حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

السماء الدنيا (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) أي الشرف والعظم (وَما أَدْراكَ) أعلمك يا محمد (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) (٢) تعظيم لشأنها وتعجيب منه (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (٣) ليس فيها ليلة قدر ،

____________________________________

بالإنزال؟ أجيب بجوابين ، الأول : أن الإنزال بمعنى الإيحاء ، وفي الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه الإيحاء بالإنزال ، واستعير الإيحاء للإنزال ، واشتق من الإنزال أنزلناه بمعنى أوحينا. الثاني : إن إسناد النزول إليه مجاز عقلي ، وحقه أن يسند لحامله ، فالتجوز إما في الظرف أو الإسناد. قوله : (أي القرآن) أشار بذلك إلى أن الضمير في (أَنْزَلْناهُ) عائد على القرآن. إن قلت : إنه لم يتقدم له ذكر. أجيب : بأنه اتكل على عظم قدره وشهرة أمره ، حتى لا يحتاج للتصريح. قوله : (جملة واحدة من اللوح المحفوظ) الخ ، أي ثم نزل به جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما مفرقة في مدة عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين سنة ، ومعنى إنزاله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ؛ أن جبريل أملاه على ملائكة السماء الدنيا فكتبوه في صحف ، وكانت تلك الصحف في محل من تلك السماء يقال له بيت العزة. قوله : (من سماء الدنيا) أي بيت العزة منها ، وما ذكره المفسر ، من أن المراد إنزال القرآن جملة إلى سماء الدنيا ، أحد أقوال في تفسير الآية ، وقيل : المعنى ابتدأنا إنزاله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الليلة. إن قلت : إن البعثة على رأس الأربعين وميلاده كان في ربيع ، فكيف يكون مبدأ الوحي في رمضان ليلة القدر؟ أجيب : بأنه ألغى الكسر أو جبر أو ذلك ، بناء على أن ميلاده في رمضان ؛ وقد قيل به ، أو مبدأ الوحي المنام في ربيع ، ومبدأ إنزال القرآن في رمضان ، وحكمة إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم إنزاله منها مفرقا ولم ينزله مفرقا من اللوح ، أن سماء الدنيا مشتركة بين العالم العلوي والسفلي ، فإنزاله إليها جملة فيها تعجيل لمسرته بنزول جميعه عليه ، وإنزاله منها مفرقا فيه تأنيس للقلوب ، وترويح للنفوس ، وتلطف به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأمته ، فلم يفته نزوله جملة ولا مفرقا. قوله : (الشرف والعظم) هذا أحد أقوال ، وقيل : (الْقَدْرِ) بمعنى تقدير الأمور ، أي إظهارها في دواوين الملإ الأعلى ، سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره ، إلى مثلها من السنة القابلة ، من أمر الموت والأجل والرزق وغير ذلك ، ويسلمه إلى مدبرات الأمور ، وهم الأربعة الرؤساء : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وقولنا : أي إظهارها في دواوين الملأ الأعلى ، يدفع ما أورد أن تقدير الأمور أزلي ، فإن قلت : إن تقدير الأمور ليلة النصف من شعبان يجاب : بأن ابتداء التقدير ليلة النصف من شعبان وتسليمه للملائكة ليلة القدر ، وقيل : القدر بمعنى الضيق من قوله : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) لضيق الفضاء بازدحام مواكب الملائكة فيها.

قوله : (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي ما مقدار شرفها ، وليس المراد ما حقيقتها ، فإنها مدة مخصوصة من الزمن. قوله : (تعظيم لشأنها) أي تفخيم لأمرها ، قال سفيان بن عيينة : إن كل ما في القرآن من قوله : (وَما أَدْراكَ) أعلم الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فيه ، وما يدريك لم يعلمه به ، والمراد إعلام الله تعالى في ذلك السياق نفسه ، فلا ينافي أنه عليه‌السلام لم يخرج من الدنيا ، حتى أعلمه الله بكل ما خفي عنه مما يمكن البشر علمه ، وأما التسوية بين علم القديم والحادث فكفر.

قوله : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، واختلف في حكمة ذكر العدد ، فقيل : المقصود مطلق الكثرة ، وقيل : إنه ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من بني إسرائيل ، حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله عزوجل ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ، وتمنى ذلك لأمته فقال : يا رب

٤٠١

فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) بحذف إحدى التاءين من

____________________________________

جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا ، فأعطاه الله ليلة القدر ، فهي من خصائص هذه الأمة ، وهي باقية على الصحيح ، خلافا لمن قال برفعها مستدلا بحديث : «خرجت لأعلمكم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرفعت» ورد بأن الذي رفع تعيينها بدليل أن في آخر الحديث نفسه «وعسى أن يكون خيرا لكم ، فالتمسوها في العشر الأواخر» إذ رفعها بالمرة لا خير فيه ، ولا يتأتى معه التماس. إن قلت : الرفع بسبب الملاحاة ، يقتضي أنه من شؤم الملاحاة ، فكيف يكون خيرا؟ قلت : هو كالبلاء الحاصل بشؤم معصية بعض العصاة ، فإذا تلقى بالرضا والتسليم صار خيرا. إن قلت : فما هو الذي فات بشؤم الملاحاة؟ وما هو الخير الذي حصل؟ قلت : الفائت معرفة عينها ، حتى يحصل غاية الجد والاجتهاد في خصوصها ، والخير الذي حصل ، هو الحرص على التماسها حتى يحيي ليالي كثيرة ، وفي الجملة قالوا : أخفى الرب أمورا في أمور لحكم : ليلة القدر في الليالي لتحيا جميعها وساعة الإجابة في الجمعة ليدعى في جميعها. والصلاة الوسطى في الصلوات ليحافظ على الكل. والاسم الأعظم في أسمائه ليدعى بالجميع ورضاه في طاعته ليحرص العبد على جميع الطاعات وغضبه في معاصيه لينزجر عن الكل. والولي في المؤمنين ليحسن الظن بكل منهم. ومجيء الساعة في الأوقات للخوف منها دائما. وأجل الإنسان عنه ليكون دائما على أهبة. فعلى هذا يحصل ثوابها لمن قامها ولو لم يعلمها ، نعم العالم بها أكمل ، هذا هو الأظهر ، واختلفت المذاهب فيها ، فقال مالك : إنها دائرة في العام كله ، والغالب كونها في رمضان ، والغالب كونها في العشر الأواخر منه. وقال أبو حنيفة والشافعي : هي في رمضان لا تنتقل منه والغالب كونها في العشر الأواخر ، واشتهر عن أبي بن كعب وابن عباس وكثير أنها ليلة السابع والعشرين ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر التي أعز الله بها الدين ، وأنزل الله ملائكته فيها مددا للمسلمين ، وأيده بعضهم بطريق الإشارة ، بأن عدد كلمات السورة ثلاثون كأيام رمضان ، واتفق أن كلمة هي تمام سبعة وعشرين ، وطريق آخر في الإشارة ، أن حروف ليلة القدر تسعة ، وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات ، وثلاثة في تسعة بسبعة وعشرين ، ونقل عن بعض أهل الكشف ضبطها بأول الشهر مع أيام الأسبوع ، فعن أبي الحسن الشاذلي : إن كان أوله الأحد فليلة تسع وعشرين ، أو الاثنين فإحدى وعشرين ، أو الثلاثاء فسبع وعشرين ، أو الأربعاء فتسع عشرة ، أو الخميس فخمس وعشرين ، أو الجمعة فسبع عشرة ، أو السبت فثلاث وعشرين. ومنها ما قاله بعضهم :

يا حب الاثنين والجمعة مواعيدك

واحد والأربعاء طي لتبعيدك

بكالى السبت هيي يا خميس عيدك

كابد ثلاثا ليالي القدر مع سيدك

فإذا كان أول الشهر الاثنين أو الجمعة تكون ليلة إحدى وعشرين ورمزه يا حب بالجمل ، أو الأحد أو الأربعاء فتسع وعشرين ورمزه طي ، أو السبت فثلاث وعشرين رمز بكالى ، أو الخميس فخمس وعشرين ورمزه هيي ، أو الثلاثاء فسبع وعشرين ورمزه كابد ، والمشهور في ألسنة علماء الحديث أن الغالب كونها في العشر الأواخر ، وأنها في الأوتار ، قال سيدي أحمد زروق وغيره : لا تفارق ليلة جمعة من أوتار آخر الشهر ، ونحوه عن ابن العربي. قوله : (ليس فيها ليلة قدر) جواب عما يقال : إن الألف شهر لا بد فيها من ليلة قدر ، فيلزم عليه تفضيل الشيء على نفسه وغيره. قوله : (فالعالم الصالح فيها) أي من صلاة

٤٠٢

الأصل (وَالرُّوحُ) أي جبريل (فِيها) في الليلة (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) بأمره (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (٤) قضاء الله

____________________________________

ودعاء وتسبيح وغير ذلك.

قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) أصله تتنزل بتاءين ، حذفت إحداهما تخفيفا كما قال المفسر ، على حد قول ابن مالك :

وما بتاءين ابتدى قد يقتصر

فيه على تاء كتبين العبر

والتاء في ملائكة لتأنيث الجمع ، وإذا حذفت امتنع صرفه لصيغة منتهى الجموع ، وبه يلغز فيقال ؛ كلمة إذا حذفت من آخرها حرف امتنع صرفها ، جمع ملك وأصله ملأك ووزنه فعال ، فالهمزة زائدة ، ومادته تدل على الملك والقوة والسلطنة ، وقيل : وزنه مفعل فالميم زائدة ، وقيل : هو مقلوب وأصله مالك من الألوكة وهي الرسالة ، قلب قلبا مكانيا فصار ملأك ، وفي وزنه القولان المتقدمان ، وعلى كل فيقال : سقطت الهمزة فصار ملك ، والملائكة أجسام نورانية ، لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة ، لهم قدرة على التشكلات بالصورة الغير الخسيسة ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وعبر ب (تَنَزَّلُ) إشارة إلى أنهم ينزلون طائفة بعد طائفة ، فينزل فوج ويصعد فوج ، وروي أنه إذا كان ليلة القدر ، تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى ، وجبريل عليه‌السلام ومعه أربعة ألوية ، فينصب لواء على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولواء على ظهر بيت المقدس ، ولواء على ظهر المسجد الحرام ، ولواء على ظهر طور سيناء ، ولا يدع بيتا فيه مؤمن أو مؤمنة إلا دخله وسلم عليه ويقول : يا مؤمن أو يا مؤمنة ، السّلام يقرئكم السّلام إلا على مدمن خمر ، وقاطع رحم ، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان ليلة القدر ، نزل جبريل في كبكبة من الملائكة ، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى». وروي أن الملائكة في تلك الليلة ، أكثر من عدد الحصى.

قوله : (وَالرُّوحُ) إما مرفوع بالابتداء والجار بعده خبره ، أو بالفاعلية عطفا على (الْمَلائِكَةُ) قوله : (جبريل) هذا أحد أقوال في تفسير الروح ، وعليه فعطف الروح على الملائكة عطف خاص لشرفه ، وقيل : الروح نوع مخصوص منهم ، وقيل : خلق آخر غير الملائكة ، وقيل : أرواح ابني آدم ، وقيل : عيسى مع الملائكة ، وقيل : ملك عظيم الخلقة تحت العرش ، ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وله ألف رأس ، كل رأس أعظم من الدنيا ، وفي كل رأس ألف وجه ، وفي كل وجه ألف فم ، وفي كل فم ألف لسان ، يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد ، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة الآخر ، فإذا فتح أفواهه بالتسبيح ، خرت ملائكة السماوات السبع سجدا مخافة أن يحرقهم نور أفواهه ، وإنما يسبح الله غدوة وعشية ، فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلو شأنها ، فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر. قوله : (فِيها) إما متعلق ب (تَنَزَّلُ) أو حال من (الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) إما متعلق ب (تَنَزَّلُ) أو بمحذوف حال أيضا ، والمعنى (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) حال كونهم متلبسين (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) لا من تلقاء أنفسهم.

قوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) يحتمل أن (مِنْ) بمعنى باء السببية ، وعليه درج المفسر ، ويصح أنها للتعليل متعلق ب (تَنَزَّلُ) أي تنزل من أجل كل أمر. قوله : (قضاه الله فيها) أي أراد إظهاره لملائكته ، هذه هو

٤٠٣

فيها لتلك السنة إلى قابل ، ومن سببية بمعنى الباء (سَلامٌ هِيَ) خبر مقدّم ومبتدأ (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) بفتح اللام وكسرها إلى وقت طلوعه ، جعلت سلاما لكثرة السّلام فيها من الملائكة ، لا تمر بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه.

____________________________________

المراد بالقضاء فيها ، لا القضاء الأزلي ، قوله : (لتلك السنة) أي مما هو منسوب لتلك السنة ، من أجل أمر الموت والأجل والرزق وغير ذلك. قوله : (إلى قابل) متعلق بمحذوف تقديره من تلك الليلة إلى مثلها من قابل.

قوله : (سَلامٌ هِيَ) يصح أن يكون ضمير هي عائدا على (الْمَلائِكَةُ) و (سَلامٌ) بمعنى التسليم ، والمعنى أن الملائكة يسلمون على المؤمنين ، ويصح أن يعود على ليلة القدر سلام أيضا بمعنى التسليم ، والمعنى أن الليلة ذات تسليم من الملائكة على المؤمنين أو على بعضهم بعضا ، ويصح على هذا الوجه أن يجعل سلام بمعنى سلامة ، أي ليلة القدر ذات سلامة من كل شر ، قال القرطبي : ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها حتى مطلع الفجر ، وقال الضحاك : لا يقدر الله في تلك الليلة إلى السلامة ، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة ، وقيل : هي ذات سلام من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن أو مؤمنة. قوله : (خبر مقدم) أي فيفيد الحصر أي ما هي إلا سلام ، وجعلت عين السّلام مبالغة على حد : زيد عدل ، وما ذكره المفسر وهو المشهور ، وجوز الأخفش رفع سلام بالابتداء ، وهي بالفاعلية به ، لأنه لا يشترط عنده اعتماد الوصف على نفي أو استفهام.

قوله : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) متعلق ب (تَنَزَّلُ) وهو ظاهر أو بسلام ، وفيه أنه يلزم عليه الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو المبتدأ على إعراب المفسر ، إلا أن يتوسع في الجار ، وأما على إعراب الأخفش فلا إشكال. قوله : (بفتح اللام وكسرها) أي وهما سبعيتان ، وهل هما مصدران ، أو المفتوح مصدر ، والمكسور اسم مكان؟ خلاف.

فائدة : ذكر العلماء لليلة القدر علامات منها : قلة نبح الكلاب ، ونهيق الحمير ، وعذوبة الماء الملح ، ورؤية كل مخلوق ساجدا لله تعالى ، وسماع كل شيء يذكر الله بلسان المقال ، وكونها ليلة بلجة مضيئة مشرقة بالأنوار ، وطلوع الشمس يومها صافية نقية ، ليست بين قرني الشيطان كيوم غيرها ؛ وأحسن ما يدعى به في تلك الليلة العفو والعافية كما ورد ، وينبغي لمن شق عليه طول القيام ، أن يتخير ما ورد في قراءته كثرة الثواب ، كآية الكرسي فقد ورد أنها أفضل آية في القرآن ، وكأواخر البقرة لما ورد من قام بهما في ليلة كتفاه ، وكسورة إذا زلزلت لما ورد أنها تعدل نصف القرآن ، وكسورة الكافرون لما ورد أنها تعدل ربع القرآن ، والإخلاص تعدل ثلثه ، ويس لما ورد أنها قلب القرآن وأنها لما قرئت له ، ويكثر من الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل وأنواع الذكر ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدعو بما أحب لنفسه ولأحبابه أحياء وأمواتا ويتصدق بما تيسر له ، ويحفظ جوارحه عن المعاصي ، ويكفي في قيامها صلاة العشاء والصبح في جماعة ، وورد «من صلى المغرب والعشاء في جماعة فقد أخذ بحظ وافر من ليلة القدر» وورد «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام شطر الليل ، فإذا صلى الصبح في جماعة فكأنما قام شطره الآخر» وقد ورد «من قال لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ثلاث مرات ، كان كمن أدرك ليلة القدر» فينبغي الإتيان بذلك كل ليلة.

٤٠٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البيّنة

مدنيّة

وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ) للبيان (أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البينة مكية أو مدنية

وهي تسع آيات

وتسمى سورة لم يكن ، وسورة المنفكين ، وسورة القيامة ، وسورة البرية. قوله : (مكية) هو قول ابن عباس ، وقوله : (أو مدنية) هو قول الجمهور ، ومناسبتها لما قبلها ، أنه لما ثبت إنزال القرآن ، أخبر تعالى أن الكفار لم يكونوا منفكين عما هم عليه ، حتى يأتيهم الرسول يتلو عليهم الصحف المطهرة التي ثبت إنزالها عليه ، وفيه تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كأن الله يقول له : لا تحزن على تفرقهم وكفرهم ، بل تسل بما أوحي إليك. روى أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بن كعب : إن الله أمرني أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقال أبي : وسماني لك؟ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فبكى أبي ، فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واستفيد من الحديث آداب منها : قراءة الأعلى على من دونه للتواضع ، ولا يأنف الكبير من قراءته على الصغير. ومنها تخصيص سريع الحفظ والإتقان بالعلم ، وفي ذلك فضيلة عظيمة لأبيّ ، حيث جعل موضع سر رسول الله ونظره ، إشعارا بأنه ثقة يصلح للتعليم والتعلم ، وأمر رسول الله من الله بأن يقرأ عليه.

قوله : (مِنْ) (للبيان) أي فالذين كفروا هم أهل الكتاب والمشركون ، إن قلت : إن أهل الكتاب لم يكونوا جميعا كفارا قبل النبي ، بل بعضهم كان متمسكا بنبيهم وكتابهم ، والبعض كفار كمن غير وبدل ، ومقتضى المفسر أن جميعهم كفار وليس كذلك ، فالأحسن جعل (مِنْ) للتبعيض ، والواو في (وَالْمُشْرِكِينَ) للمعية ، و (الْمُشْرِكِينَ) مفعول معه ، والعامل فيه (يَكُنِ.) قوله : (مُنْفَكِّينَ) اسم فاعل من انفك الذي يعمل عمل كان ، واسمها ضمير مستكن فيها والخبر محذوف قدره المفسر بقوله : (عما هم عليه) ويصح أن تكون تامة ، فلا تحتاج لتقدير خبر. قوله : (خبر يكن) أي واسمها الموصول فهي ناقصة ، وقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) حال من فاعل (كَفَرُوا) والمعنى : أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، والمشركين وهم عبدة الأوثان من العرب ، كانوا يقولون قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ننفك عما نحن فيه من ديننا ، حتى يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو في التوراة والإنجيل ، فلما بعث تفرقوا ، فمنهم من

٤٠٥

أي عبدة الأصنام عطف على أهل (مُنْفَكِّينَ) خبر يكن ، أي زائلين عما هم عليه (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) أي أتتهم (الْبَيِّنَةُ) (١) أي الحجة الواضحة وهي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بدل من البينة وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) (٢) من الباطل (فِيها كُتُبٌ) أحكام مكتوبة (قَيِّمَةٌ) (٣) مستقيمة أي يتلو مضمون ذلك وهو القرآن ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من كفر (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) في الإيمان به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٤) أي هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو القرآن الجائي به معجزة له ، وقبل مجيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا مجتمعين على الإيمان به إذا جاء فحسده من كفر به منهم (وَما

____________________________________

آمن ، ومنهم من كفر ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولون أولا ، وما فعلوه آخرا. قوله : (أي زائلين) الخ ، أشار بذلك إلى أن الانفكاك بمعنى الزوال ، والمعنى : أنهم متعلقون بدينهم ، لا يتركونه إلا عند مجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) غاية لعدم انفكاكهم عما هم عليه ، والحاصل أن في الآية تفسيرين الأول : حمل ما كانوا عليه قبل مجيء النبي على شرعهم في حق أهل الكتاب ، وعلى عبادة الأصنام في حق المشركين ، فالمعنى : لم يكن الفريقان منفكين عما كانوا عليه ، لم يفارقوه إلا وقت مجيء محمد ، فلما ظهر محمد تفرقوا ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من بقي على ما كان عليه ، وهذا المعنى ليس فيه مدح ولا ذم لهم. الثاني : أن المراد بما كانوا عليه ، هو إيمانهم بمحمد إذا ظهر ، المعنى : لم يكونوا منفكين عن العزم على الإيمان بمحمد إذا ظهر ، أي لم يفارقوه ولم يتركوه إلا بعد مجيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي هذا المعنى توبيخ لهم ، إذ كيف يؤمنون في الغيب قبل مجيئه ، ويكفرون به لما جاء ، ورأوا أنواره ومعجزاته؟ إذ علمت ذلك ، تعلم أن كلام المفسر أولا محتمل للمعنيين ، وآخرا معرج على المعنى الثاني. قوله : (بدل من البينة) أي بدل اشتمال ، و (مِنَ اللهِ) متعلق بمحذوف صفة لرسول أو حال من (صُحُفاً) لكونه نعت نكرة قدم عليها. قوله : (وهو النبي محمد) وقيل جبريل قوله : (مُطَهَّرَةً) أي مطهرا ما فيها وهو القرآن. قوله : (من الباطل) أي فتطهير الصحف كناية عن كونها لا يأتيها الباطل أصلا.

قوله : (فِيها كُتُبٌ) أي مكتوبات في قراطيس ، فالقرآن يجمع ثمرة كتب الله تعالى المقدمة عليه ، والرسول وإن كان أميا ، لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها ، فصحت نسبة تلاوة الصحف إليه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. قوله : (أي يتلو مضمون ذلك) أي مضمون المكتوب في الصحف وهو القرآن لا نفس المكتوب ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلب ، ولم يكن يقرؤه من كتاب ، فتحصل أن المراد بالصحف والقراطيس التي يكتب فيها القرآن ، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها التي هي مدلول القرآن المكتوب لفظه ونقشه. قوله : (فمنهم من آمن) مفرع على محذوف ، والتقدير : فلما أتتهم البينة فمنهم الخ.

قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الخ ، تصريح بما أفادته الغاية قبله ، وأفرد أهل الكتاب بالذكر ، بعد الجمع بينهم وبين المشركين ، إشارة لبشاعة حالهم ، لأنهم أشد جرما ويعلم غيرهم بالطريق الأولى ، وذلك لأنهم لما تفرقوا مع علمهم ، كانوا أسوأ حالا من الذين تفرقوا مع الجهل.

٤٠٦

أُمِرُوا) في كتابيهم التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) أي أن يعبدوه ، فحذفت أن وزيدت اللام (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك (حُنَفاءَ) مستقيمين على دين إبراهيم ودين محمد إذا جاء فكيف كفروا به (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ) الملة (الْقَيِّمَةِ) (٥) المستقيمة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) حال مقدرة ، أى مقدر خلودهم فيها من الله تعالى (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٧) الخليقة (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) إقامة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ

____________________________________

قوله : (وَما أُمِرُوا) الخ ، الجملة حالية مفيدة لقبح ما فعلوا ، والمعنى : تفرقوا بعد ما جاءتهم البينة ، والحال أنهم ما أمروا إلا بعبادة الله الخ. قوله : (وزيدت اللام) الأولى أن تجعل بمعنى الباء ، والمعنى : وما أمروا إلا بأن يعبدوا الخ. قوله : (مُخْلِصِينَ) حال من ضمير يعبدوا ، والإخلاص هو صفاء القلب من الأغيار ، بأن يكون مقصوده بالعمل على وجه الله تعالى. قوله : (حُنَفاءَ) حال ثانية ، والحنف في الأصل الميل مطلقا ، ثم استعمل في الميل إلى الخير ، وأما الميل إلى الشر فيسمى إلحادا ، والحنيف المطلق هو الذي يكون متبرئا عن أصول الملل الخمسة : اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، وعن فروعها من جميع الاعتقادات الباطلة وتوابع ذلك ، وهو مقام المتقين ، فإذا ترقى العبد منه إلى ترك الشبهات ، خوف الوقوع في المحرمات ، فهو مقام الورعين ، فإذا زاد حتى ترك بعض المباحاة ، خوف الوقوع في الشبهات ، فهو مقام الأورع والزاهد ، فالآية جامعة لذلك كله.

قوله : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) عطف على (لِيَعْبُدُوا اللهَ) وخص الصلاة والزكاة لشرفهما. قوله : (وَذلِكَ) اسم الإشارة عائد على المأمور به من العبادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. قوله : (الملة) (الْقَيِّمَةِ) قدره إشارة إلى أن (دِينُ) مضاف لمحذوف ، و (الْقَيِّمَةِ) صفة لذلك المحذوف ، دفعا لما يقال : إن إضافة (دِينُ) إلى (الْقَيِّمَةِ) من اضافة الموصوف إلى صفته ، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه ، وفيها خلاف. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) شروع في بيان جزاء كل فريق ومقره. قوله : (فِي نارِ جَهَنَّمَ) خبر (إِنَ) والمعنى : أنهم مشتركون في جنس العذاب لا في نوعه ، لأن عذاب الكفار مختلف على حسب كفرهم. قوله : (حال مقدرة) أي من الضمير المستكن في الخبر. قوله : (من الله تعالى) متعلق ب (خلودهم) والمعنى : نحن ننتظر خلودهم ، بسبب اعتقادنا أن الله يخلدهم فيها ، فالتقدير منا ، والخلود المقدر من الله تعالى. قوله : (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أفعل تفضيل ، وذلك لأنهم أشر من قطاع الطريق ، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق ، وأشر من الجهال ، لأن الكفر مع العلم أسوأ منه مع الجهل ، و (الْبَرِيَّةِ) بالهمز في الموضعين وتشديد الياء سبعيتان.

قوله : (جَزاؤُهُمْ) مبتدأ ، وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) حال ، وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبره ، وهذا من مقابلة الجمع بالجمع ، فيقتضي القسمة على الآحاد ، فيكون لكل واحد جنة ، وأدنى جنة الواحد مثل الدنيا ، وما فيها عشر مرات ، كما أفاده بعض المفسرين. قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي الأربعة : الخمر والماء والعسل واللبن. قوله : (خالِدِينَ فِيها) عاملة محذوف ، أي دخلوها وأعطوها ، وقوله :

٤٠٧

اللهُ عَنْهُمْ) بطاعته (وَرَضُوا عَنْهُ) بثوابه (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨) خاف عقابه فانتهى عن معصيته تعالى.

____________________________________

(أَبَداً) ظرف زمان منصوب ب (خالِدِينَ) و (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون خبرا ثانيا وعبر هنا في أهل الجنة أبدا ، ولم يذكرها في أهل النار ، لأن المقام مقام بسط وجمال ، فالإطناب فيه من البلاغة. قوله : (بطاعته) أي بسببها وهو مصدر مضاف لمفعوله ، أي طاعتهم إياه ، أي قبلها منهم وجازاهم عليها. قوله : (بثوابه) أي بسبب إثابته لهم ، فهو من إضافة المصدر لفاعله ، قال الجنيد : الرضا يكون على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة ، ويصحب العبد في الدنيا والآخرة ، وليس كالخوف والرجاء والصبر والإشفاق وسائر الأحوال التي تزول عن العبد في الآخرة ، بل العبد يتنعم في الجنة بالرضا ، ويسأل الله تعالى حتى يقول لهم : برضائي أحلكم داري ، أي برضائي عنكم ، وقال محمد بن الفضل : الروح والراحة في الرضا واليقين ، والرضا باب الله الأعظم ومحل استرواح العابدين. قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) اسم الإشارة عائد على المذكور من تفصيل الجزاء الحسن.

٤٠٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزّلزلة

مدنيّة

وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) حركت لقيام الساعة (زِلْزالَها) (١) تحريكها الشديد المناسب لعظمها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢) كنوزها وموتاها فألقتها على ظهرها (وَقالَ الْإِنْسانُ) الكافر بالبعث (ما لَها) (٣) إنكارا لتلك الحالة (يَوْمَئِذٍ) بدل من إذا

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزلزلة مكية أو مدنية

وهي تسع آيات

أي في قول ابن مسعود وعطاء وجابر ، وقوله : (أو مدنية) أي في قول ابن عباس وقتادة. قوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) الخ ، (إِذا) ظرف لما يستقبل من الزمان ، جوابه تحدث وهو عامل النصب في (إِذا) ولذا يقولون : خافض لشرطه منصوب بجوابه ، وهذا هو التحقيق عند الجمهور قوله : (حركت لقيام الساعة) هذا أحد قولين ، وهو أن الزلزلة المذكورة تكون عند النفخة الأولى ، ويشهد له قوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) الآية ، وعليه جمهور المفسرين. والثاني : أنها عند النفخة الثانية ، ويؤيده قوله بعد (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فإن شهادتها بما وقع عليها ، إنما هو بعد النفخة الثانية ، وكذلك انصراف الناس من القبور ، وأما قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) فمحتمل. قوله : (زِلْزالَها) مصدر مضاف لفاعله ، وهو بالكسر في قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بالفتح ، وهما مصدران بمعنى واحد ، وقيل : المكسور مصدر ، والمفتوح اسم. قوله : (تحريكها الشديد) الخ ، أي فلا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها ، من جبل وشجر وبناء.

قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ) إظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير. قوله : (أَثْقالَها) جمع ثقل بالكسر كحمل وأحمال. قوله : (كنوزها وموتاها) المناسب أن يعبر بأو لأنهما قولان ، قيل : المراد إخراج الأموات ، وقيل : المراد إخراج الكنوز ، والأول بعد النفخة الثانية في زمن عيسى وما بعده ، وهما مفرعان على القولين المقدمين فأعطى الله الأرض قوة على إخراج الأثقال ، كما أعطاها القوة على إخراج النبات اللطيف الطري الذي هو أنعم من الحرير. قوله : (الكافر بالبعث) أي بخلاف المؤمن ، فإنه يعترف بها

٤٠٩

وجوابها (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) تخبر بما عمل عليها من خير وشر (بِأَنَ) بسبب أن (رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) أي أمرها بذلك ، في الحديث : «تشهد على كل عبد أو أمة بكل ما عمل على ظهرها». (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) ينصرفون من موقف الحساب (أَشْتاتاً) متفرقين ، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة ، وآخذ ذا الشمال إلى النار (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٦) أي جزاءها من الجنة أو النار (فَمَنْ يَعْمَلْ

____________________________________

ويقول : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ.) قوله : (إنكارا لتلك الحالة) المناسب أن يقول تعجبا من تلك الحالة ، لأنه وقت وقوع ذلك لا يسعه إنكار ، بل يتعجب من تلك الحالة الفظيعة. قوله : (بدل من إذا) أي والعامل فيه هو العامل في المبدل منه ، وقيل غيره ، والتنوين عوض عن الجمل الثلاث المذكورة بعد (إِذا).

قوله : (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) اختلف في هذا التحديث ، فقيل : هو كلام حقيقي ، بأن يخلق الله فيها حياة وإدراكا ، فتشهد بما عمل عليها من طاعة ومعصية وهو الظاهر ، وقيل : هو مجاز عن إحداث الله فيها من الأحوال ، ما يقوم مقام التحديث باللسان ، وحدث يتعدى إلى مفعولين : الأول محذوف تقديره الناس ، والثاني قوله : (أَخْبارَها). قوله : (أَوْحى لَها) عداه باللام لمراعاة الفواصل ، والوحي إليها إما بإلهام أو رسول من الملائكة. قوله : (بذلك) أي بالتحديث بأخبارها قوله : (في الحديث) الخ ، أشار بذلك إلى حديث جرير قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فقال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل علي كذا وكذا» رواه أحمد والترمذي ، وصححه الحاكم وغيره.

قوله : (يَوْمَئِذٍ) بدل من (يَوْمَئِذٍ) قبله ، ومنصوب ب (يَصْدُرُ.) قوله : (من موقف الحساب) أي وقيل : يرجعون من قبورهم إلى ربهم. قوله : (أَشْتاتاً) حال من (النَّاسُ) جمع شتيت ، وقوله : (متفرقين) أي على حسب وصفهم بالإيمان وضده ، وتفاوتهم في الأعمال ، فأهل الإيمان على حدة ، وأهل الكفر على حدة ، فآخذ ذات اليمين إلى الجنة ، وآخذ ذات الشمال إلى النار قوله : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) متعلق ب (يَصْدُرُ) وهو من الرؤية البصرية ، يتعدى بالهمز إلى اثنين ، أولهما : الواو التي هي نائب الفاعل ، وثانيهما : أعمالهم.

قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الخ ، تفصيل للواو في قوله : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) قال مقاتل : نزلت في رجلين : أحدهما كان يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسوة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، كالكذبة والغيبة والنظرة ويقول : إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر ، فنزلت هذه الآية لترغيبهم في القليل من الخير يعطونه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسّلام : «اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة» ، ولتحذرهم اليسير من الذنب. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة : «إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا». وقال ابن مسعود : هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق ، وقال كعب الأحبار : لقد أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

٤١٠

مِثْقالَ ذَرَّةٍ) زنة نملة صغيرة (خَيْراً يَرَهُ) (٧) ير ثوابه (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨) ير جزاءه.

____________________________________

يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) إن قلت : كيف عم ، مع أن حسنات الكافر محبطة بالكفر ، وسيئات المؤمن الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر؟ أجيب : بأن المعنى يرى كل من المؤمن والكافر حسناته وسيئاته مكتوبة في الصحف ، ولا يلزم من رؤيتها جزاؤه عليها ، لما ورد عن ابن عباس : ليس من مؤمن وكافر عمل خيرا كان أو شرا ، إلا أراه الله إياه ، فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته تحسرا ويعذب بسيئاته ، وهذا يساعده النظم الكريم. قوله : (زنة نملة صغيرة) أي وكل مائة منها وزن حبة شعير ، وأربع ذرات وزن خردلة. وقال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها ، فكل واحدة مما لزق من التراب ذرة ، وفسر الذرة بعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة ، وقيل : الذرة جزء من ألف وأربعين جزءا من الشعيرة.

قوله : (خَيْراً) تمييز من (مِثْقالَ) وكذا (شَرًّا) ويصح أنهما بدلان من (مِثْقالَ) و (يَرَهُ) في الموضعين جواب الشرط مجزوم بحذف الألف وهي قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بإثباتها ويكون مجزوما بحذف الحركة المقدرة على حد قول الشاعر :

إذا العجوز غضبت فطلقى

ولا ترضاها ولا تملقى

وفي الهاء قراءتان سبعيتان ، إحداهما سكونها وقفا ووصلا في الحرفين ، والثانية بضمها وصلا ، وسكونها وقفا.

فائدة : ورد أن «من قرأ (إِذا زُلْزِلَتِ) أربع مرات ، كان كمن قرأ القرآن كله». وورد عن ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل نصف القرآن ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن ، و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) تعدل ربع القرآن».

٤١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة العاديات

مكيّة

وآياتها إحدى عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ) الخيل تعدو في الغزو وتضبح (ضَبْحاً) (١) هو صوت أجوافها إذا عدت (فَالْمُورِياتِ) الخيل توري النار (قَدْحاً) (٢) بحوافرها إذا سارت في الأرض ذات الحجارة بالليل (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) (٣) الخيل تغير على العدوّ وقت الصبح بإغارة

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة والعاديات مكية

أو مدنية وهي إحدى عشرة آية

وتسمى سورة العاديات بغير واو. قوله : (مكية) أي في قول ابن مسعود وغيره ، وقوله : (أو مدنية) أي في قول ابن عباس وغيره ، ويؤيده ما روي أنه عليه‌السلام بعث خيلا ، فمضى شهر لم يأته منهم خبر ، فنزلت إعلاما له بما حصل منهم. قوله : (وَالْعادِياتِ) الخ ، أقسم سبحانه وتعالى بأقسام ثلاثة ، على أمور ثلاثة ، تعظيما للمقسم به ، وتشنيعا على المقسم عليه ، و (الْعادِياتِ) جمع عادية ، وهي الجارية بسرعة من العدو ، وهو المشي بسرعة. قوله : (الخيل تعدو في الغزو) أي تسرع في الكر على العدو ، وهو كناية عن مدح الغزاة وتعظيمهم. قوله : (وتضبح) أشار بذلك إلى أن (ضَبْحاً) منصوب بفعل محذوف ، وهذا الفعل حال من (الْعادِياتِ.) قوله : (هو صوت أجوافها) أي صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ، وليس بصهيل ، ولا همهمة. وقال ابن عباس : ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب ، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من تعب أو فزع.

قوله : (فَالْمُورِياتِ) عطفه وما بعده بالفاء ، لأنه مرتب على العدو. قوله : (توري النار) أي تخرجها من الحجارة إذا ضربتها بحوافرها ، يقال : ورى الزند يري وريا من باب وعد فهو لازم ، وأوريت رباعيا لازما ومتعديا ، وما في الآية من قبيل المتعدي بدليل تفسير المفسر. قوله : (قَدْحاً) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره تقدح ولم يذكره المفسر اتكالا على ما قاله في (ضَبْحاً.) قوله : (فَالْمُغِيراتِ) أسند الإغارة وهي مباغتة العدو للنهب أو القتل أو الأسر للخيل ، مجازا عقليا لمجاورتها لأصحابها ، وحقه أن يسند لهم. قوله : (وقت الصبح) أشار بذلك إلى أن (صُبْحاً) منصوب على الظرفية ، و (الصبح) هو

٤١٢

أصحابها (فَأَثَرْنَ) هيجن (بِهِ) بمكان عدوهن أو بذلك الوقت (نَقْعاً) (٤) غبارا لشدة حركتهن (فَوَسَطْنَ بِهِ) بالنقع (جَمْعاً) (٥) من العدوّ أي صرن وسطه ، وعطف الفعل على الاسم لأنه في تأويل الفعل أي واللاتي عدون فأورين فأغرن (إِنَّ الْإِنْسانَ) الكافر (لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (٦) لكفور يجحد نعمته تعالى (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ) أي كنوده (لَشَهِيدٌ) (٧) يشهد على نفسه بصنعه (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي المال (لَشَدِيدٌ) (٨) أي لشديد الحب له فيبخل به (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ) أثير وأخرج (ما

____________________________________

الوقت المعتاد في الغارات ، يسيرون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ، ويهجمون عليهم صباحا ، ليروا ما يأتون وما يذرون. قوله : (بمكان عدوهن) الخ ، أعاد الضمير على المكان وإن لم يتقدم له ذكر ، لأن العدو لا بد له من مكان ، وقوله : (أو بذلك الوقت) أي وقت الصبح ، فهما تفسيران ؛ وعلى كل فالباء من (بِهِ) بمعنى في.

قوله : (فَوَسَطْنَ) أتى بالفاء في هذا واللذين قبله ، لترتب كل على ما قبله ، فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المتقدمة على الإغارة المترتبة على العدو. قوله : (بالنقع) أشار بذلك إلى أن ضمير (بِهِ) عائد على النقع والباء للملابسة ، والمعنى : صرن وسط الجمع مع الأعداء ملتبسات بالنقع قوله : (أي صرن وسطه) أي الجمع ، ووسط بسكون السين إن صح حلول بين محله كما هنا ، وإلا فهو بالتحريك ، ويجوز على قلة إسكانها يقال : جلست وسط القوم بالسكون ، ووسط الدار بالتحريك. قوله : (على الاسم) أي على كل من الأسماء الثلاثة بدليل قوله : (واللاتي عدون) الخ ، وقوله : (لأنه) أي الاسم ، وقوله : (في تأويل الفعل) أي لوقوعه صلة لأل ، وإلى ذلك أشار ابن مالك بقوله :

واعطف على اسم شبه فعل فعلا

وعكسا استعمل تجده سهلا

قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ) هذا هو جواب القسم. قوله : (الكافر) هذا أحد وجهين ، والآخر أن المراد به الجنس ، والمعنى : أن الإنسان مجبول على ذلك ، إلا من عصمه الله من تلك الخصال قوله : (لكفور) أي فيقال كند النعمة أي كفرها ، وبابه دخل ، وفي الحديث «الكنود الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ـ أي عطاءه ـ ويضرب عبده» وقال ذو النون المصري : الهلوع والكنود هو الذي إذا مسه الشر جزوع ، وإذا مسه الخير منوع ، وقيل : هو الجهول لقدره ، وفي الحكم : من جهل قدره هتك ستره ، وقيل : هو الحقود الحسود.

قوله : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ) الضمير عائد على الإنسان ، واسم الإشارة عائد على الكنود ، والمعنى : أن الإنسان على كنوده لشهيد ، والمراد شهادته في الدنيا ، فإن حاله وعمله يدلان على كنوده وكفره ، وهذا ما مشى عليه المفسر ، وهذا أحد احتمالين ، والآخر أن الضمير في (إِنَّهُ) له عائد على الله تعالى ، والمعنى : وإن الله تعالى لشهيد على كنود الإنسان ، فيكون زيادة في الوعيد. قوله : (بصنعه) أي بما صنعه وعمله ، فالباء سببية. قوله : (لِحُبِّ الْخَيْرِ) متعلق بشديد ، قدم كالذي قبله رعاية للفواصل ، واللام للتقوية ، وحبه للمال يحمله على البخل ، وقيل : للتعليل ومعنى شديد بخيل.

قوله : (أَفَلا يَعْلَمُ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة عليه ، والتقدير : أيفعل ما يفعل من

٤١٣

فِي الْقُبُورِ) (٩) من الموتى أي بعثوا (وَحُصِّلَ) بيّن وأفرز (ما فِي الصُّدُورِ) (١٠) القلوب من الكفر والإيمان (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) لعالم ، فيجازيهم على كفرهم ، أعيد الضمير جمعا نظرا لمعنى الإنسان ، وهذه الجملة دلت على مفعول يعلم ، أي أنا نجازيه وقت ما ذكر وتعلق خبير بيومئذ وهو تعالى خبير دائما لأنه يوم المجازاة.

____________________________________

القبائح فلا يعلم الخ ، والهمزة للإنكار وعلم بمعنى عرف ، فتتعدى لمفعول واحد وهو محذوف تقديره أنا نجازيه ، دل عليه قوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) وقوله : (إِذا بُعْثِرَ) ظرف للمفعول المحذوف ، ولا يصح أن يكون ظرفا للعلم ، لأن الإنسان لا يقصد منه العلم في ذلك الوقت ، وإنما يراد للعلم وهو في الدنيا ، ولا لبعثر لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ، ولا لقوله خبير لأن ما بعد أن لا يعمل فيها قبلها ، فتعين أن يكون ظرفا للمفعول المحذوف تأمل.

قوله : (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) البعثرة بالعين والبحثرة بالحاء ، استخراج الشيء واستكشافه ، وعبر بما تغليبا لغير العاقل. قوله : (نظرا لمعنى الإنسان) أي لأنه اسم جنس. قوله : (دلت على مفعول يعلم) أي المحذوف الذي هو عامل في (إِذا) والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) عوض عن جملتين ، والتقدير : يوم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وهو يوم القيامة. قوله : (وقت ما ذكر) أي من البعثرة وتحصيل ما في الصدور ، وأشار بذلك إلى أن (إِذا) ظرفية بمعنى وقت ، لا شرطية فلا جواب لها. قوله : (وتعلق خبير بيومئذ) الخ ، جواب عما يقال : كيف قال ذلك ، مع أنه تعالى خبير بهم في كل زمن؟ فأجاب : بأنه أطلق العلم وأراد المجازاة ، فمعنى قوله : (لَخَبِيرٌ) أنه يجازيهم ، ولا شك أن الجزاء مقيد بذلك اليوم ، نظير قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي يجازيهم.

٤١٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القارعة

مكيّة

وآياتها إحدى عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ) (١) أي القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها (مَا الْقارِعَةُ) (٢) تهويل لشأنها وهما مبتدأ وخبر خبر القارعة (وَما أَدْراكَ) أعلمك (مَا الْقارِعَةُ) (٣) زيادة تهويل لها ، وما الأولى مبتدأ ، وما بعدها خبره ، وما الثانية وخبرها في محل المفعول الثاني لأدرى (يَوْمَ) ناصبه دلّ عليه القارعة أي تقرع و (يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٤) كغوغاء الجراد

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة القارعة مكية

وهي ثمان آيات

مناسبتها لما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر بعثرة القبور ، وختم السورة المتقدمة بقوله : (إن ربهم يومئذ لخبير) أتبعه بأحوال القيامة كأنه قيل : وما ذلك اليوم؟ فقيل : هو القارعة : قوله : (ثمان آيات) هذا أحد أقوال ، وقيل عشر ، وقيل إحدى عشرة آية. قوله : (الْقارِعَةُ) هي في الأصل الصوت الشديد ، سميت القيامة بذلك ، لأنها تقرع القلوب بالفزع والشدائد ، وعليه درج المفسر ، وقيل : لأن إسرافيل يقرع الصور بالنفخ ، فإذا نفخ النفخة الأولى مات جميع الخلائق ، وبالثانية يحيون. قوله : (تقرع القلوب) أي تفزعها ولا مفهوم للقلوب ، بل تؤثر في الإجرام العظيمة ، فتؤثر في السماوات بالانشقاق ، وفي الأرض بالتبديل ، وفي الجبال بالدك والنسف ، وفي الكواكب بالانتثار ، وفي الشمس والقمر بالتكوير ، وغير ذلك. قوله : (تهويل لشأنها) أي وتأكيد لفظاعتها بكونها خارجة عن دائرة علم الخلائق ، وفي كلام المفسر إشارة إلى أن (مَا) استفهامية ، فيها معنى التعظيم والتعجب. قوله : (وهما مبتدأ وخبر) المبتدأ هو (مَا) الاستفهامية ، والخبر (الْقارِعَةُ) وقوله : (الْقارِعَةُ) أي الأولى الواقعة مبتدأ ، والرابط إعادة المبتدأ بلفظه. قوله : (زيادة تهويل لها) أشار بذلك إلى أن الاستفهام الثاني وهو قوله : (مَا الْقارِعَةُ) للتهويل والتعظيم ، وأما الأول وهو (ما أَدْراكَ) فهو إنكاري والمعنى : أنت لا تعلم هول القارعة لشدته وفظاعته إلا بوحي منا ، فالمنفي علمه من غير وحي. قوله : (في محل المفعول الثاني لأدرى) أي والكاف مفعول أول. قوله : (دل عليه القارعة) أي ولا يصح أن يكون العامل فيه لفظ (الْقارِعَةُ) الأول للفصل بينهما بالخبر ، ولا الثاني

٤١٥

المنتشر يموج بعضهم في بعض للحيرة إلى أن يدعوا للحساب (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) كالصوف المندوف في خفة سيرها حتى تستوي مع الأرض (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) (٦) بأن رجحت حسناته على سيئاته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٧) في الجنة ، أي ذات رضا بأن يرضاها ، أي مرضية له (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) (٨) بأن رجحت سيئاته على حسناته (فَأُمُّهُ) فمسكنه (هاوِيَةٌ) (٩) (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (١٠) أي ما هاوية (نارٌ حامِيَةٌ) (١١) شديدة

____________________________________

ولا الثالث لعدم التئامه معه في المعنى ، فتبين أن يكون عامله محذوفا دل عليه لفظ (الْقارِعَةُ).

قوله : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي ووجه الشبه الكثرة والانتشار ، والضعف والذلة ، والاضطراب والتطاير إلى النار ، والطيش الذي يلحقهم ، وركوب بعضهم بعضا ، ففي هذا التشبيه مبالغات شتى. قوله : (كغوغاء الجراد) الغوغاء الجراد الصغير بعد أن يثبت جناحه الذي ينتشر في الأرض ولا يدري أين يتوجه ، وقيل : هو شيء يشبه البعوض ولا يعض لضعفه ، ووجه الجمع بين ما هنا ، وبين آية (كأنهم جراد منتشر) أو أول حالهم كالفراش ، يقومون من قبورهم متحرين لا يدرون أين يتوجهون ، ثم لما يدعون للحساب يكونون كالجراد ، لأن لها وجها تقصده. قوله : (كالصوف المندوف) أي بعد أن تتفتت كالرمل السائل ، ثم بعد كونها (كَالْعِهْنِ) تصير هباء منبثا ، فمراتب الجبال ثلاثة : تفتتها ثم صيرورتها (كَالْعِهْنِ) ثم صيرورتها هباء منبثا ، وقوله : (المندوف) أي المضروب بالمندفة ، وهي الخشبة التي يطرق بها الوتر ليرق ، وإنما جمع بين حال (النَّاسُ) وحال (الْجِبالُ) تنبيها على أن تلك (الْقارِعَةُ) أثرت في (الْجِبالُ) العظيمة الصلبة حتى تصير (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) مع كونها مكلفة ، فكيف حال الإنسان الضعيف الذي هو مقصود بالتكليف والحساب.

قوله : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) تفصيل لأحوال الناس في ذلك اليوم ، والمراد بالموازين الموزونات ، أي الأعمال التي توزن. قوله : (بأن رجحت حسناته) الخ ، أي وأولى إذا عدمت سيئاته ، ولو يوجد له إلا حسنات. قوله : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي حياة طيبة ، وقوله : (في الجنة) تفسير باللازم. قوله : (أي ذات رضا) أشار بذلك إلى أن المراد (عِيشَةٍ) منسوبة للرضا كلابن وتامر ، ولذا فسرها بقوله : (أي مرضية) وفي نسخة أو مرضية ، فهو إشارة إلى أن الإسناد مجازي ، أي راض صاحبها بها ، فهو مجاز عقلي ، أو أطلق اسم الفاعل وأراد اسم المفعول ، فهو مجاز مرسل ، والمعنى : أن من رجحت حسناته على سيئاته ، فهو في حياة طيبة في الجنة ، ورضا من الله تعالى عليه ، وهو مع ذلك راض بما أعطاه له ربه ، فرضي الله عنهم ورضوا عنه. قوله : (بأن رجحت سيئاته على حسناته) أي وأولى إذا عدمت حسناته رأسا ، إن قلت : إن ظاهر الآية يقتضي أن المؤمن العاصي ، إذا زادت سيئاته على حسناته تكون أمة هاوية. وأجيب : بأن ذلك لا يدل على خلوده فيها ، بل إن عامله ربه بالعدل أدخل النار بقدر ذنوبه ، ثم يخرج منها إلى الجنة ، ف قوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يعني ابتداء إن عامله بالعدل ، وهذا ما درج عليه المفسر ، وقيل : المراد بخفة الموازين خلوها من الحسنات بالكلية ، وتلك موازين الكفار ، والمراد بثقل الموازين خلوها من السيئات بالكلية ، أو وجود سيئات قليلة لا توازي الحسنات ، وبقي قسم ثالث وهو : من استوت حسناته وسيئاته ، وحكمه أنه يحاسب حسابا يسيرا ويدخل الجنة. والحاصل : أن من وجدت له

٤١٦

الحرارة. وهاء هيه للسكت تثبت وصلا ووقفا ، وفي قراء تحذف وصلا.

____________________________________

حسنات فقط ، أو زادت على سيئاته فهو في الجنة بغير حساب ، ومن استوت حسناته وسيئاته ، فهو يحاسب حسابا يسيرا ويدخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته فهو تحت المشيئة ، إن شاء الله عفا عنه ، وإن شاء عذبه بقدر جرمه ثم يدخل الجنة ، ومن وجدت له سيئات فقط وهو الكافر ، فمأواه النار خالدا فيها ، نسأل الله السلامة. قوله : (فمسكنه) عبر عن المسكن بالأم ، لأن أهله يأوون إليه كما يأوي الولد إلى أمه ، فتضمهم إليها كما تضم الأم الأولاد إليها ، وقيل : المراد أم رأسه ، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم ، وبه قال قتادة.

قوله : (هاوِيَةٌ) سميت بذلك لغاية عمقها وبعد مهواها ، روي أن أهل النار يهوون فيها سبعين خريفا ، فتحصل أن المراد بالهاوية النار بجميع طباقها وتطلق على طبقة أسفل يعذب فيها المنافقون ، فمثل لظى والحطمة والهاوية وجهنم وبقية أسمائها تطلق عامة على خاصة ، وفي الآية احتباك حذف من الأول ، فأمه الجنة ، وذكر في عيشة راضية ، وحذف من هنا في عيشة ساخطة ، وذكر (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فحذف من كل نظير ما أثبته في الآخر. قوله : (ما هِيَهْ) مبتدأ وخبر ، والجملة سدت مسد المفعول الثاني لأدراك ، والكاف مفعوله الأول. قوله : (هي) (نارٌ) أشار بذلك إلى أن (نارٌ) خبر لمحذوف. قوله : (وفي قراءة) أي وهما سبعيتان ، وقوله : (تحذف وصلا) أي وتثبت (وقفا).

٤١٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التّكاثر

مكيّة

وآياتها ثمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ) شغلكم عن طاعة الله (التَّكاثُرُ) (١) التفاخر بالأموال والأولاد والرجال (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) بأن متم فدفنتم فيها ، أو عددتم الموتى تكاثرا (كَلَّا)

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التكاثر مكية

وهي ثمان آيات

أي السورة التي ذكر فيها ذم التكاثر ، ومناسبتها لما قبلها ، أنه لما ذكر أهوال القيامة ذم اللاهين والمشتغلين عنها. قوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ألهى فعل ماض رباعي ، والكاف مفعول مقدم ، و (التَّكاثُرُ) فاعل مؤخر ، فالهمزة من بنية الكلمة تثبت ولو في الدرج ، والمعنى : شغلكم التباهي بكثرة الأموال عن عبادة ربكم ، و (التَّكاثُرُ) تفاعل كالتجاذب ، وهو يكون بين اثنين ، لأن أحد الشخصين المتفاخرين يقول لصاحبه : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) وأل في التكاثر للعهد ، وهو التكاثر في الدنيا ، ولذاتها وعلائقها المشغل عن حقوق الله تعالى. قوله : (عن طاعة الله) هي شاملة للواجبة والمندوبة. قوله : (والرجال) أي الانتساب إليهم كالأقرباء والأحباب.

قوله : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) حتى غاية للإلهاء المذكور ، وهذا هو محط الذم ، وإلا فإن تاب من ذلك قبل موته ، قيل : وكأنه لم يحصل منه تكاثر. قوله : (بأن متم فدفنتم فيها) أي فيقال : زار قبره إذا مات ودفن ، والمعنى : ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم ، حتى أتاكم الموت وأنتم على ذلك ، ولا يقال : إن الزيارة تكون ساعة وتنقضي ، والميت يمكث في قبره لأنا نقول : إن الموتى يرتحلون من القبور للحساب ، فكان مدة مكثه في قبره زيارة له ، والمقابر جمع مقبرة بتثليث الباء ، وهي المحل الذي تدفن فيه الأموات. قوله : (أو عددتم الموتى) تفسير ثان للزيارة ، فعبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكما بهم ، وعليه فزيارة المقابر كناية عن الانتقال من ذكر الإحياء إلى ذكر الأموات تفاخرا ، وإنما كان تهكما لأن زيارة القبور شرعت ، لتذكر الموت ورفض حب الدنيا ، وترك المباهاة والتفاخر ، وهؤلاء عكسوا ، حيث جعلوا زيارة القبور سببا لمزيد القساوة ، والاستغراق في حب الدنيا ، والتفاخر في الكثرة. فحاصل

٤١٨

ردع (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٣) (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٤) سوء عاقبة تفاخركم عند النزع ثم في القبر (كَلَّا) حقا (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٥) أي علما يقينا عاقبة التفاخر ما اشتغلتم به (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٦) النار ، جواب قسم محذوف ، وحذف منه لام الفعل وعينه ، وألقى حركتها على الراء (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها) تأكيد (عَيْنَ الْيَقِينِ) (٧) مصدر لأن رأى وعاين بمعنى واحد (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) حذفت

____________________________________

الوجهين راجع إلى أن المراد بالزيارة ، إما الانتقال إلى الموت ، أو الانتقال من ذكر الأحياء إلى ذكر الأموات ، وتعدادهم والتفاخر بهم ، ومن ذلك ما يفعله أهل زماننا ، ومن زخرفة النعوش والقبور ، وما يتبع ذلك مما هو مذموم شرعا وطبعا ، وأما ذكر مكارم الأخلاق والطاعات فيجوز ، إن لم يكن على وجه التعجب ، بل على سبيل التحدث بالنعم أو ليقتدي به. قوله : (ردع) مشى المفسر على أن كلا الأولى والثانية حرف ردع ، والثانية بمعنى حقا ، ومشى غيره على التسوية بين الثلاثة ، فهي إما للردع أو بمعنى حقا ، وقيل : إنها في الثلاثة بمعنى ألا الاستفتاحية. قوله : (عند النزع ثم في القبر) لف ونشر مرتب فقوله : (عند النزع) راجع لقوله : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) الأول ، وقوله : (ثم في القبر) راجع للثاني ، و (ثُمَ) على بابها من المهلة ، وهذا قول علي بن أبي طالب ، والحكمة في حذف متعلق العلم من الأفعال الثلاثة ، أن الغرض هو الفعل لا متعلقة ، والعلم بمعنى المعرفة ، فيتعدى لمفعول واحد أشار له المفسر بقوله : (سوء عاقبة تفاخركم). قوله : (أي علما يقينا) أشار بذلك إلى أن إضافة العلم إلى (الْيَقِينِ) من إضافة الموصوف إلى صفته ، والمعنى : لو تعلمون ما بين أيديكم علما يقينا ما شغلكم التكاثر عن طاعة الله تعالى. قوله : (عاقبة التفاخر) بيان لمفعول العلم ، وقوله : (ما اشتغلتم به) جواب لو. قوله : (جواب قسم محذوف) أي ولا يصح أن يكون جوابا للو ، لأنه محقق الوقوع ، فلا يصح تعليقه ، والرؤية هنا بصرية تتعدى إلى مفعول واحد. قوله : (وحذف منه لام الفعل) أي وهي الياء ، وقوله وعينه أي وهو الهمزة ، لأن أصله ترءيون بوزن تفعلون ، نقلت حركة الهمزة للراء قبلها ، فسقطت الهمزة وتحركت الياء ، وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فالتقى ساكنان ، حذفت الألف لالتقاء الساكنين ، ثم دخلت نون التوكيد الثقيلة ، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال ، وحركت الواو بالضمة لالتقاء الساكنين ، ولم تحذف لعدم الدليل الذي يدل عليها. قوله : (تأكيد) هذا أحد قولين ، والآخر أن الأول هو رؤية اللهب ، والثاني وهو رؤية ذاتها ، وما فيها من أنواع العذاب.

قوله : (عَيْنَ الْيَقِينِ) صفة لمصدر محذوف ، أي لترونها رأية هي عين اليقين ، ووصفت هي سبب اليقين ، بكونها نفس اليقين مبالغة ، والفرق بين علم اليقين وعين اليقين ، أن علم اليقين هو إدراك الشيء من غير مشاهدة ، وعين اليقين الرؤية التي هي العلم به مع المشاهدة ، وأما حق اليقين فهو المشاهدة مع الملاصقة والممازجة ، وقد أخبر الله هنا بالأولين ، وأخبر بالثالث في سورة الواقعة حيث قال : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) الآية.

قوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَ) الأظهر أن الخطاب للكفار ، لأنهم هم المشتغلون بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى ، وقيل : هو عام في حق المؤمن والكافر ، فعن أنس أنه قال : لما نزلت الآية قام رجل أعرابي محتاج فقال : هل علي من النعم شيء؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظل والنعلان والماء البارد» ، والأولى أن

٤١٩

منه نون الرفع لتوالي النونات وواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين (يَوْمَئِذٍ) يوم رؤيتها (عَنِ النَّعِيمِ) (٨) ما يتلذذ به في الدنيا ، من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك.

____________________________________

يقال : السؤال يعم المؤمن والكافر ، لكن سؤال الكافر توبيخ وتقريع لتركه الشكر ، وسؤال المؤمن تشريف وإظهار لفضله ، وتبشير بأن يجمع له بين نعم الدنيا والآخرة ، وثم على بابها من الترتيب المعنوي ، لأنهم يرون النار في الموقف تحدق بهم ، ثم يذهبون للحساب فيسألون. قوله : (حذفت منه نون الرفع) أي فأصله تسألونن ، حذفت نون الرفع لتوالي النونات ، فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما ، وبقيت الضمة دليلا عليها.

قوله : (عَنِ النَّعِيمِ) أي عن جميع أفراده وأنواعه ، فأل للاستغراق. قوله : (وغير ذلك) أي كظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقي من الحر والبرد ، والماء البارد ، وكحل العين ، ولبس الإنسان ثوب أخيه ، وشبع البطن ، ولذة النوم ، والعافية ، ونحو ذلك مما لا يحصى عددا. روى الحاكم والبيهقي : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قالوا : ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال : أما يستطيع أحدكم أن يقرأ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)؟».

٤٢٠