حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ) اختبر (اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي لتظهر منهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣) الجنة ، ونزل في قوم جاؤوا وقت الظهر والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منزله فنادوه (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ

____________________________________

الباء سببية متعلقة باسم الإشارة ، لأنه واقع على الحبوط ، فكأنه قال : أي خشية الحبوط بسبب الرفع والجهر ، لأن في الرفع والجهر استخفافا بجانبه ، فيؤدي إلى الكفر المحبط ، وذلك إذا انضم له قصد الإهانة وعدم المبالاة. روي أنه لما نزلت هذه الآية ، قعد ثابت في الطريق يبكي ، فمر به ابن عدي فقال : ما يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في ، وأنا رفيع الصوت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخاف أن يحبط عملي ، وأن أكون من أهل النار ، فمضى عاصم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغلب ثابتا البكاء ، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرشي ، فسدي علي الضبة بمسمار ، فضربته بمسمار ، فأتى عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره خبره قال : اذهب فادعه لي ، فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش فقال له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة ، فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك؟ فقال : أنا صيّت ، وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة؟ فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله ، لا أرفع صوتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبدا ، فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) الآية ، قال أنس : فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا ، فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة ، رأى ثابت من المسلمين بعض انكسار ، وانهزمت طائفة منهم ، قال : أف لهؤلاء ، ثم قال ثابت لسالم مولى حذيفة : ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذا ، ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا ، واستشهد ثابت وعليه درع ، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام وأنه قال له : اعلم أن فلانا رجل من المسلمين ، نزع درعي فذهب بها ، وهي في ناحية من العسكر ، عند فرس يستن في طيله ، وقد وضع على درعي برمة ، فائت خالد بن الوليد فأخبره حتى يسترد درعي ، وائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل له : إن علي دينا حتى يقضي عني ، وفلان من رقيقي عتيق ، فأخبر الرجل خالدا ، فوجد الدرع والفرس على ما وصفه ، فاسترد الدرع ، وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤيا ، فأجاز أبو بكر وصيته ، قال مالك بن أنس : لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه. قوله : (فيمن كان يخفض صوته) أي مخافة من مخالفة النهي السابق ، وإجلالا وتعظيما. قوله : (كأبي بكر وعمر) الخ ، أي فكان الجميع يخفضون أصواتهم عند رسول الله ، إجلالا له وتعظيما.

قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ) الخ ، اسم الإشارة مبتدأ ، والموصول بعد خبره ، والجملة خبر (إِنَ) وجملة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) مستأنفة لبيان ما أعد لهم. قوله : (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) الامتحان افتعال ، من محنت الأديم محنا أوسعته ، ومعنى (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) وسعها. قوله : (أي لتظهر منهم) أي فإنها لا تظهر ، إلا بالاصطبار على أنواع المحن والتكاليف الشاقة ، فالاختبار سبب لظهور التقوى ، لا سبب للتقوى نفسها ، فهو من إطلاق السبب على المسبب ، أي فالاختبار يظهر ما كان كامنا في النفس من التقوى ، كما أن سماع الألحان ، يظهر ما كان كامنا في النفس من الحب فتدبر. قوله : (ونزل في قوم) أي وهم وفد بني تميم.

٦١

مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) حجرات نسائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع حجرة وهي ما يحجر عليه من الأرض بحائط ونحوه ، كأن كل واحد منهم نادى خلف حجرة ، لأنهم لم يعلموه في أي حجرة ، ومناداة الأعراب بغلظة وجفاء (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٤) فيما فعلوه محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) أنهم في محل رفع بالابتداء ، وقيل : فاعل بفعل مقدر أي ثبت (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) لمن تاب منهم ونزل في الوليد بن عقبة ، وقد بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني

____________________________________

قوله : (مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) أي من خارجها ، خلفها أو قدامها ، لأن (وَراءِ) من الأضداد تكون بمعنى خلف ، وبمعنى قدام ، قال مجاهد وغيره : نزلت في أعراب بني تميم ، قدم وفد منهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلوا المسجد ونادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات ، أن أخرج الينا ، فإن مدحنا زين ، وذمنا شين ، وكانوا سبعين رجلا ، قدموا لفداء ذراري لهم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائما للقائلة ، وسئل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هم جفاة بني تميم ، لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال ، لدعوت الله عليهم أن يهلكهم ، وقيل : كانوا جاؤوا شفعاء في أسارى بني عنبر ، فأعتق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصفهم ، وفادى نصفهم ، ولو صبروا لأعتق جميعهم بغير فداء. قوله : (وهي ما يحجر عليه) أي يحوط عليه للمنع من الدخول. قوله : (كأن كل واحد منهم) الخ ، أتى بصيغة لا جزم فيها ، لأن المقام مقام احتمال ، وذلك لأن مناداتهم ، يحتمل أن تكون كما قال المفسر ، أو الكل وقفوا على كل حجرة ونادوه منها. قوله : (مناداة الأعراب) معمول لينادونك.

قوله : (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) المراد بالأكثر الكل ، لأن العرب قد تعبر بالأكثر وتريد الكل. قوله : (محلك الرفيع) معمول ليعقلون ، وفي نسخة بمحلك ، فيكون معمولا لفعلوه ، فالمحل على الأول المكانة والرتبة ، وعلى الثاني الدار المحسوسة ، ومعنى الرفيع على الأول العلي القدر ، وعلى الثاني المحفوظ من إساءة الأدب لحلولك فيه ، فإن الظرف يعظم بالمظروف ، قال الشاعر :

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

قوله : (أنهم في محل رفع بالابتداء) هو قول سيبويه ، ولا يحتاج إلى خبر ، لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه ، وقيل : الخبر محذوف وجوبا لوقوعه بعد (لَوْ). قوله : (أي ثبت) بيان للفعل المقدر ، والمعنى ثبت صبرهم وانتظارهم ، وهذا قول المبرد والزجاج والكوفيين ، ورجح بأن فيه إبقاء له على الاختصاص بالفعل. قوله : (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال ، لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول ، الموجبين للثناء والثواب ، قال العارفون : الأدب عند الأكابر ، يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى ، وسعادة الدنيا والآخرة. قوله : (ونزل في الوليد بن عقبة) بن أبي معيط ، أخو عثمان بن عفان لأمه ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة معهم ، واليا يجبي الزكاة ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله ، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، فهابهم ، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله ، فبدا له الرجوع ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك ، لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ،

٦٢

المصطلق مصدقا فخافهم لترة كانت بينه وبينهم في الجاهلية ، فرجع وقال : إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتله ، فهمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغزوهم ، فجاؤوا منكرين ما قاله عنهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) خبر (فَتَبَيَّنُوا) صدقه من كذبه ، وفي قراءة فتثبتوا من الثبات (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً) مفعول له أي خشية ذلك (بِجَهالَةٍ) حال من الفاعل أي جاهل (فَتُصْبِحُوا) تصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ) من الخطأ بالقوم (نادِمِينَ) (٦) وأرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم بعد عودهم إلى بلادهم خالدا ، فلم ير فيهم إلا الطاعة والخير ، فأخبر النبي بذلك (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فلا تقولوا الباطل ، فإن الله يخبره بالحال (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ) الذي تخبرون به على خلاف الواقع فيرتب على ذلك مقتضاه (لَعَنِتُّمْ) لأثمتم دونه إثم التسبب إلى المرتب (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ) حسنه (فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) استدراك من حيث المعنى دون اللفظ ، لأن من حبب إليه الإيمان الخ ، غايرت صفته صفة من تقدم ذكره

____________________________________

فاتهمهم رسول الله ، وبعث خالد بن الوليد في عسكره خفية ، وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال : انظر ، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم ، فخذ منهم زكاة أموالهم ، وإن لم تر ذلك ، فافعل فيهم ما تفعل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ، ووافاهم عند الغروب ، فسمع منهم أذان صلاة المغرب والعشاء ، ووجدهم مجتهدين في امتثال أمر الله ، فأخذ منهم صدقات أموالهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير ، وانصرف إلى رسول الله وأخبره الخبر ، فنزلت الآية ، واستشكل بأن الوليد صحابي جليل ، ولا يليق إطلاق لفظ الفاسق عليه ، فإن المراد به الكافر ، قال تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) إلى غير ذلك. وأجيب : بأن الذي وقع من الوليد توهم وظن ، فترتب عليه الخطأ ، وإنما سماه الله فسقا ، تنفيرا عن هذا الفعل ، وزجرا عليه ، ويؤخذ من الآية حرمة النميمة ، وتعظيم كيفية ردها على صاحبها. قوله : (مصدقا) بتخفيف الصاد ، أي يأخذ الصدقات. قوله : (لترة) بكسر التاء وفتح الراء ، أي عداوة.

قوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) المقصود من الآية أي نمام ، فإن النمام فاسق ، وليس المقصود عين الوليد ، فإنه ليس بفاسق ، بل هو صحابي جليل ، وإن كان سبب النزول واقعته. قوله : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً) أي بالقتل والسبي. قوله : (نادِمِينَ) أي مغتمين لما وقع منكم. قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) أي فلا تكذبوا عليه ، فإن الله يعلمه ببواطنكم فتفتضحوا. قوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ) الخ ، حال من الضمير المجرور في (فِيكُمْ) والمعنى : أنه فيكم كائنا على حالة منكم يجب تغييرها ، وهي أنكم تودون أن يتبعكم في كثير من الحوادث ، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل ، لكن عصمه الله رحمة بكم. قوله : (لأثمتم دونه) أي فلا يأثم لعذره ، وقوله : (إثم التسبب) أي لا إثم الفعل ، لأنكم لم تفعلوا ، قوله : (إلى المرتب) أي الذي يرتبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أخباركم ويفعله ، كقتال بني المصطلق.

قوله : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) أي الكامل ، وهو التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان ، والعمل بالأركان ، وإذا حبب إليهم الإيمان ، الجامع للخصال الثلاث ، لزم كراهتهم لأضدادها ، فلذلك قال : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ) الذي هو مقابله التصديق بالجنان ، والفسوق الذي هو مقابله الإقرار باللسان ، والعصيان الذي هو مقابله العمل بالأركان. قوله : (استدراك من حيث المعنى) الخ ، أشار بذلك لدفع ما

٦٣

(أُولئِكَ هُمُ) فيه التفات عن الخطاب (الرَّاشِدُونَ) (٧) الثابتون على دينهم (فَضْلاً مِنَ اللهِ) مصدر منصوب بفعله المقدر أي أفضل (وَنِعْمَةً) منه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بهم (حَكِيمٌ) (٨) في إنعامه عليهم (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، نزلت في قضية هي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب حمارا ومرّ على ابن أبيّ فبال الحمار ، فسد ابن أبيّ أنفه ، فقال ابن رواحة : والله لبول حماره أطيب من مسكك ، فكان بين قوميهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف (اقْتَتَلُوا) جمع نظرا إلى المعنى ، لأن كل طائفة جماعة ، وقرىء اقتتلتا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) ثني نظرا إلى اللفظ (فَإِنْ بَغَتْ) تعدت (إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ) ترجع (إِلى أَمْرِ اللهِ) الحق (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) بالإنصاف (وَأَقْسِطُوا) اعدلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) في

____________________________________

قيل إن ، لكن يشترط أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها ، نفيا وإثباتا ، وتوضيح الجواب : أن الذين حبب إليهم الإيمان ، قد غايرت صفتهم صفة المتقدم ذكرهم ، فإن ما قيل : لكن يوهم أنهم على غير استقامة مع الله ومع رسوله ، فهو استدراك بحسب المعنى. قوله : (مصدر منصوب) الخ ، فيه مسامحة ، إذ هو اسم مصدر ، والمصدر إفضال ، ويصح أن يكون مفعولا لأجله عامله حبب ، وما بينهما اعتراض ، وفي هذه الآية تنبيه على أن السعادة العظمى ، محبة الله ورسوله ، وكراهة أهل الكفر والفسوق. قوله : (هي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب حمارا) الخ ، ذكر القصة مختصرة ، ورواها الشيخان بطولها وحاصلها : أنه روي عن أسامة بن زيد ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب على حمار عليه إكاف ، تحته قطيفة فدكية ، وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج قبل وقعة بدر ، قال : فسار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة ، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه ثم قال : لا تغيروا علينا ، فسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم وقف فنزل ، فدعاهم إلى الله تعالى ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : أيها المرء ، إنه لا أحسن مما تقول ، أي لا شيء أحسن منه إن كان حقا ، فلا تؤذنا به في مجالسنا وارجع إلى رحلك ، فمن جاء فاقصص عليه ، فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا ، فإنا نحب ذلك ، فما لبث المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتحاربون ، فلم يزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخفضهم حتى سكتوا. ا ه. قوله : (ومر على ابن أبي) أي وكان من الخزرج ، وقوله : (فقال ابن رواحة) أي وكان من الأوس. قوله : (وسد ابن أبي أنفه) أي وقال : إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك. قوله : (فكان بين قوميهما) أي وهما الأوس والخزرج. قوله : (والسعف) أي وهو جريدة النخل ، إذا كان عليه الخوص ، فإن جرد منه قيل له عسيب. قوله : (وقرىء) أي شذوذا.

قوله : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) أي أبت النصيحة والإجابة إلى حكم الله. قوله : (حَتَّى تَفِيءَ حَتَّى) هنا للغاية ، والنصب بأن المضمرة بعدها ، أي إلى أن ترجع الخ. قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي بالنصح والدعاء إلى حكم الله. قوله : (بالإنصاف) أي فلا تجوروا على إحدى الطائفتين ، بل احكموا بينهما بالإنصاف. قوله : (اعدلوا) أشار به إلى أن أقسط معناه عدل ، فهمزته للسلب ، بخلاف

٦٤

الدين (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إذا تنازعا وقرىء إخوتكم بالفوقانية (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٠) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ) الآية ، نزلت في وفد تميم حين سخروا من فقراء المسلمين ، كعمار وصهيب ، والسخرية الازدراء والاحتقار (قَوْمٌ) أي رجال منكم (مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) عند الله (وَلا نِساءٌ) منكم (مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا

____________________________________

قسط ، فمعناه جار ، قال تعالى (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) كالتعليل لما قبله. قوله : (إِخْوَةٌ) (في الدين) أي من حيث إنهم ينتسبون إلى أصل واحد وهو الإيمان.

قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) خص الاثنين بالذكر ، لأنهما أقل من يقع بينهما النزاع ، فإذا ألزمت المصالحة بين الأقل ، كانت بين الأكثر أولى. قوله : (وقرىء) أي شذوذا ، وهذه القراءة تدل على أن قراءة التثنية معناها الجماعة. قوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي على تقواكم ، وفي هذا الترجي إطماع من الكريم الرحيم.

قوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ) الخ ، يقال : سخر منه سخرا ، من باب تعب ، والاسم السخرية بضم السين وكسرها ، والسخرة بوزن غرفة ، ما سخرته من خادم أو دابة بلا أجرة أو ثمن. قوله : (سخروا من فقراء المسلمين) أي لما رأوا من رثاثة حالهم وتقشفهم ، وهذا كان في أول إسلامهم قبل تمكنهم منه ، وإلا فقد صاروا بعد ذلك إخوانا متحابين في الله. قوله : (كعمار) الخ ، أي وهم أهل الصفة ، الذين قال الله فيهم (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. قوله : (أي رجال منكم) أشار بذلك إلى أن القوم اسم جمع ، بمعنى الرجال خاصة ، واحده في المعنى رجل ، وقيل : جمع لا واحد له ، من لفظه يدل على تخصيصه بالرجال ، مقابلته بقوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) وهذا هو الموافق لأصل اللغة ، قال الشاعر :

وما أدري ولست أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وأما قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح) ونحوه ، فالمراد ما يشمل النساء ، لكن بطريق التبع ، لأن قوم كل نبي رجال ونساء ، وسمي الرجال قوما ، لأنهم قوامون على النساء. قوله : (منكم) قيد به قوم المرفوع ، وتركه في المجرور ، ويصح تقييده بكل ، ويقال نظيره في قوله : (وَلا نِساءٌ) الخ. قوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) الجملة مستأنفة لبيان العلة الموجبة للنهي ، ولا خبر لعسى ، لأنه يغني عنه فاعلها ، والمعنى : لا يحتقر أحدا أحدا ، فلعل من يحتقر ، يكون عند الله أعلى وأجل ممن احتقره ، وبالجملة فينبغي للإنسان أن لا يسخر بأخيه في الدين ، بل ولا بأحد من خلق الله ، فلعله يكون أخلص ضميرا ، وأتقى قلبا ممن سخر به ، ولقد بلغ بالسلف الصالح هذا الأمر ، حتى قال بعضهم : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه ، لخشيت أن أصنع مثل ما صنع ، وقال عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول ، لو سخرت من كلب ، لخشيت أن أحول كلبا. قوله : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) قال أنس : نزلت في صفية بنت حيي ، بلغها أن حفصة قالت : بنت يهودي فبكت ، فدخل عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تبكي فقال : ما يبكيك؟ قالت : قالت لي حفصة إني بنت يهودي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لابنة نبي ، وعمك نبي ، وإنك لتحت نبي ، ففيم تفتخر عليك؟ ثم قال : اتقي الله يا حفصة. وذكر النساء لمزيد الإيضاح والتبيين ، ولدفع توهم

٦٥

تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) لا تعيبوا فتعابوا ، أي لا يعب بعضكم بعضا (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) لا يدع بعضكم بعضا بلقب يكرهه ، ومنه يا فاسق يا كافر (بِئْسَ الِاسْمُ) أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز (الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) بدل من الاسم ، لإفادة أنه فسق لتكرره عادة (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من ذلك (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي مؤثم وهو كثير ، كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين وهم كثير بخلافه

____________________________________

أن هذا النهي خاص بالرجال. قوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) اللمز في الأصل الإشارة بالعين ونحوها. قوله : (ولا تعيبوا فتعابوا) أشار بذلك إلى توجيه قوله : (أَنْفُسَكُمْ) وذلك لأن الإنسان إذا عاب غيره ، عابه ذلك الغير ، فقد عاب الشخص نفسه بتسببه. قوله : (أي لا يعب بعضكم بعضا) هذا توجيه آخر ، فكان الأولى للمفسر أن يأتي بأو ، والمعنى : أن المؤمنين كشخص واحد ، فمن عاب غيره ، كأنه عاب نفسه ، ومن هذا المعنى قول العارف :

إذا شئت أن تحيا سعيدا من الردى

وحظك موفور وعرضك صين

لسانك لا تذكر به عورة امرىء

فكلك عورات وللناس ألسن

وعينك إن أبدت إليك معايبا

فدعها وقل يا عين للناس أعين

فعاشر بمعروف وسامح من اعتدى

وفارق ولكن بالتي هي أحسن

قوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) النبز بفتح الباء اللقب مطلقا ، حسنا أو قبيحا ، ثم صار مخصوصا بما يكرهه الشخص ، وسبب نزول هذه الآية كما قال جبيرة بن الضحاك الأنصاري : قدم علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس منا رجل إلا له اسمان أو ثلاثة ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : يا فلان ، فيقولون : مه يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا الاسم ، فأنزل الله هذه الآية ، ومن ذلك الشتم كقولك لأخيك : يا كلب يا حمار ونحو ذلك ، والمراد بهذه الألقاب ما يكرهه المخاطب ، وأما الألقاب التي صارت كالأعلام لأصحابها ، كالأعمش والأعرج ، وما أشبه ذلك ، فلا بأس بها ، إذا لم يكرهه المدعو بها ، وأما الألقاب التي تشعر بالمدح فلا تكره ، كما قيل لأبي بكر : عتيق ، ولعمر فاروق ، ولعثمان : ذو النورين ، ولعلي : أبو تراب ، ولخالد : سيف الله ، ونحو ذلك. قوله : (بِئْسَ الِاسْمُ بِئْسَ) فعل ماض ، والاسم فاعل ، وقوله : (الْفُسُوقُ) بدل من الاسم كما قال المفسر ، وعليه فالمخصوص بالذم محذوف تقديره هو ، والأوضح إعرابه مخصوصا بالذم ، والمراد بالاسم الذكر المرتفع. قوله : (الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي الاتصاف بالفسوق ، بعد الاتصاف بالإيمان ، والمراد بالفسوق : الخروج عن الطاعة. قوله : (لإفادة أنه) أي ما ذكر من السخرية ، الخ. قوله : (لتكرره عادة) أي إنه وإن كان المذكور صغيرة لا يفسق بها ، لكنه في العادة يتكرر ، فيصير كبيرة يفسق بها. قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي الضارون لأنفسهم بمعاصيهم ومخالفاتهم ، ففي هذه الآيات وصف المؤمنين بالفسق والظلم ، وإن كان في غالب الآيات ، إطلاق الفسق والظلم على أهل الكفر. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) قيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غزا أو سافر ، ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين ، يخدمهما ويتقدمهما إلى المنزل ، فيهيىء لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان إلى

٦٦

بالفساق منهم فلا إثم فيه في نحو ما يظهر منهم (وَلا تَجَسَّسُوا) حذف منه إحدى التاءين ، لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) لا يذكره بشيء

____________________________________

رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل ، فغلبته عيناه فنام ، ولم يهيىء لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئا؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى رسول الله فاطلب لنا منه طعاما ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله طعاما ، فقال رسول الله : انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عنده فضل طعام وإدام فليعطك ، وكان إسامة خازن طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئا ، فلما رجع قالوا : لو بعثناك إلى بئر سمحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله ، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما : ما لى أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ قال : والله يا رسول الله ، ما تناولنا يومنا هذا لحما ، قال : ظلمتما بأكل لحم سلمان وأسامة ، فنزلت الآية ، والمعنى : أن الله تعالى نهى المؤمن أن يظن بأخيه المؤمن شرا ، كأن يسمع من أخيه المسلم كلاما لا يريد به سوءا ، أو يدخل مدخلا لا يريد به سوءا ، فيراه أخوه المسلم فيظن به سوءا ، لأن بعض الفعل قد يكون في الصورة قبيحا ، وفي نفس الأمر لا يكون كذلك ، لجواز أن يكون فاعله ساهيا ، ويكون الرائي مخطئا ، فأما أهل السوء والفسق المتجاهرين بذلك ، فلنا أن نظن فيهم مثل الذي يظهر منهم.

قوله : (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) أبهم الكثير إشارة إلى أنه ينبغي الاحتياط والتأمل في كل ظن ، خوف أن يقع في منهي عنه ، قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن يظن ويتكلم به ، والآخرة ليس بإثم ، وهو أن يظن ولا يتكلم به. قوله : (وهو) أي بعض الظن كثير ، وقوله : (وهم) أي أهل الخير. قوله : (بخلافه بالفساق منهم) أي المؤمنين ، وقوله : (في نحو ما يظهر منهم) أي نحو المعاصي التي تظهر منهم ، بأن يتجاهروا بها.

قوله : (وَلا تَجَسَّسُوا) العامة على قراءته بالجيم ، وقرىء شذوذا بالحاء ، واختلف فقيل معناهما واحد ، وقيل التجسس بالجيم البحث عما يكتم عنك ، والتحسس بالحاء طلب الأخبار والبحث عنها ، والمعنى : خذوا ما ظهر ، ولا تتبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عوراتهم ، تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته. قوله : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) اعلم أن الغيبة ثلاثة أوجه في كتاب الله تعالى : الغيبة والإفك والبهتان ، فأما الغيبة فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه ، وأما الإفك فهو أن تقول فيه ما بلغك عنه ، وأما البهتان فهو أن تقول فيه ما ليس فيه ، وقيل : إن كلا يطلق على كل وهو المشهور.

ـ واعلم ـ أن هذه الأمور المتقدم ذكرها كبائر تحتاج لتوبة ، وهل تفتقر لاستحلال المغتاب ونحوه أو لا؟ فقال جماعة : ليس عليه الاستحلال ، بل يكفيه التوبة بينه وبين الله ، لأن المظلمة ما تكون في النفس والمال ، ولم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه ، وقال جماعة : يجب عليه أن يستغفر لصاحبها ، لما ورد عن الحسن : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ، وقال جماعة : عليه الاستحلال منها ولو اجمالا ، ويستثنى من الغيبة المحرمة سبعة أمور نظمها بعضهم بقوله :

٦٧

يكرهه وإن كان فيه (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) بالتخفيف والتشديد ، أي لا يحسن به لا (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته ، وقد عرض عليكم الثاني فكرهتموه فاكرهوا الأول (وَاتَّقُوا اللهَ) أي عقابه في الاغتياب بأن تتوبوا منه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ) قابل توبة التائبين (رَحِيمٌ) (١٢) بهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) آدم وحواء (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً) جمع شعب بفتح الشين ، هو أعلى طبقات النسب (وَقَبائِلَ) هي دون

____________________________________

تظلم واستغث واستفت حذر

وعرف بدعة فسق المجاهر

قوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ) الخ ، تمثيل لما يناله المغتاب من عرض من اغتابه على أقبح وجه ، وإنما مثله بهذا ، لأن أكل لحم الميت حرام في الدين ، وقبيح في النفوس. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (لا يحسن به) تفسير لميتا ، وقوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) الضمير عائد على الأكل المفهوم من (يَأْكُلَ.) قوله : (أي فاغتيابه في حياته) الخ ، في هذا التمثيل اشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ودمه ، لأن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه ، كما يتألم جسمه من قطع لحمه ، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الإنسان ، لم يحسن منه قرض عرضه بالأولى. قوله : (قابل توبة التائبين) يشير به إلى أن المبالغة في تواب ، للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده ، لأنه ما من ذنب إلا ويعفو الله عنه بالتوبة إذا استوفيت شروطها. واعلم أنه تعالى ختم الآيتين بذكر التوبة فقال (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال هنا (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) ذكر النفي الذي هو قريب من النهي ، وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) ذكر الاثبات الذي هو قريب من الأمر تأمل.

قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) اختلف في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن عباس : لما كان يوم فتح مكة ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا حتى علا ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي الفيض : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم ، وقال الحرث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ، وقال سهل بن عمرو : وإن يرد الله شيئا يغيره ، وقال أبو سفيان : أنا لا أقول شيئا أخاف أن يخبره رب السماوات ، فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، زجرا لهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، وأن المدار على التقوى ، لأن الجميع من آدم وحواء ، وإنما الفضل بالتقوى ، وقيل : نزلت في أبي هند ، حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله : نزوج بناتنا موالينا؟ وقيل : نزلت في قيس بن ثابت حين قال له رجل : افسح لي ، فقال : إن ابن فلانة يقول : افسح لي ، كناية عن استخفافه به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من الذاكر فلانة؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انظر في وجوه القوم ، فنظر فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأيت؟ قال ثابت : رأيت أبيض وأسود وأحمر ، فقال : إنك لا تفضلهم إلا بالتقوى ، ونزل فيه أيضا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) الآية. قوله : (آدم وحواء) لف ونشر مرتب. قوله : (هو أعلى طبقات النسب) أي فالشعوب

٦٨

الشعوب وبعدها العمائر ثم البطون ثم الأفخاذ ثم الفصائل آخرها مثاله خزيمة شعب كنانة قبيلة قريش عمارة بكسر العين قصي بطن هاشم فخذ العباس فصيلة (لِتَعارَفُوا) حذف منه إحدى التاءين ليعرف بعضكم بعضا لا لتفاخروا بعلو النسب ، وإنما الفخر بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بكم (خَبِيرٌ) (١٣) ببواطنكم (قالَتِ الْأَعْرابُ) نفر من بني أسد (آمَنَّا) صدقنا بقلوبنا (قُلْ) لهم (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) انقدنا ظاهرا (وَلَمَّا) أي لم (يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) إلى الآن لكنه يتوقع منكم (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإيمان وغيره (لا يَلِتْكُمْ) بالهمز وتركه وبإبداله ألفا لا ينقصكم (مِنْ أَعْمالِكُمْ) أي من ثوابها (شَيْئاً إِنَّ اللهَ

____________________________________

رؤوس القبائل ، وسمي شعبا لتشعب القبائل منه. قوله : (ثم الفصائل آخرها) أي فالمراتب ست ، وزاد بعضهم سابعة وهي العشيرة ، وكل واحدة تدخل فيما قبلها ، فالقبائل تحت الشعوب ، والعمائر تحت القبائل ؛ والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل. قوله : (بكسر العين) أي وفتحها ، ففيها لغتان ، لكن الأفصح الفتح. قوله : (ليعرف بعضكم بعضا) أي فتصلوا أرحامكم وتنتسبوا لآبائكم. قوله : (وإنما الفخر بالتقوى) أي الافتخار المحمود ، إنما يكون على أهل الكفر بترك الشرك والتمسك بالإسلام وشعائره.

قوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي أعزكم عند الله أكثركم تقوى ، فهي سبب رفعة القدر في الدنيا والآخرة ، وانظر إلى قوله : (أَتْقاكُمْ) ولم يقل أكثركم مالا ولا جاها ، ولا احسنكم صورة ، ولا غير ذلك من الأمور التي تفتى. قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي يعلم ظواهركم خبير يعلم بواطنكم ، فلا يخفى عليه شيء. قوله : (نفر من بني أسد) أشار بذلك إلى سبب نزول هذه الآية ، وذلك أنهم قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام ، ولم يكونوا مؤمنين في السر ، وأفسدوا طريق المدينة بالعذرات وأعلوا اسعارها ، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، ونحن جئناك بالأطفال والعيال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويريدون الصدقة ويقولون أعطنا ، فنزلت هذه الآية. قوله : (صدقنا بقلوبنا) جواب عما يقال : إن الإسلام والإيمان متلازمان ، فأجاب : بأن المنفي هنا الإيمان بالقلب ، والمثبت الانقياد ظاهرا ، فهما متغايران بهذا الاعتبار ، وأما الإسلام والإيمان الشرعيان المعتبران متحدان ما صدقا ، وإن كان مفهومهما مختلفا ، إذ الإيمان هو التصديق القلبي بشرط التعلق بالشهادتين ، والإسلام الانقياد الظاهري الناشىء عن التصديق القلبي.

قوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي فلا تقولوا آمنا ، وقوله : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي فحصل منكم الإسلام ظاهرا ، ففي الآية احتباك ، حذف من كل نظير ما أثبت في الآخر. قوله : (إلى الآن) أخذه من لما ، لأن نفيها مختص بالحال ، وقوله : (لكنه يتوقع منكم) أشار إلى أن منفي لما متوقع الحصول ، ففيه بشارة لهم بأنهم سيؤمنون وقد حصل ، وبهذا اندفع ما قد يتوهم من أن هذه الجملة مكررة مع قوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) وإيضاح الجواب أن هذه الجملة أفادت معنى زائدا ، وهو نفي الإيمان مع توقع حصوله ، بخلاف الأولى فإنها أفادت نفيه فقط ، قوله : (بالهمز) أي من ألت من بابي ضرب ونصر. قوله : (وتركه) أي من

٦٩

غَفُورٌ) للمؤمنين (رَحِيمٌ) (١٤) بهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الصادقون في إيمانهم كما صرح به بعد (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكوا في الإيمان (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فجهادهم يظهر صدق إيمانهم (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) في إيمانهم لا من قالوا آمنا ولم يوجد منهم غير الإسلام (قُلْ) لهم (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) مضعف علم بمعنى شعر أي أتشعرونه بما أنتم عليه في قولكم آمنا (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٦) (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتاله منهم (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) منصوب بنزع الخافض الباء ويقدر قبل أن في الموضعين (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٧) في قولكم آمنا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب فيهما (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٨) بالياء والتاء لا يخفى عليه شيء منه.

____________________________________

لات يليت كباع يبيع ، فحذفت منه عين الكلمة وهي الياء ، وقيل : هو من ولت يلت ، كوعد يعد ، فحذفت منه فاء الكلمة وهي الواو قوله : (وبإبداله ألفا) أي فالقراءات ثلاثة سبعيات.

قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ خبره قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا.) قوله : (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أتى بثم إشارة إلى أن نفي الريب لم يكن وقت حصول الإيمان ، بل هو حاصل فيما يستقبل فكأنه قال : ثم داموا على ذلك. قوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي طاعته. قوله : (فجهادهم يظهر صدق إيمانهم) أي أن الجهاد في سبيل الله ، دل على أنهم صادقون في الإيمان وليسوا منافقين ، وهو جواب عن سؤال وهو أن العمل ليس من الإيمان ، فكيف ذكر أنه منه في هذه الآية؟ وإيضاح الجواب عنه : أن المراد من الآية الإيمان الكامل. قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فيه تعريض بكذب الأعراب في ادعائهم الإيمان ، فلما نزلت هاتان الآيتان ، أتت الأعراب رسول الله يحلفون أنهم مؤمنون صادقون ، وعلم الله منهم غير ذلك ، فأنزل الله (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ) الخ. قوله : (مضعف علم بمعنى شعر) أي وهو بهذا المعنى متعد لواحد فقط ، وبواسطة التضعيف يتعدى لاثنين ، أولهما بنفسه ، والثاني بحرف الجر. قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) الخ ، الجملة حالية.

قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعطون إسلامهم منه عليك. قوله : (من غير قتال) أي لك ولأصحابك. قوله : (ويقدر) أي الخافض الذي هو الباء. والحاصل أنه مقدر في ثلاثة مواضع : الأول منها قوله : (أَنْ أَسْلَمُوا.) الثاني قوله : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ.) الثالث قوله : (أَنْ هَداكُمْ) فموضعان فيهما (أَنْ) وموضع خال عنها. قوله : (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي على حسب زعمكم ، كأنه قال : إن إيمانكم على فرض حصوله منه من الله عليكم. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي فلا يخفى عليه شيء فيهما. قوله : بالياء) أي نظرا لقوله : (يَمُنُّونَ) وما بعده ، وقوله : (والتاء) أي نظرا لقوله : (لا تَمُنُّوا) وهما قراءتان سبعيتان.

٧٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق

مكيّة

وآياتها خمس وأربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق) الله أعلم بمراده به (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) الكريم ما آمن كفار مكة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) رسول من أنفسهم يخوّفهم بالنار بعد

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق مكية

إلا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية فمدنية. وهي خمس وأربعون آية.

أي كلها على أحد القولين ، وقوله : (إلا ولقد خلقنا) على القول الآخر ، فكان المناسب للمفسر أن يقول أو إلا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا) ليكون مشيرا للقولين. قوله : (ق) العامة على قراءته بالسكون وقرىء شذوذا بالبناء على الكسر والفتح والضم. قوله : (الله أعلم بمراده) تقدم غير مرة أن هذا القول أصح وأسلم ، وقيل : هو حبل محيط بالأرض ، من زمردة خضراء اخضرت السماء منه ، وعليه طرفا السماء ، والسماء عليه مقبية ، وما أصاب الناس من زمرد ، كان مما تساقط من ذلك الجبل ، وقال وهب : أشرف ذو القرنين على جبل ق ، فرأى تحته جبالا صغارا فقال له : ما أنت؟ قال : أناق ، قال : فما هذه الجبال حولك؟ قال : هي عروقي ، وما مدينة إلا وفيها عرق من عروقي ، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك ، فتزلزلت تلك الأرض. فقال له : يا ق أخبرني بشيء من عظمة الله ، قال : إن شأن ربنا لعظيم ، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام ، في خمسمائة من جبال ثلج ، بعضها يحطم بعضا ، لولا هي لاحترقت من حر جهنم ، ثم قال : زدني ، قال : إن جبريل عليه‌السلام واقف بين يدي الله ترتعد فرائصه ، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك ، فهؤلاء الملائكة واقفون بين يدي الله منكسون رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا الله ، وهو قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) وقيل : معنى (ق) قضي الأمر ، كما قيل في حم : حم الأمر ، وقيل : هو اسم من أسمائه تعالى أقسم به ، وقيل هو اسم من أسماء القرآن ، وقيل : هو افتتاح كل اسم من أسمائه تعالى في أوله ق ، كقادر وقهار وقوي ، ولعظم فضل تلك السورة ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الأضحى والفطر بها ، وباقتربت الساعة ، وكان يقرؤها على المنبر يوم الجمعة إذا خطب الناس. قوله : (الكريم) أي فكل من طلب منه مقصوده وجده فيه. قوله : (ما آمن كفار مكة) الخ ، قدره إشارة إلى أن جواب القسم محذوف ،

٧١

البعث (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا) الإنذار (شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢) (أَإِذا) بتحقيق الهمزتين ، وتسهيل الثانية ، وإدخال ألف بينهما على الوجهين (مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) نرجع (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) في غاية البعد (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ) تأكل (مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤) هو اللوح المحفوظ ، فيه جميع الأشياء المقدرة (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) بالقرآن (لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ) في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) مضطرب قالوا مرّة ساحر وسحر ، ومرّة شاعر وشعر ، ومرّة كاهن وكهانة (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) بعيونهم ، معتبرين بعقولهم حين أنكروا البعث (إِلَى السَّماءِ) كائنة (فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) بلا عمد (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦) شقوق تعيبها (وَالْأَرْضَ) معطوف على موضع إلى السماء كيف (مَدَدْناها) دحوناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا تثبتها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) صنف (بَهِيجٍ) (٧) يبهج به لحسنه (تَبْصِرَةً) مفعول له ، أي فعلنا ذلك تبصيرا منا (وَذِكْرى) تذكيرا (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (٨) رجاع إلى طاعتنا (وَنَزَّلْنا مِنَ

____________________________________

وهو أسهل الأعاريب.

قوله : (بَلْ عَجِبُوا) اضراب عن جواب القسم المحذوف ، لبيان أحوالهم الشنيعة ، والعجب استعظام أمر خفي سببه ، وهذا بالنسبة لعقولهم القاصرة حيث قالوا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.) قوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ) حكاية لبعض تعجبهم وأقاويلهم الباطلة. قوله : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي يتعجب منه ، لأنه خارج عن طور عقولنا. قوله : (أَإِذا مِتْنا) معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (نرجع). قوله : (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه فالقراءات أربع سبعيات لا اثنتان كما توهمه عبارته. قوله : (بَعِيدٌ) أي عن العادة.

قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) رد لاستبعادهم وتعجبهم. قوله : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) الجملة حالية ، والكلام على تشبيه علمه بتفاصيل الأشياء ، بعلم من عنده كتاب حاو محفوظ يطلع عليه. قوله : (هو اللوح المحفوظ) أي وهو من درة بيضاء ، مستقرة على الهواء ، فوق السماء السابعة ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب. قوله : (فيه جميع الأشياء) يحتمل أن الجار والمجرور متعلق بالمحفوظ و (جميع) نائب فاعل متعلق به ، ويحتمل أنه خبر مقدم و (جميع) مبتدأ مؤخر. قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) انتقال من شناعتهم إلى ما هو أشنع ، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الظاهرة. قوله : (مَرِيجٍ) (مضطرب) أي مختلط يقال : مرج الأمر ، ومرج الدين اختلط.

قوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير : أغفلوا وعموا فلم ينظروا إلى السماء ، الخ. قوله : (كائنة) (فَوْقَهُمْ) أشار به إلى أن (فَوْقَهُمْ) حال من (السَّماءِ.) قوله : (كَيْفَ بَنَيْناها كَيْفَ) مفعول مقدم ، وجملة (بَنَيْناها) بدل من (السَّماءِ.) قوله : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) الجملة حالية. قوله : (معطوف على موضع إلى السماء) أي المنصوب بينظروا. قوله : (يبهج به) أي يسر ، وفيه إشارة إلى أن فعيل بمعنى فاعل ، أي يحصل السرور به. قوله : (مفعول له) أي لأجله ، ويصح أن يكونا منصوبين على المصدرية ، والتقدير : بصرناهم تبصرة ، وذكرناهم تذكرة. قوله : (تبصيرا منا) أي تعليما وتفهيما ، والتبصرة والتذكرة إما عائدان على كل من (السَّماءِ) و (الْأَرْضَ) والمعنى خلقنا السماوات تبصرة وذكرى ،

٧٢

السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) كثير البركة (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) بساتين (وَحَبَ) الزرع (الْحَصِيدِ) (٩) المحصود (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) طوالا حالا مقدرة (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (١٠) متراكب بعضه فوق بعض (رِزْقاً لِلْعِبادِ) مفعول له (وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) يستوي فيه المذكر والمؤنث (كَذلِكَ) أي مثل هذا الأحياء (الْخُرُوجُ) (١١) من القبور فكيف تنكرونه والاستفهام للتقرير ، والمعنى أنهم نظروا وعلموا ما ذكر (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) تأنيث الفعل لمعنى قوم (وَأَصْحابُ الرَّسِ) هي بئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام ، ونبيهم قيل حنظلة بن صفوان ، وقيل غيره (وَثَمُودُ) (١٢) قوم صالح (وَعادٌ) قوم هود (وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ) (١٣) (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ)

____________________________________

والأرض تبصرة وذكرى ، ويحتمل أنه لف ونشر مرتب ، فالسماء تبصرة ، والأرض تذكرة ، والفرق بينهما أن التبصرة تكون فيما آياته مستمرة ، والتذكرة فيما آياته متجددة. قوله : (رجاع إلى طاعتنا) أي ذا رجوع وإقبال عليه ، فالصيغة للنسبة لا للمبالغة.

قوله : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) قدر المفسر الزرع إشارة إلى أنه حذف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه. قوله : (المحصود) أي الذي شأنه أن يحصد كالبر والشعير ، وفيه مجاز الأول ، أي الزرع الذي يؤول إلى كونه محصودا. قوله : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) يقال : بسقت النخلة بسوقا من باب قعد طالت ، فهي باسقة ، والجمع باسقات وبواسق ، وبسق الرجل بهر في علمه. قوله : (حال مقدرة) أي لأنها وقت الإنبات لم تكن طوالا ، وأفردها بالذكر لكثرة منافعها وزيادة ارتفاعها. قوله : (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) الجملة حال من النخل مترادفة ، أو من الضمير في (باسِقاتٍ). قوله : (رِزْقاً لِلْعِبادِ) منصوب على الحال ، ولم يقيد العباد هنا بالانابة ، وقيد به في قوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب ، والرزق يعم كل أحد.

قوله : (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بذلك الماء ، وقوله : (بَلْدَةً مَيْتاً) أي أرضا جدبة يابسة ، فاهتزت وربت بذلك الماء ، وأنبتت من كل زوج بهيج. قوله : (يستوي فيه المذكر والمؤنث) جواب عن سؤال مقدر تقديره الأرض مؤنثة ، فكيف وصفها بالمذكر؟ وفي هذا الجواب نظر ، لأن استواء المذكر والمؤنث في فعيل وليس هنا ، والصواب أن التذكير باعتبار كونه مكانا. قوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) جملة قدم فيها الخبر لقصد الحصر ، والمعنى خروجهم من قبورهم ، مثل ما تقدم من عجائب خلق السماء وما بعدها. قوله : (والاستفهام للتقرير) الخ ، الأولى أن يقول للإنكار والتوبيخ ، قوله : (والمعنى) الخ ، غير صحيح ، إذ لو نظروا وعلموا لآمنوا.

قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) الخ ، كلام مستأنف قصد به تقرير حقيقة البعث والوعيد لقريش ، والتسلية لرسول الله. قوله : (لمعنى قوم) أي لأنه بمعنى أمة. قوله : (هي بئر) أي فخسفت تلك البئر مع ما حولها ، فذهبت بهم وبأموالهم. قوله : (وقيل غيره) هو شعيب أو نبي آخر أرسل بعد صالح لبقية من ثمود. قوله : (وَثَمُودُ) ذكرهم بعد أصحاب الرس ، لأن الرجفة التي أخذتهم مبدأ الخسف لأصحاب الرس ، وأتبع ثمود بعاد ، لأن الريح التي أهلكتهم أثر صيحة ثمود. قوله : (وَإِخْوانُ لُوطٍ) تقدم أنه ابن أخي إبراهيم ، وأنه هاجر معه من العراق إلى الشام ، فنزل إبراهيم بفلسطين ، ونزل لوط بسذوم ، وأرسله الله إلى أهلها وهو أجنبي منهم ، فكيف يقال إخوانه! أجيب : بأنه تزوج فصار صهرا

٧٣

أي الغيضة قوم شعيب (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه (كُلٌ) من المذكورين (كَذَّبَ الرُّسُلَ) كقريش (فَحَقَّ وَعِيدِ) (١٤) وجب نزول العذاب على الجميع ، فلا يضق صدرك من كفر قريش بك (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي لم نعي به فلا نعيا بالإعادة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) شك (مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) وهو البعث (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ) حال بتقدير نحن (ما) مصدرية (تُوَسْوِسُ) تحدث (بِهِ) الباء زائدة أو للتعدية ، والضمير للإنسان (نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) بالعلم (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) الإضافة للبيان ،

____________________________________

لهم ، فالأخوة من حيث ذلك. قوله : (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) تقدم الكلام عليهم في الشعراء. قوله : (أي الغيضة) أي وهي الشجر الملتف ، وهي هنا بأل المعرفة ، وفي ص والشعراء بأل ودونها قراءتان سبعيتان. قوله : (هو ملك كان باليمن) وقيل نبي وهو تبع الحميري ، واسمه اسعد ، وكنيته أبو قرن. قوله : (كُلٌ) التنوين عوض عن المضاف ، أي كل أمة ، والمراد بالكل الكل المجموعي. قوله : (كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي ولو بالواسطة كتبع. قوله : (فَحَقَّ وَعِيدِ) مضاف لياء المتكلم ، حذفت الياء وبقيت الكسرة دليلا عليها. قوله : (فلا يضيق صدرك) أي لما تقدم أنه تسلية لرسول الله وتهديد لهم.

قوله : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والأصل أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يحكموا بعجزنا عن الاعادة؟ وفيه إلزام لمنكري البعث ، والعي العجز. قوله : (بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الباء سببية أو بمعنى عن ، والاستفهام انكاري بمعنى النفي. قوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ) عطف على مقدر يقتضيه السياق ، كأنه قيل هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول ، بل هم في خلط وشبهة من خلق جديد ، لما فيه من مخالفة العادة ، وتنكير خلق لتفخيم شأنه والإشعار بخروجه عن حدود العادات. قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) المراد به الجنس الصادق بآدم وأولاده. قوله : (حال بتقدير نحن) أي لأن الجملة المضارعية المثبتة إذا وقعت حالا ، لا تقترن بالواو ، بل تحوي الضمير فقط ، فإن اقترنت بالواو ، أعربت خبر المحذوف ، وتكون الجملة الاسمية حالا ، قال ابن مالك :

وذات بدء بمضارع ثبت

حوت ضميرا ومن الواو خلت

وذات واو بعدها انو مبتدا

له المضارع اجعلن مسندا

قوله : (ما مصدرية) أي والتقدير : ونعلم وسوسة نفسه إياه ، ويصح أن تكون موصولة والضمير عائد عليها ، والتقدير : ونعلم الأمر الذي تحدث نفسه به. قوله : (الباء زائدة) أي فهو نظير صوت بكذا ، وقوله : (أو للتعدية) أي فالنفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة. قوله : (والضمير للإنسان) أي فجعل الإنسان مع نفسه شخصين ، تجري بينهما مكالمة ومحادثة ، تارة يحدثها وتارة تحدثه ، وهذه الوسوسة لا يؤاخذ بها الإنسان خيرا أو شرا ، ومثلها الخاطر والهاجس ، وأما الهم فيكتب في الخير لا في الشر ، وأما العزم فيكتب خيرا أو شرا ، وقد تقدم ذلك. قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي لأن الله لا يحجبه شيء ، بل هو القائم على كل نفس ، لا تخفى عليه خافية ، فقربه تعالى من عبده اتصال تصاريفه فيه ، بحيث لا يغيب عنه طرفة عين ، قال تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ).

٧٤

والوريدان عرقان بصفحتي العنق (إِذْ) ناصبه اذكر مقدرا (يَتَلَقَّى) يأخذ ويثبت (الْمُتَلَقِّيانِ) الملكان الموكلان بالإنسان ما يعمله (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) منه (قَعِيدٌ) (١٧) أي قاعدان ، وهو مبتدأ خبره ما قبله (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) حافظ (عَتِيدٌ) (١٨) حاضر ، وكل منهما بمعنى المثنى (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) غمرته وشدته (بِالْحَقِ) من أمر الآخرة حتى يراه المنكر لها عيانا ، وهو نفس الشدة (ذلِكَ) أي الموت (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) تهرب وتفزع (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) للبعث (ذلِكَ) أي يوم النفخ (يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) للكفار بالعذاب (وَجاءَتْ) فيه (كُلُّ نَفْسٍ) إلى المحشر (مَعَها سائِقٌ) ملك يسوقها إليه (وَشَهِيدٌ) (٢١) يشهد عليها بعملها ،

____________________________________

قوله : (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هذا مثل في شدة القرب ، والحبل العرق. قوله : (والوريدان عرقان بصفحتي العنق) أي مكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما يتصلان بالوتين وهو عرق متصل بالقلب ، وبالأبهر وهو عرق في الظهر ، وبالأكحل وهو عرق في الذراع ، وبالنسا وهو عرق في الفخذ ، وبالأسلم وهو عرق في الخنصر متى قطع من أي جهة مات صاحبه ، قال القشيري : في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم ، أي بحسب تجلي الله تعالى وشهوده ، فإذا شهد الإنسان جلال الله وهيبته وشدة بطشه وسرعة انتقامه ، مع شدة تمكنه منه واتصال تصاريفه به ، ذاب من خشية الله ، وإذا شهد جمال الله ورحمته وإحسانه أنس وفرح. قوله : (يأخذ ويثبت) أي يكتبان في صحيفتي الحسنات والسيئات ، وقلبهما لسانه ، ومدادهما ريقه ، ومحلهما من الإنسان نواجذه. قوله : (ما يعمله) مفعول (يَتَلَقَّى.) قوله : (أي قاعدان) أشار بذلك إلى أن (قَعِيدٌ) مفرد أقيم مقام المثنى ، لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع. قوله : (وهو مبتدأ خبره ما قبله) أي والجملة في محل نصب على الحال من المتلقيان.

قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) الخ (ما) نافية و (مِنْ) زائدة في المفعول ، وقوله : (لَدَيْهِ) خبر مقدم ، و (رَقِيبٌ) مبتدأ مؤخر ، والجملة حالية. قوله : (وكل منهما بمعنى المثنى) أي فالمعنى إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان ، فكل منهما موصوف بأنه رقيب وعتيد ، وقوله : (حاضر) أي فلا يفارقه إلا في مواضع ثلاثة : في الخلاء ، وعند الجماع ، وفي حال الجنابة ، فإذا فعل العبد في تلك الحالات حسنة أو سيئة ، عرفاها برائحتها وكتباها. قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) أي حضرت إما بالموت فرادى وهو ظاهر واقع ، أو دفعة عند النفخة الأولى ، وإنما عبر عنها بالماضي لتحقق وقوعها ، وإشارة إلى أنها في غاية القرب. قوله : (بِالْحَقِ) الباء للتعدية ، أي أتت بالأمر الحق أي أظهرته ، والمراد به ما بعد الموت من أهوال الآخرة ، ومعنى كونه حقا أنه واقع لا محالة. قوله : (وهو نفس الشدة) المناسب حذف هذه العبارة للاستغناء بما قبلها عنها ، إلا أن يقال إن الضمير في (هو) عائد على أمر الآخرة ، والمراد بالشدة الأمر الشديد ، وهو أهوال الآخرة. قوله : (تهرب) بضم الراء من باب طلب.

قوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) عطف على قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) و (الصُّورِ) هو القرن الذي ينفخ فيه اسرافيل ، لا يعلم قدره إلا الله تعالى ، وقد التقمه اسرافيل من حيث بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منتظرا للأذن بالنفخ. قوله : (إلى يوم النفخ) أي فالإشارة إلى الزمان المفهوم من قوله : (نُفِخَ) لأن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان. قوله : (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) اختلف في معنى السائق

٧٥

وهو الأيدي والأرجل وغيرها ، ويقال للكافر (لَقَدْ كُنْتَ) في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) النازل بك اليوم (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أزلنا غفلتك بما تشاهده اليوم (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) حادّ تدرك به ما أنكرته في الدنيا (وَقالَ قَرِينُهُ) الملك الموكل به هذا ما أي الذي (لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣) حاضر فيقال لمالك (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) أي ألق ألق ، أو ألقين ، وبه قرأ الحسن ، فأبدلت النون ألفا (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) (٢٤) معاند (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كالزكاة (مُعْتَدٍ) ظالم (مُرِيبٍ) (٢٥) شاكّ في دينه (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) مبتدأ ضمن معنى الشرط خبره (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) (٢٦) تفسيره مثل ما تقدم (قالَ قَرِينُهُ) الشيطان (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أضللته (وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٢٧) فدعوته فاستجاب لي وقال هو أطغاني بدعائه لي (قالَ) تعالى (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي ما ينفع الخصام هنا (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ) في الدنيا

____________________________________

والشهيد على أقوال : أشهرها ما قاله المفسر ، وقيل سائق كاتب السيئات ، والشهيد كاتب الحسنات ، وقيل السائق نفسه أو قرينه ، والشهيد جوارحه أو أعماله ، وقيل غير ذلك. قوله : (ويقال للكافر) هذا أحد قولين ، وقيل إن القول يقع للمسلم أيضا ، لكن على سبيل التهنئة ، ومعنى (كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ) كنت في حجاب لم تشاهده بالبصر ، إذ ليس راء كمن سمع ، فكشفنا عنك غطاءك ، فاهنأ بما رأيت ، وتمل بما أعطيت من النعيم المقيم.

قوله : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي حجابك ، وهو الغفلة والانهماك في الشهوات. قوله : (حاد) أي نافذ لزوال المانع للإبصار. قوله : (الملك الموكل به) أي في الدنيا لكتابة أعماله ، وهو الرقيب العتيد المتقدم ذكره ، والمعنى أن الملك يقول : هذا عمله المكتوب عندي حاضر لدي ، وقيل : المراد بقرينه الشيطان المقيض له ، واسم الإشارة عائد على ذات الشخص الكافر ، والمعنى يقول الشيطان : هذا الشخص الذي عندي حاضر معد ومهيأ للنار.

قوله : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) يصح أن تكون (ما) نكرة موصوفة ، و (عَتِيدٌ) صفتها ، و (لَدَيَ) متعلق بعتيد ، أي هذا شيء حاضر عندي ، ويصح أن تكون (ما) موصولة بمعنى الذي و (لَدَيَ) صلتها ، و (عَتِيدٌ) خبر الموصول ، والموصول وصلته خبر اسم الإشارة. قوله : (أي ألق ألق) الخ ، لما جعل المفسر الخطاب للواحد ، احتاج للجواب عن التثنية في قوله : (أَلْقِيا) فأجاب بجوابين ، الأول : أنه تثنية بحسب الصورة ، والأصل أن الفعل مكرر للتوحيد ، فحذف الثاني وعبر عنهما بضمير التثنية ، فعلى هذا يعرب بحذف النون ، والألف فاعل. الثاني : أن الألف ليست للتثنية ، بل هي منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة ، وأجرى الوصل هنا مجرى الوقف. قوله : (وبه قرأ الحسن) أي وهي قراءة شاذة. قوله : (معاند) أي معرض عن الحق مخالف له. قوله : (مبتدأ ضمن معنى الشرط) المناسب أن يقول : مبتدأ يشبه الشرط. قوله : (تفسيره) أي تخريجه مثل ما تقدم ، من حيث الاعتذار عن التثنية.

قوله : (قالَ قَرِينُهُ) الخ ، أي جوابا عما ادعاء الكافر عليه بقوله : هو أطغاني ، فالكافر أولا : يقول : الشيطان أطغاني. فيجيبه الشيطان بقوله : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) وكان الأولى للمفسر أن يقدم قوله : (هو أطغاني) بأن يقول : وقال قرينه ، جوابا لقوله : (هو أطغاني) (رَبَّنا) الخ. قوله : (لا تَخْتَصِمُوا)

٧٦

(بِالْوَعِيدِ) (٢٨) بالعذاب في الآخرة لو لم تؤمنوا ولا بد منه (ما يُبَدَّلُ) يغير (الْقَوْلُ لَدَيَ) في ذلك (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩) فأعذبهم بغير جرم ، وظلام بمعنى ذي ظلم لقوله (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ يَوْمَ) ناصبه ظلام (نَقُولُ) بالنون والياء (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) استفهام تحقيق لوعده بملئها (وَتَقُولُ) بصورة الاستفهام كالسؤال (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) (٣٠) أي فيّ لا أسع غير ما امتلأت به أي قد

____________________________________

خطاب للكافرين وقرنائهم. قوله : (أي ما ينفع الخصام هنا) أي في موقف الحساب. قوله : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) ظاهره أن الجملة حال من قوله : (لا تَخْتَصِمُوا) وهو مشكل بأن التقديم بالوعيد في الدنيا ، والاختصام في الآخرة. وأجيب : بأن الكلام على حذف ، والأصل وقد ثبت الآن أني قد تقدمت اليكم الخ. قوله : (ولا بد) أي لا تطمعوا أني أبدل وعيدي ، فإن وعيدي للكافرين محتم كوعدي للمؤمنين.

قوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ) المراد بالقول الوعيد بتخليد الكافر في النار. قوله : (في ذلك) أي في ذلك اليوم ، فاسم الإشارة عائد على يوم الحساب. قوله : (لا ظلم اليوم) أي وإذا انتفى الظلم عنه في هذا اليوم ، فنفي الظلم عنه في غيره أحرى ، سبحان من تنزه عن الظلم عقلا ونقلا. قوله : (ناصبه ظلام) أي والمعنى : ما أنا بظلام يوم قولي لجهنم الخ. قوله : (استفهام تحقيق لوعده بمثلها) خاطب الله سبحانه وتعالى جهنم خطاب العقلاء ، وأجابته جواب العقلاء ، ولا مانع من ذلك عقلا ولا شرعا لما ورد : تحاجت الجنة والنار ، واشتكت النار إلى ربها ، فلا حاجة إلى تكلف المجاز ، مع التمكن من الحقيقة في هذا ونظائره مما ورد في السنة من نطق الجمادات ، والمراد باستفهام التحقق التقرير ، فالله تعالى يقررها بأنها قد امتلأت.

قوله : (وَتَقُولُ) (بصورة الاستفهام كالسؤال) أي أجابته جوابا صورته استفهام ، ومعناه الخبر ، كما أشار له المفسر بقوله : أي (امْتَلَأْتِ) وإنما أجابته بصورة الاستفهام ، ليكون طبق السؤال ، لكن استفهام السؤال تقريري ، واستفهام جوابها إنكاري ، هذا ما مشى عليه المفسر ، وقيل : إن الاستفهام لطلب الزيادة فهو بمعنى زدني ، ويدل عليه ما جاء في الحديث من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول : قط قط وعزتك ، فينزوي بعضها على بعض وتقول : قط قط وعزتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل ، حتى ينشىء الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة» وفي رواية «فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع الله عليها رجله ، يقول لها : قط قط ، فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض ، فلا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقا» ا ه. ولفظ القدم والرجل في الحديث من المتشابه ، يأتي فيه مذهب السلف والخلف ، فالسلف ينزهونه عن الجارحة ، ويفوضون علمه إلى الله تعالى ، والخلف لهم فيه تأويل منها : أن المراد بالقدم والرجل قوم من أهل النار في علم الله ، لأن القدم والرجل يطلقان في اللغة على العدد الكثير من الناس ، فكأنه قال : حتى يضع رب العزة فيها العدد الكثير من الناس الموعودين بها ، ويؤيده ما ورد عن ابن مسعود ، أن ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت ، إلا وعليه اسم صاحبه ، فكل واحد من الخزنة ، ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته ؛ فإذا استوفى ما أمر به وما ينتظره ، ولم يبق أحد منهم قالت الخزنة : قط قط ، حسبنا حسبنا ، اكتفينا اكتفينا ، وحينئذ فتنزوي جهنم على من فيها وتنطق ،

٧٧

امتلأت (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) قربت (لِلْمُتَّقِينَ) مكانا (غَيْرَ بَعِيدٍ) (٣١) منهم فيرونها ويقال لهم (هذا) المرئي (ما تُوعَدُونَ) بالتاء والياء في الدنيا ، ويبدل من المتقين قوله (لِكُلِّ أَوَّابٍ) رجاع إلى طاعة الله (حَفِيظٍ) (٣٢) حافظ لحدوده (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) خافه ولم يره (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٣٣) مقبل على طاعته ، ويقال للمتقين أيضا (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي سالمين من كل مخوف أو مع سلام أي سلموا وادخلوا (ذلِكَ) اليوم الذي حصل فيه الدخول (يَوْمُ الْخُلُودِ) (٣٤) الدوام في الجنة (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥) زيادة على ما عملوا وطلبوا (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي أهلكنا قبل كفار قريش قرونا كثيرة من الكفار (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) قوّة

____________________________________

إذ لم يبق أحد ينتظر. ومنها أن وضع القدم والرجل كناية عن تجلي الجلال عليها ، فتتصاغر وتضيق وتنزوي فتقول : قط قط ، وهذا هو الأقرب.

قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) المراد بهم من ماتوا على التوحيد. قوله : (مكانا) قدره المفسر إشارة إلى أن قوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) صفة لموصوف محذوف ، فهو منصوب على الظرفية لقيامة مقام الظرف ، ولم يقل بعيدة ، إما لأنه صفة لمذكر محذوف ، أو لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وأتى بهذه الجملة عقب قوله : (وَأُزْلِفَتِ) للتأكيد ، كقولهم : هو قريب غير بعيد ، وعزيز غير ذليل ، إن قلت : إن الجنة مكان ، والشأن انتقال الشخص للمكان ، لا انتقال المكان للشخص. أجيب : بأنه أضاف القرب لها إكراما للمؤمنين ، كأن الإكرام ينقل لهم ، وهو كناية عن سهولة وصولهم إليها. قوله : (ويبدل من المتقين) أي بإعادة الجار ، وجملة (هذا ما تُوعَدُونَ) معترضة بين البدل والمبدل منه. قوله : (حافظ لحدوده) أي فحفيظ بمعنى حافظ لا بمعنى محفوظ.

قوله : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ) إما بدل من كل ، أو مستأنف خبر لمحذوف. قوله : (خافه ولم يره) أشار بذلك إلى أن قوله : (بِالْغَيْبِ) حال من المفعول ، والمعنى خشيه ، والحال أن الله غائب عنه ، أي متحجب بصفة جلاله وكبريائه ، ويصح أن يكون حالا من الفاعل ، والمعنى خشي الرحمن ، والحال أن الشخص غائب عن الله أي محجوب عنه. قوله : (أي سالمين من كل مخوف) أشار بذلك إلى أن قوله : (بِسَلامٍ) حال من فاعل (ادْخُلُوها) وهي حال مقارنة. قوله : (أو مع سلام) أي إن دخولهم مصحوب بالسلام من بعضهم على بعض ، أو من الله وملائكته عليهم ، وحينئذ فالمعنى ادخلوها مسلما عليكم. قوله : (ذلِكَ) (اليوم الذي حصل فيه الدخول) الخ ، فائدة هذا القول ، بشرى للمؤمنين وطمأنينة قلوبهم. قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ) أي ما يشتهونه ويريدونه يحصل لهم عاجلا ، وقوله : (فِيها) إما متعلق ب (يَشاؤُنَ) أو حال من (ما.) قوله : (زيادة على ما عملوا وطلبوا) أي وهو النظر إلى وجه الله الكريم لما قيل : يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى كل ليلة جمعة في دار كرامته ، فهذا هو المزيد ، وقيل : إن السحابة ثمر شجرة تمر بأهل الجنة ، فتمطرهم الحور فيقلن : نحن المزيد الذي قال الله فيه (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ).

قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا) الخ ، (كَمْ) خبرية معمولة لأهلكنا ، و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز لكم ، وقوله : (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) مبتدأ ، وخبر الجملة صفة إما لكم أو لقرن ، (بَطْشاً) تمييز ، المعنى : أننا أهلكنا قرونا كثيرة أشد بأسا وبطشا من قريش ، ففتشوا في البلاد عند نزول العذاب بهم ، فلم يجدوا مخلصا. قوله :

٧٨

(فَنَقَّبُوا) فتشوا (فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٣٦) لهم أو لغيرهم من الموت فلم يجدوا (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَذِكْرى) لعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) عقل (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) استمع الوعظ (وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧) حاضر (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها الأحد ، وآخرها الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) (٣٨) تعب ، نزل ردا على اليهود في قولهم : إن الله استراح يوم السبت ، وانتفاء التعب عنه لتنزهه تعالى عن صفات المخلوقين ، ولعدم المماسة بينه وبين غيره (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَاصْبِرْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلى ما يَقُولُونَ) أي اليهود وغيرهم من التشبيه والتكذيب (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) صل حامدا (قَبْلَ طُلُوعِ

____________________________________

(فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي ساروا فيها طالبين الهرب. قوله : (لهم أو لغيرهم) هذا يقتضي أن جملة (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) استثنائية من كلامه تعالى ، وحينئذ فالوقف على قوله : (فِي الْبِلادِ) ويكون في الكلام حذف ، والتقدير : ففتشوا في البلاد هاربين ، فلم يجدوا مخلصا ، فهل من قرار لهم أو لغيرهم؟ وقيل : إنها من كلامهم ، والتقدير : قائلين هل من محيص لنا.

قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) (المذكور) أي من أول السورة إلى هنا. قوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أَوْ) مانعة خلو تجوز الجمع وهو المطلوب ، فإن الموعظة لا تفيد ولا ينتفع بها صاحبها ، إلا إذا كان ذا عقل ، وأصغى بسمعه وأحضر قلبه ، فإن لم يكن كذلك فلا ينتفع بها. قوله : (استمع الوعظ) أي بكليته حتى كأنه يلقي شيئا من علو إلى أسفل. قوله : (وَهُوَ شَهِيدٌ) الجملة حالية أي ألقى السمع ، والحال أنه حاضر القلب ، غير مشتغل بشيء غير ما هو فيه ، وحضور القلب على مراتب ، مرتبة العامة أن يشهد الأوامر والنواهي من القارىء ، ومرتبة الخاصة أن يشاهد الشخص منهم أنه في حضرة الله تعالى يأمره وينهاه ، ومرتبة خاصة الخاصة أن يفنوا عن حسهم ويشاهدوا أن القارىء هو الله تعالى ، وإنما ترجمان عن الله تعالى.

قوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي تعليما لعباده التمهل والتأني في الأمور ، وإلا فلو شاء لخلق الكل في أقل من لمح البصر. قوله : (مِنْ لُغُوبٍ مِنْ) زائدة في الفاعل ، واللغوب مصدر لغب من باب دخل وتعب الإعياء والتعب ، والعامة على ضم اللام وقرىء شذوذا بفتحها ، والجملة إما حالية أو مستأنفة. قوله : (نزل ردا على اليهود) الخ ، أي فقالوا : خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، أولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش ، فلذلك تركوا العمل فيه ، فنزلت هذه الآية ردا عليهم وتكذيبا لهم في قولهم : استراح يوم السبت بقوله : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). قوله : (ولعدم المماسة بينه وبين غيره) أي من الموجودات التي يوجدها ، والتعب والإعياء إنما يحصل من العلاج ومماسة الفاعل لمفعوله ، كالنجار والحداد وغير ذلك ، وهذا إنما يكون في أفعال المخلوقين. قوله : (إنما أمره) أي شأنه. قوله : (إذا أراد شيئا) أي إيجاد شيء أو إعدامه. قوله : (أن يقول له كن فيكون) أي من غير فعل ولا معالجة عمل ، وهذا على حسب التقريب للعقول ، وإلا ففي الحقيقة ، لا قول ولا كاف ولا نون. قوله : (من التشبيه) أي تشبيه الله بغيره ، إذ نسبوا له الإعياء والاستراحة وغير ذلك من كفرياتهم.

قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الخ ، أي حيث لم يهتدوا ولم يتبعوك ، فاشتغل بعبادة ربك ، ولا

٧٩

الشَّمْسِ) أي صلاة الصبح (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (٣٩) أي صلاة الظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي صلّ العشاءين (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٤٠) بفتح الهمزة جمع دبر وبكسرها مصدر أدبر أي صلّ النوافل المسنونة عقب الفرائض ، وقيل المراد حقيقة التسبيح في هذه الأوقات ملابسا للحمد (وَاسْتَمِعْ) يا مخاطب مقولي (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) هو إسرافيل (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١) من السماء وهو صخرة بيت المقدس أقرب موضع من الأرض إلى السماء يقول : أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (يَوْمَ) بدل من يوم قبله (يَسْمَعُونَ) أي الخلق كلهم (الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) بالبعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل ، ويحتمل أن تكون قبل ندائه أو بعده (ذلِكَ) أي يوم النداء والسماع (يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٤٢) من القبور ، وناصب يوم ينادي مقدرا أي يعلمون عاقبة تكذيبهم (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) (٤٣) (يَوْمَ) بدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض (تَشَقَّقُ) بتخفيف

____________________________________

تتركها حزنا على عدم إيمانهم ، وذلك أن الله تعالى أمره بشيئين : هداية الخلق وعبادة ربه ، فحيث فاته هدايتهم فلا نترك العبادة ، لأنه ليس مأمورا بجهادهم حينئذ. قوله : (صلّ حامدا) أشار بذلك إلى أن (سَبِّحْ) معناه صلّ ، إما مجاز من إطلاق الجزء على الكل أو حقيقة ، لأن من جملة معاني الصلاة التسبيح ، لما ورد عن عائشة : كنت أصلي سبحة الضحى الخ. قوله : (بفتح الهمزة جمع دبر) أي أعقاب الصلاة ، من أدبرت الصلاة إذا انقضت. قوله : (وبكسرها مصدر أدبر) أي والمعنى وقت إدبار الصلاة ، أي انقضائها وتمامها ، والقراءتان سبعيتان. قوله : (وقيل المراد حقيقة التسبيح) أي لما ورد : من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وحمد الله ثلاثا وثلاثين ، وكبر ثلاثا وثلاثين ، فلذلك تسعة وتسعون ، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر. قوله : (مقول) أشار بذلك إلى أن مفعول (اسْتَمِعْ) محذوف ، أي استمع ما أقول لك في شأن أحوال يوم القيامة ، قوله : (يَوْمَ يُنادِ) كلام مستأنف مبين للمفعول المحذوف.

قوله : (يَوْمَ يُنادِ) الوقف عليها إما بالياء أو بدونها قراءتان سبعيتان ، والمناد إما بالياء وصلا ووقفا ، أو بإثباتها وصلا لا وقفا ، أو بحذفها وصلا ووقفا ، ثلاث قراءات. قوله : (هو إسرافيل) هذا أحد قولين ، وقيل : المنادي جبريل ، والنافخ إسرافيل. قوله : (أقرب موضع من الأرض إلى السماء) أي باثني عشر ميلا. قوله : (والأوصال) أي العروق. قوله : (بِالْحَقِ) حال من الواو ، أي يسمعون ملتبسين بالحق ، أو من الصيحة أي ملتبسة بالحق ، وعبارة المفسر تقتضي أن الباء للتعدية. قوله : (ويحتمل أن تكون قبل ندائه أو بعده) هذا يقتضي أنها غير النداء المذكور ، ومع أن النداء المذكور هو ما يسمع من النفخة ، فهذا الصنيع غير مستقيم ، إلا على القول بأن المنادي جبريل والنافخ إسرافيل. قوله : (أي يعلمون عاقبة تكذيبهم) بيان للناصب المقدر ، ولو قدره بلصقه لكان أولى.

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي) أي في الدنيا ، وقوله : (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي في الآخرة. قوله : (وما بينهما) أي وهو قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ.) قوله : (بتخفيف الشين) الخ ، أي فهما

٨٠