رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٦

(وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) بالعلم والنبوة ، وإلانة الحديد ، وتسخير الشياطين والجن والإنس.

وفي هذه الآية دليل ظاهر وبرهان باهر على شرف العلماء وإنافة محلهم ، ودلائل شرفهم النقلية والعقلية كثيرة ، ولو لم يكن لهم من مراتب الإنافة إلا أن الله تعالى فضلهم على الكافة ، فقال : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١]. اللهم فألبسنا من مدارعه أضفاها ، وأوردنا من مشاربه (١) أصفاها.

قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) يعني : ورث منه النبوة والملك والعلم دون سائر بنيه ، وكان له تسعة عشر ذكرا ، فخص بذلك من بينهم.

(وَقالَ) ذاكرا لإحسان الله تعالى إليهم وشاكرا لأنعمه عليهم (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي : فهمنا لغة الطير.

قال قتادة : والنمل من الطير (٢).

ويروى : أن سليمان عليه‌السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله ونبيه أعلم ، قال : يقول : أكلت نصف تمرة ، فعلى الدنيا العفاء (٣).

__________________

(١) في ب : مشارعه.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٥٥). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٧) وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٥) ، والمناوي في فيض القدير (١ / ٨٧).

٤٤١

وصاحت فاختة (١) يوما فقال : إنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا (٢).

وصاح طاووس (٣) فقال : يقول : كما تدين تدان (٤).

وصاح هدهد (٥) فقال : يقول : استغفروا الله يا مذنبين (٦).

وصاح طيطوى (٧) فقال : يقول : كل حي ميت ، وكل جديد بآل (٨).

وصاح خطاف (٩) فقال : قدموا خيرا تجدوه (١٠).

وصاحت رخمة (١١) فقال : تقول : سبحان ربي الأعلى ، ملأ سمائه وأرضه (١٢).

وصاح قمري (١٣) فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى (١٤).

__________________

(١) الفاختة : واحدة الفواخت ، وهي ضرب من الحمام المطوق (اللسان ، مائدة : فخت).

(٢) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٥) ، والمناوي في فيض القدير (١ / ٨٧).

(٣) الطاووس : طائر حسن (اللسان ، مائدة : طوس).

(٤) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٥).

(٥) الهدهد : طائر معروف ، وهو مما يقرقر (اللسان ، مائدة : هدد).

(٦) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٥ ـ ١٦٦).

(٧) الطيطوى : ضرب من الطير معروف (اللسان ، مائدة : طيط).

(٨) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦) ، والمناوي في فيض القدير (١ / ١٠٢).

(٩) الخطاف : طائر معروف ، وقيل : هو العصفور الأسود ، وهو الذي تدعوه العامة : عصفور الجنة ، وجمعه : خطاطيف (اللسان ، مائدة : خطف).

(١٠) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(١١) الرخمة : طائر أبقع على شكل النسر خلقة إلا أنه مبقع بسواد وبياض (اللسان ، مائدة : رخم).

(١٢) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(١٣) القمري : طائر يشبه الحمام القمر البيض (اللسان ، مائدة : قمر).

(١٤) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

٤٤٢

وقال : الحدأة (١) تقول : كل شيء هالك إلا الله (٢).

والقطاة (٣) تقول : من سكت سلم (٤).

والببغاء يقول : ويل لمن الدنيا همه (٥).

والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين (٦).

والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت (٧).

والعقاب (٨) يقول : في البعد من الناس أنس (٩).

والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس (١٠).

قوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قال الزجاج (١١) : من كل شيء يجوز أن يؤتاه الأنبياء والناس.

وقيل : أراد بقوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : كثرة ما أوتي ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، يريد : كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم

__________________

(١) الحدأة : طائر معروف يصيد الجرذان (اللسان ، مائدة : حدأ).

(٢) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(٣) القطاة : طائر معروف ، سمي بذلك لثقل مشيه (اللسان ، مائدة : قطا).

(٤) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(٥) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(٦) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦) ، والمناوي في فيض القدير (١ / ٣٨٠).

(٧) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦) ، والمناوي في فيض القدير (١ / ١٠٢).

(٨) العقاب : طائر من العتاق (اللسان ، مائدة : عقب).

(٩) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(١٠) ذكره القرطبي (١٣ / ١٦٦).

(١١) معاني الزجاج (٤ / ١١١).

٤٤٣

واستكثار منه. ومثله قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣].

أخرج الإمام أحمد رضي الله عنه في كتاب الزهد (١) بإسناداه عن ابن أبي نجيح قال : قال سليمان عليه‌السلام : «أوتينا ما أوتي الناس وما لم يؤتوا ، وعلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا ، فلم نجد شيئا أفضل من ثلاثة : كلمة الحلم في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى ، وخشية الله تعالى في السر والعلانية» (٢).

وروي عن جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام قال : أعطي سليمان عليه‌السلام ملك مشارق الأرض ومغاربها ، فملك (٣) أهل الدنيا كلهم من الجن والإنس والدواب والطير والسباع ، وأعطي علم كل شيء ، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة فذلك قوله تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).(٤)

قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي : الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا.

قال بعضهم : هو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (٥).

قوله تعالى : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) أي : وجمع له جنوده (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) كل صنف على حدة ، وكان ذلك في مسير له.

__________________

(١) في الأصل زيادة قوله : له.

(٢) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٥١).

(٣) في ب : وملك.

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٦٤٣ ح ٤١٣٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٥) وعزاه للحاكم في المستدرك.

(٥) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٠٨ ح ٣١٤٨).

٤٤٤

وقد روي : أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة ، وسبعمائة سرية (١).

وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحول الناس الجن والشياطين ، والطير تظله بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، ويأمر الريح العاصف فترفعه ، ويأمر الرخاء فتسير به. فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض أني قد زدت في ملكك ، لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك (٢).

فروي : أنه مر بحراث فقال الحراث : سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكا عظيما ، فألقته الريح إليه فنزل ومشى إلى الحراث فقال : لتسبيحة واحدة خير مما أوتي آل داود (٣).

قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أولهم على آخرهم ؛ لئلا يتخلف منهم

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٦٤٤ ح ٤١٤١) ، والطبري (١٩ / ١٤١) كلاهما عن محمد بن كعب. وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٥) وعزاه للحاكم عن محمد بن كعب.

(٢) انظر : الوسيط (٣ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣) ، والقرطبي (١٣ / ١٦٨).

(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٤ / ٥٩) عن وهب بن منبه. وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٦) وعزاه لعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه.

٤٤٥

أحد.

قال ابن قتيبة (١) : أصل الوزع : الكف والمنع ، يقال : وزعت الرجل ، أي : كففته (٢).

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩)

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) أي : أشرفوا عليه.

قال كعب : هو واد بالطائف (٣).

وقال قتادة : بالشام (٤).

(قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ) أي : صاحت بصوت ، فلما كان ذلك الصوت مفهوما عبر عنه بالقول ، ولما كان النمل ينطق كنطق الآدميين [أجري مجرى

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٢٣).

(٢) انظر : اللسان (مائدة : وزع).

(٣) ذكره الماوردي (٤ / ١٩٩) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٦١).

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٥٧). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٧) وعزاه لا بن أبي حاتم.

وقد رد ابن كثير في تفسيره قول من قال : أن الواد بالشام ، فقال : ومن قال من المفسرين أن هذا الواد كان بأرض الشام أو بغيره وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها (تفسير ابن كثير ٣ / ٣٦٠).

٤٤٦

الآدميين](١) فقيل : (ادْخُلُوا).

واختلفوا في صفة النملة فقيل : كانت كهيئة النعجة.

وقيل : كانت صغيرة.

وظاهر القرآن يدل على أنها كانت أنثى.

ويروى : أن قتادة دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة حاضرا ـ وهو غلام حدث ـ ، فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى ، فسألوه فلم يحر جوابا ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت ذلك؟ فقال : من كتاب الله ، وهو قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ) ، ولو كان ذكرا لقال : قال نملة (٢). وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وهو وهي (٣).

قوله تعالى : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أصل الحطم : الكسر.

قال الفراء (٤) : هذا نهي فيه ظرف من الجزاء.

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) وردّ هذا أبو حيان في البحر المحيط (٧ / ٥٩) فقال : ولحوق التاء في" قالت" لا يدل على أن النملة مؤنث ، بل يصح أن يقال في المذكر : قالت نملة ، لأن نملة ، وإن كان بالتاء ، هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث. وما كان كذلك ، كالنملة والقملة ، مما بينه في الجمع وبين واحده من الحيوان تاء التأنيث ، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ، ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى ، لأن التاء دخلت فيه للفرق ، لا دالة على التأنيث الحقيقي ، بل دالة على الواحد من هذا الجنس.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٣٦١).

(٤) لم أقف عليه في معاني الفراء.

٤٤٧

وقال الزمخشري (١) : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، وأن يكون [نهيا](٢) بدلا من الأمر. والذي جوّز أن يكون بدلا منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، [على](٣) طريقة : لا أرينّك هاهنا.

(سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) أراد : لا [يحطمنّكم](٤) جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي وإشفاقها.

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يعلمون بحطمكم ووطئكم (٥).

وقال ابن عباس : المعنى : وأصحاب سليمان لا يشعرون بكلام النملة (٦). فيكون كلاما مستأنفا أخبر الله تعالى به أن أصحاب سليمان لا يعلمون ما قالت النملة ، معرّضا بتفضيل سليمان وامتيازه على الخلق بإحاطته بقولها.

قال مقاتل (٧) : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال.

قال بعض العلماء : الآية من عجائب القرآن ؛ لأنها بلفظة" يا" : نادت ، " أيها" : نبّهت ، " النمل" : عيّنت ، " ادخلوا" : أمرت ، " مساكنكم" : نصّت ، (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) :

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٣٦١).

(٢) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٣) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٤) في الأصل : يحطنكم. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٥) قال الآلوسي (١٩ / ١٧٧) : وهذا يشعر بأدب النملة مع سليمان عليه‌السلام وجنوده. وليت من طعن في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله تعالى عنهم تأسّى بها فكفّ عن ذلك وأحسن الأدب.

(٦) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٦٢).

(٧) تفسير مقاتل (٢ / ٤٧٢).

٤٤٨

حذّرت ، " سليمان" : خصّت ، " وجنوده" : عمّت ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : عذرت (١).

قوله تعالى : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) «ضاحكا» حال مقدّرة (٢) ، والتقدير : فتبسّم مقدّرا الضحك ، ولا يكون محمولا على الظاهر ، أعني : الحال المطلق ؛ لأن التبسّم غير الضحك.

وقال الزجاج (٣) : «ضاحكا» : حال مؤكدة ؛ لأن تبسّم بمعنى ضحك.

وقال صاحب الكشاف (٤) : أي : تبسّم شارعا في الضحك ، آخذا فيه ، بمعنى : أنه قد [تجاوز](٥) حدّ التبسم إلى الضحك ، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام.

وأما ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضحك حتى بدت نواجذه ؛ فالغرض : المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي ، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب ـ يريد : القهقهة ـ.

وقرأ ابن السميفع : «ضحكا» (٦).

فإن قلت : ما أضحكه من قولها؟

قلت : شيئان : إعجابه بما دلّ عليه قولها من ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم ، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى ، وذلك قولها : (وَهُمْ لا

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٦٢).

(٢) انظر : التبيان (٢ / ١٧٢) ، والدر المصون (٥ / ٣٠٤).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ١١٢).

(٤) الكشاف (٣ / ٣٦١ ـ ٣٦٢).

(٥) في الأصل : جاوز. والمثبت من ب ، والكشاف (٣ / ٣٦١).

(٦) انظر هذه القراءة في : الدر المصون (٥ / ٣٠٤).

٤٤٩

يَشْعُرُونَ). يعني : أنهم لو شعروا لم يفعلوا ، وسروره بما آتاه الله [مما](١) لم يؤت أحدا : من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل (٢) الذي هو مثل في الصغر والقلّة ، ومن إحاطته بمعناه. ولذلك اشتمل دعاؤه على [استيزاع](٣) الله شكر ما أنعم [به](٤) عليه من ذلك ، فقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ).

قال الزجاج (٥) : تأويله في اللغة : كفّني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك.

(الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) قال الزجاج (٦) : إنما أدرج ذكر والديه ؛ لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين ، [خصوصا](٧) النعمة الراجعة إلى الدين ، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته ، وبدعاء المؤمنين لهما بسببه.

ويحتمل عندي : أن يكون سأل ربه أن يلهمه شكر نعمته عليه ونعمته على والديه ؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١)

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) أي : طلب ما فقد منه ، (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى

__________________

(١) في الأصل وب : ما. والمثبت من الكشاف (٣ / ٣٦٢).

(٢) الحكل من الحيوان : ما لا يسمع له صوت كالذر والنمل (اللسان ، مائدة : حكل).

(٣) في الأصل : استرجاع. والتصويب من ب ، والكشاف (٣ / ٣٦٢).

(٤) زيادة من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٥) معاني الزجاج (٤ / ١١٢ ـ ١١٣).

(٦) لم أقف عليه في المطبوع من معاني الزجاج.

(٧) في الأصل : خصوصة. والتصويب من ب.

٤٥٠

الْهُدْهُدَ) هذا من مقلوب الكلام ، أي : ما للهدهد لا أراه ، وجاز مثل ذلك لوضوح المعنى ، كما تقول العرب : ما لي أراك مكتئبا ، أي : ما لك.

(أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) قال : معناه : بل كان من الغائبين.

وقال الزمخشري (١) : «أم» هي المنقطعة ، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال : ما لي لا أراه ، على معنى : أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحّة ما لاح له. ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء؟

قال ابن عباس : نزل سليمان منزلا ولم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد يدلّه على الماء إذا أراد أن ينزل ، فلما فقده سأل عنه ، وذلك أن الهدهد يرى الماء في الأرض كما يرى الماء في الزجاجة (٢).

ويروى : أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : تزعم أن الهدهد يرى مسقاة الماء وأن الصبّي يضع له الفخ فيغطّي عليه شيئا من التراب فيجيء فيقع فيه؟ فقال : ويحك ، أما علمت أن القدر يحول دون البصر (٣).

وقال بعض المفسرين : إنما طلبه ؛ لأن الطير كانت تظلهم من الشمس ، فأخلّ

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٣٦٢).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٧٣).

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٤٠ ح ٣٥٢٥) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، والطبري (١٩ / ١٤٤) ، وابن أبي شيبة (٦ / ٣٣٦ ح ٣١٨٥٢) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٥٩ ـ ٢٨٦٠). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٨ ـ ٣٤٩) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس.

٤٥١

الهدهد بمكانه فطلعت الشمس عليهم من الخلل (١).

ثم إنه توعده على غيبته فقال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) قال ابن عباس : أراد نتف ريشه (٢).

وقيل : نتف ريشه (٣) وصهره في الشمس مطليا بالقطران.

وقيل : إيداعه القفص.

وقيل : التفريق بينه وبين إلفه.

وقيل : حشره مع غير جنسه (٤).

(أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة ظاهرة في إقامة عذره.

قرأ ابن كثير : «ليأتينّني» بنونين ، إحداهما مشددة على الأصل ، والباقون كرهوا اجتماعهن ، فحذفوا النون التي تصحب ياء المتكلم (٥).

__________________

(١) ذكره الماوردي في تفسيره (٤ / ٢٠١) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٦٤).

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٤٠ ح ٣٥٢٥) ، والطبري (١٩ / ١٤٥) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٦٢).

وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٤٩) وعزاه لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والحاكم وصححه.

(٣) قال السيوطي في الإكليل (ص : ٢٠١) : ويستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشيء أو إسراعها أو نحو ذلك ، وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب نتف ريشه.

(٤) ذكر هذه الأقوال كلها ابن الجوزي في : زاد المسير (٦ / ١٦٤).

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٢٣٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٤) ، والكشف (٢ / ١٥٤ ـ ١٥٥) ، والنشر (٢ / ٣٣٧) ، والإتحاف (ص : ٣٣٥) ، والسبعة (ص : ٤٧٩).

٤٥٢

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦)

قوله تعالى : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) وقرأ عاصم بفتح الكاف (١) ، وهما لغتان ، والفتح أقيس ؛ لأن اسم الفاعل منه : ماكث. قال الله تعالى : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) [الكهف : ٣] ، وقال تعالى : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧]. وهذا يدل ظاهرا أنه من فعل ـ بالفتح ـ ؛ لأن مكان الفاعل من فعل ـ بالضم ـ فعيل ، نحو : ظريف وشريف وكريم ، من ظرف وشرف وكرم.

والمعنى : فمكث غير زمان بعيد.

وكان سليمان عليه‌السلام قال للعقاب : عليّ بالهدهد ، فارتفع فرآه مقبلا فانصبّ عليه فقال : بالذي قوّاك عليّ وأقدرك إلا ما (٢) رحمتني ، فتركه وقال : ثكلتك أمك ، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك عذابا شديدا أو ليذبحنك ، فقال : أو ما استثنى؟ قال : بلى ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحه وأقبل يجرّهما على

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٣٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٥) ، والكشف (٢ / ١٥٥) ، والنشر (٢ / ٣٣٧) ، والإتحاف (ص : ٣٣٥) ، والسبعة (ص : ٤٨٠).

(٢) ساقط من ب.

٤٥٣

الأرض تواضعا لسليمان عليه‌السلام ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه ، فقال : يا نبي الله! اذكر وقوفك بين يدي الله ، فارتعد سليمان عليه‌السلام وعفى عنه ، ثم سأله فقال : ما الذي بطّأبك؟ (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) ، أي : علمت شيئا من جميع جهاته (١).

قال صاحب الكشاف (٢) : كافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمّة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، [وتنبيها](٣) على أن في أدنى خلق الله وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ؛ لتتحاقر إليه نفسه ، ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة. وفيه دليل على بطلان قول الرافضة : أن الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه.

(وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) قرأ أبو عمرو والبزي : «سبأ» بالفتح من غير تنوين على أنه اسم للقبيلة أو المدينة.

قال قتادة : هي أرض باليمن يقال لها : مأرب (٤).

ومنعه الصّرف : التعريف والتأنيث.

قال الشاعر :

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٣٦٣).

(٢) الكشاف (٣ / ٣٦٤).

(٣) في الأصل : وتنبها. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٤) أخرجه الطبري (١٩ / ١٥٢) من حديث طويل ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٦٤). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٥٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤٥٤

ما سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما (١)

وقرأ قنبل بإسكان الهمزة كأنه نوى الوقف ، وقرأ الباقون بالجر والتنوين (٢) ، وجعلوه اسما للأب ، وهو سبأ بن يشجب ابن قحطان ، أو اسما للحي أو للمكان أو الموضع ، فصرفوه. وكذلك اختلافهم في سورة سبأ (٣).

(بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي : خبر ثابت صادق لا ريبة (٤) فيه.

ثم ذكره فقال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني : بلقيس بنت شراحيل ، وقيل : بنت الهدهاد ، ملكة سبأ ، وكان أبوها ملك اليمن قد ولده أربعون ملكا ، ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس. وضمير المفعول في" تملكهم" راجع إلى سبأ ، فإن أريد القبيلة فلا إشكال ، وإن أريد المدينة فالمراد : تملك أهلها.

(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) قال عطاء : من زينة الدنيا من المال والجنود (٥).

(وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) قال قتادة : كان عرشها من ذهب قوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ (٦).

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي. انظر : الكتاب (٣ / ٢٥٣) ، ومجاز القرآن (٢ / ١٤٧) ، واللسان (مادة : سبأ) ، والدر المصون (٥ / ٣٠٥ ، ٤٠٤) ، والقرطبي (١٣ / ١٨١ ، ١٤ / ٢٨٣) ، والماوردي (٤ / ٢٠٣).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٣٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٥) ، والكشف (٢ / ١٥٥) ، والنشر (٢ / ٣٣٧) ، والإتحاف (ص : ٣٣٥ ـ ٣٣٦) ، والسبعة (ص : ٤٨٠).

(٣) عند الآية رقم : ١٥.

(٤) في ب : مرية.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٧٥).

(٦) أخرجه الطبري (١٩ / ١٦٠). وذكره الماوردي (٤ / ٢٠٤) ، وابن الجوزي في زاد المسير ـ

٤٥٥

قال مقاتل (١) : كان (٢) ارتفاعه ثمانين ذراعا في عرض ثمانين.

قال الزمخشري (٣) : ومن نوكى (٤) القصّاص من يقف على قوله : (وَلَها عَرْشٌ) ثم يبتدئ : (عَظِيمٌ* وَجَدْتُها) يريد : أمر عظيم أن وجدتها (وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ) فرّ من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهو مسخ كتاب الله.

فإن قلت : كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟

قلت : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش ، ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء ، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم.

فإن قلت : كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطّه وبين بلدها قريبة ، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟

قلت : لعل الله تعالى أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب عليهما‌السلام.

فإن قلت : فمن أين للهدهد التهدّي إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود [له](٥) وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ٤٧٣).

(٢) في ب : وكان.

(٣) الكشاف (٣ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦).

(٤) الأنوك : الأحمق. وجمعه : النّوكى ، والنّواكة : الحماقة ، ونوكى : حمقى (اللسان ، مادة : نوك).

(٥) زيادة من الكشاف (٣ / ٣٦٦).

٤٥٦

قلت : لا يبعد أن يلهمه الله تعالى ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء الرّجاح العقول يهتدون لها.

قوله تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) وقرأ ابن مسعود : «هلّا يسجدوا لله» (١).

وقال الزجاج (٢) : المعنى : فصدهم عن السبيل ؛ لئلا يسجدوا لله.

وقال الفراء (٣) : فزين لهم الشيطان أعمالهم ؛ لئلا يسجدوا.

وقرأ الكسائي : «ألا يا اسجدوا» [بحرف](٤) التنبيه وحرف النداء ، والأمر بالسجود (٥).

قال أبو عبيدة (٦) : هذا أمر من الله مستأنف ، يعني : ألا يا أيها الناس اسجدوا لله.

قال أبو علي الفارسي (٧) وابن فضّال : العرب تحذف المنادى وتدع حرف النداء ليدلّ عليه ، قال الشاعر :

يا لعنة الله والأقوام كلّهم

والصالحين على سمعان من جار (٨)

__________________

(١) انظر هذه القراءة في زاد المسير (٦ / ١٦٦).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ١١٥).

(٣) معاني الفراء (٢ / ٢٩٠).

(٤) في الأصل : بحذف. والتصويب من ب.

(٥) الحجة للفارسي (٣ / ٢٣٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٦ ـ ٥٢٧) ، والكشف (٢ / ١٥٦) ، والنشر (٢ / ٣٣٧) ، والإتحاف (ص : ٣٣٦) ، والسبعة (ص : ٤٨٠).

(٦) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٩٣).

(٧) انظر : الحجة (٣ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥).

(٨) انظر البيت في : أمالي ابن الحاجب (ص : ٤٤٨) ، وخزانة الأدب (١١ / ١٩٧) ، والكتاب ـ

٤٥٧

والتقدير : يا قوم أو يا هؤلاء لعنة الله.

قال [الزجاج](١) : ومثله : قول ذي الرمة (٢) :

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلا بجر عائك القطر

وقال العجاج (٣) :

يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي

 ...........

وقال أبو علي (٤) : في هذه القراءة حذفت الألف من «يا» في الوصل ؛ لالتقاء الساكنين. وإذا وقف على هذه القراءة : «ألا يا» ويبتدئ : «اسجدوا» فيرد الألف من «يا» التي سقطت في الوصل لالتقاء الساكنين.

قوله تعالى : (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال الزجاج (٥) : جاء في التفسير : أن الخبء هاهنا : القطر من السماء ، والنبات من الأرض.

قال ابن قتيبة (٦) : هو من خبأت الشيء ؛ إذا أخفيته.

__________________

ـ (٢ / ٢١٩)، وابن الشجري (١ / ٣٢٥ ، ٢ / ١٥٤) ، وابن يعيش (٢ / ٢٤) ، وهمع الهوامع (١ / ٧٤ ، ٢ / ٧٠) ، والحجة للفارسي (٣ / ٢٣٤) ، والدر المصون (٥ / ٣٠٨).

(١) معاني الزجاج (٤ / ١١٥ ـ ١١٦). وفي الأصل : الزجا.

(٢) البيت لذي الرمة ، انظر : ديوانه (ص : ٢٩٠) ، والهمع (١ / ١١١) ، والأشموني (١ / ٣٧) ، والدر المصون (٥ / ٣٠٧).

(٣) صدر بيت للعجاج ، وعجزه : (بسمسم أو عن يمين سمسم). انظر : ديوانه (ص : ٥٨) ، وهو في ملحقات ديوان رؤبة (ص : ١٨٣) ، وابن يعيش (١ / ٨٩٠) ، والخصائص (٢ / ١٩٦) ، ومجاز القرآن (٢ / ٩٤) ، والدر المصون (٥ / ٣٠٨) ، واللسان (مادة : سمسم).

(٤) انظر : الحجة (٣ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥).

(٥) معاني الزجاج (٤ / ١١٦).

(٦) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٢٤). وانظر : اللسان (مادة : خبأ).

٤٥٨

وقال غيره : سمّي المخبوء بالمصدر وهو النبات والمطر وغيرهما ، مما خبأه الله عزوجل من غيوبه.

(وَيَعْلَمُ ما يخفون وما يعلنون) وقرأ الكسائي وحفص بالتاء فيهما على المخاطبة (١).

وفي قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) إشارة إلى تضاؤل عرش بلقيس بالنسبة إليه.

وقرأ الضحاك وابن [محيصن](٢) : «العظيم» بالرفع (٣) ، صفة لله عزوجل.

قال ابن زيد : من قوله : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) إلى هاهنا من كلام الهدهد (٤).

ويجوز أن يكون كلامه تمّ عند قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) ، والله أعلم.

فصل

قال الفراء والزجاج (٥) : من قرأ : «ألا يا اسجدوا» بالتخفيف فهو موضع سجود ، ومن شدّد فليس بسجدة.

وهذا غير مستقيم ؛ لأنه موضع سجدة بإجماع العلماء المشهورين لا نعرف بينهم فيه خلافا. وعلته : أن [مواضع](٦) السجدة إما أمر بها ، كقوله تعالى :

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٣٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٨) ، والكشف (٢ / ١٥٨) ، والنشر (٢ / ٣٣٧) ، والإتحاف (ص : ٣٣٦) ، والسبعة (ص : ٤٨٠ ـ ٤٨١).

(٢) في الأصل : محيصين. والتصويب من ب.

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٣٦).

(٤) أخرجه الطبري (١٩ / ١٥١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٦٦).

(٥) معاني الفراء (٢ / ٢٩٠) ، ومعاني الزجاج (٤ / ١١٥).

(٦) في الأصل : موضع. والتصويب من ب.

٤٥٩

(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩] ، أو مدح لمن أتى بها ، كسجدة الأعراف وسجدة الرعد ، أو ذم لمن تركها ؛ كقوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) [الانشقاق : ٢١] ، وأكثر سجدات القرآن لم يقارنها الأمر بالسجود.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١)

فلما فرغ الهدهد من كلامه استبعد سليمان أن يكون في الأرض ذو سلطان سواه ، ف (قالَ) للهدهد : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).

ثم إنه كتب كتابا وختمه بخاتمه ، ثم دفعه إلى الهدهد وقال : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ). قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة : «فألقه» بسكون الهاء ، وكسرها قالون من غير إشباع ، والباقون وصلوها بياء (١).

قال الزجاج (٢) : إثبات الياء أجود الأوجه ، ومن أسكن الهاء فغالط ؛ لأن الهاء ليست بمجزومة ، وليس له وجه (٣) من القياس.

وقال غيره : من سكن الهاء نوى الوقف وهو بعيد.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٨) ، والكشف (٢ / ١٥٩) ، والإتحاف (ص : ٣٣٦) ، والسبعة (ص : ٤٨١).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ١١٦ ـ ١١٧).

(٣) في معاني الزجاج (٤ / ١١٧) : ولها وجه.

٤٦٠