حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

يعني المحبوس بحق (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) لطلب ثوابه (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (٩) شكرا فيه علة الإطعام ، وهل تكلموا بذلك أو علمه الله منهم فأثنى عليهم به؟ قولان (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) تكلح الوجوه فيه أي كريه المنظر لشدّته (قَمْطَرِيراً) (١٠) شديدا في ذلك (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ) أعطاهم (نَضْرَةً) حسنا وإضاءة في وجوههم

____________________________________

قوله : (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) خص الثلاثة لأنهم من العواجز المعدمين الكسب. قوله : (يعني المحبوس بحق) أي وأولى المحبوس بباطل. قوله : (فيه علة الإطعام) أي بيان سببه. قوله : (وهل تكلموا بذلك) أي ليطمئن الفقير بذلك ، لأنه قد يقول في نفسه : إنه يطعمني ويريد أن يخدمني مثلا. قوله : (قولان) رجح سعيد بن جبير ومجاهد الثاني. قوله : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) أي فلذلك نطعمكم ولا نريد منكم جزاء ، فهو تعليل لقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ) الخ. قوله : (عَبُوساً) إسناد العبوس لليوم مجاز عقلي ، والمراد أهله من إسناد الشيء إلى زمانه ، كنهاره صائم. قوله : (في ذلك) أي العبوس.

قوله : (فَوَقاهُمُ اللهُ) الفاء سببية ، أي فسبب خوفهم ، دفع الله عنهم شر ذلك اليوم وشدته ، وذكر القرطبي في تذكرته حديثا في بيان ما ينجي المؤمن من أهوال يوم القيامة ، وهو ما روي عن عبد الرحمن بن سمرة قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة فقال : «إني رأيت البارحة عجبا ، رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه بر والديه فرده عنه. ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله تعالى فخلصه من بينهم. ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا ، كلما ورد حوضا منع منه ، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه. رأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا ، كلما دنا لحلقة طرد ، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده وأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ، فهو متحير فيها ، فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور. ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه ، فجاءته صلة الرحم فقالت : يا معشر المؤمنين كلموه ، فإنه كان واصلا للرحم ، فكلموه وصافحوه. ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه ، فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه. ورأيت رجلا من أمتي قد اخذته الزبانية من كل مكان ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة. ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب ، فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده وأدخله على الله. ورأيت رجلا من أمتي قد اهوت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله ، فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه. ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه ، فجاءته افراطه فثقلوا ميزانه. ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم ، فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار ، فجاءته دموعه التي كان بكاها من خشية الله في الدنيا ، فاستخرجته من النار. ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف ، فجاء حسن الظن بالله تعالى فسكن رعدته ومضى. ورأيت رجلا من أمتي على الصراط ،

٣٠١

(وَسُرُوراً) (١١) (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) بصبرهم عن المعصية (جَنَّةً) أدخلوها (وَحَرِيراً) (١٢) ألبسوه (مُتَّكِئِينَ) حال من مرفوع أدخلوها المقدر (فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) السرور في الحجال (لا يَرَوْنَ) لا يجدون حال ثانية (فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣) أي لا حرا ولا بردا ، وقيل الزمهرير القمر فهي مضيئة من غير شمس ولا قمر (وَدانِيَةً) قريبة عطف على محل لا يرون أي غير رائين (عَلَيْهِمْ) منهم (ظِلالُها) شجرها (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤) أدنيت ثمارها فينالها القائم والقاعد والمضطجع (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) فيها (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) أقداح بلا عرى (كانَتْ

____________________________________

يزحف احيانا ويحبو احيانا ويتعلق احيانا ، فجاءته صلاته علي فأخذت بيده واقامته ومضى على الصراط. ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فاغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ، ففتحت له الأبواب كلها وأدخلته الجنة».

ـ قلت ـ هذا حديث عظيم ، ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من اهوال خاصة والله اعلم. وروى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لقم أخاه لقمة حلوة ، صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة.

قوله : (نَضْرَةً) أي بدل العبوس. قوله : (وَسُرُوراً) أي فرحا في قلوبهم بدل الحزن. قوله : (بصبرهم عن المعصية) أي بترك فعلها ، وكذا على الطاعة بفعلها ، وعلى المعصية بالاسترجاع وعدم الشكوى. فأقسام الصبر ثلاثة ، وإنما اقتصر المفسر على الصبر عن المعصية ، لأن يستلزم القسمين الآخرين ، فمن صبر عن المعصية ، فقد أدام الطاعة ولم يشك مولاه. قوله : (حال من مرفوع ادخلوها) أي ويصح أن يكون حالا من مفعول (جَزاهُمْ.) قوله : (في الحجال) واحده حجلة بفتحتين ، وهي المسماة بالناموسية. قوله : (حال ثانية) أي من المقدر المذكور ، أو من المفعول. قوله : (أي لا حرا ولا بردا) أي فهي معتدلة الهواء. قوله : (وقيل الزمهرير القمر) أي لأجل مقابلة قوله : (شَمْساً.) قوله : (من غير شمس ولا قمر) أي بنور العرش ، وهو اقوى من نور الشمس والقمر. قوله : (عطف على محل لا يرون) أي أو عطف على متكئين. قوله : (شجرها) أشار بذلك إلى أن المراد بالظلال الشجر نفسه ، فدفع بذلك ما يقال : إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس ، ولا شمس في الجنة. قوله : (وَذُلِّلَتْ) عطف على (دانِيَةً) وجعلت فعلية إشارة إلى أن التذليل متجدد ، بخلاف التظليل فدائم ، ولذا أتى فيه بجملة اسمية. قوله : (أدنيت ثمارها) أي سهل تناولها تسهيلا عظيما لكل أحد.

قوله : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ) الخ ، هذا من جملة بيان وصف مشاربهم ، وبنى الفعل للمجهول هنا ، لأن المقصود بيان المطاف به لا بيان الطائف ، وفاعل الطواف الولدان المذكورون بعد في قوله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) ولما كان المقصود منها بيان وصف الطائف بناء للفاعل. قوله : (بِآنِيَةٍ) أصله أأنية بهمزتين ، الأولى مفتوحة ، والثانية ساكنة ، أبدلت الثانية ألفا ، والجار والمجرور نائب الفاعل. قوله : (مِنْ فِضَّةٍ) بيان للآنية. قوله : (وَأَكْوابٍ) عطف خاص على عام. قوله : (أقداح بلا عرى) أي فيسهل الشرب منه من كل موضع ، فلا يحتاج لإدارته.

قوله : (كانَتْ قَوارِيرَا) جمع قارورة ، وهي ما أقر فيه الشراب ونحوه ، من كل إناء رقيق صاف ،

٣٠٢

قَوارِيرَا) (١٥) (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) أي أنها من فضة يرى باطنها من ظاهرها كالزجاج (قَدَّرُوها) أي الطائفون (تَقْدِيراً) (١٦) على قدر ريّ الشاربين من غير زيادة ولا نقص ، وذلك ألذّ الشراب (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً) أي خمرا (كانَ مِزاجُها) ما تمزج به (زَنْجَبِيلاً) (١٧) (عَيْناً) بدل من زنجبيلا (فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) (١٨) يعني أن ماءها كالزنجبيل الذي تستلذ به العرب سهل المساغ في الحلق (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) بصفة الولدان لا يشيبون (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ) لحسنهم وانتشارهم في الخدمة (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (١٩) من سلكه أو من صدفه ، وهو أحسن منه في غير ذلك (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) أي وجدت الرؤية منك في الجنة (رَأَيْتَ) جواب إذا

____________________________________

وقيل : هو خاص بالزجاج ، وكرر لفظ قوارير ، توطئة للنعت بقوله من فضة ، فجمعت صفاء الزجاج وبريقه ، وبياض الفضة ولينها ، قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، إذ الذي في الجنة أشرف وأعلى. وأعلم أن القراء السبعة في هاتين الكلمتين على خمس مراتب : إحداها تنوينهما معا والوقف عليهما بالألف ، الثانية عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف ، الثالثة عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف ، الرابعة تنوين الأول والوقف عليه بالألف والثاني بدون تنوين ولا وقف عليه بالألف ، الخامسة عدم تنوينهما معا والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها ، والتنوين للتناسب نظير ما تقدم في سلاسل ، وعدم التنوين لمجيئه على صيغة منتهى الجموع. قوله : (على قدر ريّ الشاربين) أي شهوتهم ، إذ لا عطش في الجنة ، والريّ بكسر الراء وفتحها كفاية الشارب. قوله : (وذلك ألذ الشراب) أي لكونه لا يزيد على الحاجة فيستقذر الرائد ، ولا ينقص فيحتاج إليه ثانيا ، وهذا هو النعيم. قوله : (بدل من زنجبيلا) أي ويصح أن يكون مفعول (يُسْقَوْنَ) وقوله : (كَأْساً) منصوب على نزع الخافض ، أي من كأس كما تقدم نظيره. قوله : (تُسَمَّى) أي تلك العين لسهول إساغتها ولذة طعمها.

قوله : (سَلْسَبِيلاً) هو ما كان في غاية السلاسة ، وهي سهولة الانحدار في الحلق ، زيدت الباء في الكلمة حتى صارت خماسية ، وقال مقاتل وابن حبان : سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم ، تنبع من أصل العرش ، من جنة عدن إلى أهل الجنان ، قال البغوي : شراب الجنة في برد الكافور ، وطعم الزنجبيل ، وريح المسك من غير لذع. قوله : (يعني أن ماءها كالزنجبيل) أي فهو مماثل له في الاسم ، فجميع ما في الجنة من الأشجار والقصور والمأكول والمشروب والملبوس والثمار ، لا يشبه ما في الدنيا ، إلا في مجرد الاسم ، لكن الله تعالى ، يرغب الناس بذكر أحسن شيء وألذه مما يعرفونه في الدنيا ، لأجل أن يسعوا فيما يوصلهم إلى هذا النعيم المقيم.

قوله : (وِلْدانٌ) بكسر الواو باتفاق السبعة ، وهم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين على التحقيق ، وقيل : هم أولاد المؤمنين الصغار ، ورد بأنهم يلحقون بآبائهم تأنسا وسرورا بهم ، وقيل : هم أولاد الكفار. قوله : (لا يشيبون) أي لعدم وجود الشعر لهم. قوله : (وهو أحسن منه في غير ذلك) جواب عما يقال : ما الحكمة في تشبيههم باللؤلؤ المنثور دون المنظوم؟ فأجاب : بأنه لحسنهم وانتشارهم في الخدمة ، شبههم باللؤلؤ المنثور. قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ) الخطاب للنبي أو لكل من يدخل الجنة.

قوله : (رَأَيْتَ نَعِيماً) أي ما يتنعم به من مأكل ومشرب وملبس ومركب وغير ذلك. قوله : (واسعا

٣٠٣

(نَعِيماً) لا يوصف (وَمُلْكاً كَبِيراً) (٢٠) واسعا لا غاية له (عالِيَهُمْ) فوقهم فنصبه على الظرفية وهو خبر المبتدأ بعده ، وفي قراءة بسكون الياء مبتدأ ، وما بعده خبره ، والضمير المتصل به للمعطوف عليهم (ثِيابُ سُندُسٍ) حرير (خُضْرٌ) بالرفع (وَإِسْتَبْرَقٌ) بالجر ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر ، وفي قراءة عكس ما ذكر فيهما ، وفي أخرى برفعهما ، وفي أخرى بجرّهما (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وفي موضع آخر من ذهب ، للإيذان بأنهم يحلون من النوعين معا ومفرقا (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢١) مبالغة في طهارته ونظافته بخلاف خمر الدنيا (إِنَّ هذا) النعيم (كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢) (إِنَّا نَحْنُ) تأكيد لاسم إن أو فصل (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) (٢٣) خبر إن ، أي فصلناه ولم ننزله جملة واحدة (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)

____________________________________

لا غاية له) أي لا في الطول ولا في العرض ، لما في الحديث : «أدنى أهل الجنة منزلة ، من ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ومن الملك الكبير ، تسليم الملائكة عليهم ، ولبس التيجان على رؤوسهم ، كما تكون على رؤوس الملوك ، وأعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه كل يوم». قوله : (عالِيَهُمْ) بفتح الياء وضم الهاء ، وقوله : (وفي قراءة) أي سبعية أيضا. قوله : (وهو خبر المبتدأ بعده) أي وهو ثياب ويصح العكس ، وهو كون (عالِيَهُمْ) مبتدأ ، و (ثِيابُ) خبره.

قوله : (ثِيابُ سُندُسٍ) الإضافة على معنى من ، والسندس ما رق من الحرير. قوله : (عكس ما ذكر) أي وهو جر (خُضْرٌ) ورفع (إِسْتَبْرَقٌ) فجر (خُضْرٌ) على الوصفية لسندس لأنه اسم جنس ، ووصفه بالجمع جائز ، ورفع (إِسْتَبْرَقٌ) عطف على (ثِيابُ) على حذف مضاف ، أي وثياب إستبرق ، فالقراءات أربع سبعيات : رفع (خُضْرٌ) و (إِسْتَبْرَقٌ) وجرهما ، ورفع الأول وجر الثاني وعكسه ، وأما (سُندُسٍ) فمجرور لا غير ، لإضافة ثياب إليه. قوله : (وَحُلُّوا) عبر بالماضي إشارة لتحقق وقوعه. قوله : (وفي موضع آخر) الخ ، أي فقال في سورة الحج وفاطر (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً). قوله : (للإيذان) أي للإعلام ، وقوله : «معا» أي فيجمع في يد أحدهم ، سواران من ذهب ، وسواران من فضة ، وسواران من لؤلؤ ، وقوله : (ومفرقا) أي فتارة يلبسون الذهب فقط ، وتارة يلبسون الفضة فقط ، وتارة يلبسون اللؤلؤ فقط ، على حسب ما يشتهون.

قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) أسند الإسقاء لنفسه ، إشارة لعلو منزلتهم ورفعة قدرهم ، وإلى أن الشراب الطهور ، ونوع آخر يفوق على ما تقدم. قوله : (شَراباً طَهُوراً) أي من أقذار لم تمسه الأيدي ، ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا. قوله : (إِنَّ هذا) الخ ، أي يقال لهم ذلك بعد دخولهم. فيها ومشاهدتهم نعيمها ، لمزيد الأنس والسرور. قوله : (مَشْكُوراً) أي مقبولا مرضيا. قوله : (تأكيد لاسم إن) أي ويصح أن يعرب مبتدأ ، و (نَزَّلْنا) خبره ، والجملة خبر إن. قوله : (خبر إن) أي سواء جعلنا (نَحْنُ) تأكيدا أو فصلا. قوله : (أي فصلناه) الخ ، أي لحكمة بالغة ، وهي كما في الفرقان (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) والمقصود من ذلك تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرح صدره ، وأن ما أنزل عليه ليس بشعر ولا كهانة.

٣٠٤

عليك بتبليغ رسالته (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي الكفار (آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٢٤) أي عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارجع عن هذا الأمر ، ويجوز أن يراد كل آثم وكافر ، أي لا تطع أحدهما أيا كان فيما دعاك إليه من إثم أو كفر (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) في الصلاة (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢٥) يعني الفجر والظهر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) يعني المغرب والعشاء (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) (٢٦) صلّ التطوع فيه كما تقدم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) الدنيا (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٢٧) شديدا أي يوم القيامة لا يعملون له (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا) قوّينا (أَسْرَهُمْ) أعضاءهم ومفاصلهم (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا) جعلنا (أَمْثالَهُمْ) في الخلقة بدلا منهم بأن نهلكهم (تَبْدِيلاً) (٢٨) تأكيد ، ووقعت إذا موقع إن نحو (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذا لما يقع (إِنَّ هذِهِ) السورة (تَذْكِرَةٌ) عظة للخلق (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ

____________________________________

قوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) مشى المفسر على أن المراد بالحكم التكليف بتبليغ الرسالة ، وعليه فالآية محكمة ، وقيل : إن المراد بالحكم القضاء. والمعنى : اصبر على أذى المشركين الذي حتمه الله في الأزل ، فلا مفر لك منه حتى يفرج الله عنك ، وعليه فالآية منسوخة. قوله : (أي عتبة بن ربيعة) الخ ، أشار بذلك إلى أن المراد بالآثم عتبة ، لأنه كان متعاطيا لأنواع الفسوق متظاهرا بها ، وأن المراد بالكفور الوليد ، فإنه كان متظاهرا بالكفر داعيا إليه ، وبهذا ظهر التخصيص لكل ، وإن كان كل منهما آثما وكفورا. قوله : (قالا للنبي ارجع) الخ ، حاصله أنهما قالا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال ، فارجع عن هذا الأمر ، فقال عتبة : أنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك من غير مهر ، وقال الوليد : أنا أعطيك من المال حتى ترضى وارجع عن هذا الأمر ، فنزلت الآية. قوله : (أي لا تطع أحدهما) الخ ، أي والنهي عن طاعتهما معا معلوم بالأولى ، فأو أبلغ من الواو ، لأنها لنفي الأحد الدائر. قوله : (في الصلاة) أشار بذلك إلى أن المراد بالذكر الصلاة ، والمعنى : دم على الصلاة. قوله : (والظهر والعصر) إطلاق الأصيل على العصر ظاهر ، وعلى الظهر باعتبار آخر وقتها ، وإلا فالزوال وما يقرب منه لا يسمى أصيلا.

قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ مِنَ) تبعيضية. والمعنى : صلّ له بعض الليل ، وقوله : (فَاسْجُدْ لَهُ) الفاء دالة على شرط مقدر تقديره : مهما يكن من شيء فصلّ من الليل الخ ، وفيه زيادة حث على صلاة الليل. قوله : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) الخ ، علة لما قبله من النهي والأمر. والمعنى : لا تطلعهم واشتغل بما أمرك الله به من العبادة ، لأن هؤلاء تركوا الآخرة واشتغلوا بالدنيا ، فاترك أنت الدنيا واشتغل بالآخرة. قوله : (وَراءَهُمْ) حال من (يَوْماً) مقدم عليه ، لأنه نعت نكرة قدم عليها ، ووراء إما باق على معناه نظير فنبذوه وراء ظهورهم ، كناية عن كونهم لا يعبأون به ولا يعملون له ، أو مستعار لقدام. قوله : (يَوْماً ثَقِيلاً) مفعول (يَذَرُونَ) ووصفه بالثقل مجاز ، إذ الثقل من صفات الأعيان لا المعاني. قوله : (قوينا) (أَسْرَهُمْ) أي ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والأعصاب.

قوله : (أَمْثالَهُمْ) مفعول أول ، والثاني محذوف ، بينه بقوله : (بدلا منهم). قوله : (وقعت إذا) الخ ، جواب عما يقال : إن (إِذا) تفيد التحقيق ، مع أنه تعالى لم يشأ ذلك فكان المقام ، لأن التي تفيد الاحتمال ، فأجاب بأنه استعمل (إِذا) موضع إن مجازا. قوله : (عظة للخلق) أي لأن في تدبرها

٣٠٥

سَبِيلاً) (٢٩) طريقا بالطاعة (وَما تَشاؤُنَ) بالتاء والياء اتخاذ السبيل بالطاعة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ذلك (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) (٣٠) في فعله (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) جنته وهم المؤمنون (وَالظَّالِمِينَ) ناصبه فعل مقدر أي أوعد يفسره (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١) مؤلما وهم الكافرون.

____________________________________

وتذكرها ، تنبيها للغافلين ، وفوائد للطالبين المقبلين بكليتهم على الله تعالى. قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) الخ ، أي فالطريق واضح والحق ظاهر (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) قوله : (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) منصوب على الظرفية والمعنى : إلا وقت مشيئة الله تعالى ، ففيه تسلية بالرجوع إلى الحقيقة. قوله : (أوعد) وهذا المقدر يلاقي المذكور في المعنى ، فهو على حد : زيدا مررت به.

٣٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة المرسلات

مكيّة

وآياتها خمسون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١) أي الرياح متتابعة ، كعرف الفرس يتلو بعضه بعضا ، ونصبه على الحال (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) الرياح الشديدة (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) الرياح تنشر المطر (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) (٤) أي آيات القرآن تفرق بين الحق والباطل ، الحلال والحرام (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) (٥) أي الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء أو الرسل يلقون الوحي إلى

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المرسلات مكية

وهي خمسون آية

وفي نسخة سورة والمرسلات ، وهذه نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن. قال ابن مسعود : ونحن معه نسير ، حتى أوينا إلى غار منى ، فنزلت ، فبينما نحن نتلقاها منه ، وفاه رطب بها ، إذ وثبت حية ، فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وقيتم شرها ؛ كما وقيت شركم» ، والغار المذكور مشهور في منى يسمى غار المرسلات.

قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) الخ ، اعلم أن الله تعالى أقسم بصفات خمسة ، موصوفها محذوف ، فقدره بعضهم الرياح في الكل ، وبعضهم قدره الملائكة في الكل ، وبعضهم غاير فجعله تارة الرياح وتارة الملائكة ، وأما ما ذكره المفسر ، فلم يعرج عليه المفسرون وهو حسن ، وحاصل صنيعه : أنه جعل الصفات الثلاث الأول لموصوف واحد وهو الرياح ، والرابعة لموصوف ثان وهو الآيات ، والخامسة لموصوف ثالث وهو الملائكة. قوله : (أي الرياح) أي رياح العذاب ، ليغاير قوله : (وَالنَّاشِراتِ.) قوله : (ونصبه على الحال) أي من الضمير في المرسلات ، والمعنى : حال كونها مشابهة لعرف الفرس ، من حيث تتابعها وتلاحقها ، فالعرف بالضم شعر عنق الفرس ، والمعرفة كمرملة موضع العرف من الفرس.

قوله : (فَالْعاصِفاتِ) من العطف وهو الشدة ، فهو مرتب على قوله : (الْمُرْسَلاتِ) الذي هو ريح العذاب. قوله : (تنشر المطر) أي تفرقه حيث شاء الله تعالى. قوله : (أو الرسل) هذا تفسير ثان

٣٠٧

الأمم (عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦) أي للإعذار والإنذار من الله تعالى ، وفي قراءة بضم ذال نذرا ، وقرىء بضم ذال عذرا (إِنَّما تُوعَدُونَ) أي كفار مكة من البعث والعذاب (لَواقِعٌ) (٧) كائن لا محالة (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) محيي نورها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) (٩) شقت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (١٠) فتتت وسيرت (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) (١١) بالواو والهمز بدلا منها ، أي جمعت لوقت (لِأَيِّ يَوْمٍ) ليوم عظيم (أُجِّلَتْ) (١٢) للشهادة على أممهم بالتبليغ (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (١٣) بين الخلق ويؤخذ منه جواب إذا أي وقع الفصل بين الخلائق (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) (١٤) تهويل لشأنه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) هذا وعيد لهم (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (١٦) بتكذيبهم أي أهلكناهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١٧) ممن كذبوا

____________________________________

للملقيات. قوله : (أي للإعذار) الخ ، أشار بذلك إلى أن (عُذْراً أَوْ نُذْراً) مفعولان لأجله ، والمعلل بهما هو الملقيات ، والمراد بالإعذار إزالة أعذار الخلائق ، وبالإنذار التخويف. قوله : (وفي قراءة بضم ذال نذرا) أي وهما سبعيتان ، وقوله : (وقرىء) هذه القراءة ليعقوب من العشرة ، والحاصل أن الضم في (عُذْراً) و (نُذْراً) على أنهما جمعان لعذير بمعنى المعذرة ، ونذير بمعنى الإنذار ، أو بمعنى العاذر أو المنذر ، والسكون على أنهما مصدران.

قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ) الخ ، جواب القسم ، وما بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي إن الذي توعدونه. قوله : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) النجوم : مرفوعة بفعل محذوف يفسره ما بعده من باب الاشتغال. قوله : (وسيرت) أي بعد التفتيت. قوله : (أُقِّتَتْ) أي جعل لهم وقت للقضاء بينهم وبين أممهم ، وهو يوم القيامة. قوله : (بالواو) أي على الأصل لأنه من الوقت ، وقوله : (وبالهمز) أي لأن الواو لما ضمت قلبت همزة وهما سبعيتان. قوله : (لِأَيِّ يَوْمٍ) متعلق بأجلت ، والجملة مستأنفة أو مقولة لقول محذوف ، أي يقال لأي يوم الخ ، والقول منصوب على الحال من مرفوع أقتت ، وقوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بدل من أي يوم بإعادة العامل ، والاستفهام للتهويل والتعظيم. قوله : (ويؤخذ منه) أي من قوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) وقوله : (جواب إذا) أي المحذوف ، والتقدير (وقع الفصل).

قوله : (وَما أَدْراكَ ما) استفهامية مبتدأ ، وجملة (أَدْراكَ) خبرها ، والكاف مفعول أول ، وقوله : (ما يَوْمُ الْفَصْلِ) جملة من مبتدأ وخبر ، سادة مسد المفعول الثاني ، والاستفهام الأول للاستبعاد والانكار ، والثاني للتعظيم والتهويل. قوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَيْلٌ) مبتدأ ، سوغ الابتداء به كونه دعاء ، و (لِلْمُكَذِّبِينَ) خبره ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرف لويل ، وكررت هذه الجملة في هذه السورة عشر مرات ، لمزيد الترغيب والترهيب ، والمراد بالويل قيل العذاب والخزي ، وقيل واد في جهنم فيه ألوان العذاب ، لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت علي جهنم ، فلم أر فيها واديا اعظم من الويل». وقيل إنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم.

قوله : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) الاستفهام تقريري وهو طلب الإقرار بما بعد النفي ، والمراد بالأولين الأمم السابقة من آدم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، والمراد بالآخرين كفار أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (أي أهلكناهم) أفاد بذلك أن الاستفهام داخل على نفي ، ونفي النفي أثبات نظير (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ). قوله : (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) العامة على رفع العين استئنافا أو معطوفا على جملة (أَلَمْ نُهْلِكِ

٣٠٨

ككفار مكة فنهلكم (كَذلِكَ) مثل فعلنا بالمكذبين (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١٨) بكل من أجرم فيما يستقبل فنهلكهم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٩) تأكيد (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢٠) ضعيف وهو المنيّ (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (٢١) حريز وهو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢٢) وهو وقت الولادة (فَقَدَرْنا) على ذلك (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) (٢٣) نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٤) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) (٢٥) مصدر كفت بمعنى ضم أي ضامّة (أَحْياءً) على ظهرها (وَأَمْواتاً) (٢٦) في بطنها (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) جبالا مرتفعات (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) عذبا (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨) ويقال للمكذبين يوم القيامة (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ) من العذاب (تُكَذِّبُونَ) (٢٩) (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (٣٠) هو دخان جهنم إذا ارتفع افترق ثلاث فرق لعظمته (لا ظَلِيلٍ) كنين يظلّهم من

____________________________________

الْأَوَّلِينَ) وليس معطوفا على الفعل ، والاستفهام مسلط عليه ، لأنه يقضي أن المعنى : أهلكنا الأولين ، ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك ، وليس كذلك ، لأن هلاك الآخرين لم يحصل حينئذ ، وقرىء شذوذا بتسكين العين ، إما تخفيفا والجملة مستأنفة أو معطوفة على المجزوم ، ويكون المراد بالأولين : قوم نوح وعاد وثمود ، وبالآخرين : قوم شعيب ولوط وموسى ، وحينئذ فالمراد بالمجرمين ، كفار أمة محمد عليه‌السلام. قوله : (فنهلكهم) أي في الدنيا كوقعة بدر.

قوله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) الخ ، هذا تذكير من الله تعالى للكفار ، بعظيم إنعامه عليهم ، وبقدرته على ابتداء خلقهم ، والقادر على الابتداء ، قادر على الاعادة ، ففيها رد على منكري البعث. قوله : (حريز) أي يحفظ فيه المني من الفساد. قوله : (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي مقدار معلوم من الوقت ، قدره تعالى للولادة. قوله : (فَقَدَرْنا) بالتخفيف والتشديد قراءتان سبعيتان ، فالتشديد من التقدير والتخفيف من القدرة. قوله : (على ذلك) أي الخلق والتصوير. قوله : (كِفاتاً) مفعول ثان لنجعل. قوله : (مصدر كفت) المناسب أن يقول اسم مكان ، لأن كفت من باب ضرب ، فمصدره الكفت ، فالمعنى : ألم نجعل الأرض موضع كفت؟ أي جمع وضم.

قوله : (أَحْياءً وَأَمْواتاً) أي تضمهم في دورهم ومنازلهم في حال الحياة ، وتضمهم في بطنها قبورهم حال الموت ، ثم هي إما راضية عليه فتضمه ضمة الأم الشفوق ، أو غير راضية فتضمه ضمة تختلف بها أضلاعه. قوله : (جبالا مرتفعات) أي لولاها لتحركت بأهلها. قوله : (ماءً فُراتاً) أي من العيون والأنهار ، فتشربون منه أنتم ودوابكم ، وتسقون منه زرعكم. قوله : (من العذاب) بيان لما. قوله : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) توكيد لانطلقوا الأول. قوله : (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي فرق شعبة فوق الكافر ، وشعبة عن يمينه ، وشعبة عن يساره ، ففيه اشارة لعظم الدخان ، لأن شأن الدخان العظيم إذا ارتفع يصير ثلاث شعب ، وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب ، فتظلهم حتى يفرغ حسابهم ، والمؤمنون في ظل العرش.

قوله : (لا ظَلِيلٍ) صفة لظل ، و (لا) متوسطة بين الصفة والموصوف لإفادة النفي ، وهذا تهكم بهم ورد لما أوهمه لفظ الظل من الراحة. قوله : (كنين) أي ساتر. قوله : (بِشَرَرٍ) هكذا براءين من غير

٣٠٩

حرّ اليوم (وَلا يُغْنِي) يرد عنهم شيئا (مِنَ اللهَبِ) (٣١) النار (إِنَّها) أي النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ) هو ما تطاير منها (كَالْقَصْرِ) (٣٢) من البناء في عظمه وارتفاعه (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ) جمع جمالة ، جمع جمل ، وفي قراءة جمالة (صُفْرٌ) (٣٣) في هيئتها ولونها ، وفي الحديث : «شرار النار أسود كالقير» والعرب تسمي سود الإبل صفرا لشوب سوادها بصفرة ، فقيل : صفر في الآية بمعنى سود لما ذكر ، وقيل : لا ، والشرر جمع شررة ، والشرار جمع شرارة ، والقير القار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤) (هذا) أي يوم القيامة (يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) فيه بشيء (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) في العذر (فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي ، أي لا إذن فلا اعتذار (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٧) (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ) أيها المكذبون من هذه الأمّة (وَالْأَوَّلِينَ) (٣٨) من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعا (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) حيلة في دفع العذاب عنكم (فَكِيدُونِ) (٣٩) فافعلوها (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٠) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ) أي تكاثف أشجار ، إذ لا شمس يظل من حرها (وَعُيُونٍ) (٤١) نابعة من الماء (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) (٤٢) فيه إعلام بأن المأكل والمشرب في

____________________________________

ألف بينهما ، وهي قراءة العامة ، وقرىء شذوذا بألف بين الراءين ، مع كسر الشين وفتحها ، فالشرر جمع شررة ، والشرار بكسر الشين جمع شررة أيضا ، كرقبة ورقاب ، وبفتح الشين جمع شرارة ، وهي كل ما تطاير من النار متفرقا. قوله : (كَأَنَّهُ) أي الشرر ، فشبهه أولا بالقصر في العظم والكبر ، وثانيا بالجمال في اللون والكثرة والتتابع. قوله : (وفي قراءة) أي سبعية أيضا. قوله : (في هيئتها) الخ ، بيان لوجه الشبه. قوله : (لشوب سوادها) أي اختلاطه. قوله : (فقيل) الخ ، تفريع على الحديث وصنيع العرب. قوله : (وقيل لا) أي ليس صفر بمعنى سود ، بل هو باق على حقيقته. قوله : (القار) أي الزفت. قوله : (أي يوم القيامة) أي المدلول عليه بقوله : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍ) الخ.

قوله : (لا يَنْطِقُونَ) أي في بعض المواقف ، وفي بعضها يتكلمون ويعتذرون ، فلا منافاة بين ما هنا وبين قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) ونحوه. قوله : (من غير تسبب عنه) جواب عما يقال : إن العطف بالفاء أو الواو على المنفي ، يقتضي نصب المعطوف ، فلم رفع في الآية ، وايضاحه : أن محل نصبه إذا كان متسببا عن المنفي نحو لا يقضي عليهم فيموتوا ، وأما إذا لم يكن متسببا كما هنا ، لأن النفي متوجه للمعطوف والمعطوف عليه ، فإنه يرفع. قوله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي بين المحق والمبطل. قوله : (وَالْأَوَّلِينَ) إما عطف على الكاف في (جَمَعْناكُمْ) أو مفعول معه ، وهذه الجملة مقولة لقول محذوف أي يقال لهم (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ.) قوله : (حيلة) تسميتها كيدا تهكم بهم. قوله : (فَكِيدُونِ) أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني فلم تجدوا مفرا.

قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الخ ، ذكر في سورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) أحوال الكفار في الآخرة على سبيل الاختصار ، واطنب في أحوال المؤمنين ، عكس ما فعل هنا ، ليحصل التعادل بين السورتين. قوله : (أي تكاثف أشجار) من إضافة الصفة للموصوف. قوله : (وَعُيُونٍ) (نابعة من الماء) أي ومن العسل واللبن والخمر ، كما في آية القتال. قوله : (مِمَّا يَشْتَهُونَ) راجع للعيون والفواكه. قوله : (بحسب

٣١٠

الجنة بحسب شهواتهم ، بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب ، ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) حال أي متهنئين (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) من الطاعات (إِنَّا كَذلِكَ) كما جزينا المتقين (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤٤) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٥) (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) خطاب للكفار في الدنيا (قَلِيلاً) من الزمان وغايته إلى الموت ، وفي هذا تهديد لهم (إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (٤٦) (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٧) (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) صلوا (لا يَرْكَعُونَ) (٤٨) لا يصلون (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٩) (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ) أي القرآن (يُؤْمِنُونَ) (٥٠) أي لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره.

____________________________________

شهواتهم) أي فمتى اشتهوا فاكهة وجدوها حاضرة ، فليست فاكهة الجنة مقيدة بوقت دون وقت ، كما في أنواع فاكهة الدنيا ، قال تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها). قوله : (ويقال لهم) أي من قبل الله ، أو القائل لهم الملائكة إكراما لهم. قوله : (كما جزينا المتقين) أي بالظلال والعيون والفواكه نجزي المحسنين. إن قلت : لا مغايرة بين المتقين والمحسنين ، ففيه تشبيه الشيء بنفسه. والجواب : أن يراد بالمتقين الكاملون في الطاعة ، وبالمحسنين من عندهم أصل الإيمان ، ويصير المعنى : إن هذا الجزاء كما هو ثابت للكاملين في الطاعة ، ثابت لمن كان عنده أصل الإيمان ، فالمماثلة في الأوصاف التي ذكرت في تلك الآية ، لا في المراتب والدرجات فتدبر. قوله : (من الزمان) أي فقليلا منصوب على الظرفية. قوله : (وغايته إلى الموت) أي فهو مدة العمر ، قال بعض العلماء : التمتع في الدنيا من أفعال الكافرين ، والسعي لها من أفعال الظالمين ، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين ، والسكون فيها على حد الأذن ، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين ، والأعراض عنها من أفعال الزاهدين ، وأهل الحقيقة أجل خطرا من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.

قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لهؤلاء المجرمين ، أي من أي قائل كان. قوله : (صلوا) أي فسميت الصلاة باسم جزئها وهو الركوع ، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة. قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) متعلق بيؤمنون ، قال الرازي : إنه تعالى بالغ في زجر الكفار من أول السورة إلى آخرها ، بهذه الوجوه العشرة المذكورة ، وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ، ختم السورة بالتعجب من الكفار ، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل العظيمة مع وضوحها ، لا يؤمنون بغيرها ، قال البوصيري في همزيته :

وإذا البينات لم تغن شيئا

فالتماس الهدى بهن عناء

قوله : (لاشتماله على الإعجاز) أي فقد ورد : أن معجزات المصطفى ، مائة ألف وسبعون ألفا في القرآن ، منها مائة ألف والسبعون من غيره ، وهذا التعليل لا ينتج ما قاله المفسر من عدم الإمكان ، إذ يجوز أن يؤمنوا بغيره مع عدم إعجازه ، ويكذبون بالقرآن المعجز ، فلو قال في التعليل : لأن القرآن مصدق للكتب القديمة ، موافق لها في أصول الدين ، فيلزم من تكذيبه تكذيب غيره من الكتب ، لأن ما في غيره موجود فيه ، فلا يمكن الإيمان بغيره مع تكذيبه لكان أولى.

٣١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّبأ

مكيّة

وآياتها أربعون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (عَمَّ) عن أي شي (يَتَساءَلُونَ) (١) يسأل بعض قريش بعضا (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) (٢) بيان لذلك الشيء ، والاستفهام لتفخيمه ، وهو ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن المشتمل على البعث وغيره (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) فالمؤمنون يثبتونه والكافرون ينكرونه

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة التساؤل مكية

وهي إحدى وأربعون آية

وتسمى سورة النبأ العظيم ، وسورة عم ، وسورة عم يتساءلون. قوله : (عَمَ) عن : حرف جر ، وما استفهامية في محل جر ، حذفت ألفها للقاعدة المقررة التي أشار لها ابن مالك بقوله :

وما في الاستفهام إن جرت حذفت

ألفها وأولها الها إن تقف

ووقف البزي بهاء السكت جريا على القاعدة ، ونقل عن ابن كثير إثبات الهاء في الوصل أيضا ، إجراء له مجرى الوقف ، وقرىء شذوذا بإثبات الألف ، والجار والمجرور متعلق بيتساءلون ، وقوله : (عَنِ النَّبَإِ) عطف بيان. وسبب نزولها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بعث ، جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون : ما الذي أتى به ، ويتجادلون فيما بعث به ، ومناسبتها لما قبلها أنه لما قال : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي بعد القرآن ، فكانوا يتجادلون فيه ويتساءلون عنه فقال : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ.) قوله : (بيان لذلك الشيء) أي المعبر عنه بما الاستفهامية ، والمراد بالبيان عطف البيان. قوله : (واستفهام لتفخيمه) أي فليس استفهاما حقيقيا ، بل هو كناية عن تفخيم الأمر وتعظيمه.

قوله : (الَّذِي) صفة للنبأ ، و (هُمْ) مبتدأ و (مُخْتَلِفُونَ) خبره. و (فِيهِ) متعلق بمختلفون ، والجملة صلة (الَّذِي ،) وقوله : (فالمؤمنون) الخ ، اشار بذلك إلى أن الضمير في (هُمْ) عائد على ما يشمل المؤمنين والكفار ، وجعل الواو في (يَتَساءَلُونَ) محمولة على الكفار ، ليس بواضح لأنه يلزم عليه تشتيت الضمائر ، فالمناسب أن يسوي بين الضميرين ، بأن يجعلهما عائدين على الكفار ، واختلافهم فيه من

٣١٢

(كَلَّا) ردع (سَيَعْلَمُونَ) (٤) ما يحل بهم على إنكارهم له (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٥) تأكيد ، وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشد من الأول ، ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث فقال (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٦) فراشا كالمهد (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد ، والاستفهام للتقرير (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) (٨) ذكورا وإناثا (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) (٩) راحة لأبدانكم (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) (١٠) ساترا بسواده (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١) وقتا للمعايش (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً) سبع سماوات (شِداداً) (١٢) جمع شديدة أي قوية محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان (وَجَعَلْنا سِراجاً) منيرا (وَهَّاجاً) (١٣) وقادا يعني الشمس (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) السحابات التي حان لها أن تمطر كالمعصر الجارية التي دنت من الحيض (ماءً ثَجَّاجاً) (١٤) صبابا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا) كالحنطة (وَنَباتاً) (١٥) كالتبن (وَجَنَّاتٍ) بساتين (أَلْفافاً) (١٦) ملتفة جمع لفيف كشريف

____________________________________

حيث إن بعضهم يقول فيه شعر ، وبعضهم يقول فيه كهانة ، وغير ذلك. قوله : (ردع) أي فيه معنى الوعيد والتهديد. قوله : (ما يحل بهم) مفعول يعلمون ، والمعنى : ما ينزل بهم عند النزع أو في القيامة ، لكشف الغطاء عنهم ذلك الوقت ، وحل يحل بالكسر والضم في المضارع بمعنى نزل. قوله : (تأكيد) أي لفظي ، وقيل : عطف نسق فيه معنى التأكيد. قوله : (للإيذان بأن الوعيد الثاني) الخ ، أي فتغايرا بهذا الاعتبار ، ومن هنا قيل : إن الأول عند النزع ، والثاني في القيامة ، وقيل : الأول للبعث ، والثاني للجزاء. قوله : (ثم أومأ تعالى) أي أشار إلى الأدلة الدالة عليها ، وذكر منها تسعة ، ووجه الدلالة أن يقال : إنه تعالى حيث كان قادرا على هذه الأشياء ، فهو قادر على البعث.

قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً الْأَرْضَ) مفعول أول ، و (مِهاداً) مفعول ثان إن جعلت بمعنى التصيير ، وإن جعلت بمعنى الخلق فيكون (مِهاداً) حالا ، وكذا يقال في قوله : (أَوْتاداً) وما بعده. قوله : (كالمهد) أي للصبي ، وهو ما يفرش له لينام عليه. قوله : (للتقرير) أي مما بعد النفي. قوله : (سُباتاً) بالضم كغراب ، النوم الثقيل ، وأصله الراحة ، وفعله سبت كقتل. قوله : (ساترا بسواده) أي ظلمته ، ففيه تشبيه بليغ بحذف الأداة ، أي كاللباس بجامع الستر في كل. قوله : (وقتا للمعايش) أي تنصرفون فيه في حوائجكم.

قوله : (وَهَّاجاً) أي مضيئا. قوله : (يعني الشمس) أي لأنها كوكب نهاري ، ينسخ ضوؤها ظلمة الليل. قوله : (التي حان لها أن تمطر) أي جاء وقت إمطارها المقدر لها. قوله : (الجارية) المراد بها مطلق الأنثى. قوله : (صبابا) أي بشدة وقوة. قوله : (حَبًّا وَنَباتاً) أي فالمراد ما يقتات به ، وما يعلف به من التبن والحشيش. قوله : (جمع لفيف) وقيل جمع لف بكسر اللام ، وقيل لا واحد له. قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) الخ. كلام مستأنف واقع في جواب سؤال مقدر تقديره : ما وقت البعث الذي أثبت بالأدلة المتقدمة فقال : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) وأكده بإن لتردد الكفار فيه. قوله : (كانَ مِيقاتاً) أي في علمه وقضائه. قوله : (وقتا للثواب والعقاب) أشار بذلك إلى أن الميقات زمان مقيد ، بكونه وقت ظهور ما وعد الله به من الثواب والعقاب.

٣١٣

وأشراف (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) بين الخلائق (كانَ مِيقاتاً) (١٧) وقتا للثواب والعقاب (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له والنافخ إسرافيل (فَتَأْتُونَ) من قبوركم إلى الموقف (أَفْواجاً) (١٨) جماعات مختلفة (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) بالتشديد والتخفيف شققت لنزول الملائكة (فَكانَتْ أَبْواباً) (١٩) ذات أبواب (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) ذهب بها عن أماكنها (فَكانَتْ سَراباً) (٢٠) هباء ، أي مثله في خفة سيرها (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (٢١) راصدة أو مرصدة (لِلطَّاغِينَ)

____________________________________

قوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي في النفخة الثانية. قوله : (جماعات مختلفة) روي عن معاذ بن جبل : «قلت : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معاذ بن جبل ، لقد سألت عن أمر عظيم ، ثم أرسل عينيه باكيا ثم قال : يحشر عشرة أصناف من أمتي شتاتا ، قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين ، وبدل صورهم ، فبعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمي مترددون ، وبعضهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من النار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران لاصقة بجلودهم ، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني التمام ، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت والحرام والمكس ، وأما المنكسون رؤوسهم ووجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فهم من يجورون في الحكم ، وأما الصم البكم فهم الذي يعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين يخالف قولهم فعلهم ، وأما المقطعة أيديهم وأرجلهم فالذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من النار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات ويمنعون حق الله من أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر والفخر والخيلاء.

قوله : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) عطف على قوله : (فَتَأْتُونَ) وعبر بالماضي لتحقق الوقوع. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (شققت) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد بالفتح ، ما عرف من فتح الأبواب ، بل هو التشقق لموافقة قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ،) وخير ما فسرته بالوارد. قوله : (لنزول الملائكة) أي لأنهم يموتون بالنفخة الأولى ، ويحيون بين النفختين ، وينزلون جميعا ، يحيطون بأطراف الأرض وجهاتها ، يسوقون الناس إلى المحشر. قوله : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي في الهواء بعد تفتيتها. قوله : (هباء) المناسب إبقاء السراب على ظاهره ، ويكون المعنى على التشبيه ، أي فكانت مثل السراب ، من حيث إن المرئي خلاف الواقع ، فكما يرى السراب كأنه ماء ، كذلك الجبال ترى كأنها جبال وليست كذلك في الواقع لقوله تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وإلا فتفسير السراب بالهباء لم يوجد في اللغة.

قوله : (راصدة أو مرصدة) أشار بذلك إلى أن (مِرْصاداً) من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته ، فهي راصدة للكفار مترقبة لهم ، أو مرصدة بمعنى معدة ومهيأة لهم ، يقال : أرصدت له أعددت له.

٣١٤

الكافرين فلا يتجاوزونها (مَآباً) (٢٢) مرجعا لهم فيدخلونها (لابِثِينَ) حال مقدرة أي مقدر لبثهم (فِيها أَحْقاباً) (٢٣) دهورا لا نهاية لها ، جمع حقب بضم أوّله (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) نوما فإنهم لا يذوقونه (وَلا شَراباً) (٢٤) ما يشرب تلذذا (إِلَّا) لكن (حَمِيماً) ماء حارا في غاية الحرارة (وَغَسَّاقاً) (٢٥) بالتخفيف والتشديد ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه ، جوزوا بذلك (جَزاءً وِفاقاً) (٢٦) موافقا لعملهم فلا ذنب أعظم من الكفر ، ولا عذاب أعظم من النار (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ) يخافون (حِساباً) (٢٧) لإنكارهم البعث (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) القرآن (كِذَّاباً) (٢٨) تكذيبا (وَكُلَّ شَيْءٍ) من الأعمال (أَحْصَيْناهُ) ضبطناه (كِتاباً) (٢٩) كتبا في اللوح المحفوظ لنجازي عليه ، ومن ذلك تكذيبهم بالقرآن (فَذُوقُوا) أي فيقال لهم في الآخرة عند وقوع العذاب عليهم : ذوقوا جزاءكم (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) فوق عذابكم (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) (٣١) مكان فوز في الجنة

____________________________________

قوله : (أَحْقاباً) ظرف للابثين. قوله : (لا نهاية لها) أي لمجموعها وإن كان كل منها متناهيا ، وإنما قال : (لا نهاية لها) ليوافق قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً.) قوله : (بضم أوله) أي وسكون ثانيه ، وهو ثمانون سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل شهر ثلاثون يوما ، كل يوم ألف سنة ، عن الحسن قال : إن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة بل قال : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب إلى الأبد ، وليس للأحقاب عدة إلا الخلود ، وعن ابن مسعود قال : لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ، ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. قوله : (نوما) سمي النوم بردا لأنه يبرد صاحبه ، ألا ترى أن العطشان إذا نام سكن عطشه ، وهي لغة هذيل ، وقال ابن عباس : البرد برد الشراب ، وقال الزجاج : أي لا يذقون فيها برد ريح ، ولا ظل نوم ، فجعل البرد برد كل شيء له راحة ، فأما الزمهرير فهو برد عذاب لا راحة فيه. قوله : (لكن) (حَمِيماً) قضية كلامه أن الاستثناء منقطع ، ويجوز أن يكون متصلا من عموم قوله ولا شرابا ، والأحسن أنه بدل من شرابا ، لأن الاستثناء من كلام غير موجب. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان.

قوله : (جَزاءً وِفاقاً) منصوب على المصدرية لمحذوف قدره المفسر بقوله : (جوزوا بذلك) الخ. قوله : (موافقا لعملهم) أشار بذلك إلى أن (وِفاقاً) صفة لجزاء بتأويله باسم الفاعل. قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا) تعليل لقوله : (جَزاءً وِفاقاً). قوله : (كِذَّاباً) بالتشديد بإتفاق السبعة. قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ) منصوب على الاشتغال ، أي وأحصينا كل شيء أحصيناه. قوله : (كتبا) أشار بذلك إلى أن (كِتاباً) مصدر من معنى الأحصاء على حد جلست قعودا ، فمعنى (كِتاباً) ، إحصاء. قوله : (في اللوح المحفوظ) وقيل في صحف الحفظة على بني آدم قوله : (ومن ذلك) أي كل شيء. قوله : (فَذُوقُوا) أمر إهانة وتحقير ، والجملة معمولة لمقدر كما أشار له المفسر. قوله : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قيل هذه أشد آية في القرآن على أهل النار ، كلما استغاثوا بنوع من العذاب أغيثوا بأشد منه.

قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) مقابل قوله : إنّ (لِلطَّاغِينَ مَآباً) والمراد بالمتقين من اتقى الشرك بأن لم يموتوا كفارا. قوله : (مكان فوز) أشار بذلك إلى أن (مَفازاً) مصدر ميمي بمعنى المكان ، ويصح أن يكون بمعنى الحدث ، أي نجاة وظفرا بالمقصود. قوله : (بدل من مفازا) أي بدل بعض من كل. قوله : (عطف

٣١٥

(حَدائِقَ) بساتين بدل من مفازا ، أو بيان له (وَأَعْناباً) (٣٢) عطف على مفازا (وَكَواعِبَ أَتْراباً) (٣٣) جواري تكعبث ثديهنّ ، جمع كاعب (أَتْراباً) على سن واحد ، جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء (وَكَأْساً دِهاقاً) (٣٤) خمرا مالئة محالها ، وفي القتال وأنهار من خمر (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أي الجنة عند شرب الخمر وغيرها من الأحوال (لَغْواً) باطلا من القول (وَلا كِذَّاباً) (٣٥) بالتخفيف أي كذبا ، وبالتشديد أي تكذيبا من واحد لغيره ، بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي جزاهم الله بذلك جزاء (عَطاءً) بدل من جزاء (حِساباً) (٣٦) أي كثيرا من قولهم : أعطاني فأحسبني أي أكثر علي حتى قلت حسبي (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالجر والرفع (وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) كذلك وبرفعه مع جر رب (لا يَمْلِكُونَ) أي الخلق (مِنْهُ) تعالى (خِطاباً) (٣٧) أي لا يقدر أحد أن يخاطبه خوفا منه (يَوْمَ) ظرف للا يملكون (يَقُومُ

____________________________________

على مفازا) المناسب عطفه على (حَدائِقَ) عطف خاص على عام لمزيد شرف الأعناب. قوله : (تكعبت) أي استدارت مع ارتفاع يسير كالكعب. قوله : (ثديهن) بضم المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء التحتية جمع ثدي. قوله : (على سن واحد) أي فلا اختلاف بينهن في الشكل ولا في العمر ، لئلا يحصل الحزن إن وجد التخالف ، ولا حزن في الجنة. قوله : (خمرا مالئة محالها) فسر الكأس بالخمر ، والدهاق بالممتلئة ، والمناسب ابقاء الكأس على ظاهرها ، وتفسير الدهاق بالممتلئة لما في القاموس دهق الكأس ملأها ، وفي المختار : أدهق الكأس ملأها ، وكأس دهاق أي ممتلئة.

قوله : (لا يَسْمَعُونَ) حال من المتقين. قوله : (وغيرها) الضمير عائد على الشرب ، واكتسب التأنيث من المضاف إليه وهو الخمر ، لأنه يذكر ويؤنث ، وفي بعض النسخ وغيره وهي ظاهرة. قوله : (بالتخفيف) أي بوزن كتاب مصدر كذب ككتب ، وقوله : (وبالتشديد) أي فهو مصدر كذب المشدد قراءتان سبعيتان هنا لعدم التصريح بفعله ، وأما قوله : (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) فهو بالتشديد بإتفاق السبعة ، لوجود التصريح بالفعل المشدد. قوله : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) أي بمقتضى وعده الحسن لأهل الطاعة ، وهذا من مزيد الإكرام لأهل الجنة ، كما يقول الشخص الكريم إذا بالغ في إكرام ضيفه : هذا من فضلك وإحسانك مثلا ، وإلا فأي حق للمخلوق على خالقه. قوله : (بدل من جزاء) أي بدل كل من كل.

قوله : (حِساباً) صفة لعطاء ، وهو إما مصدر أقيم مقام الوصف ، أو باق على مصدريته مبالغة ، أو على حذف مضاف أي ذو كفاية ، على حد زيد عادل. قوله : (بالجر) أي جر (رَبِ) على أنه بدل من ربك ، وقوله : (والرفع) أي على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب. قوله : (كذلك) أي بالجر والرفع ، فالجر على أنه بدل من رب الأول ، أو صفة للثاني ، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة ، وقوله : (وبرفعه) أي الرحمن على أنه خبر لمحذوف ، فالقراءات ثلاث سبعيات ، رفعهما وجرهما ، ورفع (الرَّحْمنِ) مع جر (رَبِّ.) قوله : (أي الخلق) أي من أهل السماوات والأرض ، لغلبة الجلال في ذلك اليوم ، فلا يقدر أحد على خطابه تعالى ، في دفع بلاء ولا في رفع عذاب. قوله : (مِنْهُ) من ابتدائية متعلقة

٣١٦

الرُّوحُ) جبريل أو جند الله (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) حال أي مصطفين (لا يَتَكَلَّمُونَ) أي الخلق (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في الكلام (وَقالَ) قولا (صَواباً) (٣٨) من المؤمنين والملائكة كأن يشفعوا لمن ارتضى (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الثابت وقوعه وهو يوم القيامة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) مرجعا أي رجع إلى الله بطاعته ليسلم من العذاب فيه (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ) أي كفار مكة (عَذاباً قَرِيباً) أي عذاب يوم القيامة الآتي ، وكل آت قريب (يَوْمَ) ظرف لعذابا بصفته (يَنْظُرُ الْمَرْءُ) كل امرىء (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير وشر (وَيَقُولُ الْكافِرُ) حرف تنبيه (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٤٠) يعني فلا أعذب ، يقول ذلك عند ما يقول الله تعالى للبهائم بعد الاقتصاص من بعضها لبعض : كوني ترابا.

____________________________________

بلا يملكون أو بخطابا. قوله : (أو جند الله) ذكر المفسر في معنى (الرُّوحُ) قولين من جملة أقوال ثمانية فقوله : (جند الله) أي جند من جنود الله ، ليسوا ملائكة ، لهم رؤوس وايد وارجل ، يأكلون الطعام على صورة بني آدم كالناس وليسوا بناس ، ثالثها : أنه ملك ليس بعد العرش أعظم منه في السماء الرابعة ، يسبح الله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا ، فيجيء يوم القيامة وحده صفا. رابعها : أنهم أشراف الملائكة. خامسها : أنهم بنو آدم. سادسها : ارواح بني آدم تقوم صفا بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد. سابعها : القرآن ، لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً). ثامنها : أنهم الحفظة على الملائكة.

قوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ) الخ ، تأكيد لقوله : (لا يَمْلِكُونَ) والمعنى أن هؤلاء الذين هم أفضل الخلائق وأقربهم من الله ، إذا لم يقدروا أن يشفعوا إلا بإذنه ، فكيف يملك غيرهم؟ قوله : (فَمَنْ شاءَ) مفعوله محذوف دل عليه قوله : (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ومن شرطية ، وجوابها قوله : (اتَّخَذَ) الخ ، أو محذوف تقديره فعل. قوله : (إِلى رَبِّهِ) أي إلى ثوابه ، وهو متعلق بمآبا. قوله : (كل امرىء) أي مسلما أو كافرا ، وأخذ العموم من أل الاستغراقية ، والنظر بمعنى الرؤية ، والمعنى يرى كل ما قدمه من خير وشر ثابتا في صحيفته ، وخص اليدين بالذكر ، لأن أكثر الأفعال تزاول بهما. قوله : (يقول ذلك عند ما يقول الله للبهائم) الخ ، هذا أحد احتمالات ثلاثة. ثانيها : أنه يتمنى أن لو كان ترابا في الدنيا ، فلم يخلق إنسانا ولم يكلف. ثالثها : أنه يتمنى أن لو كان ترابا في يوم القيامة ، فلم يبعث ولم يحاسب. قوله : (بعد الاقتصاص من بعضها لبعض) أي فيقتص للجماء من القرناء اظهارا للعدل ، وأما الجن فهم مكلفون كالأنس ، يثابون ويعاقبون ، فالمؤمن يدخل الجنة ، والكافر يدخل النار على الصحيح.

٣١٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّازعات

مكيّة

وآياتها ست وأربعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ) الملائكة تنزع أرواح الكفار (غَرْقاً) (١) نزعا بشدة (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٢) الملائكة تنشط أرواح المؤمنين ، أي تسلها برفق (وَالسَّابِحاتِ

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة والنازعات مكية

وهي ست وأربعون آية

وفي بعض النسخ : سورة النازعات بغير واو. قوله : (وَالنَّازِعاتِ) الخ ، اعلم أن الله تعالى أقسم بخمسة أقسام موصوفها محذوف ، فاختلف المفسرون في تقدير الموصوف في الأربعة الأول ، فبعضهم قدره الملائكة ، وبعضهم قدره النجوم ، وأما الخامس فالمراد بهم الملائكة بالإجماع ، والتأنيث في الأوصاف ظاهر إن كان المراد النجوم ، وإن كان الملائكة فالتأنيث باعتبار الطائفة كأنه قال : والطائفة النازعات ، ومشى المفسر على أن المراد بها الملائكة وهو ظاهر. قوله : (الملائكة تنزع أرواح الكفار) الخ ، قال ابن مسعود : إن ملك الموت واعوانه ينزعون روح الكافر ، كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبتل. قوله : (غَرْقاً) إما مصدر على حذف الزوائد بمعنى اغراقا ، فهو ملاق لعامله في المعنى كقمت وقوفا أو حال أي ذوات اغراق ، يقال : اغرق في الشيء إذا بلغ أقصى غايته. قوله : (نزعا بشدة) أي لما ورد : أن كل نزعة اعظم من سبعين ألف ضربة بالسيف ، ويرى أن السماوات السبع انطبقت على الأرض وهو بينهما. قوله : (تنشط أرواح المؤمنين) بفتح أوله وكسر ثانيه من باب ضرب ، يقال : نشط في عمله خف وأسرع فيه ، وانشطت البعير من عقاله أطلقته ، و (نَشْطاً) وما بعده مصادر مؤكدة لعواملها ، والسبب في شدة نزع ارواح الكفار ، وسهولة نزع ارواح المؤمنين ، أن كلّا يرى قبل الموت مقعده الذي أعد له ، فالمؤمن يزداد فرحا وشوقا ، فلا يشاهد ألما ولا يحس به ، والكافر تأبى روحه الخروج ، لمزيد الحزن والكرب الذي تجده عنده رؤية مقعدها في النار ، فتنزع كرها بشدة فيجدها الكافر.

قوله : (وَالسَّابِحاتِ) أي الملائكة النازلين برفق ولطافة ، كالسابح في الماء ، وكالفرس الجواد إذا

٣١٨

سَبْحاً) (٣) الملائكة تسبح من السماء بأمره تعالى أي تنزل (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) (٤) الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) الملائكة تدبر أمر الدنيا أي تنزل بتدبيره ، وجواب هذه الأقسام محذوف أي لتبعثن يا كفار مكة وهو عامل في (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) النفخة الأولى بها يرجف كل شيء أي يتزلزل فوصفت بما يحدث منها (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧) النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة ، والجملة حالة من الراجفة ، فاليوم واسع للنفختين وغيرهما ، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقب الثانية (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) خائفة قلقة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٩) ذليلة لهول ما ترى (يَقُولُونَ) أي أرباب القلوب والأبصار استهزاء وإنكارا للبعث (أَإِنَّا) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين في الموضعين (لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) (١٠) أي أنرد بعد الموت إلى الحياة؟ والحافرة اسم لأول الأمر ومنه رجع فلان في حافرته إذا رجع من حيث جاء (أَإِذا كُنَّا

____________________________________

اسرع في جريه لقبض الأرواح ، فملائكة الرحمة تذهب للمؤمن ، وملائكة العذاب تذهب للكافر ، فقول المفسر (بأمره تعالى) محمول على أمر خاص ، وهو قبض الأرواح كما علمت ، لترتب قوله : (فَالسَّابِقاتِ) عليه ، وأما التدبير العام فيأتي في قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً). قوله : (تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة) أي وبأرواح الكفار إلى النار ، ففي الكلام اكتفاء ، وحينئذ فتلك الأوصاف الأربعة للملائكة التي تقبض الأرواح. قوله : (الملائكة تدبر أمر الدنيا) أي وهم جبريل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل ، فجبريل موكل بالرياح والجنود ، وميكائيل موكل بالقطر والنبات ، وعزرائيل موكل بقبض الأرواح ، واسرافيل موكل بالصور. قوله : (أي تنزل بتدبيره) أشار بذلك إلى أن اسناد التدبير إلى الملائكة مجاز ؛ والمدبر حقيقة الله تعالى ، فهم أسباب عادية مظهر للتدبير ، قوله : (لتبعثن يا كفار مكة) خصهم وإن كان البعث عاما للمسلم والكافر ، لأن القسم إنما يكون للمنكر ، والمسلم مصدق بمجرد الإخبار ، فلا يحتاج للإقسام. قوله : (بها يرجف كل شيء) أي فهذا وجه تسميتها راجفة.

قوله : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) سميت بذلك لأنها تردفها وتأتي بعدها ، ولا شيء بينهما. قوله : (فاليوم واسع) الخ ، جواب عما يقال : إن وقت الراجفة موت لا بعث ، فكيف يجعل ظرفا لتبعثن المقدر؟ وإيضاح جوابه : البعث يحصل في الوقت الذي يجمع النفختين إذ هو متسع ، فكأنه قال : تبعثن وقت حصول النفخة الأولى المتبوعة بالنفخة الثانية. قوله : (للبعث) أي المقدر جوابا للقسم. قوله : (قُلُوبٌ) مبتدأ ، و (يَوْمَئِذٍ) ظرف لواجفة ، و (واجِفَةٌ) صفة لقلوب ، وهو المسوغ للابتداء بالنكرة ، و (أَبْصارُها) مبتدأ ثان ، و (خاشِعَةٌ) خبره ، والجملة خبر الأول. قوله : (أَبْصارُها) أي أبصار أصحاب القلوب.

قوله : (يَقُولُونَ) حكاية حالهم في الدنيا ، وهو استبعاد منهم. قوله : (وإدخال ألف بينهما) أي وتركه ، فالقراءات أربع سبعيات في كل من الموضعين. قوله : (فِي الْحافِرَةِ) متعلق بمردودون. قوله : (إلى الحياة) أشار بذلك إلى أن (فِي) بمعنى إلى ، وأن (الْحافِرَةِ) بمعنى الحياة. قوله : (والحافرة اسم لأول الأمر) أي والأصل فيها ، أن الإنسان إذا رجع في طريقه ، أثرت قدماه فيها حفرا ، فهو مثل لمن يردّ من حيث جاء. قوله : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) العامل في إذا محذوف يدل عليه مردودون ، والمعنى : (أَإِذا كُنَّا

٣١٩

عِظاماً نَخِرَةً) (١١) وفي قراءة ناخرة بالية متفتتة نحيا (قالُوا تِلْكَ) أي رجعتنا إلى الحياة (إِذاً) إن صحت (كَرَّةٌ) رجعة (خاسِرَةٌ) (١٢) ذات خسران ، قال تعالى (فَإِنَّما هِيَ) أي الرادفة التي يعقبها البعث (زَجْرَةٌ) نفخة (واحِدَةٌ) (١٣) (فَإِذا هُمْ) أي كل الخلائق (بِالسَّاهِرَةِ) (١٤) بوجه الأرض أحياء بعد ما كانوا ببطنها أمواتا (هَلْ أَتاكَ) يا محمد (حَدِيثُ مُوسى) (١٥) عامل في (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٦) اسم الوادي بالتنوين وتركه فقال تعالى (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (١٧) تجاوز الحد في الكفر (فَقُلْ هَلْ لَكَ) أدعوك (إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١٨) وفي قراءة بتشديد

____________________________________

عِظاماً) بالية نرد ونبعث؟ والاستفهام لتأكيد الإنكار. قوله : (نَخِرَةً) من نخر العظم ، فهو نخر وناخر ، وهو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير أي تصويت.

قوله : (قالُوا تِلْكَ) الخ ؛ حكاية لكفر آخر ، مفرع على كفرهم السابق ، و (تِلْكَ) مبتدأ مشار بها للرجفة ، والرد في (الْحافِرَةِ) ، و (كَرَّةٌ) خبرها ، و (خاسِرَةٌ) صفة أي ذات خسران ، والمعنى : إن كان رجوعنا إلى القيامة حقا كما تقول ، فتلك الرجعة رجعة خاسرة لعدم عملنا لها. قوله : (إِذاً) حرف جواب وجزاء عند الجمهور دائما ، وقيل : قد لا تكون جوابا. قوله : (ذات خسران) أي والمراد خسران أصحابها. قوله : (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن هذا من كلامه تعالى ردا عليهم. قوله : (نفخة) سميت زجرة لأنها صيحة لا يمكن التخلف عنها. قوله : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) جواب شرط محذوف قدره بقوله : (فإذا نفخت) وسميت ساهرة لأنه لا نوم عليها من أجل الخوف والحزن. قيل : (بوجه الأرض) وقيل : أرض من فضة يخلقها الله تعالى ، وقيل : جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس عليه ، وقيل غير ذلك. قوله : (أحياء) خبر عن (هُمْ) وقوله : (بِالسَّاهِرَةِ) متعلق بأحياء ، ولو قال : فإذا هم أحياء بالساهرة لكان أولى.

قوله : (هَلْ أَتاكَ) الخ ، المقصود منه تسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحذير قومه من مخالفته ، فيحصل لهم ما حصل لفرعون ، كأن الله تعالى يقول لنبيه : اصبر كما صبر موسى ، فإن قومك وإن بلغوا في الكفر مهما بلغوا ، لم يصلوا في العتوّ كفرعون ، وقد انتقم الله منه ، مع شدة بأسه وكثرة جنوده ، و (هَلْ) بمعنى قد ، إن ثبت أنه أتاه ذلك الحديث قبل هذا الاستفهام ، وأما إذا لم يكن أتاه قبل ذلك ، فالاستفهام لحمل المخاطب على طلب الأخبار. قوله : (عامل في) (إِذْ ناداهُ) أي فإذا معمول لحديث لا لأتاك لاختلاف الوقت. قوله : (الْمُقَدَّسِ) أي المطهر ، حيث شرفه الله تعالى بإنزال النبوة فيه على موسى. قوله : (اسم الوادي) أي وسمي طوى ، لطي الشدائد عن بني اسرائيل ، وجمع الخيرات لموسى ، وهو واد بالطور ، بين أيلة ومصر. قوله : (بالتنوين وتركه) أي فالتنوين باعتبار المكان وكونه نكرة ، وتركه باعتبار البقعة وكونه معرفة ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (فقال تعالى) أشار بذلك إلى أن قوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) معمول لقول محذوف ، ويصح أن يكون على حذف إن التفسيرية أو المصدرية. قوله : (إِلى فِرْعَوْنَ) كان طوله أربعة أشبار ، ولحيته أطول منه وكانت خضراء ، فاتخذ القبقاب يمشي عليه خوفا من أن يمشي على لحيته ، وهو أول من اتخذه. قوله : (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر. قوله : (تجاوز الحد في الكفر) أي بتكبره على الله واستعباده خلقه.

٣٢٠