رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٥

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٦

واحد تكذيب لجميع (١) الرسل ؛ لأن كل رسول يأمر بتصديق جميع الرسل ويؤمن بهم.

قال الزجاج (٢) : دخلت التاء ، و" قوم" مذكر ؛ لأن المراد بالقوم : الجماعة. والمعنى : كذبت جماعة قوم نوح.

وقال الزمخشري (٣) : القوم : مؤنثة ، وتصغيرها : قويمة.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) أي : أخوهم في النسب ، كقولهم : يا أخا تميم ، أي :

يا واحدا منهم ، ومثله :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم

في النّائبات على ما قال برهانا (٤)

وما بعده ظاهر أو مفسر إلى قوله : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وقرأت ليعقوب الحضرمي : «واتباعك» بقطع الهمزة وسكون التاء وضم العين وألف قبلها (٥).

قال الزجاج (٦) : هي في العربية قويّة جيّدة ؛ لأن واو الحال (٧) تصحب الأسماء أكثر في العربية ؛ لأنك تقول : جئتك وأصحابك الزّيدون ، ويجوز : وصحبك الزيدون ، والأكثر : جئتك وقد صحبك الزيدون.

__________________

(١) في ب : بجميع.

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٩٥).

(٣) الكشاف (٣ / ٣٢٨).

(٤) انظر البيت في : القرطبي (١٣ / ١١٩) ، والكشاف (٣ / ٣٢٨) ، وروح المعاني (١٠ / ١١٠ ، ١٩ / ١٠٧ ، ٢٨ / ٣٦).

(٥) النشر (٢ / ٣٣٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٣٣٣).

(٦) معاني الزجاج (٤ / ٩٥).

(٧) في الأصل وب زيادة : أن.

٤٠١

قال عكرمة : أرادوا المساكين الذين ليس لهم مال ولا عز (١).

وقال ابن عباس والضحاك وعكرمة : أرادوا الحاكة والأساكفة وأرباب الحرف الدنيّة(٢).

وهذا جهل منهم وفرط عتو ، فإن الصناعات لا [أثر](٣) لها في باب الديانات.

وإذا استقرأت أتباع الرسل السابقين إلى مناصرتهم والإيمان بهم وجدتهم في الغالب الضعفاء والمساكين ، حتى صار ذلك أمارة لهم وعلامة على صدقهم ، ولهذا قال هرقل في حديثه مع أبي سفيان لما قال له : «من يتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، قال : هم أتباع الرّسل» (٤).

(قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أراد عليه‌السلام انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم ونفى اطّلاعه على [سرائرهم](٥) وضمائرهم ؛ لأن مقصودهم بقولهم : (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) تحقير شأنهم ، وأن إيمانهم لم يصدر عن نظر صحيح ورأي مستقيم ، كما قالوا في موضع : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] ، فاكتفى منهم نوح بظاهر أمرهم ، وكل سرائرهم إلى الله تعالى ، فذلك قوله : (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي)(٦) أي : ما حسابهم فيما يعملون من خير وشر إلا على ربي (لَوْ تَشْعُرُونَ) ذلك. المعنى : ولكنكم قوم جهلة.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٥٧) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٤).

(٢) مثل السابق.

(٣) في الأصل : أكثر. والتصويب من ب.

(٤) أخرجه البخاري (٤ / ١٦٥٨ ح ٤٢٧٨) ، ومسلم (٣ / ١٣٩٥ ح ١٧٧٣).

(٥) في الأصل : أسرارهم. والتصويب من ب.

(٦) في الأصل زيادة قوله : " لو تشعرون". وستأتي بعد.

٤٠٢

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) ذهابا مع شهوتكم ورغبة في استنزالكم عن مقام الأنفة والحميّة عن اتّباعي وهم أتباعي ، فإني لم أكلّف سوى تبليغ الرسالة ، وهو قوله : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : نذير للخلق مبين للحق.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٢٢)

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) قال الضحاك : من المشتومين (١).

وقال قتادة : المضروبين بالحجارة (٢).

وقال مقاتل (٣) : المقتولين بالرجم.

فشكا إلى ربه حين توعدوه ، وسأله الحكم بينه وبينهم فقال : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي

__________________

(١) ذكره الطبري (١٩ / ٩١) بلا نسبة ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٣٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٤).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٧٨٩). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣١١) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ٤٥٧).

ويؤيد هذا القول ما جاء في لسان العرب ، مائدة : (رجم) : أن الرجم يأتي بمعنى : القتل ، والشتم ، واللمس ، والطرد.

٤٠٣

كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي : اقض بيني وبينهم قضاء يكون سبب هلاكهم ، ونجاتي ونجاة المؤمنين.

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي : المملوء ، تقول : شحنت الإناء ؛ إذا ملأته (١). وكانت سفينة نوح مملوءة حيوانا.

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٣٥)

وما بعده إما مفسر فيما مضى وإما ظاهر إلى قوله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ).

قال ابن عباس وأهل اللغة : الرّيع : المكان المرتفع (٢) ، وفيه لغة بفتح الراء ، وهي قراءة جماعة ، منهم عاصم الجحدري (٣). قال الشاعر :

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : شحن).

(٢) ذكره الطبري (١٩ / ٩٣) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٣٥٨) كلاهما بلا نسبة ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٥).

(٣) انظر هذه القراءة في زاد المسير (٦ / ١٣٥).

٤٠٤

 .............

ريع يلوح كأنه سجل

والسجل : الثوب الأبيض.

والآية : العلامة.

قال سعيد بن جبير : كانوا يبنون بروج الحمام عبثا (١).

وقال الضحاك : كانوا يبنون في المواضع المرتفعة ؛ ليشرفوا على المارّة فيسخروا منهم ويبعثوا بهم (٢).

وقال ابن عباس : يريد : يبنون ما لا يسكنون (٣).

أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس قال : «مررت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق من طرق المدينة فرأى قبّة من لبن ، فقال : لمن هذه؟ فقلت : لفلان ، فقال : أما [إنّ](٤) كلّ بناء كلّ على صاحبه يوم القيامة إلا ما كان في مسجد ، ثم مرّ فلم يرها فقال : ما فعلت القبة؟ قلت : بلغ صاحبها ما قلت فهدمها ، فقال : رحمه‌الله (٥)» (٦).

وجاء من طريق آخر عن أنس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعرض عن صاحب القبة ، فشكى ذلك إلى أصحابه فقال : والله إني لأنكر نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أدري ما حدث فيّ وما صنعت؟ فأخبروه ، فرجع إلى قبته فسواها بالأرض ، فذكر ذلك

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٥).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٦).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٥٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٥).

(٤) زيادة من ب ، ومسند أحمد ، (٣ / ٢٢٠).

(٥) ساقط من ب.

(٦) أخرجه أحمد (٣ / ٢٢٠ ح ١٣٣٢٥).

٤٠٥

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن كل بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما لا بد منه» (١).

قوله تعالى : (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) قال الزجاج (٢) : واحد المصانع : مصنعة ومصنع ، وهي التي تتخذ للماء.

قال قتادة : مصانع الماء تحت الأرض (٣).

وقال مجاهد : قصورا مشيدة (٤).

قال أبو [عبيدة](٥) : كل بناء مصنعة.

(لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) قال ابن عباس وأكثر المفسرين : المعنى : كأنكم تخلدون (٦) ، وكذلك هي في قراءة أبي بن كعب.

وقال الفراء وابن قتيبة (٧) : كيما تخلدون.

وقال الزجاج (٨) : المعنى : [لأن تخلدوا](٩) ، أي : تتخذون مباني للخلود لا تفكّرون في الموت.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤ / ٣٦٠ ح ٥٢٣٧).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ٩٦).

(٣) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٦ / ١٣٦).

(٤) أخرجه الطبري (١٩ / ٩٥) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٧٩٤) ، ومجاهد (ص : ٤٦٣). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣١٣) ، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) مجاز القرآن (٢ / ٨٨). وفي الأصل : عبيد. والتصويب من ب.

(٦) أخرجه الطبري (١٩ / ٩٥) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٧٩٥) ، وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣١٣) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٧) معاني الفراء (٢ / ٢٨١) ، وتفسير غريب القرآن (ص : ٣١٩).

(٨) معاني الزجاج (٤ / ٩٦).

(٩) في الأصل : المعنى : لا تخلدون. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

٤٠٦

وقال الزمخشري (١) : (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) : ترجون الخلود في الدنيا.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) أي : إذا بطشتم بسيف أو سوط (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) بطش الجبابرة الذين يقتلون ويضربون على الغضب والظنّة.

قال الحسن : يبادرون تعجيل العذاب (٢).

ثم ذكّرهم نعم الله عليهم مخوفا لهم فقال : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) ، ثم فسّره فقال : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ).

فإن قيل : لم خصّ الأنعام والبنين والجنان والعيون بالذكر دون النقدين؟

قلت : المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والذي يتزين به ما ظهر من المال لا ما خفي منه.

فإن قيل : أي زينة في الأنعام؟

قلت : فيها غاية الزينة والتجمل ، لا سيما إذا راحت من مراعيها ممتدّة الأسنام والضروع تتناوح بالرّغاء والثّغاء.

فإن قيل : كيف قرن البنين بالأنعام؟

قلت : لما فيهم من الإعانة على القيام بحفظها ورعايتها.

فإن قيل : المقصود من هذا وعظهم وتخويفهم ، فكان من المناسب الأمر بالتقوى مقرونا بما يزعجهم من التهديد بالعقاب دون التذكير بالنّعم.

قلت : قد جمع بين الأمرين :

أحدهما : التذكير بالنّعم ليبعث هممهم على شكر المنعم عليهم والمحسن

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٣٣١).

(٢) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٣٣١).

٤٠٧

إليهم ، وفي ضمن ذلك تخويفهم من سلبها عنهم.

الثاني : التخويف المذكور في قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، وهو العذاب الذي أهلكوا به.

وقيل : عذاب يوم القيامة.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢)

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا) أي : معادل عندنا (أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ).

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وسكون اللام ، على معنى : ما هذا الذي تدعوا إليه وتحضّ عليه إلا كذب الأولين ، تقول : خلقت الحديث واختلقته ؛ إذا افتعلته وكذبته (١).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : خلق).

٤٠٨

قال الزجاج (١) : وفيه وجه آخر : معناه : خلقنا كما خلق من قبلنا ، نحيا كما حيوا ونموت كما ماتوا ولا نبعث ؛ لأنهم أنكروا البعث.

وقرأ الباقون : «خلق» بضم الخاء واللام (٢) ، أي : ما هذا الذي نحن عليه من الدين والاعتقاد إلا عادة الأولين ، كما قال كفار قريش : إنا وجدنا آباءنا على أمة.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) كما تزعم يا هود.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) بالريح.

وقد ذكرنا ذلك في قصتهم (٣) في الأعراف (٤).

وما بعده ظاهر أو مفسر إلى قوله : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) استفهام في معنى الإنكار لأن يتركوا مخلدين فيما هم فيه من النعيم والرفاهية ، آمنين من العذاب والموت.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ) تفسير لقوله : (فِي ما هاهُنا آمِنِينَ).

(وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) الطّلع : الثّمرة ، والهضيم : النضيج الرّخص اللّين.

وقال الضحاك : الهضيم : الحمل الكثير الذي يركب بعضه بعضا (٥).

يشير إلى أنه إذا كثر الحمل هضم ، أي : صغر ، وإذا قلّ جاء ممتلئا كبارا.

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٩٧).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٢٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥١٨) ، والكشف (٢ / ١٥١) ، والنشر (٢ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦) ، والإتحاف (ص : ٣٣٣) ، والسبعة (ص : ٤٧٢).

(٣) في ب : وقد ذكرنا قصتهم.

(٤) عند الآية رقم : ٦٥.

(٥) أخرجه الطبري (١٩ / ١٠٠) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٠٢).

٤٠٩

وقال صاحب الكشاف (١) : الطّلعة هي التي تطلع من النخلة ، كنصل السيف ، في جوفه شماريخ القنو. والقنو : اسم للخارج من الجذع ، كما هو بعرجونه وشماريخه.

والهضيم : اللطيف الضّامر ، من قولهم : كشح هضيم ، وطلع إناث النخل فيه لطف ، وفي طلع الفحاحيل (٢) جفاء ، وكذلك طلع البرني ألطف من طلع اللون. [فذكّرهم](٣) نعمة الله عليهم في أن وهب لهم أجود النخل وأنفعه ؛ لأن الإناث ولادة التمر ، والبرني أجود التمر وأطيبه.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) أي : أشرين.

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : «فرهين» بغير ألف. وقرأ الباقون بألف (٤) ، يقال : فرح وفارح ، ويقال : إن الهاء من" فرهين" مبدلة من الحاء.

وقال أبو علي الفارسي (٥) : من قرأ : «فرهين» فمعناه : مرحين. ومن قرأها : «فارهين» معناه : حاذقين ، أي : عارفين بنحتها.

(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) بالشرك والمعاصي.

قال مقاتل (٦) : هم التسعة الذين عقروا الناقة.

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣).

(٢) أي : ذكر النخل.

(٣) في الأصل وب : يذكرهم. والتصويب من الكشاف (٣ / ٣٣٢).

(٤) الحجة للفارسي (٣ / ٢٢٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥١٩) ، والكشف (٢ / ١٥١) ، والنشر (٢ / ٣٣٦) ، والإتحاف (ص : ٣٣٣) ، والسبعة (ص : ٤٧٢).

(٥) الحجة (٣ / ٢٢٤ ـ ٢٢٥).

(٦) تفسير مقاتل (٢ / ٤٦٠).

٤١٠

(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يعني : بالكفر والمعاصي (وَلا يُصْلِحُونَ) فيها بالإيمان والطاعة.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٧٥)

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) ممن يسحر كثيرا مرة بعد مرة.

٤١١

وقيل : ممن له سحر ، [أي](١) : رئة ، على أن ما أنت من البشر.

قال ابن عباس : من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب (٢). وقد سبق هذا التفسير في سورة سبحان (٣).

وكأن التفسير هاهنا أظهر لقولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا).

(فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في قولك أنك رسول الله إلينا.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ) أي : نصيب من الماء معروف ، (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ).

قال قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار ، وتسقيهم اللبن آخر النهار ، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم (٤).

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) ضرب ولا عقر ولا غير ذلك (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ). وصف ذلك اليوم بالعظم ؛ لحلول العذاب العظيم فيه.

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) ندم خوف من العقاب ، لا ندم توبة وإنابة إلى الله.

وجائز أن يكون ندم توبة ، لكن لم ينفعهم لفوات محله.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) وقد ذكرناه مع ما أهملنا تفسيره هاهنا في الأعراف (٥).

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) أخرجه الطبري (١٩ / ١٠٣).

(٣) عند تفسير الآية رقم : ٤٧.

(٤) ذكره الواحدي في الوسيط (٣ / ٣٦٠) ، والسيوطي في الدر (٦ / ٣١٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) عند الآية رقم : ٧٣.

٤١٢

قوله تعالى : (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) يعني : فروج النساء.

قال مجاهد : تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال (١).

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) مفرطون في الظلم والتعدي.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن نهينا وتقبيح أمرنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي : من جملة الذين أخرجناهم من بين أظهرنا.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) أي : المبغضين ، والقلى : البغض الشديد ، كأنه بغض يقلي الفؤاد.

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) (١٨٤)

قوله تعالى : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة : «الأيكة» بالألف واللام مع الهمز والجر. وقد ذكر في الحجر (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٩ / ١٠٥) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨٠٨) ، ومجاهد (ص : ٤٦٥). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣١٧) وعزاه للفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) عند الآية رقم : ٧٨.

٤١٣

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر : «أصحاب ليكة» هنا وفي صاد (١) بغير همز مع فتح الهاء ، على وزن فعلة (٢).

قال الزجاج (٣) : أهل المدينة يفتحون الهاء على ما جاء في التفسير أن اسم المدينة كان «ليكة» ، قال : وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يختار قراءة أهل المدينة والفتح ؛ لأن" ليكة" لا تنصرف. وذكر أنه اختار ذلك لموافقة الكتاب مع الذي جاء في التفسير أنها اسم المدينة.

قال الزمخشري (٤) : من قرأ بالنصب وزعم أن «ليكة» بوزن ليلة : اسم بلد ، فتوهّم [قاد](٥) إليه خط المصحف ، حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وسورة صاد بغير ألف ، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه ، وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ ، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل ، والقصة واحدة.

(إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) قال مقاتل (٦) : لم يكن شعيب عليه‌السلام من نسل أصحاب الأيكة ، فلذلك لم يقل : «أخوهم» ، وإنما أرسل إليهم بعد أن أرسل إلى مدين ، وهو من نسل مدين ، فلذلك قال هناك : «أخوهم».

__________________

(١) عند الآية رقم : ١٣.

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٢٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥١٩) ، والكشف (٢ / ٣٢) ، والنشر (٢ / ٣٣٦) ، والإتحاف (ص : ٣٣٣) ، والسبعة (ص : ٤٧٣).

(٣) معاني الزجاج (٤ / ٩٨).

(٤) الكشاف (٣ / ٣٣٧).

(٥) في الأصل : فاد. والتصويب من ب ، والكشاف ، الموضع السابق.

(٦) تفسير مقاتل (٢ / ٤٦٢).

٤١٤

وكان محمد بن جرير الطبري (١) يذهب إلى أن أصحاب الأيكة هم أصحاب مدين.

قوله تعالى : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) قال صاحب الكشاف (٢) : الكيل ثلاثة أضرب : واف ، وطفيف ، وزائد ، [فأمر بالواجب](٣) الذي هو الإيفاء ، ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف.

(وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي : الذين ينقصون الكيل والوزن. يقال : أخسرت الكيل والوزن ؛ إذا نقصته (٤). ومنه : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ٣].

وقد سبق ذكر القسطاس في" بني إسرائيل" (٥).

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) قال ابن قتيبة (٦) : الجبلّة : الخلق ، يقال : جبل فلان على كذا أي : خلق (٧).

قال الشاعر :

والموت أعظم حادث

مما يمرّ على الجبلّه (٨)

__________________

(١) تفسير الطبري (١٩ / ١٠٧).

(٢) الكشاف (٣ / ٣٣٧).

(٣) في الأصل وب : فالواجب. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٤) انظر : اللسان (مادة : خسر).

(٥) عند الآية رقم : ٣٥.

(٦) تفسير غريب القرآن (ص : ٣٢٠).

(٧) انظر : اللسان (مادة : جبل).

(٨) انظر البيت في : القرطبي (١٣ / ١٣٦) ، والماوردي (٤ / ١٨٦) ، وزاد المسير (٦ / ١٤٢).

٤١٥

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١٩١)

قوله تعالى : (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) قال الزمخشري (١) : فإن قلت : هل اختلف المعنى بإدخال الواو هاهنا وتركها في قصة ثمود؟

قلت : إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم : التسحير والبشرية ، وأن الرسول لا يجوز أن يكون [مسحّرا ولا يجوز أن يكون](٢) بشرا ، وإذا تركت الواو فلم يقصد إلا معنى واحد ، وهو كونه مسحّرا. ثم قرّر بكونه بشرا مثلهم.

قوله تعالى : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : طائفة منه.

وقرأ حفص : «كسفا» بفتح السين (٣) هنا وفي سبأ (٤) ، وهو جمع كسفة ، نحو قطع وسدر ، وقد ذكر في" بني إسرائيل" (٥).

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٣٣٨).

(٢) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

(٣) الحجة للفارسي (٣ / ٧٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢٠) ، والكشف (٢ / ٥١) ، والنشر (٢ / ٣٠٩) ، والإتحاف (ص : ٣٣٤) ، والسبعة (ص : ٣٨٥).

(٤) عند الآية رقم : ٩.

(٥) عند الآية رقم : ٩٢.

٤١٦

قال صاحب الكشاف (١) : فإن قلت : كيف كرّر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرّر؟

قلت : كل قصة منها كتنزيل برأسه ، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها ، فكانت كل واحدة منها تدلي بحق في أن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختتم بما اختتمت به.

[ولأن](٢) في التكرير [تقريرا](٣) للمعاني (٤) في الأنفس ، وتثبيتا لها في الصدور.

ولأن هذه القصص طرقت بها آذان وقر عن الإنصات للحق ، وقلوب غلف عن تدبّره ، فكوثرت بالوعظ والتذكير ، وروجعت بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح أذنا ، أو يفتق ذهنا ، أو يصقل عقلا طال عهده بالصقل ، أو يجلو فهما قد غطّى عليه تراكم الصدأ.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥)

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) يعني : القرآن.

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) وهو جبريل عليه‌السلام.

__________________

(١) الكشاف (٣ / ٣٣٩).

(٢) في الأصل : وأن. والتصويب من ب.

(٣) زيادة من الكشاف (٣ / ٣٣٩).

(٤) في ب : اللمعاني. وهو سهو.

٤١٧

وقرأ أبن عامر وأهل الكوفة إلا حفصا : «نزّل» بالتشديد ، «الروح الأمين» بالنصب (١) ، على معنى : نزّل رب العالمين به الروح الأمين.

(عَلى قَلْبِكَ) قال الزجاج (٢) : ومعنى (عَلى قَلْبِكَ) : نزل عليك فوعاه قلبك وثبت فلا ينساه أبدا ولا شيئا منه ، كما قال الله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦].

قوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الباء متعلقة ب" نزل" ، أو بقوله : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ، على معنى : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي ، وهم خمسة : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩)

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ) قال أكثر المفسرين (٣) : المعنى : وإن القرآن ، يعني : ذكره وخبره (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ).

وقيل : وإن معانيه لفي الكتب النازلة من السماء على الرسل.

وقيل : وإن محمدا لفي كتب الأولين ، كما قال تعالى : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ

__________________

(١) الحجة للفارسي (٣ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦) ، والحجة لا بن زنجلة (ص : ٥٢٠ ـ ٥٢١) ، والكشف (٢ / ١٥١ ـ ١٥٢) ، والنشر (٢ / ٣٣٦) ، والإتحاف (ص : ٣٣٤) ، والسبعة (ص : ٤٧٣).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ١٠٠).

(٣) ذكره الطبري (١٩ / ١١٣) ، والواحدي في الوسيط (٣ / ٣٦٢).

٤١٨

فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧].

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)" آية" خبر كان ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) : اسمها (١) ، على معنى : أو لم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل أنه النبي المنعوت في الكتب المتقدمة ، المبعوث في آخر الزمان ، آية وعلامة على صدقه ونبوّته.

وقرأ ابن عامر : «تكن» بالتاء ، «آية» بالرفع (٢).

قال مكي (٣) : رفع" الآية" ؛ لأنها اسم كان ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) خبر كان. وفي هذا التقدير فبح في العربية ؛ لأنه جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة ، والأحسن أن تضمر القصة ، فيكون التأنيث محمولا على تأنيث القصة ، و (أَنْ يَعْلَمَهُ) ابتداء ، و" آية" خبر الابتداء ، والجملة خبر كان ، فيصير اسم كان معرفة ، و" آية" خبر ابتداء ، وهو (أَنْ يَعْلَمَهُ) ، تقديره : أو لم تكن لهم القصة علم علماء بني إسرائيل به آية.

قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ) يعني : القرآن (عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) جمع أعجم ، والأنثى : عجماء.

وقرأ الحسن : " الأعجميين" (٤).

قال الزجاج (٥) : الأعجم : الذي لا يفصح ، وكذلك الأعجمي ، [فأما

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ١٧٠) ، والدر المصون (٥ / ٢٨٨).

(٢) الحجة للفارسي (٣ / ٢٢٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٥٢١) ، والكشف (٢ / ١٥٢) ، والنشر (٢ / ٣٣٦) ، والإتحاف (ص : ٣٣٤) ، والسبعة (ص : ٤٧٣).

(٣) الكشف (٢ / ١٥٢).

(٤) الإتحاف (ص : ٣٣٤).

(٥) معاني الزجاج (٤ / ١٠٢).

٤١٩

العجمي فالذي](١) من جنس العجم ، أفصح أو لم يفصح.

قوله تعالى : (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) يشير إلى شدة شكيمتهم في الكفر والعناد ، وأنه لو نزل هذا القرآن على رجل أعجمي لا يفصح به فضلا عن أن يقدر على نظم مثله لكفروا به ، وتمحّلوا لجحودهم أعذارا كما فعلوا ، وقد جاءهم به أفصح العرب لسانا ، وأوضحهم بيانا ، وأصدقهم لهجة ، وأثبتهم حجة.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٠٩)

قوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي : مثل هذا السلك سلكنا الشرك والتكذيب (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ).

قال الزجاج (٢) : جعل الله تعالى مجازاتهم أن طبع على قلوبهم وسلك فيها الشرك.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وذلك عند معاينة سلطان الموت ،

__________________

(١) في الأصل : وأما العجمي الذي. والتصويب من ب ، والزجاج (٤ / ١٠٢).

(٢) معاني الزجاج (٤ / ١٠٢).

٤٢٠