليه‌السلام قد قام في جوف الليل يصلي الخ. واعلم أن العلماء ذكروا في سبب هذه الواقعة قولين : أحدهما : أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما رجموا ومنعوا من السماء حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : ما هذا إلا شيء حدث في الأرض ، فذهبوا فيها يطلبون السبب ، وكان قد اتفق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحادية عشرة من النبوة ، لما أيس من أهل مكة ، خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام ، فلم يجيبوه ، فانصرف راجعا إلى مكة ، فقام ببطن نخل يقرأ القرآن ، فمر به نفر من جن نصيبين ، كان إبليس قد بعثهم يطلبون السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم بالشهب ، فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك هو السبب ، وعليه فلم يكن اجتماعه بالجن مقصودا للإرسال. ثانيهما : أن الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينذر الجن ، ويدعوهم إلى الله ، ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفرا منهم يستمعون القرآن وينذرون قومهم ، وذلك لأن الجن مكلفون ، لهم الثواب ، وعليهم العقاب ، ويدخلون الجنة ، ويأكلون فيها ويشربون كالانس ، فانتهض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٣

رواه الشيخان (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) أصغوا لاستماعه (فَلَمَّا قُضِيَ) فرغ من قراءته (وَلَّوْا) رجعوا (إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٢٩) مخوّفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا ، وكانوا يهودا وقد أسلموا (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) هو القرآن (أُنْزِلَ

____________________________________

ذات ليلة وقال : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة القرآن ، فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا ، فتبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله بن مسعود : ولم يحضر معه أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، دخل النبي شعبا يقال له شعب الحجون ، وخط لي خطا ، وأمرني أن أجلس فيه وقال لي : لا تخرج حتى أعود إليك ، فانطلق حتى وصل إليهم ، فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي ، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى لم أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ النبي منهم مع الفجر ، فانطلق إليّ فقال لي : قد نمت؟ فقلت : لا والله ، ولكني هممت أن آتي اليك لخوفي عليك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، فأولئك جن نصيبين ، فقلت : يا رسول الله سمعت لغطا شديدا ، فقال : إن الجن اختصموا في قتيل قتل بينهم ، فتحاكموا إليّ ، فقضيت بينهم بالحق ، وكان عدة هؤلاء اثني عشر ألفا ، وروي عن أنس قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بظاهر المدينة ، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنها لنغمة جني ، فقال الشيخ : أجل يا رسول الله ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أي الجن أنت؟ قال : إني هام بن هيم بن لا قيس بن إبليس ، فقال له النبي : كم أتى عليك من العمر؟ فقال : أكلت عمر الدنيا إلا القليل ، كنت حين قتل هابيل غلاما ابن أعوام ، فكنت أشرف على الآكام ، وأصطاد الهام ، وأجعله بين الأنام ، فقال النبي : بئس العمل ، فقال : يا رسول الله ، دعني من العتب ، فإني ممن آمن مع نوح عليه‌السلام ، وعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني وقال : والله إني لمن النادمين ، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، وأتيت هودا فعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني وقال : والله إني لمن النادمين ، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، ولقيت إبراهيم وآمنت به ، وكنت بينه وبين الأرض إذ رمي به في المنجنيق ، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها ، وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب ، فسبقته إلى قعره ، ولقيت موسى بن عمران ، وكنت مع عيسى ابن مريم عليهما‌السلام ، فقال لي : إن لقيت محمدا فاقرأ عليه‌السلام ، قال أنس : فقال النبي : وعليه‌السلام ، وعليك السّلام يا هام ، ما حاجتك؟ فقال : إن موسى علمني التوراة ، وإن عيسى علمني الأنجيل ، فعلمني القرآن قال أنس : فعلمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سورة الواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت ، وقل يا أيها الكافرون ، وسورة الأخلاص ، والمعوذتين. ولا منافاة بين هذه القصص ، فلعل الواقعة تعددت ، فإحداها كان بها زيد بن حارثة ، والأخرى كان فيها عبد الله بن مسعود ، والأخرى كان فيها أنس بن مالك ، كما أن قراءة القرآن عليهم تعددت.

قوله : (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) جمعه مراعاة لمعنى النفر ، ولو راعى لفظه لقال يستمع. قوله : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي القرآن والرسول. قوله : (اصغوا) بكسر الهمزة وفتح الغين ؛ من باب رمى ، أو بفتح الهمزة وضم الغين من الرباعي. قوله : (فَلَمَّا قُضِيَ) بالبناء للمفعول في قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بالبناء للفاعل ، فالأولى تؤيد عود الضمير على القرآن ، والثانية تؤيد عوده على الرسول.

قوله : (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي بأمر الرسول عليه‌السلام ، لأنه جعلهم رسلا إلى قومهم.

٢٤

مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي تقدمه كالتوراة (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) الإسلام (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠) أي طريقه (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان (وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ) الله (لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي بعضها ، لأن منها المظالم ، ولا تغفر إلا برضا أصحابها (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣١) مؤلم (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي لا يعجز الله بالهرب منه فيفوته (وَلَيْسَ لَهُ) لمن لا يجب (مِنْ دُونِهِ) أي الله (أَوْلِياءُ) أنصار يدفعون عنه العذاب (أُولئِكَ) الذين لم يجيبوا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٢) بيّن ظاهر (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعلموا ، أي منكر والبعث (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) لم يعجز عنه (بِقادِرٍ) خبر أن ، وزيدت الباء فيه لأن الكلام في قوة أليس الله بقادر (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى) هو قادر على إحياء الموتى (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣) (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) بأن يعذبوا بها يقال لهم (أَلَيْسَ هذا) التعذيب (بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٤)

____________________________________

قوله : (وكانوا يهودا) أي وقد أسلموا في هذه الواقعة ، وأسلم من قومهم حين رجعوا إليهم وأنذروهم وهم سبعون ، وقال العلماء : إن الجن فيهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام ، وفي مسلميهم مبتدعة ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع. وروي أنهم أصناف ثلاثة : صنف لهم أجنحة يطيرون بها ، وصنف على صورة الحيات والكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون ، واختلف في مؤمني الجن ، فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ؛ وعليه أبو حنيفة والليث ؛ وبعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا ترابا. وقال الأئمة الثلاثة : هم يدخلون الجنة ، ويأكلون ويشربون ويتنعمون. وقيل : إنهم يكونون حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها. قوله : (كالتوراة) أي والإنجيل والزبور وغيرهما. قوله : (أي طريقه) أي الإسلام وهو الانقياد وطريقه الأعمال الصالحة ، كالصلاة والصوم. قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الأمر. قوله : (وَيُجِرْكُمْ) أي يخلصكم وينجيكم.

قوله : (وَمَنْ لا يُجِبْ) الخ ، (مَنْ) شرطية وجوابها قوله : (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) الخ. قوله : (أَوْلِياءُ أُولئِكَ) هنا همزتان مضمومتان من كلمة ، وليس في القرآن محل لاجتماعهما غير هذا. قوله : (أُولئِكَ) الخ ، هذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن. قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) الخ ، رجوع لتوجيه الكلام إلى أهل مكة وغيرهم بعد تقرير قصة الجن ، والهمزة داخلة على محذوف ، والواو عاطفة عليه تقديره : أتركوا التفكر ولم يروا. قوله : (لم يعجز عنه) أي لم يضعف ولم يتعب. قوله : (وزيدت الباء فيه) الخ ، جواب عما يقال : إن الباء لا تزاد إلا في خبر ليس وما ، كما قال ابن مالك : وبعد ما وليس جر الباء الخبر : وإن للإثبات. قوله : (لأن الكلام) الخ ، حاصل الجواب أنها واقعة في خبر ليس تأويلا. قوله : (بَلى) هي جواب النفي ويصير بها إثباتا ؛ بخلاف نعم فإنها تقرر ما قبلها نفيا أو إثباتا.

قوله : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الخ ، هذا إشارة لبعض ما يحصل في يوم البعث من الأهوال ، إثر بيان إثباته وتقرره. قوله : (يقال لهم) قدره إشارة إلى أن (يَوْمَ) ظرف لمحذوف ، وإلى أن قوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) مقول لقول محذوف. قوله : (وَرَبِّنا) الواو للقسم ، وإنما أكدوا كلامهم بالقسم طمعا في الخلاص ، حيث اعترفوا بالحق. قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم. قوله :

٢٥

(فَاصْبِرْ) على أذى قومك (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) ذوو الثبات والصبر على الشدائد (مِنَ الرُّسُلِ) قبلك فتكون ذا عزم ، ومن للبيان ، فكلهم ذوو عزم ، وقيل للتبعيض فليس منهم آدم لقوله تعالى : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ولا يونس لقوله تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) لقومك نزول العذاب بهم : قيل : كأنه ضجر منهم فأحب نزول العذاب بهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال للعذاب فإنه نازل بهم لا محالة (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الآخرة لطوله (لَمْ يَلْبَثُوا) في الدنيا في ظنهم (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) هذا القرآن

____________________________________

(فَاصْبِرْ) الخ ، هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصبر : تلقي الشدائد بالرضا والتسليم. قوله : (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) الكاف بمعنى مثل ، صفة لمصدر محذوف ، وما مصدرية ، والتقدير : صبر أولي العزم. قوله : (فكلهم ذو عرم) أي حزم وكمال وثبات وصبر على الشدائد ، قوله : (وقيل) هي للتبعيض في كلامه ؛ اشارة لقولين في تفسير أولي العزم ، من جملة أقوال شتى ، وقيل : هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام ثمانية عشر : إبراهيم واسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكرياء ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط. وقيل : هم اثنا عشر نبيا ، أرسلوا إلى بني اسرائيل بالشام فعصوهم ، فأوحى الله إلى الأنبياء : إني مرسل عذابي إلى عصاة بني اسرائيل ، فشق ذلك على المرسلين ، فأوحى الله إليهم : اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني اسرائيل ، وإن شئتم أنجيتم وأنزلت العذاب ببني اسرائيل ، فتشاوروا بينهم فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ، وينجي الله بني اسرائيل ، فأنجى الله بني اسرائيل ، وأنزل العذاب بأولئك الرسل ، وذلك أنه سلط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من صلب على الخشب حتى مات ، ومنهم من أحرق بالنار. وقيل : أولو العزم أربعة : إبراهيم صبر على فقد نفسه وذبح ولده. وموسى صبر على أذى قومه ، ووثق بربه حين قال له قومه : إنا لمدركون ، فقال : كلا إن معي ربي سيهدين. وداود صبر على البكاء من أجل خطيئته ، حتى نبت من دموعه الشجر ؛ فقعد تحت ظله. وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبرة فاعبروها ولا تعمروها. فكأن الله تعالى يقول لنبيه : كن صادقا واثقا بربك ، مهتما بما سلف منك ، زاهدا في الدنيا ، وقيل : أولو العزم خمسة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المعتمد ، لأنهم أصحاب الشرائع. قوله : (ولم نجد له عزما) أي تاما ، لأن ارادتنا أكله من الشجرة ؛ غلبت ارادته عدم الأكل منها ؛ وإلا فكل نبي صاحب عزم ؛ غير أنهم يتفاوتون فيه على حساب مراتبهم ، قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

قوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لأجلهم ، والمفعول محذوف قدره المفسر بقوله : (نزول العذاب). قوله : (قيل كأنه ضجر) الخ ، المناسب حذف كان كما في عبارة غيره. قوله : (فإنه نازل بهم) أي ولو في الآخرة. قوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ) ظرف لقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا) الخ. قوله : (لطوله) تعليل لقوله : (لَمْ يَلْبَثُوا) مقدم عليه. قوله : (إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي لأن ما مضى عليهم من الزمان ، كأنهم لم يروه

٢٦

(بَلاغٌ) تبليغ من الله إليكم (فَهَلْ) أي لا (يُهْلَكُ) عند رؤية العذاب (إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) أي الكافرون.

____________________________________

لانقضائه. قوله : (هذا القرآن) : (بَلاغٌ) أشار بذلك إلى أن قوله : (بَلاغٌ) خبر لمحذوف. قوله : (تبليغ من الله إليكم) أي بلغكم إياه فآمنوا به ، أو المعنى موصل من عمل به وآمن إلى الدرجات العلى ، لما ورد : يقال له : اقرأ وارق ويؤنسه في قبره ، وموصل من لم يعمل به إلى الدركات السفلى.

قوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي لا يكون الهلاك والدمار إلا للكافرين ، وأما من مات على الإيمان ولو عاصيا فهو فائز ، ولا يقال له هالك ، وهذه الآية أرجى آية في القرآن ، إذ فيها تطميع في سعة فضل الله ورحمته.

ـ فائدة ـ نقل القرطبي عن ابن عباس ، أن المرأة إذا تعسر وضعها ، تكتب هاتان الآيتان والكلمتان في صحفة ، ثم تغسل وتسقى منها ، فإنها تلد سريعا ، وهي : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله العظيم الحليم الكريم ، سبحان الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) ا ه.

* * *

٢٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة محمّد

مدنيّة

وآياتها ثمان وثلاثون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الإيمان (أَضَلَ) أحبط (أَعْمالَهُمْ) (١) كإطعام الطعام وصلة الأرحام ، فلا يرون لها في الآخرة ثوابا ، ويجزون بها في الدنيا من فضله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي الأنصار وغيرهم

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القتال مدنية

إلا (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية. أو مكية. وهي ثمان أو تسع وثلاثون آية

وتسمى سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذكر هذا الاسم فيها ، وسورة الذين كفروا لبدئها بهذا اللفظ. قوله : (مدنية) الخ ، هذا القول منقول عن ابن عباس ، وقوله : (إلا وكأين) الخ ؛ أي فإنها نزلت بعد حجة الوداع ، حين حرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت ، وهو يبكي حزنا على فراقه ، وهذا مبني على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، وهو ضعيف ، والصحيح أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها ولو بأرض مكة ، ورد أيضا بأنه في حجة الوداع خرج منها مختارا ، ولم يكن عنده حزن ، لكونها صارت دار إسلام ، وحينئذ في يظهر الوعيد الذي في الآية ، وقيل : إنها نزلت لما خرج من مكة إلى الغار مهاجرا ، وعليه فكونها مكية ظاهر وهو الصحيح ، وسيأتي ايضاحه في تفسيرها. قوله : (أو مكية) هذا القول بالنظر لغالبها ، وهو ضعيف. قوله : (وثمان أو تسع) الخ ، وقيل أربعون آية ، والخلاف في قوله (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وقوله : (لذة للشاربين) هل كل آية مستقلة؟ أو من تتمة ما قبلها.

قوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، وقوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) خبره ، ومناسبة هذه الآية لآخر الأحقاف ظاهرة ، وذلك كأن قائلا قال : كيف يهلك القوم الفاسقون ، ولهم أعمال صالحة ، كإطعام الطعام ونحوه ، والله لا يضيع أجر المحسنين؟ فأجاب : بأن الفاسقين هم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، أضل أعمالهم وأبطلها. قوله : (فلا يرون لها في الآخرة ثوابا) أي لقوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.) قوله : (يجزون بها في الدنيا) أي بأن يوسع لهم في المال ، ويزاد لهم في الولد والعافية ، وغير ذلك ، حيث لم يقصدوا بها فخرا ولا رياء.

٢٨

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) أي القرآن (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ) غفر لهم (سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢) أي حالهم فلا يعصونه (ذلِكَ) أي إضلال الأعمال وتكفير السيئات (بِأَنَ) بسبب أن (الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) الشيطان (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَ) القرآن (مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان (يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) (٣) يبين أحوالهم ، أي فالكافر يحبط عمله ، والمؤمن يغفر زلله (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) مصدر بدل من اللفظ بفعله ، أي فاضربوا رقابهم أي اقتلوهم ، وعبر بضرب الرقاب لأن الغالب

____________________________________

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بقلوبهم ونطقوا بألسنتهم. وقوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) العطف يقتضي المغايرة ، فاستفيد منه أن العمل الصالح ، ليس داخلا في حقيقة الإيمان ، بل هو شرط كمال ، كما هو مختار الأشاعرة. قوله : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ) الخ ، عطف خاص على عام ، والنكتة تعظيمه والاعتناء بشأنه ، إشارة إلى أن الإيمان لا يتم بدونه ، ولذا أكده بقوله : (وَهُوَ الْحَقُ) أي الثابت الذي ينسخ غيره ، وهو لا ينسخ. قوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) جملة معترضة سيقت لبيان المنزل. قوله : (غفر لهم) (سَيِّئاتِهِمْ) أي محاها من صحف الملائكة. قوله : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) البال يطلق على الحال والشأن والأمر ، وكلها بمعنى واحد ، والمعنى : أصلح أحوالهم الدنيوية ، بتوفيقهم للأعمال الصالحة والأخروية ، بنجاتهم من النار ؛ وإدخالهم الجنة. قوله : (فلا يعصونه) أي لا يصرون على معصيته ، أعم من أن لا تقع منهم أصلا أو تقع ، ولكن لا يصرون عليها.

قوله : (ذلِكَ) مبتدأ ، وقوله : (بِأَنَّ الَّذِينَ) الخ ، خبر. قوله : (الشيطان) وقيل (الْباطِلَ) الكفر. قوله : (الْحَقَ) (القرآن) وقيل : (الْحَقَ) الإيمان. قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) المثل في الأصل القول السائر المشبه مضربه بمورد ، كقولهم : الصيف ضيعت اللبن ، والكلام على البقر ، وليس مرادا هنا ، بل المراد الأمور العجيبة ، تشبيها لها بالمثل في الغرابة المؤدية إلى التعجب ، واسم الإشارة عائد على ما بين في أحوال المؤمنين والكافرين.

قوله : (فَإِذا لَقِيتُمُ) الخ ، الفاء للفصيحة ، لكونها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره : إذ علمتم أحوال المؤمنين ، وأنهم أحباب الله ، وأحوال الكافرين ، وأنهم أعداء الله ، فالواجب على أحباب الله ، أن يقاتلوا أعداء الله. قوله : (بدل من اللفظ بفعله) أي فهو نائب عن الفعل في المعنى ، والعمل على الصحيح ، وقيل في المعنى دون العمل والأصل : فاضربوا الرقاب ضربا ، حذف الفعل ، وأتى بالمصدر محله ، وأضيف إلى مفعول الفعل وهو الرقاب ، وهو عامل في الظرف أيضا. قوله : (أي اقتلوهم) أي فأراد بضرب الرقاب ، مطلق القتل على أي حالة كانت ، لا خصوص ضرب الرقاب.

قوله : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ حَتَّى) ابتدائية ، والمعنى : فإذا عجزتموهم بأي وجه من الوجوه ، إما بكثرة القتل وهو الغالب ، أو بقطع الماء عنهم ، أو بأخذ أسلحتهم ، أو غير ذلك فأسروهم. قوله : (أي فأمسكوا) أشار بذلك إلى أن في الكلام تقدير جملتين : الإمساك عن القتل والأسر. قوله : (بدل من اللفظ بفعله) أي وجيء به لتفصيل جملة ، فوجب إضمار عامله ، والتقدير : فإما أن تمنوا منا ، وإما أن تفدوا

٢٩

في القتل أن يكون بضرب الرقبة (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل (فَشُدُّوا) أي فأمسكوا عنهم وأسروهم وشدّوا (الْوَثاقَ) ما يوثق به الأسرى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) مصدر بدل من اللفظ بفعله ، أي تمنون عليهم بإطلاقهم من غير شيء (وَإِمَّا فِداءً) أي تفادونهم بمال أو أسرى مسلمين (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ) أي أهلها (أَوْزارَها) أثقالها من السلاح وغيره ، بأن يسلم الكفار أو يدخلوا في العهد وهذه غاية للقتل والأسر (ذلِكَ) خبر مبتدأ مقدر ، أي الأمر فيهم ما ذكر (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) بغير قتال (وَلكِنْ) أمركم به (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) منهم في القتال ، فيصير من قتل منكم إلى الجنة ومنهم إلى النار (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) وفي قراءة قاتلوا ، الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشا في المسلمين القتل والجراحات (فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَ) يحبط

____________________________________

فداء. قوله : (بَعْدُ) أي بعد أسرهم وشد وثاقهم ، والمعنى : أن المسلمين بعد القدرة على الكفار ، يخيرون فيهم بين أمور أربعة : القتل والمن والفداء والاسترقاق ، وهذا في الرجال المقاتلين ، وأما النساء والصبيان ، فليس فيهم إلا المن والفداء والاسترقاق ، وهذا التفصيل للإمام الشافعي ، وعند مالك يزاد في حق الرجال الجزية ، وعند أبي حنيفة ليس إلا القتل أو الاسترقاق ، وأما المن والفداء فمنسوخان بعد بدر. قوله : (أو أسارى) بالضم والفتح ، أو بفتح فسكون فراء مفتوحة. قوله : (أي أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (بأن يسلم الكفار) أي فالمراد بوضع آلة القتال ، ترك القتال لانفضاض شوكة الكفر ، ففي الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه ترك القتال بوضع آلته ، واشتق من الوضع تضع بمعنى تترك. قوله : (وهذه غاية للقتل) أي المذكور في قوله : (فضرب الرقاب) وقوله : (والأسر) أي المذكور في قوله : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ.) قوله : (ما ذكر) أي من القتل والأسر وما بعدهما. قوله : (بغير قتال) أي كالخسف. قوله : (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ليظهر لعباده حال الصادق في الإيمان من غيره ، قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).

قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) مبتدأ ، وقوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) خبره. قوله : (وفي قراءة قاتلوا) أي وهي سبعية أيضا مفسرة للقراءة الأولى ، وحينئذ فليس المراد قتلوا بالفعل ، بل المراد قاتلوا قتلوا أو لا. قوله : (وقد فشا) الخ ، الجملة حالية ، وقوله : (القتل) ورد أنهم سبعون ، وقوله : (والجراحات) أي الكثير ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهذا الوعد الحسن ، لكل من قاتل في سبيل الله ، لنصر دينه إلى يوم القيامة ، قتل أو جرح أو سلم. قوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي سواء نشأت منهم أو تسببوا فيها. قوله : (إلى ما ينفعهم) أي فالذي ينفعهم في الدنيا ، العمل الصالح والإخلاص فيه ، والذي ينفعهم في الآخرة ، الجنة وما فيها ، وحينئذ فلا يقع منهم ما يخالف أمر الله ، لحفظ الله إياهم من المخالفات ، ومنه حديث : «اطلع الله على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم» وليس فيه توهم إباحة المعاصي لأهل بدر ، بل المعنى : كما أفنيتم نفوسكم في محبتي ، وخرجتم عن شهواتكم في رضاي ، جازيتكم بالحفظ مما يوجب سخطى ، فاشتريت نفوسكم ، فصارت لي راضية مرضية ، قال تعالى : (اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) الآيات ، ولهذا أشار العارف ابن وفا بقوله :

وبعد الفنا في الله كن كيفما تشا

فعلمك لا جهل وفعلك لا وزر

٣٠

(أَعْمالَهُمْ) (٤) (سَيَهْدِيهِمْ) في الدنيا والآخرة إلى ما ينفعهم (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٥) حالهم فيهما وما في الدنيا لمن لم يقتل ، وأدرجوا في قتلوا تغليبا (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها) بينها (لَهُمْ) (٦) فيهتدون إلى مساكنهم منها وأزواجهم وخدمهم من غير استدلال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي دينه ورسوله (يَنْصُرْكُمْ) على عدوّكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٧) يثبتكم في المعترك (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة مبتدأ خبره تعسوا يدل عليه (فَتَعْساً لَهُمْ) أي هلاكا وخيبة من الله (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٨) عطف على تعسوا (ذلِكَ) أي التعس والإضلال (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن المشتمل على التكاليف (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٩) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ

____________________________________

قوله : (وما في الدنيا) أي من الهداية وإصلاح الحال ، وقوله : (إن لم يقتل) جواب عما يقال : كيف قال سيهديهم ويصلح بالهم ، يعني في الدنيا ، مع أن الفرض أنهم قتلوا بالفعل؟ وأجيب : بأن ذلك يحصل في الدنيا إن لم يقتل ، وعبر بالذين قتلوا تغليبا لهم ، أو لأنهم قتلوا حكما بالنية. وأجيب أيضا : بأن المراد بالذين قتلوا ، الذين وقع منهم القتال ، أعم من أن يقتلوا بالفعل أو لا ، بدليل القراءة الأخرى. قوله : (فيهتدون إلى مساكنهم) الخ أي إذا دخلوها يتفرقون إلى منازلهم ، فهم أعرف بها من أهل الجمعة ، إذا انصرفوا إلى منازلهم ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسّلام : «يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، حتى إذا هذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ، فو الذي نفس محمد بيده ، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة ، من منزله الذي كان في الدنيا» وما ورد : إن العبد المؤمن ، لا يخرج من الدنيا ، حتى يشاهد مسكنه في الجنة ، وما أعده الله له من النعيم ، ويفتح له طاقة في قبره ، يشاهد ذلك ما دام في البرزخ ، وأن ارواح الشهداء في حواصل طيور خضر في الجنة ، وأرواح الأنبياء في قناديل من ذهب معلقة في العرش ، تسرح وتأوي إليها. وقيل : معنى عرفها لهم ، طيبها من العرف ، وهو طيب الرائحة. قوله : (يثبتكم) أشار بذلك إلى أن المراد بالأقدام الذوات بتمامها ، وعبر عنها بالأقدام ، لأن الثبات والتزلزل يظهران فيها. قوله : (خبره تعسوا) الخ ، أشار بذلك إلى أن الفاء في قوله : (فَتَعْساً) داخلة على محذوف هو الخبر ، و (فَتَعْساً) مفعول مطلق لذلك المحذوف ، وحينئذ فالمناسب للمفسر أن يقدر الخبر بعد الفاء. قوله : (أي هلاكا وخيبة لهم) هذان قولان من عشرة أقوال في معنى التعس ، وقيل خزيا لهم ، وقيل شقاء لهم ، وقيل شتما لهم من الله ، وقيل قبحا لهم ، وقيل رغما لهم ، وقيل شرا لهم ، وقيل شقوة لهم ، وقيل التعس الانحطاط والعثار ، وكلها معان متقاربة ، وهو في الأصل أن يخر لوجهه ، والنكس أن لا يستقل بعد سقطته ، حتى يسقط هو ثانية ، وهو أشد من الأولى ، وضده الانتعاش ، وهو قيام من سقط.

قوله : (ذلِكَ) مبتدأ خبره الجار والمجرور بعده ، ويصح أن يكون اسم الإشارة خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك. قوله : (المشتمل على التكاليف) أي فهذا وجه كراهتهم له ، وذلك لأن في التكاليف ترك الملاذ والشهوات ، والنفوس الخبيثة تكره ذلك ، وتحب إرخاء العنان لها في الشهوات ، فمن تبع نفسه من كل وجه كفر ، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه ، حتى تصير معتادة ما يرضاه الله تعالى ، ففي الحديث : «لا يكمل إيمان أحدكم ، حتى يكون هواه تابعا لما جئت به» فالأصل في النفوس الخسة ، لا تجر لصاحبها خيرا ، ولا تسعى إلا فيما يغضب الله ، فإذا شمر الإنسان عن ساعد الجد والاجتهاد ، وخالف هوى نفسه ،

٣١

عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أهلك أنفسهم وأولادهم وأموالهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (١٠) أي أمثال عاقبة من قبلهم (ذلِكَ) أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى) وليّ ناصر (الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١) (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) في الدنيا (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم ولا يلتفتون إلى الآخرة (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١٢) أي منزل ومقام ومصير (وَكَأَيِّنْ) وكم (مِنْ قَرْيَةٍ) أريد بها أهلها (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) مكة أي أهلها (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) روعي لفظ قرية (أَهْلَكْناهُمْ) روعي معنى قرية الأولى (فَلا

____________________________________

سكن وهجها واضمحلت شهوتها ، فإذا دام ذلك ، حسن حالها ، وصارت جميلة الأخلاق مطمئنة بخالقها ، نسأل الله أن يملكنا نفوسنا ، ولا يسلطها علينا.

قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير : أجبنوا وتركوا السير فلم يسيروا. قوله : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) المفعول محذوف قدره المفسر بقوله : (أنفسهم) الخ. قوله : (وَلِلْكافِرِينَ) أي السائرين على قدم من قبلهم من الكفار ، وقوله : (أَمْثالُها) مقابلة الجمع تقتضي القسمة على الآحاد ، أي إن لكل واحد من هؤلاء الكفار ، عاقبة كعاقبة من تقدمه من الكفار أو أشد ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جمع الأنبياء ، وشرعه جامع لجميع الشرائع ، فالكفر به وبشرعه ، كفر بجميع الشرائع ، فيسبب ذلك عظم عذاب الكافر به. قوله : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي لا ناصر لهم ولا معين ولا مغيث ، وأما قوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) فالمراد بالمولى المالك ، فلم يحصل تناف.

قوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، بيان لثمرة ولايته تعالى للمؤمنين في الآخرة. قوله : (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) الكاف في محل نصب ، إما نعت لمصدر محذوف ، أي أكلا مثل أكل الأنعام ، أو حال ، أي أكلا حال كونه مثل أكل الأنعام. قوله : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) مبتدأ أو خبر.

قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الخ ، (كَأَيِّنْ) مركبة من الكاف ، وأين بمعنى كم الخبرية ، وهي في محل رفع مبتدأ ، و (مِنْ قَرْيَةٍ) تمييز لها ، وقوله : (هِيَ أَشَدُّ) صفة لقرية ، وقوله : (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) صفة ل (قَرْيَتِكَ) وقوله : (أَهْلَكْناهُمْ) خبر المبتدأ ، وسبب نزول هذه الآية ، أنه لما خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى الغار ، التفت إلى مكة وقال : «أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأحب بلاد الله إليّ ، ولو أن المشركين لم يخرجوني ، لم أخرج منك» فنزلت هذه الآية تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى : لا تحزن على خروجك من بلدك ، فإن الله يعزك ويذلهم ، فليس خروجك من مكة ، إلا كخروج آدم من الجنة ، من حيث إنه حصل له العز العظيم ، وحصل لإبليس الذي تسبب في إخراجه الخزي العظيم. قوله : (أريد أهلها) أي فهو مجاز في الظرف ، حيث أطلق المحل ، وأريد الحال فيه ، لا مجاز بالحذف. قوله : (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) هذا الوصف للاحتراز عن قريته التي تكون وطنه فيما يستقبل وهي المدينة. قوله : (أَهْلَكْناهُمْ) أي فكذلك نفعل بأهل قريتك ، فاصبر كما صبر رسل أهل تلك القرى. قوله : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) تفريع على قوله : (أَهْلَكْناهُمْ).

٣٢

ناصِرَ لَهُمْ) (١٣) من إهلاكنا (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة وبرهان (مِنْ رَبِّهِ) وهم المؤمنون (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فرآه حسنا وهم كفار مكة (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٤) في عبادة الأوثان ، أي لا مماثلة بينهما (مَثَلُ) أي صفة (الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) المشتركة بين داخليها مبتدأ خبره (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) بالمد والقصر كضارب وحذر ، أي غير متغير ، بخلاف ماء الدنيا فيتغير بعارض (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بخلاف لبن الدنيا لخروجه من الضروع (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ) لذيذ (لِلشَّارِبِينَ) بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ

____________________________________

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) الخ ، شروع في بيان أحوال المؤمنين والكافرين ، والهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير : أليس الأمر كما ذكر فمن كان على بينة ، الخ ، والتعبير بعلى إشارة إلى تمكنهم من الحجج والراهين ، تمكن المستعلي من المستعلى عليه. قوله : (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فيه مراعاة معنى من ، كما روعي لفظها فيما سبق.

قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) تفصيل لبيان محاسن الجنة ، وكيفية أنهارها المتقدمة في قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.) قوله : (أي صفة) (الْجَنَّةِ) أشار بذلك إلى أن المراد بالمثل الصفة ، فكأنه قال : وصف الجنة كذا وكذا ، فليس في الكلام مشبه ومشبه به. قوله : (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) المراد من لم يحكم الشرع بكفره ، فيشمل عصاة المؤمنين ، وأهل الفترة ، وأولاد الكفار ، الذين ماتوا قبل البلوغ. قوله : (المشتركة بين داخليها) أي فهو بيان لمطلق نعيم الجنة ، المشترك بين أعلى أهل الجنة وأدناهم ، وأما تفصيل ما لكل فريق ، فسيأتي في سورة الواقعة. قوله : (خبره) (فِيها أَنْهارٌ) الخ ، فيه أن الخبر جملة حالية من رابط يعود على المبتدأ. وأجيب : بأن الخبر عين المبتدأ في المعنى ، وحينئذ فلا يحتاج لرابط ، وهذا أسهل الأعاريب ، وقيل : إن (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ ، خبره (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) وفي الكلام حذف مضاف وهمزة الإنكار ، والتقدير : أمثل أهل الجنة ، كمن هو خالد في النار ، وقوله : (فِيها أَنْهارٌ) إما حال من (الْجَنَّةِ ،) أو خبر لمبتدأ محذوف ، أي هي (فِيها أَنْهارٌ) وقيل غير ذلك. قوله : (غَيْرِ آسِنٍ) (بالمد والقصر) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (كضارب) أي ففعله أسن يأسن ، كضرب يضرب ، وقوله : (وحذر) أي ففعله أسن يأسن ، كحذر يحذر.

قوله : (لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي فلا يعود حامضا ، ولا مكروه الطعم. قوله : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي ليس فيها حموضة ولا مرارة ، ولم تدنسها الأرجل بالدوس ، ولا الأيدي بالعصر ، وليس في شربها ذاهب عقل ، بل هي لمجرد الالتذاذ. إن قلت : لم لم يقل في جانب اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين ، وفي العسل مصفى للناظرين؟ أجيب : بأن اللذة تختلف باختلاف الأشخاص ، فرب طعام يلتذ به شخص ويعافه الآخر ، فلذا قال (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) بأسرهم ، ولأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال (لَذَّةٍ) أي ليس في خمر الآخرة كراهة طعم ، وأما الطعم واللون فلا يختلفان باختلاف الناس ، فلم يكن للتصريح بالتعميم مزيد فائدة. قوله : (لذيذة) أشار بذلك لدفع ما قيل إن (لَذَّةٍ) مصدر بمعنى الالتذاذ ، فلا يصح وصف الخمر به ، لكونها اسم عين. فأجاب المفسر بأنها تؤول بالمشتق على حد : زيد عدل. قوله : (مِنْ عَسَلٍ

٣٣

مُصَفًّى) بخلاف عسل الدنيا ، فإنه بخروجه من بطون النحل يخالطه الشمع وغيره (وَلَهُمْ فِيها) أصناف (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطا عليهم (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر مبتدأ مقدر ، أي أمن هو في هذا النعيم (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي شديد الحرارة (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥) أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم ، وهو جمع معى بالقصر وألفه عن ياء لقولهم معيان (وَمِنْهُمْ) أي الكفار (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) في خطبة الجمعة وهم المنافقون (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) لعلماء الصحابة منهم ابن مسعود وابن عباس استهزاء وسخرية (ما ذا قالَ آنِفاً) بالمد والقصر ، أي الساعة ، أي لا نرجع إليه (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بالكفر (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦) في النفاق (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) وهم المؤمنون (زادَهُمْ) الله (هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) ألهمهم ما يتقون به النار (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) ما

____________________________________

مُصَفًّى) يجوز في العسل التذكير والتأنيث ، والقرآن جاء على التذكير قوله : (يخالطه الشمع وغيره) أي كفضلات النحل.

قوله : (وَلَهُمْ) خبر مقدم ، وقوله : (فِيها) متعلق بما تعلق به الخبر ، والمبتدأ محذوف قدره بقوله : (أصناف) وقوله : (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) نعت للمبتدأ المحذوف ، والمعنى : لهم في الجنة أنواع متعددة من كل الثمرات ، فالتفاح أنواع ، والرمان أنواع ، وهكذا. قوله : (فهو راض عنهم) الخ ، دفع بذلك ما يقال : إن المغفرة تكون قبل دخول الجنة ، والآية تقتضي أنها فيها. فأجاب المفسر : بأن المراد بالمغفرة الرضا ، وهو يكون في الجنة ، وايضاحه أنه يرفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه ، بخلاف الدنيا ، فإن مأكولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب ؛ ونعيم الجنة لا حساب عليه ، ولا عقاب فيه. قوله : (خبر مبتدأ مقدر) أي أن قوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر لمحذوف ، والاستفهام للإنكار ، أي لا يستوي من هو في هذا النعيم المقيم ، بمن هو خالد في النار.

قوله : (وَسُقُوا) معطوف على (خالِدٌ) عطف صلة فعلية على صلة اسمية. قوله : (في خطبة الجمعة) أي فهذه الآيات مدنيات ، وحينئذ فتكون مستثنيات من القول بأن السورة مكية. قوله : (وهم المنافقون) تفسير لمن. قوله : (استهزاء) علة لقالوا ، فالاستفهام انكاري ، والمعنى : لم يقل شيئا يعتد به ، فلا عبرة بقوله. قوله : (آنِفاً) حال ، والمعنى : ماذا قال مؤتنفا؟ أي مبتدئا ومخترعا. قوله : (بالمد والقصر) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أي الساعة) أي فآنفا ظرف حالي بمعنى الآن ، وهو أحد استعمالين فيه ، والثاني اسم فاعل بمعنى مؤتنفا كما تقدم. قوله : (أي لا يرجع إليه) أي إلى قوله الذي قاله آنفا ، أي لا نعمل به. قوله : (أُولئِكَ) مبتدأ ، وقوله : (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ) الخ ، خبره.

قوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) الخ ، لما بين الله حال المنافقين ، وأنهم لا ينتفعون بما يسمعون بين حال المؤمنين ، وأنهم ينتفعون بما يسمعون. قوله : (ألهمهم ما يتقون به النار) أي خلق فيهم التقوى والخاصة ، وهي ترك متابعة الهوى ، والتنزه عما سوى الله تعالى ؛ وصرف القلب إلى ما يرضي الله. قوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون جزاء أعمالهم ، فالمراد انتظار الجزاء لا انتظار الموت ، ، فإنه يأتيهم قبل مجيئها.

٣٤

ينتظرون أى كفار مكة (إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ) بدل اشتمال من الساعة ، أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم (بَغْتَةً) فجأة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) علاماتها ، منها بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانشقاق القمر ، والدخان (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ) الساعة (ذِكْراهُمْ) (١٨) تذكرهم؟ أي لا ينفعهم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي دم يا محمد على علمك بذلك النافع في القيامة (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) لأجله ، قيل له ذلك مع عصمته لتستن به أمته ، وقد فعله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأستغفر الله في كل يوم مائة

____________________________________

قوله : (أن تأتيهم) (بَغْتَةً) أي فقد قرب قيامها.

قوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) كالعلة لقوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) الخ ، لأن ظهور أشراط الشيء موجب لانتظاره ، ورد عن حذيفة والبراء بن عازب : «كنا نتذاكر الساعة ، إذ أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما تتذاكرون؟ قلنا نتذاكر الساعة ، قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدخان ، ودابة الأرض ، وخسفا بالمشرق ، وخسفا بالمغرب ، وخسفا بجزيرة العرب ، والدجال ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، ونارا تخرج من عدن» انتهى. قوله : (منها بعثة النبي) الخ ، أي من علاماتها الصغرى بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد حصل بالفعل ، وأما العلامات الكبرى فستأتي ، وإنما عبر عن الجميع بالماضي لتحقق الوقوع ، على حد : أتى أمر الله. قوله : (فَأَنَّى لَهُمْ) خبر مقدم ، و (ذِكْراهُمْ) مبتدأ مؤخر ، و (إِذا) وما بعدها معترض ، وجوابها محذوف دل عليه ما قبله ، والمعنى : كيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة فكيف يتذكرون؟

قوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) مرتب على ما قبله ، كأنه قال : إذا علمت أنه لا ينفع التذكر إذا حضرت الساعة ، فدم على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية ، فإنه النافع يوم القيامة ، وعبر بالعلم إشارة إلى أن غيره لا يكفي في التوحيد ، كالظن والشك والوهم ؛ واعلم أن العلم مراتب : الأولى : العلم بالدليل ولو جمليا ، ويسمى علم يقين ، وهذا هو المطلوب في التوحيد الذي يخرج به المكلف من ورطة التقليد ، وهو الجزم من غير دليل وفيه خلاف. الثانية : العلم مع مراقبة الله ، ويسمى عين يقين. الثالثة : العلم مع المشاهدة ، ويسمى حق يقين ؛ وفي هذه المراتب فليتنافس المتنافسون. قوله : (أي دم يا محمد) الخ ، أي فالخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل ولكل مؤمن ، وقوله : (على علمك بذلك) أي بأن لا إله إلا الله ، أي لا معبود بحق إلا الله. قوله : (النافع في القيامة) أي لما ورد : «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة». قوله : (لتستن به أمته) أي تقتدي به ، وهذا أحد أوجه في تأويل الآية وهو أحسنها ، وقيل معناه : اسأل الله العصمة من الذنوب ، ومن المعلوم أن دعاءه مستجاب ، ففي استغفاره تحدث بنعمة الله عليه ، وهي عصمته من الذنوب ، وتعليم للأمة أن يقتدوا به ، وقيل : المراد بذنبه خلاف الأولى ، مثل ما وقع منه في أسارى بدر ، وفي إذنه للمنافقين بالتخلف عن الجهاد ، فهو ذنب بحسب مقامه ورتبته ، وقيل المراد بذنبه ذنب أهل بيته ففي هذه الآية بشرى للأمة حيث أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم. قوله : (وقد فعله) أي الاستغفار لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات ، ورد في الحديث : «إنه ليغان على قلبي ، حتى استغفر الله في اليوم مائة مرة». وفي رواية : «توبوا إلى ربكم ، فو الله إني لأتوب إلى ربي عزوجل في اليوم مائة مرة». وفي رواية : «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة». وفي رواية أكثر من ذلك ، قوله في الحديث : «إنه ليغان على قلبي» الغين التغطية والستر ، ويسمى به الغيم الرقيق الذي

٣٥

مرة» (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فيه إكرام لهم بأمر نبيهم بالاستغفار لهم (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) متصرفكم لأشغالكم بالنهار (وَمَثْواكُمْ) (١٩) مأواكم إلى مضاجعكم بالليل ، أي هو عالم بجميع أحوالكم لا يخفي عليه شيء منها فاحذروه ، والخطاب للمؤمنين وغيرهم (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) طلبا للجهاد (لَوْ لا) هلا (نُزِّلَتْ سُورَةٌ) فيها ذكر الجهاد (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) أي لم ينسخ منها شيء (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي طلبه (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وهم المنافقون (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) خوفا منه وكراهية له ، أي فهم يخافون من القتال ويكرهونه (فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠) مبتدأ خبره (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي حسن لك (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أي فرض القتال (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) في الإيمان والطاعة (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (٢١) وجملة لو

____________________________________

يغشى السماء ، والمراد به أنوار تغشى قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسبب استغفاره منها ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دائما يترقى في الكمالات ، فكلما ارتقى إلى مقام ، رأى أن الذي فيه بالنسبة للذي ارتقى إليه ذنبا ، فيستغفر الله منه.

قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أشار المفسر إلى أن معنى (مُتَقَلَّبَكُمْ) متصرفكم لاشتغالكم بالنهار ، ومعنى (مَثْواكُمْ) مأواكم إلى مضاجعكم بالليل ، وهو أحد تفاسير في هذه الآية ، وقيل (مُتَقَلَّبَكُمْ) من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وبطونهن ، و (مَثْواكُمْ) في الدنيا وفي القبور ، وقيل (مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا ، (وَمَثْواكُمْ) مصيركم في الآخرة إلى الجنة والنار. قوله : (والخطاب للمؤمنين وغيرهم) أي ولكن خطاب المؤمنين ، ارشاد لهم إلى مقام المراقبة لله تعالى ، وهي أن يشاهد الإنسان ، أن الله مطلع عليه في كل لمحة وطرفة وحركة وسكون ، وهذا سر ، وهو معكم أينما كنتم ، وهو مطلب العارفين ، وكنز الراسخين ، قال العارف ابن الفارض :

أنلنا مع الأحباب رؤيتك التي

إليها قلوب الأولياء تسارع

وقال العارف الدسوقي :

قد كان في القلب أهواء مفرقة

فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

تركت للناس دنياهم ودينهم

شغلا بحبك يا ديني ودنيائي

وفيه فليتنافس المتنافسون ، وخطاب غيرهم تخويف وتحذير.

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، أي حين اشتد كرب المسلمين من أذى المشركين ، تمنوا الأمر بالجهاد ، ووافقهم في الظاهر على هذا التمني المنافقون ، فهذه الآيات من هنا إلى آخر السورة مدنيات قطعا ، ولو على القول بأن السورة مكية ، لأن القتال لم يشرع إلا بها ، وكذا النفاق لم يظهر إلا بها. قوله : (أي طلبه) أي ذكر فيها الأمر به والحث عليه. قوله : (أي شك) وقيل ضعف في الدين. قوله : (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ) أي نظرا مثل نظر المغشي عليه ، والمعنى : تشخص أبصارهم كالشخص الذي حضره الموت. قوله : (خوفا منه) أي الموت.

قوله : (فَأَوْلى لَهُمْ) أي الحق والواجب لهم ، أي عليهم الطاعة الخ ، هذا ما مشى عليه المفسر ، وهو أوضح ما قيل في هذا المقام. قوله : (أي حسن) تفسير لمعروف ، وقوله : (لك) متعلق بكل من (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) والمعنى : الواجب عليهم أن يطيعوك ويخاطبوك بالقول الحسن. قوله : (وجملة لو)

٣٦

جواب إذا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) بكسر السين وفتحها ، وفيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب أي لعلكم (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم عن الإيمان (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٢٢) أي تعودوا إلى أمر الجاهلية من البغي والقتال (أُولئِكَ) أي المفسدون (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣) عن طريق الهدى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فيعرفون الحق (أَمْ) بل (عَلى قُلُوبٍ) لهم (أَقْفالُها) (٢٤) فلا يفهمونه (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا) بالنفاق (عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ) أي زين (لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (٢٥) بضم أوّله وبفتحه واللام ، والمملي الشيطان بإرادته تعالى فهو المضل لهم (ذلِكَ) أي إضلالهم (بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي للمشركين (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي المعاونة على عداوة

____________________________________

أي مع جوابها. قوله : (بكسر السين وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (وفيه التفات) أي لتأكيد التوبيخ. قوله : (أي لعلكم) الخ ، تفسير لعسى ، ولم يذكر تفسير الاستفهام وهو التقرير ، والمعنى : قروا بأنه يتوقع منكم إن توليتم الخ ، والتوقع في الآية جار على لسان من يشاهد حرصهم على الدنيا وتفريطهم في الدين ، لا لله لأنه هو الخالق لهم ، العالم بأحوالهم. قوله : (أعرضتم عن الإيمان) تفسير للتولي ، وقيل : معناه تأمرتم وتوليتم أمر الأمة. قوله : (أَنْ تُفْسِدُوا) خبر عسى ، والشرط معترض بينهما ، وجوابه محذوف لدلالة (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) عليه.

قوله : (أُولئِكَ) مبتدأ خبره. قوله : (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ.) قوله : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي فلا يهتدون إلى سبيل الرشاد. قوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي يتفكرون في معانيه فيهتدون ؛ وهذه الآية لتقرير ما قبلها كأنه قال : أولئك الذين لعنهم الله ، أي أبعدهم عنه ، فجعلهم لا يسمعون النصيحة ، ولا يبصرون طريقة الإسلام ، فتسبب عن ذلك كونهم لا يتدبرون القرآن. قوله : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ) الخ (أَمْ) منقطعة بمعنى بل ، وهو انتقال من توبيخهم على عدم التدبر إلى توبيخهم ، بكون قلوبهم مقفلة ، لا تقبل التدبر والتفكر. قوله : (لهم) صفة لقلوب.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، وهم المنافقون الموصوفون بما تقدم ، دل عليه قوله : (بالنفاق) وقيل هم اليهود ، وقيل أهل الكتابين ، داموا على الكفر به عليه‌السلام ، بعد ما وجدوا نعته في كتابهم. قوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي الطريق القويم بالأدلة والحجج الظاهرة. قوله : (بضم أوله) أي وكسر ثالثه وفتح الياء ، والجار والمجرور نائب الفاعل ، وقوله : (وبفتحه واللام) أي مبنيا للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على (الشَّيْطانُ) وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (والمملي الشيطان) الخ ، جواب عن سؤال مقدر تقديره الإملاء ، معناه الإمهال. وهو لا يكون إلا من الله ، لأنه الفاعل المختار ، فكيف ينسب للشيطان؟ فأجاب : بأن المملي حقيقة الله ، وأسند للشيطان باعتبار أنه جار على يديه ، لأنه يوسوس لهم سعة الأجل. قوله : (أي للمشركين) أي والقائل هم اليهود أو المنافقون ، كما حكى الله عنهم ذلك في سورة الحشر بقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) الآيات.

قوله : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي في بعض ما تأمروننا به ، كالقعود عن الجهاد ، وتثبيط

٣٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيط الناس عن الجهاد معه ، قالوا ذلك سرا فأظهره الله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٢٦) بفتح الهمزة جمع سر ، وبكسرها مصدر (فَكَيْفَ) حالهم (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ) حال من الملائكة (وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢٧) ظهورهم بمقامع من حديد (ذلِكَ) أي التوفي على الحالة المذكورة (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي العمل بما يرضيه (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (٢٨) (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢٩) يظهر أحقادهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) عرّفناكهم وكررت اللام في (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) علامتهم (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) الواو لقسم محذوف وما بعدها جوابه (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي معناه : إذا تكلموا عندك بأن يعرضوا بما فيه تهجين أمر المسلمين (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٣٠) (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) نختبركم بالجهاد وغيره (حَتَّى نَعْلَمَ) علم ظهور (الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) في الجهاد وغيره (وَنَبْلُوَا) نظهر (أَخْبارَكُمْ) (٣١) من طاعتكم وعصيانكم في الجهاد وغيره بالياء

____________________________________

المسلمين عنه ، ونحو ذلك ، لا في كله ، لأنهم لا يوافقونهم في إظهار الكفر. قوله : (وبكسرها) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (فَكَيْفَ) خبر لمحذوف قدره بقوله : (حالهم). قوله : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فملائكة العذاب تأتيهم عند قبض أرواحهم بمقامع من حديد ، يضربون بها وجوههم وأدبارهم. قوله : (على الحالة المذكورة) أي وهي التوفي مع ضرب الوجوه والأدبار. قوله : (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا) الخ ، راجع لضرب الوجوه ، وقوله : (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) راجع لضرب الأدبار. قوله : (ما أَسْخَطَ اللهَ) أي من الكفر وغيره. قوله : (بما يرضيه) أي من الإيمان وغيره من الطاعات.

قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ) الخ ، أي وهم المنافقون المتقدم ذكرهم. قوله : (أحقادهم) جمع حقد وهو الانطواء على العداوة والبغضاء. قوله : (عرفناكهم) أي فالإرادة علمية لا بصرية. قوله : (وكررت اللام) أي في قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ) للتأكيد ، والمعنى : لو أردنا لدللناك على المنافقين فعرفتهم بسيماهم ، ورد عن ابن مسعود قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ان منكم منافقين ، فمن سميته فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، قم يا فلان : حتى ستة وثلاثين. قوله : (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) اللحن يقال على معنيين : أحدهما صرف الكلام عن الاعراب إلى الخطأ ، والثاني الكناية بالكلام ، بحيث يكون للكلام ظاهر وباطن ، فيكون ظاهره تعظيما ، وباطنه تحقيرا ، وهو المراد هنا ، ومعنى الآية : وإنك يا محمد ، لتعرفن المنافقين فيما يعرضونه بك من القول ، الذي ظاهره إيمان وإسلام ، وباطنه كفر وسب. قوله : (بما فيه تهجين أمر المسلمين) التهجين التقبيح والتعييب ، فكانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول ، ظاهرها حسن ، ويعنون بها القبيح ، كقولهم : راعنا ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة.

قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) أي فيجازيكم بحسب قصدكم ، ففيه وعد ووعيد. قوله : (بالجهاد وغيره) أي من سائر المشاق كما قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) الآية. قوله : (علم ظهور) أي علما يشاهده خلقنا ، مطابقا لما هو في علمنا الأزلي ، أي فتظهر سرائرهم بين عبادنا. قوله : (في

٣٨

والنون في الأفعال الثلاثة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) طريق الحق (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) خالفوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) هو معنى سبيل الله (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) (٣٢) يبطلها من صدقة ونحوها ، فلا يرون لها في الآخرة ثوابا ، نزلت في المطعمين من أصحاب بدر أو في قريظة والنضير (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٣٣) بالمعاصي مثلا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) طريقه وهو

____________________________________

ثلاثتها) وفي نسخة (في الأفعال الثلاثة) وهي لنبلونكم ونعلم ونبلو ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (طريق الحق) أي وهو دين الإسلام. قوله : (خالفوه) أي خرجوا عن طاعته.

قوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) هذه الجملة خبر (إِنَ) والكلام إما على ظاهره والمعنى : إن كفرهم لا يضر إلا أنفسهم ، وتعالى الله عن أن يصل له من خلقه ضر أو نفع ، لما في الحديث القدسي : «يا عبادي إنكم لن تقدروا على ضري فتضروني» إلى آخره ، أو على حذف مضاف ، أي لن يضروا رسول الله لعصمته منهم. قوله : (المطعمين من أصحاب بدر) أي في المطعمين الطعام للكفار يوم بدر ، وذلك أن أغنياء الكفار كانوا يعينون فقراءهم على حرب رسول الله وأصحابه ، كأبي جهل وأضرابه ، وهذه الآية بمعنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها) الآية ، وسبب ذلك : أن قريشا خرجت لغزوة بدر بأجمعها ، وكان العام عام قحط وجدب ، وكان أغنياؤهم يطعمون الجيش ، فأول من نحر لهم حين خروجهم من مكة أبو جهل ، نحر لهم عشر جزر ، ثم صفوان تسعا بعسفان ، ثم سهل عشرا بقديد ، ومالوا منه إلى نحو البحر فضلوا ، فأقاموا يوما ، فنحر لهم شيبة تسعا ، ثم أصبحوا بالأبواء ، فنحر مقيس الجمحي تسعا ، ونحر العباس عشرا ، ونحر الحرث تسعا ، ونحر أبو البحتري على ماء بدر عشرا ، ونحر مقيس عليه تسعا ، ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم. قوله : (أو في قريظة والنضير) أي فكانوا ينفقون على قريش ، ليستعينوا بهم على عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فآل أمرهم إلى أن أخرج بني النضير من ديارهم ، وغزا قريظة ، فقتل كبارهم وأسر نساءهم وذراريهم ، ولم تنفعهم قريش بشيء.

قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ؛ لما ذكر أحوال الكفار ومخالفتهم لرسول الله ، أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ؛ وبالجملة فهذه السورة اشتملت على ذكر أوصاف المؤمنين والكافرين على أحسن ترتيب. قوله : (بالمعاصي مثلا) أي كالردة فإنها تبطل جميع الأعمال الصالحة من أصلها ، والعجب والرياء ، فإنهما يبطلان ثواب الأعمال ، والمن والأذى فإنهما يبطلان ثواب الصدقات ، والمن مذموم إلا من الله على عباده ، والرسول على أمته ، والشيخ على تلميذه ، والوالد على ولده ، فليس بمذموم ، وأما باقي المعاصي فلا تبطل ثواب الأعمال الصالحة ، خلافا للمعتزلة القائلين بأن الكبائر تحبط الأعمال كالردة ، ورد كلامهم بقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وأخذ بعض الأئمة من هذه الآية ، أنه يحرم على الشخص قطع الأعمال الصالحة ولو نفلا ، كالصلاة والصوم. والحاصل : أن الأصل في النوافل ، أنها لا تلزم بالشروع عند جميع الأئمة ، واستثنى مالك وأبو حنيفة سبعا منها تلزم بالشروع نظمها ابن عرفة من المالكية بقوله :

صلاة وصوم ثم حج وعمرة

طواف عكوف والتمام تحتما

٣٩

الهدى (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (٣٤) نزلت في أصحاب القليب (فَلا تَهِنُوا) تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) بفتح السين وكسرها ، أي الصلح مع الكفار إذا لقيتموهم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) حذف منه واو لام الفعل الأغلبون القاهرون (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالعون والنصر (وَلَنْ يَتِرَكُمْ) ينقصكم (أَعْمالَكُمْ) (٣٥) أي ثوابها (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الاشتغال فيها (لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا) الله وذلك من أمور الآخرة (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) (٣٦) جميعا بل الزكاة المفروضة فيها (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) يبالغ في طلبها (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ) البخل (أَضْغانَكُمْ) (٣٧) لدين الإسلام (ها أَنْتُمْ) يا (هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ما فرض

____________________________________

وفي غيرها كالوقف والطهر خيرن

فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما

ولابن كمال باشا من الحنفية :

من النوافل سبع تلزم الشارع

أخذا لذلك مما قاله الشارع

صوم صلاة عكوف حجه الرابع

طوافه عمرة إحرامه السابع

قوله : (وَهُمْ كُفَّارٌ) الجملة حالية. قوله : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) خبر (إِنَّ.) قوله : (في أصحاب القليب) هو بئر في بدر ، ألقيت فيه القتلى من الكفار ، لكن حكمها عام في كل كافر مات على كفره. قوله : (فَلا تَهِنُوا) الفاء فصيحة وقعت في جواب شرط مقدر ، أي إذا تبين لكم بالأدلة القطعية عن الإسلام ، وذل الكفر في الدنيا والآخرة (فَلا تَهِنُوا.) قوله : (بفتح السين وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وهذه الآية قيل ناسخة لآية (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) لأن الله منع من الميل إلى الصلح ، إذ لم يكن بالمسلمين حاجة إليه ، وقيل إنهما نزلتا في وقتين مختلفين فيجوز الصلح عند الضرورة والاحتياج إليه ، ولا يجوز عند القدرة والاستعداد ، فهذه الآية مخصصة للآية المتقدمة. قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الجملة حالية ، وكذا قوله : (وَاللهُ مَعَكُمْ.) قوله : (لام الفعل) أي وأصله الأعلوون بواوين ، الأولى لام الفعل ، والثانية واو الجمع ، تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا فالتقى ساكنان فحذفت الألف. قوله : (بالعون والنصر) أي فالمراد معية معنوية. قوله : (ينقصكم) أي أو يفردكم عنها ، لأن الترة تطلق بالمعنيين ، يقال : وتره حقه بتره وترا نقصه ، وأوتر أرضه بمعنى أفرده.

قوله : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللعب ما يشغل الإنسان ، وليس فيه منفعة في الحال ولا في المآل ، واللهو ما يشغل الإنسان عن مهمات نفسه. قوله : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي لا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة ، بل يأمركم بإخراج بعضها. قوله : (فَيُحْفِكُمْ) عطف على الشرط و (تَبْخَلُوا) جوابه. قوله : (يبالغ في طلبها) أي حتى يستأصلها. قوله : (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (لدين الإسلام) أي أحقادكم وبغضكم لدين الإسلام ، وذلك لأن الإنسان جبل على محبة الأموال ، ومن نوزع في حبيبه ظهرت سرائره ، فمن رحمته على عباده ، عدم التشديد عليهم في التكاليف. قوله : (ها أَنْتُمْ ها) للتنبيه ، و (أَنْتُمْ) مبتدأ ، و (هؤُلاءِ) منادى ، وحرف النداء محذوف قدره المفسر ، و (تُدْعَوْنَ) خبره ، وجملة النداء معترضة بين المبتدأ والخبر.

٤٠