حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

إيمانهم (لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨) قيل هو كتاب جامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين ، وقيل : هو مكان في السماء السابعة تحت العرش (وَما أَدْراكَ) أعلمك (ما عِلِّيُّونَ) (١٩) ما كتاب عليين هو (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٢٠) مختوم (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢١) من الملائكة (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (٢٢) جنة (عَلَى الْأَرائِكِ) السرر في الحجال (يَنْظُرُونَ) (٢٣) ما أعطوا من النعيم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢٤) بهجة التنعم وحسنه (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) خمر خالصة من الدنس (مَخْتُومٍ) (٢٥) على

____________________________________

أعد لهم من النعيم الدائم ، إثر بيان محل كتاب الفجار ، وما أعد لهم من العذاب الدائم. قوله : (حقا) وقيل : حرف ردع وزجر ، فتحصل أن في كل واحدة من الأربعة الواقعة في هذه السورة قولين.

قوله : (لَفِي عِلِّيِّينَ) اسم مفرد على صيغة الجمع لا واحد له ، من لفظه سمي بذلك ، إما لأنه سبب العلو إلى أعلى درجات في الجنة ، وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة ، لما ورد مرفوعا «عليين في السماء السابعة تحت العرش». قوله : (قيل هو كتاب) الخ ، أي فهو علم على ديوان الخير الذي دون فيه كل عمل صالح للثقلين ، ورد : «أن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقبلونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه ، أوحى إليهم : أنتم حفظة على عبدي ، وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وإنه أخلص عمله ، فاجعلوه في عليين وقد غفرت له ، وإنها لتصعد بعمل العبد فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله ، أوحى إليهم : أنتم الحفظة على عبدي ، وأنا الرقيب على قلبه ، وإنه لم يخلص لي عمله ، فاجعلوه في سجين ، قال ابن عباس : هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش ، أعمالهم مكتوبة فيه ، وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش اليمنى ، وقال بعض أهل المعنى : هو علو بعد علو ، وشرف بعد شرف. قوله : (من الملائكة) ظاهره أن الملائكة تكتب أعمالهم ويثابون عليها ، وانظر في ذلك. قوله : (وقيل هو مكان) الخ ، قد يجمع بأن (عِلِّيِّينَ) اسم لكل من الكتاب والمكان. قوله : (ما كتاب عليين) هذا التقدير إنما يحتاج له على القول الثاني في تفسير (عِلِّيِّينَ) لا على الأول قوله : (مختوم) وقيل : الرقم الكتاب ، والمعنى مكتوب فيه : إن فلانا آمن من النار. قوله : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي يحضرونه ويحفظونه ويشهدون بما فيه.

قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) شروع في بيان عاقبة أمرهم ، إثر بيان حال كتابهم ، على سنن ما مر في شأن الكفار. قوله : (السرر في الحجال) جمع حجلة بفتحتين ، بيت مربع من الثياب الفاخرة يرخى على السرير ، يسمى في العرف الناموسية. قوله : (يَنْظُرُونَ) الجملة حالية من الضمير في خبر (إِنَ) أو مستأنفة ، وقوله : (عَلَى الْأَرائِكِ) متعلق بينظرون. قوله : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ) الخ ، أي إنك إذا رأيتهم ، تعرف أنهم أهل النعمة ، لما ترى في وجوههم من الحسن والبياض ، وفي قلوبهم من السرور والفرح ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل من تصح منه المعرفة ، وهذه قراءة العامة ، وقرأ أبو جعفر بالتاء مبنيا للمفعول و (نَضْرَةَ) بالرفع نائب فاعل ، وقرىء بالياء مبنيا للمفعول أيضا مع رفع (نَضْرَةَ) نظرا إلى التأنيث مجازي. قوله : (بهجة التنعم) الخ ، أي لعدم ما يكدره من الأمراض والعلل وخوف الزوال وغير ذلك. قوله : (خالصة من الدنس) أي الكدر ، قال تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ). قوله : (مَخْتُومٍ) (على إنائها) أي لشرفها ونفاستها ، إن قلت : في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) والنهر لا ختم فيه ، فكيف طريق الجمع بين الآيتين؟ أجيب : بأن هذه الأواني غير خمر الأنهار.

٣٤١

إنائها لا يفك ختمه إلا هم (خِتامُهُ مِسْكٌ) أي آخر شربه يفوح منه رائحة المسك (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (٢٦) فليرغبوا بالمبادرة إلى طاعة الله (وَمِزاجُهُ) أي ما يمزج به (مِنْ تَسْنِيمٍ) (٢٧) فسر بقوله (عَيْناً) فنصبه بأمدح مقدرا (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) (٢٨) أي منها أو ضمن يشرب معنى يلتذ (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) كأبي جهل ونحوه (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) كعمار وبلال ونحوهما (يَضْحَكُونَ) (٢٩) استهزاء بهم (وَإِذا مَرُّوا) أي المؤمنون (بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) (٣٠) أي يشير المجرمون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء (وَإِذَا انْقَلَبُوا) رجعوا (إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١) وفي قراءة فكهين معجبين بذكرهم لمؤمنين (وَإِذا رَأَوْهُمْ) رأوا المؤمنين (قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (٣٢) لإيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى (وَما أُرْسِلُوا) أي الكفار (عَلَيْهِمْ) على المؤمنين (حافِظِينَ) (٣٣) لهم أو لأعمالهم حتى يردوهم إلى مصالحهم (فَالْيَوْمَ) أي يوم القيامة (الَّذِينَ

____________________________________

قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) صفة ثانية لرحيق ، وفي قراءة سبعية أيضا خاتمه بتاء مفتوحة بعد الألف بيان الجنس الخاتم ، وقرىء شذوذا بكسر التاء ، والمعنى خاتم رائحته مسك. قوله : (يفوح منه رائحة المسك) أي إن رائحة المسك تظهر في آخر الشراب ، فوجه التخصيص أن في العادة يمل آخر الشراب في الدنيا ، فأفاد أن آخر الشراب ، يفوح منه رائحة المسك ، فلا يمل منه. قوله : (وَفِي ذلِكَ) اشارة للرحيق وما بعده ، أو إلى ما ذكر من أحوال الأبرار. قوله : (الْمُتَنافِسُونَ) أي الذين شأنهم المنافسة ، بكثرة الأعمال الصالحة والنيات الخالصة ، لعلو همتهم وطهارة نفوسهم ، قال تعالى : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ). قوله : (مِنْ تَسْنِيمٍ) اسم للعين ، سميت بذلك لما روي أنها تجري في الهواء مسنمة ، فتصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة ، فإذا امتلأت امسكت ، فالمقربون يشربونها صرفا ، وتمزج لسائر أهل الجنة. قوله : (أو ضمن) أشار بذلك إلى أن التضمين إما في الحرف أو في الفعل.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إلخ ، لما ذكر الله تعالى كرامة الأبرار في الآخرة ، ذكر بعد قبح معاملة الكفار معهم في الدنيا ، تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم. قوله : (كأبي جهل ونحوه) أي وهو الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل وأصحابهم من أهل مكة. قوله : (ونحوهما) أي كخباب وصهيب وأصحابهم من فقراء المؤمنين. قوله : (رجعوا) أي من مجالسهم. قوله : (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي متلذذين برفعتهم ومكانتهم الموصلة إلى الاستسخار بغيرهم ، ففي الحديث : «إن الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر». وفي رواية : «يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة». وفي أخرى : «العالم فيهم أنتن من جيفة حمار» والله المستعان. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (معجبين) راجع للقراءتين ، أي متلذذين بذكرهم المؤمنين وبالضحك.

قوله : (وَإِذا رَأَوْهُمْ) الضمير المرفوع عائد على المجرمين ، أو المنصوب عائد على المؤمنين ، أي إذا رأى المجرمون المؤمنين نسبوهم إلى الضلال. قوله : (لإيمانهم بمحمد) الخ ، أي فهم يرون أنهم على هدى ، والمؤمنون على ضلال ، حيث تركوا النعيم الحاضر ، بسبب شيء غائب لا يرونه. قوله : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) حال من الواو في (قالُوا) أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم. قوله : (حتى يردوهم إلى مصالحهم) أي بل أمروا بإصلاح

٣٤٢

آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣٤) (عَلَى الْأَرائِكِ) في الجنة (يَنْظُرُونَ) (٣٥) من منازلهم إلى الكفار وهم يعذبون ، فيضحكون منهم كما ضحك الكفار منهم في الدنيا (هَلْ ثُوِّبَ) جوزي (الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)؟ نعم.

____________________________________

أنفسهم لا بإصلاح المؤمنين.

قوله : (فَالْيَوْمَ) منصوب ب (يَضْحَكُونَ) الواقع خبرا عن المبتدأ ، ولا يضر تقدمه على المبتدأ لأمن اللبس ، وذلك أن الظرف المبهم لا يصح وقوعه خبرا عن المبتدأ ، بخلاف : في الدار زيد قام ، فلا يجوز تقديم الجار والمجرور على المبتدأ ؛ لصلاحيته للخبرية. قوله : (يَنْظُرُونَ) حال من ضمير (يَضْحَكُونَ.) قوله : (من منازلهم) قال كعب : لأهل الجنة كوى ، ينظرون منها إلى أهل النار ، وقيل : حصن شفاف بينهم يرون منه حالهم ، وفي سبب هذا الضحك وجوه منها : أن الكفار كانوا في ترفه ونعيم ، فيضحكون من المؤمنين بسبب ما هم فيه من البؤس والضر ، وفي الآخرة ينعكس الحال ؛ فيكون المؤمنون في النعيم ، والكفار في الجحيم. ومنها : أنه يقال لأهل النار وهم فيها اخرجوا ، وتنفتح أبوابها لهم ، فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها ، أقبلوا عليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم ، فإذا انتهوا إلى أبوابها ، أغلقت دونهم ، يفعل ذلك بهم مرارا. ومنها : أنهم إذا دخلوا الجنة وأجلسوا على الأرائك ، ينظرون إلى الكفار كيف يعذبون في النار ، يرفعون أصواتهم بالويل والثبور ، ويلعن بعضهم بعضا ، فهذا سبب ضحكهم.

قوله : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ) الخ ، يحتمل أنه مقول قول محذوف ، والتقدير : يقول الله لأهل الجنة ، أو يقول بعض المؤمنين لبعض : (هَلْ ثُوِّبَ) الخ ، ويحتمل أنه متعلق بينظرون ، والمعنى : ينظرون هل جوزي الكفار؟ فمحلها نصب ، إما بالقول المحذوف ، أو ينظرون ، وقوله : (جوزي) أشارة إلى أن التثويب بمعنى الجزاء ، وهو يكون في الخير والشر ، والمراد هنا الثاني ، وقوله : (نعم) جواب الاستفهام على كل.

٣٤٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الانشقاق

مكيّة

وآياتها خمس وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) (وَأَذِنَتْ) سمعت وأطاعت في الانشقاق (لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٢) أي حق لها أن تسمع وتطيع (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) (٣) زيد في سعتها كما يمد الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل (وَأَلْقَتْ ما فِيها) من الموتى إلى ظاهرها (وَتَخَلَّتْ) (٤) عنه (وَأَذِنَتْ) سمعت وأطاعت في ذلك (لِرَبِّها وَحُقَّتْ) (٥) وذلك كله يكون يوم القيامة ،

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأنشقاق مكية

ثلاث أو خمس وعشرون آية

قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي انصدعت بغمام يخرج منها ، وهو البياض في جوانب السماء لتنزل الملائكة ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) قوله : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي انقادت لأمره. قوله : (سمعت وأطاعت) أي فشبه حال السماء في انقيادها ، بتأثير قدرة الله تعالى ، حيث أراد انشقاقها ، بانقياد المستمع المطيع لأمره ، وذلك أن السماوات لما علمت مراد الله ، وتعلقت إرادته بانشقاقها ، سلمت وفوضت أمرها ، ولم تنازع في ذلك. قوله : (وَحُقَّتْ) بالبناء للمفعول ، والفاعل في الأصل محذوف وهو الله تعالى ، وكذا المفعول ، والأصل وحق الله عليها استماعها ، فحذف الفاعل ثم المفعول ، واسند الفعل إلى ضمير السماوات. والمعنى : وحق الله استماعها لعلمها بأن مراد الله نافذ ، فهي أهل لأن تسمع وتطيع ، قال تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ).

قوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي بسطت ودكت جبالها. قوله : (كما يمد الأديم) أي وهو الجلد ، لأنه إذا مد زال كل انثناء فيه ، وامتد واستوى. قوله : (ولم يبق عليها بناء ولا جبل) أي فيزاد في سعتها ، لوقوف الخلائق عليها للحساب ، حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدمه ، لكثرة الخلائق فيها ، وظاهر الآية أن الأرض تمد مع بقاءها ، وليس كذلك ، بل تبدل بأرض أخرى بدليل آية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ.) قوله : (من الموتى) أي والكنوز والمعادن والزروع. قوله : (وَتَخَلَّتْ) أي خلا جوفها ، فلم يبق في بطنها شيء. قوله : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) ليس تكرارا ، لأن هذا في الأرض ، وما تقدم في السماوات. قوله : (وأطاعت في ذلك) أي الإلقاء والتخلي. قوله : (دل عليه ما بعده) أي وهو

٣٤٤

وجواب إذا وما عطف عليها محذوف دلّ عليه ما بعده تقديره لقي الانسان عمله (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) جاهد في عملك (إِلى) لقاء (رَبِّكَ) وهو الموت (كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) أي ملاق عملك المذكور من خير أو شر يوم القيامة (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) كتاب عمله (بِيَمِينِهِ) (٧) هو المؤمن (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٨) هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه : من نوقش الحساب هلك ، وبعد العرض يتجاوز عنه (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) في الجنة (مَسْرُوراً) (٩) بذلك (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) (١٠) هو الكافر تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل يسراه وراء ظهره ، فيأخذ بها كتابه (فَسَوْفَ يَدْعُوا) عند رؤيته ما فيه (ثُبُوراً) (١١) ينادي هلاكه بقوله : يا ثبوراه (وَيَصْلى سَعِيراً) (١٢) يدخل النار الشديدة ، وفي قراءة بضم الباء وفتح الصاد واللام المشدّدة (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) عشيرته في الدنيا (مَسْرُوراً) (١٣) بطرا باتباعه لهواه (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي إنه (لَنْ يَحُورَ) (١٤) يرجع إلى ربه (بَلى) يرجع إليه (إِنَّ رَبَّهُ

____________________________________

قوله : (فَمُلاقِيهِ.) قوله : (تقديره لقي الإنسان) الخ ، قدره غيره علمت نفس وهو أحسن ، لأنه تقدم في التكوير والانفطار وخير ما فسرته بالوارد.

قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) إلخ يحتمل أن المراد به الجنس ، وبه قال سعيد وقتادة ، ويحتمل أنه معين وهو الأسود بن عبد الأسد ، وقيل أبي بن خلف ، وقيل جميع الكفار. قوله : (إِنَّكَ كادِحٌ) الكدح العمل والكسب والسعي. قوله : (إِلى رَبِّكَ إِلى) حرف غاية ، والمعنى : غاية كدحك في الخير أو الشر ، ينتهي بلقاء ربك وهو الموت. قوله : (فَمُلاقِيهِ) إما معطوف على (كادِحٌ) وخبر مبتدأ محذوف ، أي فأنت ملاقيه ، والجملة معطوفة على جملة (إِنَّكَ كادِحٌ.) قوله : (أي ملاق عملك) أشار بذلك إلى أن الضمير في ملاقيه ، عائد على الكدح الذي هو بمعنى العمل ، والكلام على حذف مضاف ، أي ملاق حسابه وجزاءه ، ويصح أن يكون عائدا على الله تعالى ، والمعنى ملاق ربه فلا مفر له منه. قوله : (هو المؤمن) أي ولو عاصيا مستحقا للنار. قوله : (هو عرض عمله عليه) أي بأن تعرض أعماله ، ويعرف أن الطاعة منها هذه ، وأن المعصية هذه ، ثم يثاب على الطاعة ، ويتجاوز عن المعصية ، فهذا هو الحساب اليسير ، لأنه لا شدة فيه على صاحبه ولا مناقشة ، ولا يقال له : لم فعلت هذا؟ ولا يطالب بالعذر ولا بالحجة عليه. قوله : (كما فسر في حديث الصحيحين) أي هو ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حوسب عذب» قالت عائشة فقلت : أو ليس يقول الله عزوجل (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) فقال : «إنما ذلك العرض ، ولكن من نوقش الحساب هلك» وفي رواية عذب.

قوله : (وَيَنْقَلِبُ) أي يرجع بنفسه. قوله : (إِلى أَهْلِهِ) أي من الآدميات والحور العين وأصوله وفروعه. قوله : (وراء ظهره) منصوب بنزع الخافض. قوله : (تغل يمناه) إلخ ، قصد بذلك التوفيق بين هذه الآية وآية (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ.) قوله : (ينادي هلاكه) أي يتمناه إذا نداء ما لا يعقل هو تمنيه. قوله : (بطرا) أي فخرا أو رياء ، فأبدله الله بذلك حزنا وغما لا ينقطع ابدا. قوله : (إِنَّهُ ظَنَ) أي تيقن وعلم. قوله : (مخففة من الثقيلة) أي ولا يصح أن تكون مصدرية ، لما يلزم عليه من دخول الناصب على

٣٤٥

كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥) عالما برجوعه إليه (فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة (بِالشَّفَقِ) (١٦) هو الحمرة في الأفق بعد غروب الشمس (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) (١٧) جمع ما دخل عليه من الدواب وغيرها (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) (١٨) اجتمع وتمّ نوره ، وذلك في الليالي البيض (لَتَرْكَبُنَ) أيها الناس ، أصله تركبونن حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال ، والواو لالتقاء الساكنين (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (١٩) حالا بعد حال ، وهو الموت ثم الحياة ، وما بعدها من أحوال القيامة (فَما لَهُمْ) أي الكفار (لا يُؤْمِنُونَ) (٢٠) أي أيّ مانع لهم من الإيمان؟ أو أي حجة لهم في تركه مع وجود براهينه؟ (وَ) ما لهم (إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (٢١) يخضعون بأن يؤمنوا به لإعجازه (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) (٢٢) بالبعث وغيره (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) (٢٣) يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء

____________________________________

مثله ، والجملة سادة مسد مفعولي (ظَنَّ). قوله : (يرجع إلى ربه) أي فالحور الرجوع والتردد في الأمر وبابه : قال ودخل. قوله : (بَلى) جواب النفي ، وقوله : (إِنَّ رَبَّهُ) الخ ، جواب قسم مقدر ، فهو بمنزلة التعليل للجملة المستفاد من (بَلى).

قوله : (فَلا أُقْسِمُ) الفاء واقعة في جواب شرط مقدر ، أي إذا عرفت هذا (فَلا أُقْسِمُ) الخ. قوله : (بِالشَّفَقِ) أي وهو اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس ، وهو الحمرة التي تكون عند ذلك سمي شفقا لرقته ، ومنه الشفقة على الإنسان ، وهي رقة القلب عليه. قوله : (وَما وَسَقَ ما) موصول اسمي أو نكرة موصوفة أو مصدرية. قوله : (جمع ما دخل عليه) أي ضم ما كان منتشرا بالنهار من الخلق والدواب والهوام. قوله : (وغيرها) أي كالأشجار والبحار ، فإنه إذا دخل الليل انضم وسكن. قوله : (وذلك في الليالي البيض) أي وهي ليلة الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر.

قوله : (لَتَرْكَبُنَ) جواب القسم ، بضم الباء خطاب للجمع ، وبفتحها خطاب للواحد ، قراءتان سبعيتان. قوله : (طَبَقاً) مفعول به أو حال. قوله : (بعد حال) أشار بذلك إلى أن عن بمعنى بعد صفة لطبق. قوله : (وهو الموت ثم الحياة) الخ ، هذا قول ابن عباس ، وقال عكرمة : رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ ، وقيل : المعنى لتركبن سنن من قبلكم وأحوالكم. قوله : (فَما لَهُمْ) الفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجيب على ما قبلها ، من أحوال يوم القيامة وأهواله الموجبة للإيمان لظهور الحجة ، لأن ما أقسم به من التعبيرات العلوية والسفلية ، يدل على خالق عظيم القدرة ، يبعد عمن له عقل عدم الإيمان به والإنقياد له.

قوله : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) أي من أي قارىء ، وهذا شرط ، وجوابه (لا يَسْجُدُونَ) وهذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال ، معطوفة على الحال السابقة ، وهي قوله : (لا يُؤْمِنُونَ). قوله : (لا يخضعون) أي فالمراد بالسجود اللغوي لا العرفي ، وهذا أحد قولين ، والآخر أن المراد به السجود الحقيقي الذي هو سجود التلاوة ، وقد اختلف الأئمة في ذلك. قوله : (في صحفهم) الأوضح أن

٣٤٦

(فَبَشِّرْهُمْ) أخبرهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٤) مؤلم (إِلَّا) لكن (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥) غير مقطوع ولا منقوص ، ولا يمنّ به عليهم.

____________________________________

يقول في صدورهم ، لأن الوعي معناه لغة الحفظ. قوله : (لكن) (الَّذِينَ آمَنُوا) الخ ، أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع ، لأن ما قبل إلا في الكفار لا غير. قوله : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء.

٣٤٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البروج

مكيّة

وآياتها ثنتان وعشرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) الكواكب اثنا عشر برجا تقدمت في الفرقات (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) (٢) يوم القيامة (وَشاهِدٍ) يوم الجمعة (وَمَشْهُودٍ) (٣) يوم عرفة ، كذا فسرت الثلاثة في الحديث ، فالأول موعود به ، والثاني شاهد بالعمل فيه ، والثالث تشهده الناس والملائكة ، وجواب القسم محذوف صدره تقديره لقد (قُتِلَ) لعن (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (٤)

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البروج مكية

وهي ثنتان وعشرون آية

حكمة نزول هذه السورة ، تثبيت المؤمنين على إيمانهم وصبرهم على أذى الكفار ، بتذكيرهم بما جرى لمن تقدمهم. قوله : (ذاتِ الْبُرُوجِ) أي صاحبة الطرق والمنازل التي تسير فيها الكواكب السبعة ؛ سميت بروجا لظهورها ، لأن البرج في الأصل الأمر الظاهر من التبرج ، ثم صار حقيقة عرفية للقصر العالي لظهوره. قوله : (تقدمت في الفرقان) نصه هناك (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) اثني عشر : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، وهي منازل الكواكب السبعة السيارة : المريخ وله الحمل والعقرب ، والزهرة ولها الثور والميزان ، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة ، والقمر وله السرطان ، والشمس ولها الأسد ، والمشتري وله القوس والحوت ، وزحل وله الجدي والدلو. انتهى. قوله : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) أي الموعود به ، ففيه الحذف والإيصال. قوله : (يوم الجمعة) خص مع أن باقي الزمان يشهد كذلك لاختصاصه بمزية ، وهي كونه فيه ساعة إجابة واجتماع الناس. قوله : (كذا فسرت الثلاثة في الحديث) أي وهو ما روي : «اليوم الموعود يوم القيامة ، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة» خرجه الترمذي ، واختلف في تفسير الشاهد والمشهود على أقوال كثيرة : منها ما ذكره في الحديث ، ومنها الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة ، ومنها الشاهد هو الله والمشهود يوم القيامة ، ومنها الشاهد هم الأنبياء والمشهود عليهم هم الأمم ، ومنها الشاهد أعضاء الإنسان والمشهود عليه هو ابن آدم ، ومنها غير ذلك ، والأحسن أن يراد ما هو أعم. ولذلك نكرهما ليعم كل شاهد ومشهود. قوله : (محذوف صدره) أي لأن المشهور عن النحاة ، أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم

٣٤٨

الشق في الأرض (النَّارِ) بدل اشتمال منه (ذاتِ الْوَقُودِ) (٥) ما توقد به (إِذْ هُمْ عَلَيْها) أي حولها على جانب الأخدود على الكراسي (قُعُودٌ) (٦) (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بالله من تعذيبهم بالالقاء في النار إن لم يرجعوا عن إيمانهم (شُهُودٌ) (٧) حضور ، روي أن الله أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى من ثم فأحرقتهم (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ

____________________________________

معموله ، إذا وقع جوابا للقسم تلزمه اللام ، وقد لا يجوز الاقتصار على أحدهما ، إلا عند طول الكلام أو في ضرورة. قوله : (تقديره لقد) (قُتِلَ) الخ ، أي وعليه فالجملة خبرية ، والأصل فيها الدعاء. قوله : (الشق في الأرض) أي فالأخدود مفرد وجمعه أخاديد. قوله : (بدل اشتمال منه) أي لأن الأخدود مشتمل على النار. قوله : (ما توقد به) أي فالوقود بالفتح الاسم ، وأما بالضم فهو المصدر. قوله : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) ظرف ل (قُتِلَ) والمعنى : حين حرقوا بالنار قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود.

قوله : (شُهُودٌ) أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك ، بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به ، فهو من الشهادة بمعنى تأدية الخبر ، أو المراد شهود يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين ، فهو من الشهادة بمعنى الحضور ، وعليه اقتصر المفسر. قوله : (روي أن الله أنجى المؤمنين) الخ ، أي وكانوا سبعة وسبعين ، وهؤلاء لم يرجعوا عن دينهم ، والذين رجعوا عشرة أو أحد عشرة. وقوله : (إلى من ثم) أي إلى من هم قعود على الأخدود ، ولم يرد نص بتعيينهم ، واعلم أنه اختلف المفسرون في أصحاب الأخدود ، فروي عن صهيب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت ، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، وإذا رجع من الساحر قعد إلى الراهب ، وسمع كلامه ، فإذا أتى أهله ضربوه ، فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك ، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر؟ فأخذ حجرا ثم قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر ، فاقتل هذه حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها ، فمضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدل علي ، فكان الغلام يبرىء الأكمة والأبرص ويداوي الناس بسائر الأدواء ، فسمع جليس الملك وكان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : ما هنالك أجمع إن أنت شفيتني ، قال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله عزوجل ، فإن آمنت بالله دعوت الله عزوجل فشفاك ، فآمن بالله فشفاه الله عزوجل ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك؟ قال : ربي ، قال : ولك رب غيري؟ قال : الله ربي وربك ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام ، فجيء بالغلام فقال الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله عزوجل ، فأخذ فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدعا بالمنشار ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقه

٣٤٩

إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ) في ملكه (الْحَمِيدِ) (٨) المحمود (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٩) أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا إيمانهم (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ

____________________________________

به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه ، وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور ، فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله تعالى ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : وما هو؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ثم تأخذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ثلاثا ، فأتى الملك فقال له : أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود فخدت بأفواه السكك ، وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فاحموه ، ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق». وروي عن مقاتل : كانت الأخاديد ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، وأخرى بالشام ، وأخرى بفارس ، حرق أصحابها بالنار. أما التي بالشام والتي بفارس ، فلم ينزل الله فيهما قرآنا ، وأنزل في التي كانت بنجران ، وذلك أن رجلا مسلما ممن يقرأ الإنجيل ، أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الإنجيل ، فرأت بنت المستأجر النور يعني من قراءة الإنجيل ، فذكرت لأبيها فسأله فلم يخبره ، فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام فتابعه على دينه هو وسبعة وثمانون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، وهذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء ، وقبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبعين سنة ، فسمع ذلك الرجل اسمه يوسف بن ذي نواس ، فخذلهم في الأرض وأوقد لهم فيها ، فعرضهم على الكفر ، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه. وروي أن امرأة جاءت ومعها ولد صغير لا يتكلم ، فلما قامت على شفير الخندق ، نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار ، فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات ، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع ، فقال لها ابنها : يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ ، يعني نار جهنم ، إن لم تقعي في هذه النار ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار ، فجعلهما الله في الجنة ، فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعين إنسانا. وروي غير ذلك.

قوله : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) الخ ، أي ما عابوا منهم إلا إيمانهم ، وإنما عبر بالمستقبل مع أن الإيمان وقع منهم في الماضي ، لأن تعذيبهم الإنكار ليس للإيمان الذي وجد منهم في الماضي ، بل لدوامهم عليه في المستقبل ، إذ لو كفروا في المستقبل ، لما عذبوا على ما مضى ، فكأنه قال : إلا أن يستمروا على إيمانهم. قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيان لكونه العزيز الحميد. قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

٣٥٠

وَالْمُؤْمِناتِ) بالاحراق (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) (١٠) أي عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة ، وقيل في الدنيا بأن خرجت النار فأحرقتهم كما تقدم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (١١) (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) بالكفار (لَشَدِيدٌ) (١٢) بحسب إرادته (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ) الخلق (وَيُعِيدُ) (١٣) فلا يعجزه ما يريد (وَهُوَ الْغَفُورُ) للمذنبين المؤمنين (الْوَدُودُ) (١٤) المتودد إلى أوليائه بالكرامة (ذُو الْعَرْشِ) خالقه ومالكه (الْمَجِيدُ) (١٥) بالرفع المستحق لكمال صفات العلو (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٦) لا يعجزه شيء (هَلْ أَتاكَ) يا محمد (حَدِيثُ الْجُنُودِ) (١٧) (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (١٨) بدل من الجنود واستغنى

____________________________________

شَهِيدٌ) فيه وعد وعيد.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) الخ ، أي حرقوهم بالنار ، يقال : فتنت فلانا إذا حرقته. قوله : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي لم يرجعوا عما هم عليه من الكفر ، وفيه دليل على أنهم إن تابوا وآمنوا قبلهم ، وأخرجهم من هذا الوعيد ، والتعبير بثم إشارة إلى أن التوبة مقبولة ، ولو طال الزمان ما لم تحصل الغرغرة. قوله : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) هو خبر (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من الشرط. قوله : (عَذابُ الْحَرِيقِ) من إضافة المسبب للسبب ، أي عذاب سببه احراق المؤمنين. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) لما ذكر وعيد الكفار ، أتبعه بذكر ما أعد للمؤمنين. قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي من تحت قصورها وغرفها ، يتلذذون ببردها في نظير الحر الذي صبروا عليه في الدنيا ، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضار والأحزان. قوله : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) اسم الإشارة عائد على ما ذكر من حيازتهم للجنات ، وعبر بالإشارة المفيدة للعبد ، لعلو درجتهم في الفضل والشرف.

قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) البطش الأخذ بعنف ، فإذا وصف بالشدة كان متضاعفا جدا ، وهو انتقامه وتعذيبه للكفرة. قوله : (بحسب إرادته) رد بذلك على الفلاسفة القائلين : بأنه واجب بالذات كيف وقد قال تعالى (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ). قوله : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي ومن كان قادرا على ذلك ، كان بطشه في غاية الشدة. قوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي الماحي لذنوب المؤمنين وإن لم يتوبوا ، لأن الآية مذكورة في معرض التمدح ، والتمدح بكونه غفورا مطلقا أتم ، فالحمل عليه أولى. قوله : (المتودد إلى أوليائه بالكرامة) أشار بذلك إلى أن فعولا بمعنى فاعل ، ويصح أن يكون بمعنى مفعول ، أي يوده عبارة ويحبونه. قوله : (الْمَجِيدُ) بالرفع أي وبالجر قراءتان سبعيتان فالرفع على أنه نعت للغفور ، والجر على أنه نعت للعرش ، ومجده علوه وعظمه. قوله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أتى بصيغة (فَعَّالٌ) اشارة للكثرة ، وختم به الصفات لكونه كالنتيجة لها ، والمعنى : يفعل ما يريد ، ولا يعترض عليه ولا يغلبه غالب ، فيدخل أولياء الجنة لا يمنعه مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ، وفي هذه الآية دليل على أن جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، ولا يجب عليه شيء ، لأن أفعاله بحسب ارادته.

قوله : (هَلْ أَتاكَ) الخ ، يصح أن تكون هل بمعنى قد ، وإن كان سبق له إتيان ، أو لطلب الأخبار إن لم يكن أتاه كما تقدم. قوله : (بدل من الجنود) أي على حذف مضاف ، أي جنود فرعون ، وهو بدل كل من كل ، أو المراد بفرعون هو وقومه ، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه ، وعليه اقتصر المفسر ، وخص

٣٥١

بذكر فرعون عن أتباعه. وحديثهم أنهم أهلكوا بكفرهم ، وهذا تنبيه لمن كفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ليتعظوا (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) (١٩) بما ذكر (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٢٠) لا عاصم لهم منه (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (٢١) عظيم (فِي لَوْحٍ) هو في الهواء فوق السماء السابعة (مَحْفُوظٍ) (٢٢) بالجر من الشياطين ومن تغير شيء منه ، طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وهو من درة بيضاء ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

____________________________________

فرعون وثمود بالذكر لشهرتهما عند العرب. قوله : (وحديثهم أنهم) الخ ، أي فهو ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال ، وما حل بهم من العذاب. قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من قومك ، وهو اضراب انتقال للأشد كأنه قيل : ليس حال هؤلاء بأعجب من حال قومك ، فإنهم مع عملهم بما حل بهم لم ينزجروا. قوله : (فِي تَكْذِيبٍ) (بما ذكروا) أي النبي والقرآن. قوله : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي وهم في قبضة قدره وتصريفه ، كالشيء المحاط به ، الذي لا يجد مخلصا ولا مفرا فيجازيهم بأعمالهم.

قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) اضراب عن شدة تكذيبهم ، وعدم كفهم عنه إلى وصف القرآن بما ذكر ، اشارة إلى أنه لا ريب ولا شك فيه ، ولا يصل إليه تكذيب هؤلاء. قوله : (فوق السماء السابعة) أي معلق بالعرش. قوله : (بالجر) أي والرفع فهما سبعيتان ، فالجر على أنه نعت للوح ، والرفع على أنه نعت للقرآن. قوله : (طوله ما بين السماء) الخ ، أي وهو عن يمين العرش ، مكتوب في صدره : لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله جنته. قوله : (وهو من درة بيضاء) أي وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه النور ، وكتابته نور معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك.

٣٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الطّارق

مكيّة

وآياتها سبع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) أصله كل آت ليلا ، ومنه النجوم لطلوعها ليلا (وَما أَدْراكَ) أعلمك (مَا الطَّارِقُ) (٢) مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري وما بعد ما الأولى خبرها وفيه تعظيم لشأن الطارق المفسر بما بعده هو (النَّجْمُ) أي الثريا أو كل نجم (الثَّاقِبُ) (٣) المضيء لثقبه الظلام بضوئه وجواب القسم (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤)

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الطارق مكية

وهي سبع عشرة آية

قوله : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) الخ ، قد كثر منه تعالى في كتابه المجيد ذكر السماء والشمس والقمر والنجوم ، لأن أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة ، دالة على انفراد صانعها بالكمالات ، لأن الصنعة تدل على الصانع ، قال بعضهم :

تلك آثارنا تدل علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

قوله : (أصله كل آت) الخ ، أي ثم توسع فيه ، فسمي به كل ما ظهر بالليل كائنا ما كان ، ثم توسع به فسمي به كل ما ظهر مطلقا ليلا ، أو نهارا ومنه حديث : «أعوذ بك من شر طارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن». والطارق مأخوذ من الطرق وهو الدق ، سمي به الآتي ليلا ، لاحتياجه إلى طرق الباب غالبا ، منه المطرقة بالكسر وهي ما يطرق به الحديد. قوله : (وَما أَدْراكَ) الاستفهام للإنكار وقوله : (مَا الطَّارِقُ) الاستفهام للتعظيم والتفخيم. قوله : (النَّجْمُ) خبر لمحذوف قدره المفسر بقوله : (هو) واعلم أنه تعالى أقسم أولا بما يشترك به النجم وغيره وهو الطارق ، ثم أتى بالاستفهام عنه تفخيما وتعظيما ثم فسره بالنجم ، إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام. قوله : (الثريا أو كل نجم) هذان قولان من ثلاثة ، ثالثها : أن المراد به زحل ، ومحله في السماء السابعة ، لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، فهو طارق

٣٥٣

بتخفيف ما فهي مزيدة ، وإن مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي إنه واللام فارقة وبتشديدها فإن نافية ولما بمعنى إلا ، والحافظ من الملائكة يحفظ عملها من خير وشر (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) نظر اعتبار (مِمَّ خُلِقَ) (٥) من أي شيء؟ جوابه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) ذي اندفاق من الرجل ، والمرأة في رحمها (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) للرجل (وَالتَّرائِبِ) (٧) للمرأة وهي عظام الصدر (إِنَّهُ) تعالى (عَلى رَجْعِهِ) بعث الإنسان بعد موته (لَقادِرٌ) (٨) فإذا اعتبر أصله علم أن القادر على ذلك قادر

____________________________________

حين ينزل وحين يصعد. قوله : (وجواب القسم) الخ ، أي وما بينهما اعتراض ، جيء به تفخيما للمقسم به. قوله : (فهي مزيدة) أي و (كُلُ) مبتدأ ، و (عليها) خبر مقدم ، و (حافِظٌ) مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر (كُلُّ). قوله : (واسمها محذوف) فيه نظر بل هي مهملة لا عمل لها ، لأن لام الفرق يؤتى بها عند الإهمال لا عند الإعمال ، كما قال ابن مالك :

وخففت إن فقلّ العمل

وتلزم اللام إذا ما تمهل

قوله : (واللام فارقة) أي بين المخففة والنافية. وقوله : (وبتشديدها) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (والحافظ من الملائكة) الخ ، يحتمل أن يراد الحفظ من العاهات والآفات ، وهو عشرة بالليل وعشرة بالنهار لكل آدمي ، فإن كان مؤمنا ، وكل الله به مائة وستين ملكا ، يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ، ولو كان العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ، أو حفظ الأعمال ، وهما رقيب وعتيد ، وعليه درج المفسر ، وقيل : المراد بالحافظ الله تعالى ، فتحصل أن الحافظ قيل الكاتب أو مطلق الملائكة الحفظة أو الله تعالى ، والأحسن أن يراد ما هو أعم.

قوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) الخ ، لما ذكر تعالى أن كل نفس عليها حافظ ، أتبع ذلك توصية الإنسان بالنظر في أول نشأته ، والأمر للإيجاب. قوله : (مِمَّ خُلِقَ) الجار والمجرور متعلق بخلق ، والجملة في محل نصب بقوله : (فَلْيَنْظُرِ) المعلق عنها بالاستفهام. قوله : (ذي اندفاق) أي انصباب ، وأشار بذلك إلى أن (دافِقٍ) صيغة نسب كلابن وتامر ، فالمعنى خلق من ماء متدفق ومدفوق. قوله : (في رحمها) متعلق بدافق. قوله : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) أي وهو عظام الظهر و (بَيْنِ) زائدة ، لأن (بَيْنِ) إنما تضاف لمتعدد ، وهنا ليس كذلك إلا أن يقال : المراد من بين أجزاء الصلب الخ. قوله : (وَالتَّرائِبِ) (للمرأة) وقال الحسن : المعنى يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل ، وصلب المرأة وترائب المرأة. قوله : (وهي عظام الصدر) أي وهي محل القلادة ، وهذا أحد أقوال ، وقيل : الترائب ما بين ثدييها ، وقيل : الترائب التراقي ، وقيل : الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدور وأربعة أضلاع من يسرة الصدر ، وقال القرطبي : إن ماء الرجل ينزل من الدماغ ثم يتجمع في الأنثيين ، ولا يعارضه قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) لأنه ينزل من الدماغ إلى الصلب ، ثم يجتمع في الأنثيين.

قوله : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) نتيجة النظر المذكور ، لأن الأمر بالنظر إنما هو لأجل التفكر في الميعاد والبعث. قوله : (بعث الإنسان) الخ ، هذا هو الصحيح اللائق بمعنى الآية بدليل ما بعده ، وفي الآية تفاسير أخر منها : أن الضمير يعود على الإنسان ، والمعنى : أن على رجع الإنسان لحالة النطفية لقادر بأن يرده من الشيخوخة للشبوبة ، ومنها للصبا ومنه إلى كونه حملا إلى مضغة إلى علقة إلى نطفة ، ومنها : أن

٣٥٤

على بعثه (يَوْمَ تُبْلَى) تختبر وتكشف (السَّرائِرُ) (٩) ضمائر القلوب في العقائد والنيات (فَما لَهُ) لمنكر البعث (مِنْ قُوَّةٍ) يمتنع بها من العذاب (وَلا ناصِرٍ) (١٠) يدفعه عنه (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) (١١) المطر لعوده كل حين (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) الشق عن النبات (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلٌ فَصْلٌ) (١٣) يفصل بين الحق والباطل (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤) باللعب والباطل (إِنَّهُمْ) أي الكفار (يَكِيدُونَ كَيْداً) (١٥) يعملون المكايد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦) أستدرجهم من حيث لا يعلمون (فَمَهِّلِ) يا محمد (الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ) تأكيد حسنه مخالفة اللفظ ، أي أنظرهم

____________________________________

الضمير عائد على الماء الدافق ، والمعنى : أنه على رجع الماء للصلب والترائب بعد انفصاله للرحم وصيرورته ولدا لقادر.

قوله : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) ظرف لرجعه لا لقادر ، لأنه تعالى قادر على جميع الأوقات ، لا تختص قدرته بوقت دون وقت. قوله : (ضمائر القلوب) أي ما أخفي فيها ، وقيل : السراء فرائض الأعمال : كالصلاة والصوم والوضوء والغسل من الجنابة ، فإنها سرائر بين الله وبين العبد ، ولو شاء العبد لقال : صمت ولم يصم ، وصليت ولم يصل ، واغتسلت من الجنابة ولم يغتسل ، فيختبر حتى يظهر من أداها من ضيعها ، فيبيض وجه المؤدي ، ويسود وجه المضيع.

قوله : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) أي في نفسه ، وقوله : (وَلا ناصِرٍ) أي من غيره. قوله : (المطر) هذا أحد أقوال ، وقيل (الرَّجْعِ) الأحوال التي تجيء وتذهب ، كالليل والنهار والأمطار ، والفصول من الشتاء وما فيه من برد ونحوه ؛ والصيف وما فيه من حر ونحوه ، وقيل : المراد ذات النفع ، وقيل : ذات الملائكة لرجوعهم فيها بأعمال العباد. قوله : (الشق عن النبات) وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها ، وقيل : ذات الطريق التي تصدعها المشاة ، وقيل : غير ذلك ، واعلم أنه تعالى كما جعل كيفية خلق الحيوان دليلا على معرفة المبدأ والمعاد ، ذكر في هذا القسم كيفية خلقه النبات ، فقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي هي كالأب (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) هي كالأم تتولد من بينهما النعم العظيمة التي ينتفع به ما دامت الدنيا.

قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) جواب القسم الذي هو (وَالسَّماءِ) الخ ، والمراد بالفصل الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل. قوله : (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي بل هو جد كله ، فالواجب أن يكون مهابا في الصدر ، معظما في القلوب ، كيف وهو خطاب رب العالمين لعباده ، فالإصغاء إليه والاستماع له ، والائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه فرض. قوله : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) اختلف فيها فقيل : هي القاء الشبهات كقولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا* مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ونحو ذلك ، وقيل : قصد قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأحسن أن يراد ما هو أعم. قوله : (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي أجازيهم على كيدهم ، وسمي الجزاء كيدا مشاكلة ، وقيل : المعنى أعاملهم معاملة ذي الكيد ، بأن أمدهم ظاهرا بالنعم استدراجا لهم ، وعليه اقتصر المفسر.

قوله : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجلهم بالانتقام منهم ولا بالدعاء عليهم. قوله : (مخالفة اللّفظ) أي من حيث إن الأول مسند للظاهر مع التضعيف ، والثاني مسند للضمير مع الهمز. قوله : (على

٣٥٥

(رُوَيْداً) (١٧) قليلا ، وهو مصدر مؤكدة لمعنى العامل ، مصغر رودا وأروادا على الترخيم ، وقد أخذهم الله تعالى ببدر ، ونسخ الإمهال بآية السيف ، أي بالأمر بالقتال والجهاد.

____________________________________

الترخيم) راجع لقوله : (أو أروادا) أي تصغير ترخيم وهو حذف الزوائد ، واعلم أن (رُوَيْداً) يستعمل مصدرا بدل من اللفظ بفعله ، فيضاف تارة كقوله فضرب الرقاب ، ولا يضاف أخرى نحو رويدا رويدا ، ويقع حالا نحو ساروا رويدا أي متمهلين ، ونعتا مصدر محذوف نحو ساروا رويدا أي سيرا رويدا. قوله : (ونسخ الامهال بآية السيف) أي على أن المعنى : اترك الكافرين ولا تتعرض لهم ، واصبر على أذاهم.

٣٥٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأعلى

مكيّة

وآياتها تسع عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) أي نزه ربك عما لا يليق به ، ولفظ اسم زائد (الْأَعْلَى) (١) صفة لربك (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) مخلوقه جعله متناسب الأجزاء غير

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأعلى مكية

وهي تسع عشرة آية

أي في قول الجمهور ، وقال الضحاك : مدنية ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات ، وفي الحديث سئلت عائشة بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : كان يقرأ في الأولى ب «سبح اسم ربك الأعلى» وفي الثانية ب «قل يا أيها الكافرون» وفي الثالثة ب «قل هو الله أحد» والمعوذتين ، ومن جملة فوائدها أن الإكثار من تلاوتها يورث الحفظ. قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) الأمر وإن كان للنبي ، إلا أن المراد منه العموم ، لأن الأصل عدم الخصوصية إلا لدليل. قوله : (أي نزه ربك) أي اعتقد أنه منزه عن كل ما لا يليق به ، في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه ، فتنزيه الذات اعتقاد أنها ليست كالذوات ، فلا توصف بالجوهرية ولا بالعرضية ، ولا بالكبر ولا بالصغر ؛ ولا بغير ذلك من أوصاف الحدوث ، وتنزيه الصفات اعتقاد أنها ليست حادثة ولا متناهية ولا ناقصة ، وتنزيه الأفعال اعتقاد أنه تعالى ليست أفعاله كأفعاله المخلوقين ، وتنزيه الأسماء عدم ذكره بالأسماء التي توهم نقصا بوجه من الوجوه ، وتنزيه الأحكام عدم الأغراض فيها ، فتكليفنا لأنفسنا لا لنفع يعود عليه. (ولفظ اسم زائد) ليس بمتعين ، بل كما تنزه الذات ينزه الاسم أيضا ، عن أن يسمى به غيره ، ومن جملة تنزيه الاسم ، أن لا يذكر في موضع الأقذار ، بأن يذكر على وجه التعظيم والتفخيم ، في المواضع الطاهرة الفاخرة ، ومن جملة تنزيه الاسم ، استحضارك عظمة المسمى عند ذكره.

قوله : (الْأَعْلَى) من العلو وهو الارتفاع ، بمعنى القهر والغلبة والسلطنة ، فهو علو مكانة لا مكان. قوله : (صفة لربك) أي فهو مجرور بكسرة مقدرة على الألف ، وهذه الصفة جارية مجرى التعليل ، كأنه قال : سبح اسم ربك لكونه مرتفع المكانة ، منزها عن النقائص أزلا أبدا ، ولا يصح أن يكون صفة لاسم منصوب بالفتحة المقدرة مع جعل (الَّذِي خَلَقَ) الخ ، صفة لربك ، لما يلزم عليه من الفصل بين الصفة

٣٥٧

متفاوت (وَالَّذِي قَدَّرَ) ما شاء (فَهَدى) (٣) إلى ما قدره من خير وشر (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) (٤) أنبت العشب (فَجَعَلَهُ) بعد الخضرة (غُثاءً) جافا هشيما (أَحْوى) (٥) أسود يابسا (سَنُقْرِئُكَ) القرآن (فَلا تَنْسى) (٦) ما تقرؤه (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن تنساه بنسخ تلاوته وحكمه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل خوف النسيان ، فكأنه قيل له : لا تعجل بها إنك لا تنسى فلا تتعب نفسك بالجهر بها (إِنَّهُ) تعالى (يَعْلَمُ الْجَهْرَ) من القول والفعل (وَما يَخْفى) (٧) منهما

____________________________________

والموصوف بصفة غيره ، نظير قولك جاءني غلام هند العاقل الحسنة : وهو ممتنع ، فإن جعل الموصول نعتا مقطوعا جاز.

قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) جواب عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد معرفة المولى ، فما الدليل على وجوده؟ فأجاب بما ذكر ، ومفعول (خَلَقَ) مخذوف ، أي كل شيء. قوله : (متناسب الأجزاء) الخ ، أي فجعله معتدل القامة تام المنافع. قوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ) مفعوله محذوف قدره بقوله : (ما شاء) أي من أنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها ، وغير ذلك من أحوالها. قوله : (فَهَدى) أي أرشد ما قدره لمصالحه ، فهدى الإنسان ودله على سبيل الخير والشر ، وهدى الأنعام لمراعيها ، وجميع الدواب لمعاشها ومصالحها.

قوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي ما يرعى كالحشيش ونحوه. قوله : (غُثاءً) بضم الغين والمد من باب قعد ، وهذا مثل ضربه الله للكفار ، بذهاب الدنيا بعد نضارتها. قوله : (أَحْوى) نعت لثغاء ، وهو ما يشير له المفسر ، وقوله : (أسود باليا) أي بعد وصفه بالغثاء ، يكون أسود باليا ، كما هو العادة في الزرع الجاف إذا تقادم ، ويطلق الأحوى على الأسود الذي يضرب الخضرة أو الأخضر الذي يضرب إلى السواد ، وعليه فيكون حالا من المرعى ، والأصل : أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء ، والفاء لمجرد الترتيب ، والمعنى : فمضت مدة فجعله الخ ، إذ لا يصير غثاء عقب إخراجه ، بل بعده بمدة.

قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بيان لهداية الله تعالى الخاصة برسوله ، إثر بيان هدايته لجميع الخلق ، وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين ، الأول : الإخبار من الله تعالى بما يحصل في المستقبل الثاني : كونه يحفظ هذا الكتاب العظيم من غير دراسة ولا تكرار ولا ينساه أبدا. قوله : (فَلا تَنْسى) (ما تقرؤه) أي منسوخا أو غيره ، ليظهر كون الاستثناء متصلا ، وقوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) استثناء مفرغ. قوله : (بنسخ تلاوته وحكمه) الباء سببية ، والمعنى : أن نسخ تلاوته وحكمه معا ، سبب في جواز نسيانك له ، وأما ما نسخت تلاوته فقط أو حكمه فقط فلا ينساه ، للاحتياج إلى تبليغ حكمه أو تلاوته. قوله : (فكأنه قيل) إلخ أي فهو نظير قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ).

قوله : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ) الخ ، تعليل لما قبله ، جيء به تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه قيل : لا تخش ضياع ما ألقي عليك ، فإنه تعالى يعلم الجهر وما يخفى ، ومنه : ما ألقي عليك فيثبت في فؤادك ما ينفع ، وصنيع المفسر يقتضي أنه تعليل لمحذوف قدره بقوله : (فلا تتعب نفسك). قوله : (وَما يَخْفى) ما اسم موصول ، وعائده محذوف ، ولا يصح أن تكون مصدرية ، لئلا يلزم خلو الفعل عن فاعل ، ولا يقال يجعل ضميرا ، لأنا نقول : يمنع منه عدم وجوده وما يعود عليه.

٣٥٨

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) للشريعة السهلة وهي الإسلام (فَذَكِّرْ) عظ بالقرآن (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩) من تذكرة المذكور في سيذكر ، يعني وإن لم تنفع ونفعها لبعض وعدم النفع لبعض آخر (سَيَذَّكَّرُ) بها (مَنْ يَخْشى) (١٠) يخاف الله تعالى كآية فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي الذكرى أي يتركها جانبا لا يلتفت إليها (الْأَشْقَى) (١١) بمعنى الشقي أي الكافر (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) هي نار الآخرة ، والصغرى نار الدنيا (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح (وَلا يَحْيى) (١٣) حياة هنيئة (قَدْ أَفْلَحَ) فاز (مَنْ تَزَكَّى) (١٤) تطهر بالإيمان (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) مكبرا

____________________________________

قوله : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) عطف على نقرئك ، وما بينهما اعتراض جيء به للتعليل ، والمعنى : نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى ، في كل باب من أبواب الدين علما وتعليما وإهداء وهداية وغير ذلك ، ولذا ورد : ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثما ، وورد : بعثت بالحنيفية السمحاء ، وحكمة إسناد التيسير لذاته ، ولم يقل ونيسر اليسرى لك الإيذان بقوة تمكنه عليه‌السلام من اليسرى والتصرف فيها ، بحيث صار ذلك جبلة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبين طبعه ودينه موافقة في اليسر والسهولة. قوله : (للشريعة السهلة) أي الطريقة اليسرى في حفظ الوحي والتدين. قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) إن قلت : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بأن يذكرهم ، سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم ، ليكون حجة لهم أو عليهم ، أجيب : بأن في الآية اكتفاء ، أي أو لم تنفع على حد سرابيل تقيكم الحر أي والبرد ، ويؤيده قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) فتدبر.

قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي من خلق الله في قلبه الخشية ، وهذا وعد من الله تعالى ، بأن من يخشى يحصل به الاتعاظ وينتفع به ، والوعد لا يتخلف. قوله : (هي نار الآخرة) الخ ، هذا قول الحسن ، ويدل له ما ورد : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وقيل : يكون في الآخرة نيران ودركات متفاضلة ، فالكافر يصلي أعظم النيران ، وقيل : النار الكبرى هي السفلى ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.) قوله : (فيستريح) جواب عما يقال : لا واسطة بين الحياة والموت ، فكيف وصف الله الأشقى بأنه لا يموت فيها ولا يحيا؟ فأجاب : بأن المعنى لا يموت موتا فيستريح به ، ولا يحيا حياة ينتفع بها. قوله : (مكبرا) أي تكبيرة الإحرام التي هي أحد أجزاء الصلاة. قوله : (وذلك من أمور الآخرة) تمهيد لارتباط هذه الآية بما بعدها ، فقوله : (بَلْ تُؤْثِرُونَ) الخ إضراب عن مقدر يستدعيه المقام. قوله : (بالتحتانية) أي وعليه فالضمير راجع للأشقى ، وقوله : (والفوقانية) أي وعليه فهو التفات ، والخطاب إما للكفار فقط ، أو لعموم الناس ، والقراءتان سبعيتان.

قوله : (خَيْرٌ وَأَبْقى) أي لاشتمالها على السعادة الجسمانية والروحانية ، ولذاتها غير مخلوطة بالآلام ، وهي دائمة باقية ، والدنيا ليست كذلك. قوله : (أي إفلاح من تزكى) الخ ، أي فالإشارة إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى قوله : (وَأَبْقى) وما ذكر في الصحف الأولى بالمعنى لا بهذا اللفظ ، فالشرائع المتقدمة متفقة على ما في هذه الآيات ، ورد عن أبي ذر قال : دخلت المسجد فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للمسجد تحية ، فقلت : وما تحيته يا رسول الله؟ قال : ركعتان تركعهما ، قلت : يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال : يا أبا ذر اقرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ

٣٥٩

(فَصَلَّى) (١٥) الصلوات الخمس ، وذلك من أمور الآخرة ، وكفار مكة معرضون عنها (بَلْ تُؤْثِرُونَ) بالتحتانية والفوقانية (الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٦) على الآخرة (وَالْآخِرَةُ) المشتملة على الحنة (خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) (إِنَّ هذا) أي إفلاح من تزكى ، وكون الآخرة خيرا (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٨) أي المنزلة قبل القرآن (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩) وهي عشر صحف لإبراهيم ، والتوراة لموسى.

____________________________________

تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى). قلت : يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال : «كانت عبرا كلها ، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن رأى الدنيا وتقبلها بأهلها كيف يطمئن إليها ، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب ، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل». وعن أبي ذر أيضا قال : «قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال : كانت أمثالا كلها ، أيها الملك المسلط المبتلي المغرور ، إن لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر ، وكان فيها أمثال ، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يفكر فيها في صنع الله عزوجل ، وساعة يخلو فيها لحاجته في المطعم والمشرب ، وعلى العاقل أن لا يكون طامعا في ثلاث : تزود لمعاد ، ومرمة لمعاش ، ولذة في غير محرم ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن عد كلامه من عمله ، قل كلامه إلا فيما يعنيه ، قال : قلت : فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عبرا إلى آخره». وقوله : ومرمة لمعاش ، أي إصلاح له.

٣٦٠