حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٨٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النجم

مكيّة

وآياتها ثنتان وستون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ) الثريا (إِذا هَوى) (١) غاب (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) محمد عليه الصلاة والسّلام عن طريق الهدى (وَما غَوى) (٢) ما لابس الغي ، وهو جهل من

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النجم مكية

وهي ثنتان وستون آية

أي كلها ، وقيل : إلا قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) الآية ، وقيل : كلها مدني ، وردّ بما روي أنها أول سورة أعلن بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وسجد فيها وسجد معه المسلمون والمشركون زعما منهم أنه يمدح آلهتهم ، واعلم أن بين أول هذه السورة وآخر ما قبلها مناسبة ، فإن تعالى قال في آخر تلك : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) وقال في أول هذه (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.) قوله : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) اختلف تفسير (النَّجْمِ) فمشى المفسر على أنه الثريا ، وهي عدة نجوم ، بعضها ظاهر ، وبعضها خفي ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يراها أحد عشر نجما ، ومعنى هويه غيبوبته عند طلوع الفجر ، وقيل : المراد به أي نجم ، وقيل : المراد به جميع النجوم ، وقيل : هو الزهرة ، وقيل : الشعرى ، وقيل : القرآن ، ومعنى (هَوى) نزل ، لأنه نزل منجما على ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : هو محمد ، ومعنى (هَوى) نزل من المعراج ، وقيل : جبريل ، ومعنى (هَوى) نزل بالوحي ، واختلف في عامل الظرف فقيل : معمول لمحذوف تقديره أقسم بالنجم وقت هويه ، واستشكل بأن فعل القسم إنشاء ، والإنشاء حال ، و (إِذا) لما يستقبل من الزمان ، فكيف يعمل الإنشاء في المستقبل؟ وأجيب : بأنه يتوسع في الظروف ، ما لا يتوسع في غيرها ، أو قصد منها مجرد الظرفية ، الصادق بالماضي والحال والاستقبال ، لأنها قد تأتي للحال والماضي ، وقيل : عامله حال من النجم محذوفة ، والتقدير : أقسم بالنجم حال كونه مستقرا في زمان هويه ، ويأتي فيه الإشكال والجواب المتقدمان ، ويجاب أيضا : بأن تجعل الحال مقدرة.

قوله : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) هذا هو جواب القسم ، وعبر بلفظ الصحبة تبكيتا لهم ، وإشعارا بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فلا يليق منهم نسبته للنقص. قوله : (عن طريق الهدى) أشار بذلك إلى أن

١٠١

اعتقاد فاسد (وَما يَنْطِقُ) بما يأتيكم به (عَنِ الْهَوى) (٣) هوى نفسه (إِنْ) ما (هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) إليه (عَلَّمَهُ) إياه ملك (شَدِيدُ الْقُوى) (٥) (ذُو مِرَّةٍ) قوة وشدة ، أو منظر حسن ، أي جبريل عليه‌السلام (فَاسْتَوى) (٦) استقر (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) (٧) أفق الشمس أي عند مطلعها على صورته التي خلق عليها ، فرآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بحراء قد سد الأفق إلى المغرب ، فخرّ مغشيا عليه ، وكان قد سأله أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها ، فواعده بحراء ، فنزل جبريل له في صورة الآدميين (ثُمَّ دَنا) قرب منه (فَتَدَلَّى) (٨) زاد في القرب (فَكانَ) منه (قابَ) قدر (قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) من ذلك حتى أفاق وسكن روعه (فَأَوْحى) تعالى (إِلى عَبْدِهِ) جبريل (ما

____________________________________

الضلال مخالف للغي ، فالضلال فعل المعاصي ، والغي هو الجهل المركب ، وقيل : الضلال في العلم ، والغي في الأفعال ، وقيل : هما مترادفان. قوله : (من اعتقاد فاسد) أي ناشىء وحاصل. قوله : (عَنِ الْهَوى) متعلق بينطق ، والمعنى ما يصدر نطقه عن هوى نفسه ، ومثله الفعل بل جميع أحواله ، وهو مفرع على ما قبله ، لأنه إذا علم تنزهه عن الضلال والغواية ، تفرع عليه أنه لا ينطق عن هواه قرآنه أو غيره.

قوله : (إِنْ هُوَ) الضمير عائد على النطق المأخوذ من ينطق ، والمعنى : ما يتكلم به من القرآن وغيره ، ومثل النطق الفعل وجميع أحواله ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق ولا يفعل إلا بوحي من الله تعالى ، لا عن هوى نفسه. قوله : (يُوحى) الجملة صفة لوحي ، أتى بها لرفع توهم المجاز ، كأنه قال : هو وحي حقيقة ، لا مجرد تسمية.

قوله : (عَلَّمَهُ) (إياه) الضمير المذكور هو المفعول الأول عائد على النبي ، والثاني الذي قدره المفسر عائد على الوحي. قوله : (شَدِيدُ الْقُوى) صفة لموصوف محذوف قدره المفسر بقوله : (ملك) وهو جبريل عليه‌السلام ، ومن شدة قوته اقتلاعه مدائن قوم لوط ، ورفعها إلى السماء وقلبها ، وصياحه على قوم ثمود ، ونتقه الجبل على بني إسرائيل ، وهذه الشدة حاصلة فيه ، ولو تشكل بصورة الآدميين ، لأنها لا تحكم عليهم الصورة ، وهذا قول الجمهور ، وقيل : المراد به الرب سبحانه وتعالى ، والمراد بالقوى في حقه تعالى ، صفات الاقتدار كالكبرياء والعظمة. قوله : (ذُو مِرَّةٍ) أي قوة باطنية وعزم وسرعة وحركة ، فغاير ما قبله ، فجبريل أعطاه الله قوة ظاهرية وقوة باطنية ، وقيل : المرة وفور العلم ، وقيل : الجمال. قوله : (فَاسْتَوى) عطف على قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى).

قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الجملة حالية. قوله : (وكان) أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (وكان قد سأله) الخ ، تعليل لقوله : (فَاسْتَوى) وذلك أن جبريل كان يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة الآدميين ، كما يأتي إلى الأنبياء ، فسأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريه نفسه التي جعله الله عليها ، فأراه نفسه مرتين ، مرة بالأرض ومرة بالسماء ، ولم يره أحد من الأنبياء على صورته التي خلق عليها إلا نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (فنزل جبريل) عطف على قوله : (فخر مغشيا عليه). قوله : (زاد في القرب) أي فالكلام باق على ظاهره ، وقيل : في الكلام قلب ، والأصل فتدلى ثم دنا ، ومعنى تدلى رجع لصورته الأصلية.

قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) في الكلام حذف ، والأصل فكان مقدار مسافة قربه منه ، مثل مقدار مسافة قاب قوسين ، والقاب القدر ، وقيل : هو ما بين المقبض والطرف ، ولكل قوس قابان ، فأصل الكلام فكان قابي قوسين ، فحصل في الكلام قلب. قوله : (أَوْ أَدْنى) أو بمعنى بل ، نظير قوله تعالى : (أَوْ

١٠٢

أَوْحى) (١٠) جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه (ما كَذَبَ) بالتخفيف والتشديد أنكر (الْفُؤادُ) فؤاد النبي (ما رَأى) (١١) ببصره من صورة جبريل (أَفَتُمارُونَهُ)

____________________________________

يَزِيدُونَ) أو على بابها ، والشك بالنسبة للرائي ، والمعنى : إذا نظرت إليه وهو في تلك الحالة ، تتردد بين المقدارين. قوله : (حتى أفاق) غاية لمحذوف أو ضمه إليه حتى أفاق ، روي أنه لما أفاق قال : يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة ، فقال : يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي ، وإن لي ستمائة جناح ، سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا لعظيم ، فقال جبريل : وما أنا في جنب خلق الله إلا يسيرا ، ولقد خلق الله إسرافيل ، له ستمائة جناح ، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي ، وإنه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله تعالى ، حتى يكون بقدر الوصع ، أي العصفور الصغير ، وهذا على كلام الجمهور ، وأما على أن المراد به الرب سبحانه وتعالى ، فمعنى الاستواء : الاستعلاء والقهر ، ومعنى الدنو والتدلي : تجليه بصفة الجمال والمحبة لعبده ، على حد ما قيل في ينزل ربنا كل ليلة.

قوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) هذا مفرع على قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ومشى المفسر على أن الضمير في (أَوْحى) الأول عائد على الله تعالى ، والمراد بالعبد جبريل ، والضمير في (أَوْحى) الثاني عائد على جبريل ، وهو احتمال من ثمانية ، أفادها العلامة الأجهوري وحاصلها أن يقال : الضمير في أوحى الأول ، إما عائد على الله أو جبريل ، والثاني كذلك ، فهذه أربع ، وفي كل منها إما أن يراد بالعبد جبريل أو محمد ، فهذه ثمان اثنان منها فاسدان وهما أن يجعل الضمير في أوحى الأول عائدا على جبريل ، ويراد بالعبد جبريل ، سواء جعل الضمير في أوحى الثاني عائدا على الله أو جبريل وباقيها صحيح ، والأنسب بمقام المدح أن يعود الضمير في أوحى الأول والثاني على الله ، والمراد بالعبد محمد عليه الصلاة والسّلام ، والمعنى : أوحى الله إلى عبده محمد ما أوحاه الله إليه ، من العلوم والأسرار والمعارف التي لا يحصيها إلا معطيها ، بواسطة جبريل وبغير واسطته ، حين فارقه عند الرفرف. قوله : (ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه) أي وإشارة إلى عمومه ، واختلف في هذا الموحى به ، فقيل مبهم لا نطلع عليه ، وإنما يجب علينا الإيمان به إجمالا ، وقيل هو معلوم ، وفي تفسيره خلاف ، فقيل أوحى الله إليه : ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك ، ورفعنا لك ذكرك؟ وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. فالمعنى على التشديد أن ما رآه محمد بعينه صدقه قلبه ولم ينكره ، والتخفيف قيل كذلك ، وقيل هو على إسقاط الخافض ، والمعنى ما كذب الفؤاد فيما رآه. قوله : (من صورة جبريل) بيان لما رأى ؛ وهذا أحد قولين ، وقيل هو الله عزوجل ، وعليه فقد رأى ربه مرتين ، مرة في مبادىء البعثة ، ومرة ليلة الإسراء ، واختلف في تلك الرواية فقيل : رآه بعينه حقيقة ، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين منهم : ابن عباس ، وأنس بن مالك ، والحسن وغيرهم ، وعليه قول العارف البرعي :

وإن قابلت لفظة لن تراني

بما كذب الفؤاد فهمت معنى

فموسى خر مغشيا عليه

وأحمد لم يكن ليزيغ ذهنا

وقيل : لم يره بعينه ، وهو قول عائشة رضي الله عنها ، والصحيح الأول لأن المثبت مقدم على النافي ،

١٠٣

تجادلونه وتغلبونه (عَلى ما يَرى) (١٢) خطاب للمشركين المنكرين رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل (وَلَقَدْ رَآهُ) على صورته (نَزْلَةً) مرّة (أُخْرى) (١٣) (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (١٤) لما أسري به فى السماوات ، وهي شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥) تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين (إِذْ) حين (يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (١٦) من طير وغيره ، وإذ معمولة لرآه (ما زاغَ الْبَصَرُ) من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما طَغى) (١٧) أي ما مال بصره عن

____________________________________

أو لأن عائشة لم يبلغها حديث الرؤية ، لكونها كانت حديثة السن. قوله : (أَفَتُمارُونَهُ) بضم التاء وبالألف بعد الميم من ماراه جادله وغالبه ، أو بفتح التاء وسكون الميم من غير ألف من مريته حقه إذا علمته وجحدته إياه ، قراءتان سبعيتان. قوله : (عَلى ما يَرى) أي على ما رآه وهو جبريل على كلام المفسر ، وذات الله تعالى على كلام غيره ، وعبر بالمضارع استحضارا للحالة البعيدة في ذهن المخاطبين.

قوله : (وَلَقَدْ رَآهُ) اللام للقسم ، وقوله : (مرة) أشار بذلك إلى أن (نَزْلَةً) منصوب على الظرفية. قوله : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) سميت بذلك ، إما لأنه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها ، أو لأنه ينتهي علم الأنبياء إليها ، ويعزب علمهم عما وراءها ، أو لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها ، أو لانتهاء الملائكة إليها ووقوفهم عندها ، أو لأنه ينتهي إليها أرواح الشهداء ، أو لأنه ينتهي إليها أرواح المؤمنين ، أو لأنه ينتهي إليها من كان على سنة رسول الله أقوال ، وإضافة سدرة للمنتهى ، إما من إضافة الشيء إلى مكانه ، والتقدير عند سدرة عندها منتهى العلوم ، أو من إضافة الملك إلى المالك ، على حذف الجار والمجرور ، أي سدرة المنتهى إليه ، وهو الله عزوجل ، قال تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.) قوله : (لما أسري به) أي وكان قبل الهجرة بسنة وأربعة أشهر ، وقيل : كان قبلها بثلاث سنين ، والرؤية الأولى كانت في بدء البعثة ، فبين الرؤيتين نحو عشر سنين. قوله : (وهي شجرة نبق) أي وفيها الحلي والحلل والثمار من جميع الألوان ، لو وضعت ورقة منها في الأرض لأضاءت لأهلها. قيل : هي شجرة طوبى ، والصحيح أنها غيرها ، والنبق بكسر الياء وسكونها ، واختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر ، لما قيل : إن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعام لذيذ ، ورائحة ذكية ، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولا وعملا ونية ، فظللها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوزه ، وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره ، قيل : إن سدرة المنتهى قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استوص بإخواني في الأرض خيرا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار» واستشكل هذا الحديث بأنه يقتضي أن قطع السدر حرام لحاجة ولغير حاجة ، مع أنه خلاف المنصوص ، وأجيب بأنه سئل أبو داود عن هذا الحديث فقال : هو مختصر وحاصله : «من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها ، صوب الله رأسه في النار» وبعد ذلك فهذا لا يخص السدر.

قوله : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) حال من (سِدْرَةِ الْمُنْتَهى). قوله : (تأوي إليها الملائكة) الخ ، وقيل : هي الجنة التي أوى إليها آدم عليه‌السلام إلى أن أخرج منها ، وقيل : لأن جبريل وميكائيل يأويان إليها ، فهذا وجه تسميتها جنة المأوى ، أو لأن أهل السعادة يأوون إليها. قوله : (ما يَغْشى) أبهم الموصول وصلته إشارة إلى أن ما غشيها لا يحيط به إلا الله تعالى. قوله : (من طير وغيره) ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه

١٠٤

مرئيه المقصود له ولا جاوزه تلك الليلة (لَقَدْ رَأى) فيها (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨) أي العظام أي بعضها ، فرأى من عجائب الملكوت رفرفا أخضر سد أفق السماء وجبريل له ستمائة جناح (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (١٩) (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ) اللتين قبلها (الْأُخْرى) (٢٠) صفة ذم للثالثة ، وهي أصنام من

____________________________________

قال : «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب ، ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالى» وورد أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «ذهب بي جبريل إلى سدرة المنتهى ، وإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كقلال هجر ، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت ، فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها ، فأوحى إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة» وقيل : يغشاها أنوار التجلي وقت مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لربه ، كما تجلى على الجبل عند مكالمة موسى ، لكن السدرة أقوى من الجبل ، فالجبل صار دكا ، وخر موسى صعقا ، ولم تتحرك السدرة ، ولم يتزلزل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ) أي ما يلتفت إلى ما غشى السدرة من العجائب المتقدمة ، لأن الزيغ هو الالتفات لغير الجهة التي تعنيه. قوله : (وَما طَغى) الطغيان مجاوزة الحد اللائق كما أفاده المفسر ، فوصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكمال الثبات والأدب ، مع غرابة ما هو فيه إذ ذاك ، وسبق تنزيه علمه من الضلال ، وعمله عن الغواية ، ونطقه عن الهوى ، وفؤاده عن التكذيب ، وهنا تنزه بصره عن الزيغ والطغيان مع تأكيد ذلك وتحقيقه بالأقسام ، وناهيك بذلك من رب العزة جل جلاله ثناء.

قوله : (لَقَدْ رَأى) اللام في جواب قسم محذوف. قوله : (الْكُبْرى) أفاد المفسر أن من للتبعيض ، وهو مفعول لرأى ، والكبرى صفة لآيات ، ووصفه بوصف المؤنثة الواحدة لجوازه وحسنه مراعاة الفاصلة ، وفسر الكبرى بالعظام ، إشارة إلى أنه ليس المعنى على التفضيل لعدم حصر تلك الآيات ، ووصف العظم مقول بالتشكيك فيها ، فيذهب السامع فيها كل مذهب فتدبر. قوله : (رفرفا) قيل : هو في الأصل ما تدلى على الأسرة من غالي الثياب ومن أعالي الفسطاط ، روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغ سدرة المنتهى ، جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى العرش ، حتى وقف بين يدي ربه ، ثم لما حان الانصراف تناوله فطار به ، حتى أداه إلى جبريل صلوات الله عليهما ، وجبريل يبكي ويرفع صوته بالتحميد ، فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى ، له خواص الأمور في محل الدنو والقرب ، كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء ، مخصوصة بذلك في الأرض.

قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ) استفهام إنكاري ، قصد به توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان ، بعد بيان تلك البراهين القاطعة الدالة على انفراده تعالى بالألوهية والعظمة ، وأن ما سواه تعالى ، وإن جلت مرتبته وعظم مقامه ، حقير في جانب جلال الله عزوجل. قوله : (اللَّاتَ) اسم صنم كان في جوف الكعبة ، وقيل : كان لثقيف بالطائف ، وقيل : اسم رجل كان يلت السويق ويطعمه الحاج ، وكان يجلس عند حجر ، فلما مات سمي الحجر باسمه ، وعبد من دون الله ، وأل في اللات زائدة زيادة لازمة كما قال ابن مالك : وقد تزاد لازما كاللات. وتاؤه قيل : أصلية وعليه فأصله ليت ، وقيل : زائدة وعليه فأصله لوى يلوي ، كأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها ، ويلتوون أي يعتكفون عليها ، ويترتب على القولين الوقف عليها ، فبعض القراء يقف عليها الهاء على القول بزيادتها ، وبعضهم بالتاء على القول بعدم زيادتها. قوله : (وَالْعُزَّى)

١٠٥

حجارة كان المشركون يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله ، ومفعول أرأيت الأول واللات وما عطف عليه ، والثاني محذوف ، والمعنى : أخبروني ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدونها دون الله القادر على ما تقدم ذكره ، ولما زعموا أيضا أن الملائكة بنات الله مع كراهتهم البنات نزل (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (٢١) (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) جائرة من ضازه يضيزه إذا ظلمه وجار عليه (إِنْ هِيَ) أي ما المذكورات (إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) أي سميتم بها (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أصناما تعبدونها (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ) حجة وبرهان (إِنْ) ما (يَتَّبِعُونَ) في عبادتها (إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) مما زين لهم الشيطان من أنها تشفع لهم عند

____________________________________

تأنيث الأعز كالفضلى والأفضل وهو اسم صنم ، وقيل شجرة سمر لغطفان كانوا يعبدونها ، فبعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقطعها.

قوله : (وَمَناةَ) إما بالهمزة بعد الألف أو بالألف وحدها ، قراءتان سبعيتان ، إما مشتقة من النوء وهو المطر ، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ، أو من منى يمني أي صب ، لأن دماء النسك كانت تصب عندها. قوله : (اللتين قبلها) أي إما صفة بالنظر للفظ ، أو بالنظر للرتبة ، والمعنى أن رتبتها عندهم منحطة عن اللتين قبلها. قوله : (صفة ذم للثالثة) أي لأنها بمعنى المتأخرة الوضيعة المقدار. قوله : (وهي أصنام من حجارة) أي أن الثلاثة أصنام من حجارة ، كانت في جوف الكعبة ، وقيل : اللات لثقيف بالطائف ، والعزى شجرة لغطفان ، ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف ، وقيل : إن اللات أخذه المشركون من لفظ الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من منى الله الشيء قدره. قوله : (والثاني محذوف) أي وهو جملة استفهامية استفهاما إنكاريا ذكرها بقوله : (ألهذه الأصنام) الخ ، والمعنى أفرأيتموها قادرة على شيء. قوله : (ولما زعموا أيضا) أي كما زعموا ، أن الأصنام الثلاثة تشفع لهم عند الله تعالى.

قوله : (تِلْكَ إِذاً) أي إذا جعلتم البنات له والبنين لكم. قوله : (ضِيزى) بكسر الضاد بعدها همزة أو ياء مكانها ، قراءتان سبعيتان ، وقرىء شذوذا بفتح الضاد وسكون الياء. قوله : (وجار عليه) عطف تفسير ، وهذا المعنى لكل من القراءات الثلاث. قوله : (ما المذكورات) أي الأصنام المذكورات من حيث وصفها بالألوهية ، والمعنى ليس لها من وصف الأولوهية التي أثبتموها لها إلا لفظها ، وأما معناها فهي خلية عنه ، لأنها من أحقر المخلوقات وأذلها. قوله : (أي سميتم بها) دفع بذلك ما يقال : إن الأسماء لا تسمى ، وإنما يسمى بها ، فكيف قال سميتموها؟ فأجاب : بأن الكلام من باب الحذف والإيصال ، والمفعول الأول محذوف قدره بقول أصنام. قوله : (أَنْتُمْ) ضمير فصل أتى به توصلا لعطف (وَآباؤُكُمْ) على الضمير المتصل في سميتموها على حد قول ابن مالك :

وإن على ضمير رفع متصل

عطفت فافصل بالضمير المنفصل

قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) التفت من خطابهم إلى الغيبة ، إشعارا بأن كثرة قبائحهم ، اقتضت الإعراض عنهم. قوله : (مما زين لهم) بيان لما. قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) الجملة حالية من فاعل (يَتَّبِعُونَ) والمعنى : يتبعون الظن وهوى النفس في حالة تنافي ذلك ، هو مجيء الهدى من عند ربهم.

١٠٦

الله تعالى (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبرهان القاطع فلم يرجعوا عما هم عليه (أَمْ لِلْإِنْسانِ) أي لكل إنسان منهم (ما تَمَنَّى) (٢٤) من أن الأصنام تشفع لهم ليس الأمر كذلك (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) أي الدنيا فلا يقع فيهما إلا ما يريده تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ) أي وكثيرا من الملائكة (فِي السَّماواتِ) وما أكرمهم عند الله (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) لهم فيها (لِمَنْ يَشاءُ) من عباده (وَيَرْضى) (٢٦) عنه لقوله : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ومعلوم أنها لا توجد منهم إلا بعد الإذن فيها (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٢٧) حيث قالوا : هم بنات الله (وَما لَهُمْ بِهِ) بهذا المقول (مِنْ عِلْمٍ إِنْ) ما (يَتَّبِعُونَ) فيه (إِلَّا الظَّنَ) الذي تخيلوه (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨) أي عن العلم فيما المطلوب فيه العلم (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى

____________________________________

قوله : (بالبرهان) حال من الهدى والباء للملابسة ، والمراد بالبرهان المعجزات. قوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ) منقطعة تفسر ببل والهمزة ، والاستفهام إنكاري ، والمعنى : ليس للإنسان ما يتمنى ، بل يعامل بضده ، حيث تتبع هواه وخرج عن حدود الشرع ، فالمراد بالإنسان الكافر ، وهذه الآية تجر بذيلها على من يلتجىء لغير الله طلبا للفاني ، ويتبع نفسه في ما تطلبه ، فليس له ما يتمنى ، قال العارف :

لا تتبع النفس في هواها

إن إتباع الهوى هوان

وأما أهل الصدق مع ربهم ، فلهم ما يتمنون وفوق ذلك ، لوعد الله الذي لا يتخلف. قوله : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) كالدليل ما قبله ، والمعنى : أنه تعالى لا يعطي ما فيهما ، إلا لمن اتبع هداه وترك هواه ، لأنه مالك للدنيا والآخرة. قوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ) الخ ، هذا تقنيط للكفار ، من تعلق آمالهم بشفاعة معبوداتهم لهم. قوله : (أي وكثيرا من الملائكة) الخ ، أشار بذلك إلى أن (كَمْ) خبرية بمعنى كثيرا. قوله : (وما أكرمهم عند الله) جملة تعجبية ، جيء بها للدلالة على تشريف الملائكة وزيادة تعظيمهم ، ومع ذلك فلا تغني شفاعتهم عنهم شيئا. قوله : (لِمَنْ يَشاءُ) أي فيمن يشاء. قوله : (ومعلوم أنها لا توجد منهم) راجع لقوله : (ولا يشفعون) والقصد من ذلك التوفيق بين الآيتين ، في توقف الشفاعة على الإذن.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي وهم مشركو العرب ، إن قلت : كيف يقال إنهم غير مؤمنين بالآخرة ، مع أنهم يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله؟ أجيب : بأنهم غير جازمين بالآخرة ، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) وإنما اتخذوهم شفعاء على سبيل الاحتمال. وأجيب أيضا : بأنهم لا يؤمنون بالآخرة على الوجه الذي بينته الرسل. قوله : (تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) أي تسمية الإناث ، وذلك أنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث ، وصح عندهم أن يقال : سجدت الملائكة ، فقالوا : الملائكة إناث ، وجعلوهم بنات الله لكونهم لا أب لهم ولا أم. قوله : (بهذا المقول) أي هم بنات الله.

قوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي لأنهم لم يشاهدوا خلقهم ، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول ، ولم يروه في كتاب ، بل عولوا على مجرد ظنهم الفاسد ، ولو أذعنوا للقرآن وللنبي ، لأفادهم صحة التوحيد

١٠٧

عَنْ ذِكْرِنا) أي القرآن (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) وهذا قبل الأمر بالجهاد (ذلِكَ) أي طلب الدنيا (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي نهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) أي عالم بهما فيجازيهما (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هو مالك لذلك ، ومنه الضال والمهتدي ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) من الشرك وغيره (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) بالتوحيد وغيره من الطاعات (بِالْحُسْنَى) (٣١) أي الجنة ، وبيّن المحسنين بقوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا

____________________________________

ونفعه. قوله : (أي عن العلم) أشار بذلك إلى أن من بمعنى عن ، والحق بمعنى العلم. قوله : (فيما المطلوب فيه العلم) أي في الأمر الذي يطلب فيه العلم وهو الاعتقاديات ، بخلاف العمليات ، فالظن فيها كاف ، لاختلاف الأئمة في الفروع الفقهية ، فتحصل أن الأمور الاعتقادية ، كمعرفة الله تعالى ، ومعرفة الرسل وما أتوا به ، لا بد فيها من الجزم المطابق للحق عن دليل ، ولا يكفي فيها الظن ، وأما الأمور العملية كفروع الدين ، فيكفي فيها غلبة الظن.

قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى) أي اترك دعوته والاهتمام بشأنه ، فإنه لا تفيد دعوته إلا عنادا وإصرارا على الباطل. قوله : (وهذا قبل الأمر بالجهاد) أي فهو منسوخ بآية القتال ، وقد تبع المفسر في ذلك أكثر المفسرين ، وقال الرازي : إنها ليست منسوخة بآية القتال ، بل هي موافقة لها ، وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأول ، كان مأمورا بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة ، فلما عارضوا أمر بإزالة شبههم ، والجواب عنها فقيل له : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له : أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان ، فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم ، فثمرة الإعراض القتال ، وقد يقال : إن الخلاف لفظي ، فمن أراد بالإعراض الكف عن مجادلتهم ومعاملتهم بالتي هي أحسن قال بالنسخ ، ومن أراد بالإعراض عنهم ، ترك جدالهم ومعاملتهم بالسيف قال بعدمه. قوله : (مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) تسميته علما تهكم بهم.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) الخ ، تعليل للأمر بالإعراض ، والمعنى : أن الله عالم بالضال فيجازيه على ضلاله ، وبالمهتدي فيجازيه على هداه ، ومن هنا خاف العارفون من سوء الخاتمة ، لعدم اعتمادهم على أعمالهم. قوله : (ومنه الضال والمهتدي) دفع بذلك ما يقال : كيف يجعل الجزاء علة لملك ما في السماوات والأرض ، مع أنه ثابت لله تعالى بالذات ، فأجاب : بأنه علة لمحذوف ، دل عليه قوله ملك السماوات والأرض.

قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا) الخ ، أشار بذلك إلى أن اللام متعلقة بمحذوف قدره بقوله : (يضل من يشاء) الخ ، ويصح أن تكون اللام للعاقبة والصيرورة ، والمعنى : أن عاقبة أمر الخلق ، أن يكون فيهم المحسن والمسيء ، فيجازي المحسن بالإحسان ، والمسيء بالإساءة. قوله : (وبين المحسنين) الخ ، أي فالذين يجتنبون بدل أو عطف بيان أو نعت للذين أحسنوا ، أو مفعول لمحذوف تقديره أعني ، أو خبر لمحذوف تقديره هم الذين الخ. قوله : (كَبائِرَ الْإِثْمِ) جمع كبيرة ، وهي ما ورد فيها وعيد أو حدّ. قوله : (وَالْفَواحِشَ) إما عطف مرادف إن أريد بها الكبائر ، أو خاص إن أريد بها ما ترتب عليه عظيم مفسدة ،

١٠٨

اللَّمَمَ) هو صغار الذنوب ، كالنظرة والقبلة واللمسة فهو استثناء منقطع ، والمعنى لكن اللمم يغفر باجتناب الكبائر (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) بذلك وبقبول التوبة ، ونزل فيمن كان يقول : صلاتنا صيامنا حجنا (هُوَ أَعْلَمُ) أي عالم (بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي خلق أباكم آدم من التراب (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) جمع جنين (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) لا تمدحوها أي على سبيل الإعجاب ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن (هُوَ أَعْلَمُ) أي عالم (بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) (٣٣) عن الإيمان ، أي ارتد لما عير به وقال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له المعير له أن يحمل عنه عذاب الله إن رجع إلى شركه وأعطاه من ماله كذا فرجع (وَأَعْطى قَلِيلاً) من المال المسمى (وَأَكْدى) (٣٤) منع الباقي ، مأخوذ من الكدية ، وهي أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر إذا وصل إليها من الحفر (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) يعلم من جملته أن

____________________________________

كالقتل والزنا والسرقة ونحو ذلك. قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) هو في الأصل أن يلم بالشيء ولم يرتكبه ، والمراد به فعل الصغائر. قوله : (كالنظرة) أي وكالكذب الذي لا حد فيه ، ولم يترتب عليه إفساد بين الناس ، وهجر المسلم فوق ثلاث ، والتبختر في المشي ونحو ذلك.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) تعليل لقوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) والمعنى : أن عدم المؤاخذة على الصغائر ، لا لكونها ليست ذنبا ، بل لسعة مغفرة الله. قوله : (بذلك) أي باجتناب الكبائر. قوله : (أي عالم) أشار بذلك إلى أنه ليس المراد صيغة التفضيل. قوله : (إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي فهو عالم بتفاصيل أموركم ، حين ابتدأ خلق أبيكم آدم من التراب ، وحين صوركم في الأرحام. قوله : (جمع جنين) سمي بذلك لاستتاره في بطن أمه. قوله : (لا تمدحوها) أي لا تثنوا عليها ، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى ، فإن النفس خسيسة ، إذا مدحت اغترت وتكبرت ، فالذي ينبغي للشخص ، هضم النفس وذلها واستخفافها. قوله : (أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن) أي ولذا قيل : المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر ، قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

قوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي بمن أخلص في طاعته وتقواه ، فينتفع بها ويثاب عليها ، وأما المرائي ، فلا ينتفع بطاعته ، بل يعاقب عليها ، لأن الرياء يحبط العمل. قوله : (أي ارتد) أي بعد أن أسلم بالفعل ، وهذا أحد قولين ، وقيل : قارب الإسلام ولم يسلم بالفعل. قوله : (وأعطاه من ماله) الضمير المستتر في أعطى عائد على الذي تولى ، والبارز عائد على الذي ضمن له عذاب الله ، فتحصل أن الضامن جعل على المتولي شيئين : الرجوع إلى الشرك ، وأن يدفع له عددا معينا من ماله ، وجعل على نفسه هو شيئا واحدا ، وهو ضمان عذاب الله. قوله : (وَأَكْدى) هو في الأصل من أكدى الحافر إذا أصاب كدية منعته من الحفر ، ومثله أجبل ، أي صادف جبلا منعه من الحفر ، ثم استعمل في كل من طلب منه شيء فلم يعطه.

قوله : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) استفهام إنكاري بمعنى النفي ، أي ليس عنده علم الغيب. قوله : (فَهُوَ يَرى) عطف على قوله : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) فهي داخلة في حيز الاستفهام. قوله : (وهو

١٠٩

غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة ، لا ، وهو الوليد بن المغيرة أو غيره ، وجملة أعنده المفعول الثاني لرأيت بمعنى أخبرني (أَمْ) بل (لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) (٣٦) أسفار التوراة أو صحف قبلها (وَ) صحف (إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧) تمم ما أمر به نحو : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) وبيان ما (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣٨) الخ ، وأن مخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تحمل نفس ذنب غيرها (وَأَنْ) أي أنه (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) من خير ، فليس له من سعي غيره

____________________________________

الوليد بن المغيرة) أي وهو قول مقاتل وعليه الأكثر. قوله : (أو غيره) أي فقيل : هو العاص بن وائل السهمي ، وقيل : هو أبو جهل ، وهذا الخلاف في بيان الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى ، وأما الذي غره وضمن أن يحمل عنه العذاب ، فلم يذكروا تعيينه.

قوله : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى أَمْ) منقطعة ، والمعنى أبل لم يخبر بالذي في صحف موسى الخ ، حتى يغتر بما قيل له ، وقدم موسى لقرب عهده منهم ، وخص هذين الرسولين ، لأنهم كانوا قبل ابراهيم يأخذون الرجل بذنب غيره ، فكان الرجل إذا قتل ، وظفر أهل المقتول بأبي القاتل أو ابنه أو أخيه أو عمه أو خاله قتلوه ، حتى جاءهم ابراهيم ، فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.) قوله : (تمم ما أمر به) أي من تبليغ الرسالة ، وقيامه بالضيفان ، وخدمته إياهم بنفسه ، فكان يخرج يلتقي الضيفان من مسافة فرسخ ، فإن وجد الضيفان أكرمهم وأكل معهم ، وإلا نوى الصوم ، وصبره على النار ، وذبح ولده ، وقيل : المراد (وَفَّى) سهام الإسلام وهي ثلاثون : عشرة في التوبة (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) وعشرة في الأحزاب (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ،) وعشرة في المؤمنون (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وقيل : المراد (وَفَّى) بكلمات كان يقولهن إذا أصبح وإذا أمسى (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) إلى (تُظْهِرُونَ) والمعنى أنه ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به. قوله : (وبيان ما) أي فقوله (أن لا تزر) في محل جر بدل من ما في قوله : (بِما فِي صُحُفِ مُوسى) ويصح رفعه على أنه خبر لمحذوف ، أي هو (أَلَّا تَزِرُ) ونصبه على أنه مفعول لمحذوف. قوله : (وازِرَةٌ) صفة لموصوف محذوف ، أي نفس وازرة ، أي مكلفة بالوزر ، وليس المراد وازرة بالفعل. قوله : (وِزْرَ أُخْرى) أي وزر نفس أخرى. قوله : (الخ) المراد به قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ،) وهذا على فتح همزة (أَنَ) في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) وما بعده وهي ثمانية تضم لثلاث قبلها ، فتكون الجملة أحد عشر شيئا ، وأما على قراءة الكسر في هذه الثمانية ، فيكون المراد بقوله إلى آخره (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) فيكون البيان بالثلاثة الأول فقط. قوله : (وأن مخففة من الثقيلة) أي واسمها محذوف هو ضمير الشأن و (أَلَّا تَزِرُ) هو الخبر.

قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) استشكل هذا الحصر بأمور : منها أن الدال على الخير كفاعله ، ومنها واتبعتهم ذريتهم بإيمان ، ومنها إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، إلى قوله أو ولد صالح يدعو له ، ومنها غير ذلك. قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية : من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله ، فقد خرق الإجماع ، وذلك باطل من وجوه كثيرة ، أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها. ثالثها : لأهل الكبائر في الخروج من النار ، رابعها : أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في

١١٠

الخير شيء (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٤٠) أي يبصر في الآخرة (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١) الأكمل ، يقال : جزيته سعيه وبسعيه (وَأَنَ) بالفتح عطفا وقرىء بالكسر استئنافا ، وكذا ما بعدها ، فلا يكون مضمون الجمل في الصحف على الثاني (إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) المرجع والمصير بعد الموت فيجازيهم (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ) من شاء أفرجه (وَأَبْكى) (٤٣) من شاء أحزنه (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ) في الدنيا (وَأَحْيا) (٤٤) للبعث (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) (مِنْ نُطْفَةٍ) مني

____________________________________

الأرض. خامسها : أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته ، وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها : أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم. سابعها : قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً). ثامنها : أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع. تاسعها : أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة. عاشرها : أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها : المدين قد امتنع صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة ، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب ، وانتفع بصلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من عمل الغير ، إلى آخر ما قال. وأجيب بأجوبة منها : أن الآية منسوخة ، ورد بأنها خبر ، والأخبار لا تنسخ. ومنها : أن المراد بالإنسان الكافر. ومنها : أن هذا حكاية عما في صحف موسى وابراهيم فليس في شرعنا. قوله : (أي يبصر في الآخرة) أي لأن العمل يصور بصورة جميلة إن كان صالحا ، وقبيحة إن كان سيئا ، ليكون سرورا للمؤمن ، وحزنا للكافر.

قوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ) الضمير المرفوع عائد على الإنسان ، والمنصوب عائد على السعي. قوله : (الْجَزاءَ الْأَوْفى) مصدر مبين للنوع. قوله : (يقال جزيته سعيه) الخ ، أشار بذلك إلى أن الجزاء يتعدى للمفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر. قوله (بالفتح عطفا) أي على قوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ) الخ ، وعليه فيكون بدلا من جملة (بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ.) قوله : (وقرىء بالكسر استئنافا) أي وعليه فيكون زائدا على ما في صحف موسى وابراهيم ، لأن القرآن فيه ما في الصحف وزيادة. قوله : (وكذا ما بعدها) أي من قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) إلى قوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) والكسر شاذ.

قوله : (إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي منتهى أمر الخلق ومرجعهم إليه تعالى ، وهذا كالدليل لقوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) وكأنه قال : الله يجزي الإنسان على أعماله الجزء الأوفى ، لأنه إليه المنتهى في الأمور كلها ، وإذا كان كذلك ، فينبغي للإنسان أن يرجع إلى ربه في أموره كلها ، ولا يعول على شيء من الأشياء ، لأنه الآخذ بالنواصي ، واختلف في المخاطب بقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فقيل كل عاقل ، وقيل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا على قراءة الكسر ، وأما على قراءة الفتح فقيل كل عاقل ؛ وقيل موسى وابراهيم على سبيل التوزيع ، لأنه محكي عن صحفهما. قوله : (أفرحه) أشار بذلك إلى أن الضحك مستعمل في حقيقته ، وكذا البكاء ، وأن مفعول كل من الفعلين محذوف.

قوله : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) الخ ، الحكمة في إسقاط ضمير الفصل في هذا ، وإثباته في قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) الإشارة لدفع توهم أن للمخلوق مدخلا في الإضحاك والإبكاء ، والإماتة والإحياء ، فأكّده بالفصل ، ولما لم يحصل في خلق الذكر والأنثى وما بعده ، توهم أن

١١١

(إِذا تُمْنى) (٤٦) تصب في الرحم (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ) بالمد والقصر (الْأُخْرى) (٤٧) الخلقة الأخرى للبعث بعد الخلقة الأولى (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى) الناس بالكفاية بالأموال (وَأَقْنى) (٤٨) أعطى المال المتخذ قنية (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٤٩) هو كوكب خلف الجوزاء كانت تعبد في الجاهلية (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) (٥٠) وفي قراءة بإدغام التنوين في اللام وضمها بلا همز هي قوم هود ، والأخرى قوم صالح (وَثَمُودَ) بالصرف اسم للأب ، وبلا صرف للقبيلة ، وهو معطوف على عادا (فَما أَبْقى) (٥١) منهم أحدا (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي قبل عاد وثمود أهلكناهم (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢) من عاد وثمود ، لطول لبث نوح فيهم ، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، وهم مع عدم إيمانهم به يؤذونه ويضربونه (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) وهي قرى قوم لوط (أَهْوى) (٥٣) أسقطها بعد رفعها إلى السماء مقلوبة إلى الأرض ، يأمره جبريل بذلك (فَغَشَّاها) من الحجارة بعد ذلك (ما غَشَّى) (٥٤) أبهم تهويلا وفي هود (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ

____________________________________

للغير مدخلا لم يؤكده بضمير الفصل. قوله : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي بحكم الوعد الكائن في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) إذ لا يجب عليه تعالى فعل شيء ولا تركه. قوله : (بالمد والقصر) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أعطى المال المتخذ قنية) أي الذي يدوم عند صاحبه.

قوله : (رَبُّ الشِّعْرى) اعلم أن الشعرى في لسان العرب كوكبان : أحدهما الشعرى العبور ، وتسمى الشعرى اليمانية تطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، كانت تعبدها خزاعة من العرب ، وأول من سن عبادتها رجل من ساداتهم يقال له أبو كبشة ، وهي المرادة في الآية ، والثاني الشعرى الغميصاء ، بضم الغين وفتح الميم من الغمص بفتحتين وهو سيلان دمع العين. قوله : (بإدغام التنوين) أي بعد قلبه لاما. وقوله : (في اللام) أي لام التعريف ، وقوله : (وضمها) أي بنقل حركة همزة أولى إليها ، وقوله : (بلا همز) أي للواو التي بعد اللام المدغم فيها التنوين ، وبقي قراءة ثالثة سبعية أيضا ، وهي هذه القراءة بعينها ، إلا أن الواو المذكورة تقلب همزة ساكنة. قوله : (هي قوم هود) أي وسميت أولى ، لتقدمها في الزمان على عاد الثانية التي هي قوم صالح وهم ثمود ، فأهلكت الأولى بالريح الصرصر ، والثانية بصيحة جبريل ؛ وتسمى كل من القبلتين عادا ، لأن جدهم واحد ، وهو عاد بن ارم بن سام بن نوح عليه‌السلام. قوله : (وهو معطوف على عادا) أي ويصح نصبه بفعل محذوف تقديره وأهلك ثمودا ، وليس منصوبا بأبقى ، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها. قوله : (أهلكناهم) صوابه أهلكهم ، وأشار بذلك إلى أن قوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ) منصوب بفعل محذوف ويصح عطفه على ما قبله.

قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) الضمير عائد على قوم نوح خاصة ، وعليه مشى المفسر ، وبصح عوده على الفرق الثلاث. والمعنى : أظلم وأطغى من غيرهم. قوله : (يؤذونه ويضربونه) أي حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. قوله : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) منصوب بأهوى ، قدم رعاية للفاصلة. ومعنى المؤتفكة المنقلبة ، لأن الائتفاك الانقلاب. قوله : (مقلوبة) حال من ضمير (أسقطها). قوله : (فَغَشَّاها) ألبسها وكساها ، والفاعل ضمير عائد على الله تعالى ، وقوله : (ما غَشَّى)

١١٢

سِجِّيلٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ) أنعمه الدالة على وحدانيته وقدرته (تَتَمارى) (٥٥) تشكك أيها الإنسان أو تكذب (هذا) محمد (نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (٥٦) من جنسهم ، أي رسول كالرسل قبله أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) (٥٧) قربت القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) نفس (كاشِفَةٌ) (٥٨) أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو كقوله : (لا يجليها لوقتها إلا هو) (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن (تَعْجَبُونَ) (٥٩) تكذيبا (وَتَضْحَكُونَ) استهزاء (وَلا تَبْكُونَ) (٦٠) لسماع وعده ووعيدطه (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) لاهون غافلون عما يطلب منكم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) الذي خلقكم (وَاعْبُدُوا) (٦٢) ولا تسجدوا للأصنام ولا تعبدوها.

____________________________________

مفعول به. قوله : (تهويلا) أي تفخيما وتعظيما. والمعنى : غشاها أمرا عظيما من حجارة وغيرها ، مما لا يسع العقول وصفه. قوله : (وفي هود فجعلنا) الخ ، الصواب أن يقول ، وفي هود (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) الخ ، أو يقول : وفي الحجر (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) ، وأمطرنا عليهم بدل قوله عليها. قوله : (فَبِأَيِ) الباء ظرفية متعلقة بتتمارى ، والمعنى : في أي آلاء ربك تتشكك. قوله : (أيها الإنسان) أي مطلقا ، وقيل : المراد به الوليد بن المغيرة ، وقيل : الخطاب للنبي ، والمراد غيره.

قوله : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) النذير بمعنى المنذر ، والتنوين للتفخيم. قوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أزف من باب تعب دنا وقرب. قوله : (قربت القيامة) أي الموصوفة بالقرب ، فهي في نفسها قريبة من يوم خلق الله الدنيا ، لأن كل آت قريب ، وقد زادت قربا ببعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه من أمارات الساعة كما هو معلوم. قوله : (نفس) (كاشِفَةٌ) أشار بذلك إلى أن (كاشِفَةٌ) صفة لموصوف محذوف. قوله : (أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو) أي فهو من كشف الشيء عرف حقيقته ، ويصح أن يكون من كشف الضر أزاله. والمعنى : ليس لها مزيل غيره تعالى ، لكنه لم يفعل ذلك ، لأنه سبق في علمه وقوعها.

قوله : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) متعلق بتعجبون. قوله : (تكذيبا) قيد به لأن التعجب قد يكون استحسانا ، وكذا يقال في قوله : (استهزاء). قوله : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) إما مستأنف أو حال. قوله : (لاهون غافلون) أي فالسمود اللهو والغفلة ، وقيل : الإعراض والاستكبار. قوله : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) يحتمل أن المراد به سجود الصلاة ، وهو ما عليه مالك ، ويحتمل أن المراد سجود التلاوة ، وبه أخذ الشافعي وأبو حنيفة ، ويؤيده ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد في النجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ، إلا أبيّ بن خلف ، رفع كفا من تراب على جبهته وقال : يكفي هذا. قوله : (وَاعْبُدُوا) عطف عام على خاص ، وقوله : (ولا تسجدوا للأصنام) الخ ، أخذه من لام الاختصاص ومن السياق.

١١٣

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القمر

مكيّة

وآياتها خمس وخمسون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) قربت القيامة (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) انفلق فلقتين على أبي قبيس وقعيقعان آية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد سئلها فقال : اشهدوا ، رواه الشيخان (وَإِنْ يَرَوْا) أي كفار قريش (آيَةً) معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا) هذا (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) قوي من

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة القمر مكية

إلا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) الآية. وهي خمس وخمسون آية

جميع فواصل آياتها على الراء الساكنة. قوله : (الْآيَةَ) أي وآخرها (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قوله : (وقربت القيامة) أشار بذلك إلى أن الفعل المزيد بمعنى المجرد ، وإنما أتى بالمزيد مبالغة ، لأن زيادة البناء ، تدل على زيادة المعنى ، والمراد بالقيام خروج الناس من القبور ، وله أسماء كثيرة : الحاقة ، والواقعة ، ويوم الدين ، ويوم الجزاء ، وغير ذلك. قوله : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) اعلم أنه يسمى قمرا بعد ثلاث من الشهر ، وقبلها هلالا إلى أربع عشرة ، وليلتها يسمى بدرا. قوله : (فلقتين) تثنية فلقة بالكسر كقطعة وزنا ومعنى ، والانشقاق كان قبل الهجرة بخمس سنين ، وهل كان ليلة أربع عشرة من الشهر أو لا؟ لم يثبت ، وأما قول البوصيري :

شق عن صدره وشق له البد

ر ومن شرط كل شرط جزاء

فإن كان عن نقل صحيح فهو مقبول لأنه حجة ، وإلا فتسميته بدرا مجاز ، وما ذكره المفسر من أنه انفلق بالفعل هو المشهور ، وقيل : المعنى سينشق القمر إذا قامت القيامة ، لأن السماء تنشق حينئذ بما فيها ، وقيل : إن المعنى ظهر الأمر واتضح. قوله : (وقعيقعان) هو جبل مقابل أبي قبيس. قوله : (وقد سئلها) الجملة حالية ، والمسؤول إما مطلق آية ، أو خصوص انشقاق القمر ، روايتان. قوله : (فقال اشهدوا) أي بأني رسول الله ، ولست بساحر كما تزعمون. قوله : (يُعْرِضُوا) أي عن الإيمان بها. قوله : (هذا) (سِحْرٌ) اشار بذلك إلى أن (سِحْرٌ) خبر لمحذوف. قوله : (قوي أو دائم) هذان قولان من أربعة

١١٤

المرة القوة أو دائم (وَكَذَّبُوا) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في الباطل (وَكُلُّ أَمْرٍ) من الخير والشر (مُسْتَقِرٌّ) (٣) بأهله في الجنة أو النار (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أخبار إهلاك الأمم المكذبة رسلهم (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) لهم اسم مصدر أو اسم مكان ، والدال بدل من تاء الافتعال ، وازدجرته وزجرته نهيته بغلظة ، وما موصولة أو موصوفة (حِكْمَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أو من مزدجر (بالِغَةٌ) تامة (فَما تُغْنِ) تنفع فيهم (النُّذُرُ) (٥) جمع نذير بمعنى منذر ، أي الأمور المنذرة لهم ، وما للنفي أو للاستفهام الإنكاري ، وهي على الثاني مفعول مقدم (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) هو فائدة ما قبله وتم به الكلام (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) هو إسرافيل ، وناصب يوم يخرجون بعد (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦) بضم الكاف وسكونها أي منكر تنكره النفوس لشدته وهو الحساب

____________________________________

أقوال ، والثالث أن معناه ذاهب ، لا يبقى مأخوذ من المرور ، والرابع أن معناه مر بشع لا نقدر أن نسيغه كما لا نسيغ المر.

قوله : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا) عبر بالماضي إشارة إلى أن التكذيب واتباع الهوى من عاداتهم ودأبهم. قوله : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) جملة مستأنفة مركبة من مبتدإ وخبر ، قاطعة لأطماعهم الكاذبة ، والمعنى : كل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. قوله : (مُسْتَقِرٌّ) (بأهله) الباء بمعنى اللام ، والمعنى : ثابت لأهله ما ينشأ عنه من ثواب وعقاب. قوله : (أو اسم مكان) أي على أن فيه تجريدا ، والمعنى أنه موضع ازدجار. قوله : (بدل من تاء الافتعال) أي لأن الزاي حرف مجهور ، والتاء حرف مهموس ، فأبدلوها إلى حرف مجهور قريب من التاء وهو الدال ، وكما تقلب تاء الافتعال دالا بعد الزاي ، كذلك تقلب دالا بعد الدال والذال ، قال ابن مالك : في ادان وازدد وادكر دالا بقي. قوله : (وما موصولة أو موصوفة) أي وهي فاعل بجاء ، و (مِنَ الْأَنْباءِ) حال منها. قوله : (أو بدل من ما) أي بدل كل من كل ، أو بدل اشتمال. قوله : (بالِغَةٌ) (تامة) أي لا خلل فيها.

قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) حذفت الياء لفظا لالتقاء الساكنين ، وتحذف في الخط اتباعا للفظ ولرسم المصحف. قوله : (أي الأمور المنذرة لهم) أي كما وقع للأمم السابقة من العذاب. قوله : (مفعول مقدم) أي مفعول به ، والمعنى : فأي شيء من الأشياء النافعة تغني النذر أو مفعول مطلق ، والمعنى فأي إغناء تغني النذر. قوله : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) قيل : منسوخة بآية السيف ، وقيل : غير منسوخة بل معناها : فتول عنهم ولا تكلمهم بل قاتلهم. قوله : (هو فائدة ما قبله) أي نتيجته وثمرته.

قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) حذفت الواو من يدع لفظا لالتقاء الساكنين ، وخطا تبعا لرسم المصحف وللفظ ، وحذفت الياء من الداع خطا ، لأنها من ياءات الزوائد ، وأما في اللفظ فقرىء في السبع بإثباتها وحذفها ، وكذا يقال في الداع الآتي. قوله : (هو إسرافيل) هذا أحد قولين ، وقيل : هو جبريل يقول في ندائه : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتفرقة ، والشعور المتمزقة ، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. قوله : (وناصب يخرجون بعده) أي أو محذوف تقديره اذكر. قوله : (بضم الكاف) الخ ، أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (تنكره النفوس) أي جميعها أو نفوس الكفار ، لأن

١١٥

(خُشَّعاً) ذليلا ، وفي قراءة خشعا بضم الخاء وفتح الشين مشدّدة (أَبْصارُهُمْ) حال من فاعل (يَخْرُجُونَ) أي الناس (مِنَ الْأَجْداثِ) القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٧) لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة ، والجملة حال من فاعل يخرجون ، وكذا قوله (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين مادّين أعناقهم (إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ) منهم (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) (٨) أي صعب على الكافرين كما في المدثر (يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) قبل قريش (قَوْمُ نُوحٍ) تأنيث الفعل لمعنى قوم (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) نوحا (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) (٩) أي انتهروه بالسبّ وغيره (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي) بالفتح أي بأني (مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠) (فَفَتَحْنا) بالتخفيف والتشديد (أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ

____________________________________

المؤمنين حينئذ يكونون آمنين. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (حال) أي قوله : خاشعا و (أَبْصارُهُمْ) فاعل به ، وأسند الخشوع للأبصار ، لأنه يظهر فيها أكثر من بقية البدن. قوله : (أي الناس) أي مؤمنهم وكافرهم.

قوله : (مِنَ الْأَجْداثِ) جمع جدث بفتحتين ، كفرس وأفراس. قوله : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي في الكثرة والانتشار في الأمكنة. قوله : (لا يدرون أين يذهبون) الخ. اعلم أن الناس حين الخروج من القبور ، شبهوا في هذه الآية بالجراد المنتشر ، وفي الآية الأخرى بالفراش المبثوث ، فمن حيث تحيرهم وتداخل بعضهم في بعض ، شبهوا بالفراش المبثوث ، ومن حيث انتشارهم وقصدهم الجهة التي يجتمعون فيها ، شبهوا بالجراد المنتشر ، إذا علمت ذلك ، فما قاله المفسر لا يناسب تشبيههم بالجراد بل الفراش ، هكذا قالوا فتدبر. قوله : (مادين أعناقهم) الخ ، أي فمعنى (مُهْطِعِينَ) مادين الأعناق مع سرعة المشي. قوله : (يَقُولُ الْكافِرُونَ) الخ ، استئناف وقع جوابا عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال وشدائدها ، كأنه قيل : فما يقول الكافر حينئذ؟ قوله : (كما في المدثر) أي ففي المدثر ما يفيد أن الصعوبة والشدة لخصوص الكافر.

قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) تفصيل لما أجمل أولا في قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ.) قوله : (لمعنى قوم) أي وهو الأمة. قوله : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) تفصيل لقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) فالمكذب والمكذب في الموضعين واحد. قوله : (وَازْدُجِرَ) عطف على (قالُوا) والمعنى قالوا مجنون وانتهروه. قوله : (وغيره) أي كالضرب والخنق ، فكانوا يضربونه ويخنقونه حتى يغشى عليه فيتركونه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

قوله : (فَدَعا رَبَّهُ) أي بعد صبره عليهم الزمن الطويل ، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يعالجهم فلم يفد فيهم شيئا. قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ) بفتح الهمزة في قراءة العامة على حكاية المعنى ، ولو حكى اللفظ لقال إنه مغلوب ، وقرىء شذوذا بكسر الهمزة على إضمار القول. والمعنى : فدعا ربه قائلا : (أَنِّي مَغْلُوبٌ.) قوله : (فَانْتَصِرْ) أي انتقم لي منهم ، وذلك بعد يأسه من إيمانهم ، حيث أوحى الله إليه ، إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، ودعا عليهم أيضا بقوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) وبقوله (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

١١٦

مُنْهَمِرٍ) (١١) منصبّ انصبابا شديدا (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) تنبع (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء والأرض (عَلى أَمْرٍ) حال (قَدْ قُدِرَ) (١٢) قضي به في الأزل وهو هلاكهم غرقا (وَحَمَلْناهُ) أي نوحا (عَلى) سفينة (ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (١٣) وهو ما تشدّ به الألواح من المسامير وغيرها ، واحدها دسار ككتاب (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا أي محفوظة (جَزاءً) منصوب بفعل مقدر ، أي أغرقوا انتصارا (لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤) وهو نوح عليه‌السلام وقرىء كفر بناء للفاعل ، أي أغرقوا عقابا لهم (وَلَقَدْ تَرَكْناها) أبقينا هذه الفعلة (آيَةً) لمن يعتبر بها ، أي شاع خبرها واستمر ، (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٥) معتبر ومتعظ بها ، وأصله مذتكر ، أبدلت التاء دالا مهملة ، وكذا المعجمة ، وأدغمت فيها (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٦) أي إنذاري استفهام تقرير ، وكيف خبر كان ، وهي للسؤال عن الحال ، والمعنى : حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى بالمكذبين لنوح موقعه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١٧) متعظ به وحافظ له

____________________________________

قوله : (فَفَتَحْنا) عطف على محذوف تقديره فاستجبنا له. قوله : (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (أَبْوابَ السَّماءِ) أي جميعها ويؤخذ من ذلك أن السماء لها أبواب حقيقة وتغلق وهو كذلك. قوله : (بِماءٍ) الباء للتعدية مبالغة ، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها. قوله : (مُنْهَمِرٍ) المنهمر الغزير النازل بقوة. قوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) تمييز محول عن المفعول ، لأن أصله : وفجرنا عيون الأرض. قوله : (تنبع) أي تخرج من العين ، ومكث الماء يصب من السماء وينبع من الأرض أربعين يوما ، قيل : كان ماء السماء باردا مثل الثلج ، وماء الأرض حارا مثل الحميم ، وهل كان ماء السماء أكثر أو ماء الأرض أو مستويين أقوال. قوله : (فَالْتَقَى الْماءُ) أي جنسه الصادق بماء السماء والأرض. قوله : (وغيرها) أي كالصفائح والخشب الذي يسمر فيه الألواح والخيوط ونحوها. قوله : (جمع دسار) وقيل : جمع دسر بسكون السين كسقف وسقف.

قوله : (تَجْرِي) صفة ثانية للموصوف المحذوف. قوله : (بِأَعْيُنِنا) حال من ضمير (تَجْرِي). قوله : (منصوب بفعل مقدر) أي مفعول لأجله. قوله : (وهو نوح) أي لأنه نعمة كفروها ، إذ كل نبي نعمة على أمته. قوله : (وقرىء) أي شذوذا. قوله : (هذه الغفلة) أي وهي الغرق على هذا الوجه ، وقيل هي السفينة بناء على أنها بقيت على الجودي زمانا مديدا ، حتى رآها أوائل هذه الأمة. قوله : (معتبر متعظ بها) أي يعتبر بما صنع الله بقوم نوح ، فيترك المعصية ، ويفعل الطاعة. قوله : (وكذا المعجمة) أي الذال التي قبل التاء أبدلت دالا مهملة ، وقوله : (وأدغمت) أي الدال المهملة المنقلبة عن المعجمة ، وقوله : (فيها) أي في الدال المنقلبة عن التاء.

قوله : (وَنُذُرِ) بإثبات الياء لفظا وحذفها قراءتان سبعيتان ، وأما في الرسم فلا تثبت لأنها من ياءات الزوائد ، وكذا يقال في المواضع الآتية. قوله : (وكيف خبر كان) أي فهي ناقصة و (عَذابِي) اسمها. قوله : (وهي للسؤال عن الحال) أي فإذا أردت أن تختبر حال شخص تقول له : كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم مثلا؟ قوله : (بوقوع عذابه تعالى) الخ ، أي أنه في غاية العدل ، فلا ظلم فيه ولا جور. قوله : (سهلناه للحفظ) أي أعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ، وليس من

١١٧

والاستفهام بمعنى الأمر ، أي احفظوه واتعظوا به ، وليس يحفظ من كتب الله عن ظهر القلب غيره (كَذَّبَتْ عادٌ) نبيهم هودا فعذبوا (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٨) أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، أي وقع موقعه وقد بيّنه بقوله (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي شديد الصوت (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) شؤم (مُسْتَمِرٍّ) (١٩) دائم الشؤم أو قويه ، وكان يوم الأربعاء آخر الشهر (تَنْزِعُ النَّاسَ) تقلعهم من حفر الأرض المندسين فيها وتصرعهم على رؤوسهم فتدق رقابهم فتبين الرأس عن الجسد (كَأَنَّهُمْ) وحالهم ما ذكر (أَعْجازُ) أصول (نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٢٠) منقطع ساقط على

____________________________________

كتاب يقرأ عن ظهر قلب إلا القرآن ، ولم يكن هذا لبني إسرائيل ، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرا ، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلب حين أحرقت ، ومن هذا المعنى قوله تعالى في الحديث القدسي : وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم. قوله : (أو هيأناه للتذكر) أي بأن أودعنا فيه أنواع المواعظ والعبر ، وبالجملة فقد جعل الله القرآن مهيأ ومسهلا لمن يريد حفظ اللفظ ، أو حفظ المعنى ، أو الاتعاظ به ، فهو رأس سعادة الدنيا والآخرة. قوله : (والاستفهام بمعنى الأمر) أي فهو للتحضيض. قوله : (أي احفظوه واتعظوا به) أي ليكمل لكم الاصطفاء ، فإن من أتاه الله القرآن حفظا أو اتعاظا ، فقد جعله الله من أهله ، ومن جمع بين الأمرين ، فهو على أكمل الأحوال.

قوله : (كَذَّبَتْ عادٌ) الخ ، هذا أيضا من جملة تفصيل قوله (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وذكر قصة عاد عقب قصة نوح ، لأنهم ذرية نوح ، لأن عادا هو ابن إرم بن سام بن نوح. قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) مرتب على محذوف قدره بقوله : (فعذبوا). قوله : (أي وقع موقعه) أي فتعذيبه لهم عدل منه تعالى ، لأنه أنذرهم أولا على لسان نبيهم فلم يؤمنوا ، وذلك لأنه جرت عادة الله تعالى ، أنه لا يؤاخذ عبدا بغير جرم تنزلا منه تعالى ، وإلا فلو أخذ عباده بغير جرم لا يسمى ظالما ، لأنه تصرف في ملكه ، والظلم التصرف في ملك الغير بغير إذنه. قوله : (وقد بينه بقوله) الخ ، أشار بذلك إلى أن قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا) الخ ، تفصيل لما أجمل أولا. قوله : (شؤم) أي غير مبارك. قوله : (دائم الشؤم) أي إلى الأبد عليهم ، وهو يوم مبارك على هود ومن تبعه ، فهو يوم نحس على الكافرين ، ويوم مبارك على المؤمنين. قوله : (أو قوية) أي فهو مأخوذ من المرة وهي القوة ، وفي الحقيقة هو دائم الشؤم قوية. قوله : (آخر الشهر) أي شهر شوال لثمان بقين منه ؛ واستمر إلى غروب الشمس من يوم الأربعاء آخره ، والمعنى أنه أتاهم العذاب يوم الأربعاء ، والباقي من شوال ثمانية أيام ، فاستمر عليهم لآخره ، قال تعالى في سورة الحاقة (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) إذا علمت ذلك ، فليس المراد بقول المفسر : (آخر الشهر) أن يوم نزول العذاب ، كان آخر الشهر ، بل هو منتهاه.

قوله : (تَنْزِعُ النَّاسَ) أظهر في مقام الإضمار ، ليكون صريحا في عموم الذكور ، وإلا فمقتضى الظاهر تنزعهم. قوله : (المندسين فيها) أي فقد روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر ، وتمسك بعضهم ببعض ، فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى. قوله : (وحالهم ما ذكر) الجملة حالية من ضمير كأنهم ، وفيه إشارة إلى أن قوله : (كَأَنَّهُمْ) حال من الناس مقدرة ، وذلك لأنهم حين إخراجهم من الحفر ، لم

١١٨

الأرض ، وشبهوا بالنخل لطولهم ، وذكّر هنا ، وأنّث في الحاقة (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) مراعاة للفواصل في الموضعين (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢١) (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) (٢٣) جمع نذير بمعنى منذر ، أي بالأمور التي أنذرهم بها نبيهم صالح إن لم يؤمنوا به ويتبعوه (فَقالُوا أَبَشَراً) منصوب على الاشتغال (مِنَّا واحِداً) صفتان لبشرا (نَتَّبِعُهُ) مفسر للفعل الناصب له ، والاستفهام بمعنى النفي ، المعنى : كيف نتبعه ونحن جماعة كثيرة وهو واحد منا وليس بملك ، أي لا نتبعه (إِنَّا إِذاً) أي إن اتبعناه (لَفِي ضَلالٍ) ذهاب عن الصواب (وَسُعُرٍ) (٢٤) جنون (أَأُلْقِيَ) بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين وتركه (الذِّكْرُ) الوحي (عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أي لم يوح إليه (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ) في قوله : إنه أوحي إليه ما ذكر (أَشِرٌ) (٢٥) متكبر بطر ، قال تعالى (سَيَعْلَمُونَ غَداً) في الآخرة (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) (٢٦) وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم نبيهم صالحا (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) مخرجوها من الهضبة

____________________________________

يكونوا كإعجاز النخل ، بل كانوا كذلك بعد ما حصل لهم ما ذكر. قوله : (أصول) (نَخْلٍ) المراد بها النخل بتمامها من أولها لآخرها ما عدا الفروع والمعنى كأنهم نخل قد قطعت رؤوسه. قوله : (منقلع) تفسير لمنقعر ، وفيه إشارة إلى قوتهم وثبات أجسامهم في الأرض ، فكأنهم لعظم أجسامهم وكمال قوتهم ، يقصدون مقاومة الريح فلم يستطيعوا ، لأنها لشدتها تقلعهم ، كما تقلع النخل من الأرض. قوله : (وذكر هنا) أي حيث قال منقعر ، ولم يقل منقعره ، وقوله : (وأنث في الحاقة) أي حيث قال خاوية ولم يقل خاو. قوله : (في الموضعين) أي فهنا الفاصلة على الراء وهناك على الهاء.

قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) كرره للتهويل والتعجيب من أمرهم. قوله : (أي الأمور التي أنذرهم بها) هذا أحد وجهين في تفسير النذر ، والثاني أنه جمع نذير ، بمعنى الرسل المنذرين لهم ، وجمعهم لأن من كذب رسولا فقد كذب جميع الرسل. قوله : (منصوب على الاشتغال) أي وهو الفصيح الراجح لتقدم أداة هي بالفعل أولى. قوله : (والاستفهام بمعنى النفي) أي فهو إنكاري. قوله : (جنون) أي فسعر مفرد ، ويصح أن يكون جمع سعير وهو النار. قوله : (وإدخال ألف بينهما) الخ ، أي فالقراءات أربع سبعيات. قوله : (مِنْ بَيْنِنا) حال من الهاء في (عَلَيْهِ) والمعنى : أخص بالرسالة منفردا من بيننا ، وفينا من أكثر منه مالا أحسن حالا. قوله : (أي لم يوح إليه) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (قال تعالى) أي وعيدا لهم ووعدا له. قوله : (أي في الآخرة) هذا أحد قولين في تفسير الغد ، وقيل : المراد به يوم نزول العذاب الذي حل بهم في الدنيا. قوله : (مَنِ الْكَذَّابُ) مبتدأ وخبر ، والجملة سدت مسد المفعولين ، والمعنى : سيعلمون غدا أي فريق هو الكذاب الأشر ، أهو هم أو صالح عليه‌السلام.

قوله : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) استئناف مسوق لبيان مبادي الموعود به من العذاب ، وذلك لأنه جرت عادة الله تعالى ، أنه إذا أراد تعذيب قوم ، اقترحوا آية ولم يؤمنوا بها ، ورد أنهم قالوا لصالح عليه‌السلام : نريد أن نعرف المحق منا ، بأن ندعو آلهتنا وتدعو إلهك ، فمن أجابه إلهه علمنا أنه المحق ، فدعوا أوثانهم فلم تجبهم فقالوا : ادع أنت فقال : فما تريدون؟ قالوا : تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء ،

١١٩

الصخرة كما سألوا (فِتْنَةً) محنة (لَهُمْ) لنختبرهم (فَارْتَقِبْهُمْ) يا صالح أي انتظر ما هم صانعون وما يصنع بهم (وَاصْطَبِرْ) (٢٧) الطاء بدل من تاء الافتعال ، أي اصبر على أذاهم (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ) مقسوم (بَيْنَهُمْ) وبين الناقة ، فيوم لهم ويوم لها (كُلُّ شِرْبٍ) نصيب من الماء (مُحْتَضَرٌ) (٢٨) يحضره القوم يومهم ، والناقة يومها ، فتمادوا على ذلك ثم ملوه فهموا بقتل الناقة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قدارا ليقتلها (فَتَعاطى) تناول السيف (فَعَقَرَ) (٢٩) به الناقة أي قتلها موافقة لهم (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣٠) أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، أي وقع موقعه ، وبينه بقوله (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٣١) هو الذي يجعل لغنمه حظيرة من يابس الشجر والشوك ، يحفظهن فيها من الذئاب والسباع ، وما سقط من ذلك فداسته هو الهشيم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٣٢) (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) (٣٣) أي بالأمور المنذرة لهم على لسانه (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) ريحا ترميهم بالحصباء ، وهي صغار

____________________________________

فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان ، فوعدوه بذلك وأكدوا ، فكذبوه ثانيا بعد ما كذبوا أولا في أن آلتهم تجيبهم. قوله : (من الهضبة) بفتح الهاء وسكون الضاد ، وهو الجبل المنبسط على الأرض ، ويجمع على هضب وهضاب. قوله : (فِتْنَةً لَهُمْ) مفعول لأجله. قوله : (بدل من تاء الافتعال) أي لوقوعها إثر حرف من حروف الإطباق وهو الصاد. قوله : (وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم. قوله : (أَنَّ الْماءَ) أي وهو ماء بئرهم الذي كانوا يشربون منه. قوله : (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) (وبين الناقة) ظاهره أن الضمير في بينهم واقع عليهم فقط ، وأن في الكلام حذف الواو مع ما عطفت ، والأسهل أن الضمير واقع عليهم وعلى الناقة ، على سبيل التغليب. قوله : (ويوم لها) أي فكانت لا تبقي شيئا في البئر ، ويومها يكتفون بلبنها.

قوله : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) مرتب على محذوف قدره بقوله : (فتمادوا على ذلك) الخ ، والمعنى : أنهم بقوا على ذلك مدة ، ثم ملوا من ضيق الماء والمرعى عليهم وعلى مواشيهم ، فأجمعوا على قتلها ، فقال بعضهم لبعض : نكمن للناقة حيث تمر إذا صدرت عن الماء ، فاجتمعوا وكمن لها قدار ابن سالف في أصل شجرة في طريقها التي تمر بها ، فرماها فقطع عضلة ساقها ، فوقعت وأحدثت ورغت رغاءة واحدة ثم نحرها. قوله : (موافقة لهم) قصد بذلك الجمع بين ما هنا وما في الشعراء حيث قال (فعقروها) فتحصل أن مباشرة القتل كان منه ، لكن إجماعهم عليه.

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً) أي صاح بهم جبريل في اليوم الرابع من عقر الناقة ، وذلك أن عقرها يوم الثلاثاء ، فتوعدهم صالح بالعذاب ، وأخبرهم بأنهم يصبحون يوم الأربعاء صفر الوجوه ، ويوم الخميس حمر الوجوه ، ويوم الجمعة سود الوجوه ، وفي السبت ينزل بهم العذاب ، وكان الأمر كما ذكر. قوله : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) تشبيه لإهلاكهم ، والحظيرة زريبة الغنم ونحوها ، والمحتظر بكسر الظاء اسم فاعل ، وهو الذي يتخذ حظيرة من الحطب وغيره ، لتكون وقاية لمواشيه من الحر والبرد والسباع.

قوله : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ) أي وهم الجماعة الذين سكن عندهم وأرسل لهم ، وذلك أن لوطا هو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما‌السلام ، خرج مع عمه من العراق ، فنزل إبراهيم بفلسطين ، ولوط

١٢٠